الباحث نادر جبلي وحوار حول اللجنة الدستورية
مع انتهاء الجولة الأولى من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف، وقبيل بدء الجولة الثانية، وبعد انقسام السوريين حول عملية كتابة الدستور، وشرعية اللجنة الدستورية وفعاليتها ونجاعة أو فشل الفكرة عمومًا، التقت (جيرون) المحامي والباحث نادر جبلي، المشرف على قسم الدراسات القانونية في مركز (حرمون) للدراسات المعاصرة، واستوضحت منه -عبر حوار مطوّل- العديد من القضايا ذات الصلة باللجنة الدستورية والحلول الأنجع لسورية، وكان الحوار التالي:
– نُشر لكم حديثًا بحث علمي حول اللجنة الدستورية، وبُعَيد الإعلان عن تشكيل اللجنة كان لكم مقال في شبكة (جيرون) الإعلامية، كما شاركتم في عدد من الندوات والحوارات حولها، وفي جميع هذه النشاطات تُظهرون رفضكم لهذه اللجنة، وخوفكم من نتائجها ومآلاتها… لماذا كل هذا الخوف، واللجنة بالكاد تشكلت وبدأت عملها، وما زال مبكرًا الحكم على نتائجها؟
= القصة أن التداعيات الكارثية لهذه اللجنة، لا تترتب عن نتائج عملها فحسب، بل ترتبت عن مجرد قبول المعارضة بالمشاركة في تشكيلها وأعمالها.. هذه التداعيات المبكرة، والبالغة الخطورة، هي مناط خوفنا وجهدنا الآن، وهي ما نسعى إلى تطويقه وتجنب، أو تخفيف، آثاره قدر المستطاع.
– هلّا توضح لنا هذه الفكرة: كيف يكون لمجرد المشاركة في هذه اللجنة مثل هذه التداعيات التي تسميها “كارثية”؟
= القرار الأممي 2254 لعام 2015 رسَم مسارًا للحل السياسي في سورية، يقوم على ثلاث خطوات متكاملة ومتتابعة: الأولى هي إقامة “حكم ذي مصداقية، يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية” والثانية هي إعداد مسودة دستور، والثالثة إجراء الانتخابات.. هذه الخطوات لا تُنتج حلًا سياسيًا إلا إذا تمت وفق التسلسل الوارد بالقرار المذكور؛ لأن الهيئة الحاكمة هي التي ستهيّئ الشروط المناسبة لكتابة الدستور، أي البيئة الآمنة والمحايدة، التي تسمح للجميع بالمشاركة دون خوف أو صعوبات، وهي التي ستهيّئ الأجواء السليمة لتنظيم انتخابات حرة شفافة ونزيهة، ومن دون إقامة هذه الهيئة، لا يمكن الحديث عن بيئة مناسبة لإعداد دستور أو إقامة انتخابات نزيهة، لأن كل ذلك سيجري عندها تحت سلطة نظام الأسد ومخابراته.
المشكلة الآن أن موافقة فريق المعارضة على المشاركة في هذه اللجنة التي ستعمل على الدستور، دون المرور بمرحلة الحكم الانتقالي، تعني التخلي الضمني عن شرط الهيئة الحاكمة المحايدة، وتعني خوض هذه المعركة الدستورية، ثم الانتخابات التي تترتب عنها، بوجود نظام الأسد وتحت سيطرته، ولا يخفى على أحد أن نتيجة ذلك لن تكون إلا إصلاحًا دستوريًا، أو إعداد دستور جديد يناسب الأسد ويثبت ويشرعن نظامه، ويسمح له بالفوز بفترات رئاسية جديدة. وهذا يعني بالنتيجة أن كل تضحيات السوريين، وكل آمالهم، ذهبت هباءً.
– معظم أعضاء فريق المعارضة في اللجنة يقولون إن اللجنة الدستورية هي المدخل لتطبيق القرار 2254 وتحقيق الانتقال السياسي، ويؤكدون أن مشاركتهم لا تعني أبدًا التنازل عن أي من أحكام القرار المذكور؛ ما رأيك في ذلك؟
= من يقول ذلك لا يدرك ما يقول، أو هو يبيع الوهم للناس لتبرير تورطه، أو هو مصدق لوعود سمعها من ممثلي هذه الدولة أو تلك. اللجنة الدستورية أولًا هي المدخل لتصفية القرار 2254 وليس لتطبيقه، وهي المدخل لتمرير الخطة الروسية السامة، وإعادة تأهيل وشرعنة نظام الأسد. واللجنة الدستورية ثانيًا لا تملك أي صلاحية في طرح ومناقشة أي موضوع، خارج مهمتها المحددة في المادة الأولى من اللائحة الداخلية لعمل اللجنة، والتي أصدرها الأمين العام للأمم المتحدة. وهذه المهمة تنحصر في إجراء إصلاح دستوري على الدستور القائم، أو إعداد مسودة دستور جديد. لذلك لن يكون بإمكانهم الحديث عن هيئة حاكمة ولا عن غيرها.
