الناشط الحقوقي السوري أنور البني: العدالة في سوريا ستتحقق قبل الحل السياسي والمقاومة الشعبية للاحتلالات إلى العلن
حاورته: رلى موفّق
هاجس الناشط السياسي والحقوقي أنور البني، الذي ذاق طعم سجون النظام وخرج منها مع انطلاقة الثورة السورية، ترسيخ ما تم تحقيقه من “سابقة تاريخية” في العدالة الدولية، إذ إنه نَفَذَ من بوابة القضاء الأوروبي لتحقيق أمرين في سوريا هما العدالة قبل الحل السياسي، وإصدار مذكرات توقيف بحق شخصيات وهي على رأس عملها في السلطة.
ما كان ذلك “الفتح” موثقمكناً لولا التعاون مع مراكز ومؤسسات حقوقية في عدد من الدول، متكئاً على “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” الذي أسسه في ألمانيا حيث لجأ عام 2014 والذي يضم 30 محاميا سورياً. اليوم، هناك أكثر 65 دعوى جرائم ضد الإنسانية بحق مسؤولين في النظام السوري مقدمة أمام المحاكم الأوروبية، وفي مقدمهم بشار الأسد، الذي لا يمكن لأي شرعية أن تُغطّيه، فعملياً أصبح ورموز سلطته مطلوبين للعدالة.
يرى أن حلم الأسد في إعادة انتخابه لولاية جديدة “كحلم إبليس في الجنة”. هو مؤمن بأن الثورة السورية، بما أحدثته من تغيير في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع، انتصرت وإن لم يكن انتصارها نهائياً. ويُراهن على حدوث “أمر ما” بين ليلة وضحاها يقلب الموازين. ويعتبر أن “المقاومة الشعبية في لكل الاحتلالات في سوريا هي مدخل الحل” لافتاً إلى أن إرهاصات المقاومة قد بدأت.
بالنسبة إلى البني، فإن سوريا أضحت هي عقدة المواجهة الإيرانية-الأمريكية، بعدما وضعت إيران يدها على العراق في سعيها لإنشاء الهلال الشيعي، وخسارة النظام الإيراني لدمشق معناه خسارته لطهران، فكل هذا الضغط على إيران وانهيارها في لبنان والعراق سيؤدي إلى انهيارها من الداخل.
أما روسيا، فهي “تاجر صغير” لبضائع تريد بيعها للغرب وأمريكا، وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن صرَّح مراراً بأنه غير متمسك بالأسد ولكن لا أحد يريد شراء بشَّار منه.
وهنا نص الحوار:
* ماذا يمكن لأبناء الثورة والمراقبين أن يسألوا بعد 8 سنوات: ألم تُخفق الثورة في تحقيق أهدافها؟ ألم ينتصر نظام بشار الأسد؟
** من المؤكد أن الثورة لم تُخفق، هي انتصرت وإن لم يكن انتصارها نهائياً. الثورة بمعناها الفعلي تعني تغييراً في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، والأهم التغيير في البنية الاجتماعية والأخلاقية. لا يمكن أن تتغيَّر الهيكلية السياسية التي تحكم البلد إذا لم يحدث تغيير أساسي في البنية الاجتماعية والاقتصادية على أرض الواقع، وإلا فإن كل تغيير فوقي سوف يندثر كما حدث في مصر. التغيير في السلطة يندثر إذا لم يكن هناك تغيير في البنية الاجتماعية والفكرية والثقافية، هذا هو أساس التغيير. لذا الثورة السورية انتصرت منذ اليوم الأول، كما هي الثورة اللبنانية حالياً، وبالتالي تتويج الانتصار يكون بتغيير البنية السياسية. هنا العقبات التي يقاتل كل أعداء الثورات في العالم حتى يمنعوا قيام بنية سياسية لدولة تستطيع استثمار التغيير الذي حدث في الفكر والبنية الاجتماعية لتتوجه وتخلق دولة حديثة.
*السوريون في الداخل يقولون إن نظام بشار الأسد صاحب الارتكابات هو نظام قائم وأكثر شراسة وبالتالي يحق لهم أن يسألوا: ماذا حققنا؟
** هناك فرق بين أن يكون قائماً وبين أن له وجوداً فعلياً. “داعش” ما زالت قائمة، والنصرة ما زالت قائمة، والتنظيمات المتطرفة ما زالت قائمة. على أرض الواقع بشار لا يفرق عنهم. الاختلاف هو أن الدول تعترف به كدولة وتتعامل معه على أساس أنه الجهة الشرعية الوحيدة، لكن عملياً الكل موجود على الأرض، وجوده لا يزيد عن وجود “داعش” والنصرة، لا من حيث القوة ولا من حيث السيطرة والهيمنة. الناس التي تحت سيطرته تقول إنه موجود، والناس التي تحت سيطرة PYD (حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي) تقول أيضاً إنهم كانوا موجودين ويبنون ويفرضون ضرائب.
*ولكن شرعية النظام ليست قليلة… وغداً قد نرى الأسد رئيساً لولاية ثانية؟
** أولاً، حلم الأسد بالعودة كـ”حلم إبليس بالجنَّة” وثانياً يمكن للخارج أن يتعامل مع الدولة، لكن هناك عوائق قانونية أمام تعاملهم مع أشخاص النظام، فهؤلاء مجرمون مطلوبون للعدالة، هذا الفرق الذي حققناه. عملياً أصبحت رموز السلطة مطلوبة للعدالة، مثلما كان الجولاني مطلوباً للعدالة وقُتل (لم تُؤكد هيئة تحرير الشام مقتله) ومثلما كان بن لادن. هم لن يقتلوا بشار كما قتلوا الجولاني، لكن لا يمكن لأحد أن يعود ويتعامل معه أو مع أركان نظامه لأن هذا يُعرضه للمساءلة أمام قانون دولته. هؤلاء أصبحوا متهمين أمام القضاء الأوروبي، ومطلوبين لعدالته وبالتالي يُمنع التعامل معهم.
* تقصد أنه حتى لو اقتضت المصالح السياسية للدول الأوروبية تبيض صفحة النظام الحالي، فهؤلاء لن يستطيعوا؟
** نعم، لأنهم في هذه الحالة يرتكبون جريمة طبقاً لقانون بلادهم. بالطبع ليس أي سياسي، إنما السياسي الذي يمثل الدولة. إذا عاد أحدهم للتعامل مع هذا المجرم المطلوب، سنلاحقه أمام قضاء دولته، وبالتالي التعامل معه جريمة. هذا ما تحقق، إذ فيما سبق كان الحل السياسي يأتي ويضع للعدالة حدوداً، يُعيد الشرعية للمجرمين ويعود للتعامل معهم. هذه أول مرّة بالتاريخ العدالة تسبق الحلول السياسية، وهي التي تضع قيوداً حول مَن يستأهل أن يكون له دور بالحل السياسي في المستقبل.
*أي مسار قانوني اتخذه “المركز السوري للدراسات القانونية” وآخرون، كي نطمئن إلى أن أياً من سياسيي تلك الدول لن يستطيع تغيير شيء في الواقع حتى لو أراد ذلك؟
** هناك ما يُسمى بالصلاحية العالمية موجودة عند بعض الدول مثل ألمانيا والنمسا والسويد والنروج. هذه الدول مَنَحَت وحدات خاصة في سلطتها القضائية الحق للقيام بالتحقيق في جرائم كما تقوم به محكمة الجنايات الدولية، بمعنى أن لديها الاختصاصات التي تملكها محكمة الجنايات الدولية، وبالتالي نحن استثمرنا هذه الصلاحية. في ألمانيا تقدَّمنا بـ4 ملفات أمام القضاء الألماني، نتهم بها 27 شخصية بمن فيهم بشار الأسد بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، صدرت مذكرات توقيف سُرِّبت منها مذكرة واحدة بحق جميل حسن، لكن هذا لا يعني أنها الوحيدة، لكن هذا ما تم تسريبه عن المدَّعي العام.
*يعني أن هناك 27 شخصية بحقها مذكرات توقيف؟
** نحن لا نعرف، المدعي العام لا يُفصح عن مذكرات التوقيف التي يُصدرها. هو يرسلها للانتربول للتنفيذ ولكن لا يُفصح عنها. بالنسبة لنا، هناك 24 شخصية مدَّعى عليها أمام المدَّعي العام في النمسا، و25 شخصية مدَّعى عليها أمام المدَّعي العام في السويد، والأسبوع المقبل سنكون في النروج لتقديم ملف ادعاء على 17 شخصية أخرى.
*في المُجمل كم شخصية؟
** أكثر من 65 شخصية، وهناك شخصيات مشتركة بين كل الدعاوى، أمثال علي مملوك وجميل حسن ورؤساء الإدارات، لكن الباقين هم رؤساء أفرع أمنية مختلفة في السويداء وحمص وحماه وحلب ودمشق واللاذقية وطرطوس وشخصيات أخرى، لكن أكثر من 65 شخصية في المجمل مدَّعى عليها.