– لكن إعداد دستور للبلاد هو جزء من القرار 2254، لماذا ترى أن العمل على هذا الجزء ينسف هذا القرار؟
= التسلسل الوارد في القرار 2254، الذي أشرت إليه أعلاه، بالغ الأهمية، وهو بأهمية الخطوات الثلاث التي نص عليها القرار، أي الهيئة الحاكمة، فالدستور، فالانتخابات. وعدم مراعاة هذا التسلسل يطيح بالقرار. ويمسخ العملية السياسية، ويأخذها باتجاه آخر. فلا يمكن مباشرة العملية الدستورية قبل حكم حيادي يوفر البيئة المناسبة لها، كما لا يمكن خوض انتخابات قبل وجود دستور ينظمها.. وهكذا. لذلك أقول إن الدخول في العملية الدستورية قبل الحكم الحيادي، يضيع الحق بالحكم الحيادي أولًا، ويجعل العملية الدستورية تحت رحمة مخابرات الأسد ثانيًا. فماذا يبقى من القرار الدولي في هذه الحال؟
– طالما أن المعارضة بجناحيها العسكري والسياسي في حالة هزيمة، ولم يعد لها أي وزن أو تأثير في الشأن السوري، والروس يتحكمون في المسار السياسي، برضى وتفويض دوليين على ما يبدو، ولا يبدو أن هناك ما يمنعهم من السير بإجراءات تثبيت نظام الأسد، بغض النظر عن مشاركة المعارضة؛ فلماذا لا يشاركون إذن؟ أوليس من الأفضل أن تتم الأمور بوجودهم ومشاركتهم من أن تتم بغيابهم؟
= صحيح أن المعارضة بجناحيها لا تتمتع الآن بأي وزن مؤثر، لكن يبقى صناع القرار في سورية الآن بحاجت إليها لتمرير إجراءاتهم، وإضفاء الشرعية عليها، وإخراجها للعالم كما لو أنها من صنع كل السوريين. ما يعني أن لمشاركتها وتوقيعها وزنًا وقيمة. وبدونه ستبقى الإجراءات ناقصة وغير شرعية تجاه العالم. وهذا للأسف ما لا يدركه أغلب أعضاء الفريق المعارض على ما يبدو.
العملية تشبه إلى حد كبير جريمة غسيل الأموال، حيث يكون لدينا أموال ناجمة عن مصدر جرمي غير قانوني، فنقوم عبر آليات معينة بإدخالها في الدورة الاقتصادية وإضفاء الشرعية عليها، فتغدو كما لو كانت من مصدر طبيعي. وفي حالتنا، لدينا حلف إجرامي منتصر، دمّر سورية وقتل أهلها وشردهم، ويريد الآن ترجمة انتصاراته العسكرية إلى نصر سياسي، وإعادة تأهيل نظام الأسد وشرعنته، والآلية التي ستتم عبرها هذه العملية الوسخة هي اللجنة الدستورية التي ستبدو، بمشاركة المعارضة، وكأنها تمثل كل السوريين.
من دون مشاركة المعارضة؛ ستبقى إجراءاتهم مجروحة، وسيجدون صعوبة في شرعنتها ونزع الاعتراف الدولي بها، وهذا سيعطل على الروس خطتهم في جلب أموال إعادة الإعمار، ما سيحوِّل كل هذه الانتصارات إلى وهم وخسارة وورطة كبيرة سياسية وعسكرية واقتصادية.. ومن هنا بالذات يأتي وزن المعارضة وقوتها، ومن الضروري جدًا أن تعي هذه النقطة.
ثم من لديه الوهم بأن النظام والروس سيسمحان لفريق المعارضة بتمرير ما يزعجهم؟ هم إذا وصلوا عبر اللجنة إلى ما يريدون فهذا ممتاز، وإلا فلديهم كل الوسائل لتعطيل عملها، واتهام المعارضة بهذا التعطيل.. تكفي نظرة سريعة إلى اللائحة الداخلية التي تحكم عمل اللجنة حتى ندرك استحالة أن تنجح المعارضة في تمرير أي حرف لا يلائم تحالف الأعداء هذا.
– لكن أيّ أمل يُرتجى من قرارات لا تطبّق؟ لقد مضى على صدور القرار 2254 أربع سنوات، وهو حبيس الأدراج، وليس ثمة بين الدول الفاعلة من يرغب في تطبيقه، وإلا كنا ننعم بنظام جديد منذ سنتين.. ألا ترى أن من حق القائمين على الأمر البحث عن مخارج أخرى، والتقاط أي فرصة متاحة قد تحقق اختراقًا ينفع السوريين في هذا الوضع المأسوي؟
= أشكرك على هذا السؤال المهم.. نعم، مع الأسف، صدور القرار شيء وتطبيقه شيء آخر، التطبيق يحتاج إلى توافقات دولية جديدة تختلف عن التوافقات التي حكمت الإصدار، وهذه التوافقات غير متاحة الآن، وربما لن تتاح لوقت طويل، ومع ذلك، علينا أن نعي عدة نقاط مهمة وحساسة:
* الأولى أن القرار الدولي موجود وملزم دائمًا، مهما تراخى العالم في تطبيقه، ويبقى دائمًا واجب التطبيق، وحجة لنا تجاه العالم.
* الثانية هي أن هذا القرار هو الوثيقة الدولية الوحيدة التي مَنحت السوريين بعض الحقوق، وقدمت لهم فرصة معقولة للانتقال السياسي، وعلى الجميع العض عليها بالنواجذ، وليس التفريط بها بأي حال.
* الثالثة هي أن حق من تسميهم بأولي الأمر في البحث عن فرص أخرى، وتحقيق اختراقات لصالح السوريين، لا يعني أبدًا التضحية بمكاسب وفرص أخرى ثابتة وبالغة الأهمية… نعم لأي فرصة أو منفَذ يدعم قضية الشعب السوري، لكن ليكن ذلك بالإضافة إلى القرارات الدولية، أو لتحسين فرص تنفيذها، وليس عبر التخلي عنها.
– هل لديك ملاحظات على الفريق المعارض المشارك في اللجنة؟ هل تراه غير مؤهل للخوض في هذا الاستحقاق المصيري، خاصة من حيث افتقاره إلى المختصين بالشأن الدستوري؟
= المشكلة الرئيسة -برأيي- تكمن في مجرد المشاركة بهذه اللجنة، أي في قبول هذه الخطة الروسية التي ستودي بالقرار الدولي، وستدفن حقوق السوريين وتضحياتهم، وستضفي الشرعية على نظام الأسد. وهذا ما يجب التركيز عليه.
أما الفريق فلديه مشكلات عديدة بالطبع، ومشكلة مستوى قدرته وتأهيله هي الأقل شأنًا بينها، لأن تعويض النقص ممكن عبر فرق دعم اختصاصية تضم الخبرات اللازمة.. هناك مشكلات أكثر جدية وخطورة بكثير من هذه.. هناك مثلًا مشكلة تبعية معظم أعضاء الفريق المعارض للخارج، وعدم قدرة هؤلاء التابعين على مخالفة توجيهات متبوعيهن. وهناك مشكلة عدم الانسجام بين أعضاء الفريق بحكم انتمائهم إلى مرجعيات مختلفة، ذات رؤى مختلفة ومتعارضة في أحيان كثيرة. وهناك مشكلة خطيرة أيضًا داخل الفريق، وهي أنه مفخخ بمجموعة ما يسمى بمنصة موسكو، وهؤلاء يعملون بتوجيهات موسكو، ويجدر أن يكونوا ضمن فريق النظام. وهناك مشكلة تفرضها إقامة بعض أعضاء الفريق في الداخل، أو بعضٌ من أهلهم. وهؤلاء الأعضاء سيعملون في اللجنة تحت رحمة نظام لا يعرف الرحمة، ما يعني أن سقفهم في المعارضة سيكون منخفضًا جدًا، وحساباتهم معقدة. وهناك مشكلة أيضًا على درجة كبيرة من الأهمية، هي سوء علاقة الفريق مع السوريين عمومًا، وهذه الغربة القاسية بين الاثنين، تجعل الفريق المشارك وكأنه معلق في الهواء، دون أرضية أو سند… وثمة مشكلات أخرى عديدة نتجاوزها الآن.