*هل هذا كله نتاج عمل المركز السوري للدراسات القانونية، أم أن هناك مراكز وحقوقيين آخرين؟
**نحن كجهة سورية نعمل بالتعاون مع “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير ومجموعة قيصر” ومع “المركز الأوروبي لحقوق الإنسان الدستورية” وفي كل بلد هناك منظمة وطنية تتعاون معنا. في السويد، هناك “مركز المدافعين عن الحقوق المدنية” وفي النمسا هناك “مركز إنفاذ القانون وحقوق الإنسان” والآن “لجنة هلسنكي النرويجية” وهم مجموعة المحامين الوطنيين الذين يتبنون تقديم الدعاوى أمام المدَّعي العام ببلدانهم. وفي فرنسا هناك “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان” كما هناك “الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان” حيث صدرت مذكرات توقيف باعتبار أن اثنين من ضحايا التعذيب من الفرنسيين.
* رغم كل ما تقومون به، النظام لا مشكلة لديه في أن يكون معزولاً، فكيف إذا كانت روسيا وإيران والصين إلى جانبه؟
** هؤلاء لا يُنقذونه. لا يمكن أن يعطوه المال ويعيدوا الإعمار. لو تستطيع روسيا إعادة الإعمار وإعطائه الشرعية لما توانت عن ذلك، وكذلك الصين. الدعم السياسي هو فقط ما يستطيعون توفيره، لا أحد لديه القدرة على تحمّل الخسارة، وحتى إيران لم يعد لديها المال لتخسره من أجله. تركيا تدعم جماعة “النصرة” لكنها لا تستطيع منحها الشرعية. كثير من الدول شهدت انقلابات أو عمليات تغيير في السلطة ولكنها عادت وسقطت رغم أنها كانت مدعومة من دول كثيرة. إذا لم يتوفر الدعم المادي لدفع الرواتب وتأهيل البنى التحتية فهذا لا يعني شيئاً. الموالون للنظام سوف ينتفضون عليه في المستقبل إذا لم تتوفر لهم سبل العيش، وبالتالي لندعه يُكمل بهذه الطريقة. المشكلة لا تنحصر بعدد الدول التي تدعمه، الائتلاف الوطني تدعمه 140 دولة من مجموعة أصدقاء سوريا، ماذا استفاد من ذلك؟
*سجَّلت موقفاً سلبياً من تشكيل اللجنة الدستورية، رغم أن هذه الخطوة تحظى بترحيب المجتمع الدولي، لماذا؟
** اللجنة الدستورية اختراع روسي. العالم وافق لأن صاحب القرار الأساسي الذي يمكن أن يكون له تأثير نهائي بالوضع السوري هو أمريكا. العالم ترك القوى الإقليمية المحلية تتحكم بالوضع السوري من دون ضوابط، باقي الدول وخاصة الأوروبية عاجزة عن فعل أي شيء من دون قرار أمريكي، وبالتالي اضطروا للقبول على مضض، لأن ليس هناك حل وما يحدث هو لحفظ ماء الوجه فقط. أمام كل هذه الجرائم التي تحدث في سوريا، لم يقوموا بشيء، والكل يعرف أنه لن يكون هناك حل عن طريق اللجنة الدستورية، وما جرى في جنيف منذ 7 سنوات حتى الآن هو مجرّد مسرح دمى تتحرَّك لإلهاء الجمهور والترفيه عنه، بمعنى أننا نقوم بشيء بينما على الأرض القتل والدمار والتهجير والذبح مستمر، إذاً هذا لإلهاء الناس. اللجنة الدستورية هي لعبة روسية للقفز عن المرحلة الانتقالية، التي انتفى وجودها.
* ولكن اللجنة الدستورية مؤلفة من ثلاثة (النظام والمعارضة والمجتمع المدني)؟
** يا ليتها كانت “هيئة حكم انتقالي” لماذا جعلوها لجنة دستورية؟ أنا أقبل أن تكون “هيئة حكم انتقالي” حتى ولو أتى النظام بـ30 شخصاً آخرين. المهم أن تكون هناك مرحلة انتقالية تُنتج دستوراً في ما بعد، أي بعد إطلاق سراح المعتقلين وبعد حل مسألة المفقودين وبعد وقف القتال في كل أنحاء سوريا. هجومي الشديد عليها، لأنها خيانة لمطالب الشعب السوري، ولأنها تقفز فوق المرحلة الانتقالية التي قد لا تقارب تطلعات الشعب، لكن على الأقل تُمثل الحد الأدنى من مطالبه التي تحققت عبر قرار أممي متفق عليه، تأتي روسيا لتتجاوزه وتلغيه.
*حتى لو كانت هناك هيئة انتقالية سوف يحتوونها لأن الواقع على الأرض تغيّر (مقاطعاً)
** ليعطونا هيئة انتقالية تلغي سلطة بشَّار الأسد لمدة 3 سنوات وليحاولوا احتواءها بقدر ما يستطيعون. كما حصل مع المرحلة الانتقالية، سيحدث مع اللجنة الدستورية التي لن يعود هناك مبرر لوجودها في المستقبل. بمعنى أنه إذا عاد النظام وسيطر عسكرياً على الأرض، ووضع المهجرين استمر على ما هو عليه فلماذا تريدون دستوراً جديداً وتتكلمون عن لجنة دستورية؟!