– ألا ترى معي أن هذا الموقف المعادي للّجنة ولمشاركة الفريق المعارض فيها، سيضعف موقف هذا الفريق تجاه خصومه، ويجعله معزولًا، وعرضة للهجوم عليه والطعن بشرعيته؟ ألا تقتضي مصلحة السوريين دعم هذا الفريق، وتعزيز موقعه تجاه خصومه، طالما أن اللجنة أصبحت أمرًا واقعًا، وبدأت أعمالها؟
= لا يمكن للسوريين دعم مسار يعرفون تمامًا أنه سيودي بتضحياتهم وأحلامهم ومستقبلهم.. هذا يمكن أن يحصل، بل يجب أن يحصل، عندما يطمئن السوريون إلى أن مشاركة هذا الفريق، وأداءه لن تضر بهم وتفرط بحقوقهم، وهذا يستدعي من الفريق المشارك القيام بما يلزم من خطوات، لبث هذه الطمأنينة في قلوب السوريين، وبالتالي جذب ما أمكن منهم للوقوف إلى جانبه في هذا الاستحقاق.. دون ذلك سيكون من الأفضل العمل على عزل الفريق ونزع الشرعية عنه، لأن من شأن ذلك النيل من شرعية هذه اللجنة وما سـيتأتى عنها من نتائج. بالنتيجة؛ لا شيء أسوأ على السوريين من تثبيت هذا النظام القاتل، ومنحه فرصة الحكم عقودًا أخرى. وهم لم يقدموا ما قدموه لرؤية هذا الكابوس أمامهم.
– أما زال هناك ما يمكن عمله بعد أن حصل ما حصل؟ هل تنصح بشيء ما؟
= ألخص هنا بعض ما جاء حول هذه النقطة، في بحثي الأخير المنشور على موقع مركز حرمون للدراسات، وقلت فيه إنه دائمًا هناك ما يمكن عمله، بل ما يجب عمله، سواء من قبل المشاركين في اللجنة، أو من قبل معارضيها. فبالنسبة إلى الفريق المشارك هناك ثلاثة مستويات من العمل، أولها وأفضلها هو الانسحاب الجماعي من اللجنة، ونزع هذا الغطاء الشرعي عنها. وثانيها هو تعليق المشاركة في أعمال اللجنة حتى تتم إقامة الحكم الانتقالي، موضوع الخطوة الأولى من القرار 2254، وحتى تتم إجراءات بناء الثقة وعلى رأسها إطلاق المعتقلين والكشف عن المفقودين.. أما ثالثها، وهو أضعف الإيمان، فهو إصدار إعلان من قبل عدد وازن من أعضاء الفريق المعارض، سميته “وثيقة إعلان مبادئ” يتعهدون فيه للسوريين والسوريات بأنهم لن يفرطوا أو يتساهلوا إطلاقًا، مهما كانت الظروف، بالمسائل المهمة والمصيرية التي يكون من شأن التفريط بها ضياع حقوق السوريين وآمالهم بالتغيير، على أن يتم في الإعلان تحديد وتعريف هذه المسائل، بما يكفي لإعطاء الثقة للناس بجدية التزامهم. وقلت أيضًا إن صدور مثل هذا الإعلان عن الفريق المعارض في اللجنة قد يُطمئِن السوريين، ويكون بمثابة معيار بين يديهم لمراقبة أداء الفريق والتأكد من التزامه، وهذا من شأنه أن يحسّن مستوى ثقتهم به، ثم الانتقال إلى مرحلة دعمه.
أما معارضو اللجنة، فدورهم مهمّ جدًا في دفع الفريق المفاوض لاتخاذ مثل هذه المواقف الصحيحة والمطلوبة. وعليهم بدايةً سلوك الطريق الإيجابي، طريق التوضيح والإقناع أولًا، ثم الدعم في حال وجود المؤشرات الإيجابية. ومن منطلق الحرص والشراكة في الهم الوطني، المنطلق الأفضل لفتح أبواب القلوب والعقول. وبالتأكيد ليس من باب التهديد والتخوين والإهانة. وأؤكد على هذه النقطة الأخيرة، وأضع تحتها عشرين خطًا، لأن التخوين والإهانة لا يجلب سوى توسيع المسافات وتعميق الشروخ ونصب المتاريس بين السوريين… وهذا آخر ما ينقصنا.
جيرون