* ما هو المَخرَج؟
**أنا وضعت المخرج منذ سنة وقلت أن الكل يتقاتل اليوم في سوريا، وهم أدوات محلية لقوى الاحتلال. سوريا الآن تحت 4 احتلالات على الأقل: أمريكا والتحالف وإيران وتركيا وروسيا. بشار الأسد مثله مثل الجولاني ومثل صالح مسلم أو مظلوم عبدي أو البغدادي وسابقاً زهران علوش، هذا هو حجمه لا أكثر ولا أقل. الحل الوحيد للخلاص من الاحتلالات هو بناء مقاومة حقيقية شعبية وعسكرية لا تخضع غير لأجندة الشعب السوري. هذا الحل يُعيد صوت الشعب وحقه ومصلحته. السوريون أصبحوا أدوات ويُضحون بأرواحهم لصالح دول محتلة، الأكراد يعملون لصالح أمريكا، والمجموعات السورية التي كانت سورية الانتماء أصبحت تعمل لمصلحة تركيا، والجيش السوري التابع لبشار يعمل لمصلحة إيران وروسيا. حق الشعب السوري بمقاومة الاحتلال بكل الأشكال العسكرية والسياسية والاقتصادية وكل أشكال المقاومة لا يمكن أن يناقش به أحد، هذا حق طبيعي وهو الحل الوحيد الذي يمكنه إنقاذ سوريا. وقد بدأ هذا المسار، والمسألة تتعلق بقدر ما سيتطوَّر وينتظم.
*تقول إن مسار المقاومة قد بدأ؟
** بناء على ما يتوارد من أخبار منذ نحو 6 أشهر أو أكثر هناك شيء اسمه “المقاومة الشعبية الوطنية” تقوم بعمليات وتتبنى أفكاراً تحتاج إلى التكوُّن والنضوج والتواصل، والفكرة بدأت تأخذ جدوى.
*أود التوقف مجدداً أمام ما حققتموه بالنسبة لسوريا من بوابة القضاء الأوروبي…
**أمران تحققا في سوريا هما بمثابة الفتح في تاريخ العدالة العالمية، ويحصلان لأول مرّة في التاريخ. الأول هو العدالة تبدأ قبل الحل السياسي، وبالتالي هي التي تتحكم بالحل السياسي وليس العكس. في كل التجارب السابقة كان يأتي أولاً الحل العسكري أو السياسي وتصبح العدالة على قياس المنتصر، بمعنى أن الذي ينتصر في الحرب هو الذي يُقيم العدالة لمصلحته، وإذا لم يكن هناك منتصر ينسون العدالة ويصدرون عفواً عاماً كما حدث في لبنان، عملاً بمبدأ “عفا الله عمّا مضى” أو يمنحون جائزة حقوق الإنسان للمجرمين كما حدث في كولومبيا، حيث كبار المجرمين عندما أنجزوا اتفاقاً مُنحوا جائزة نوبل للسلام وليس فقط جائزة حقوق الإنسان.
الأمر الثاني الذي لم يتحقق سابقاً هو أنه لأول مرّة تصدر مذكرات توقيف وطنية بحق شخصيات ما زالت على رأس عملها في السلطة. لأول مرّة في التاريخ تسقط الحماية والحصانة التي يتمتع بها المسؤولون في السلطة وبالتالي صدرت مذكرات توقيف بحقهم، وهذا معناه أنه حتى بشار الأسد لم تعد عنده حصانة أو حماية أمام الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها. أنا شخصياً لا أعمل فقط من أجل سوريا، بل من أجل حماية ملايين الناس في دول أخرى مثل تركيا ومصر ولبنان، وفي كل مكان يعتقد الحاكم أو المسؤول فيه أنه فوق المساءلة. هذه رسالة لهم جميعاً.
* ماذا يعني فوزك بجائزة “حقوق الإنسان وسيادة القانون” الفرنسية-الألمانية العام الماضي؟
**أعتبرها اعترافاً سياسياً بالجهد القانوني الذي حققناه، ولا أعتبرها شخصية أبداً. وتؤكد أنه لا يمكن تجاوز أن هناك متهمين أمام القضاء وهناك مذكرات توقيف دولية. لا أحد في أوروبا يمكنه تجاوز هذه الدعاوى ومذكرات التوقيف. مذكرات التوقيف تلك أقوى من محكمة الجنايات الدولية. أنا دائماً أقول أن محكمة الجنايات الدولية هي أضعف طرف في العدالة الدولية بالنسبة لهذه الجرائم، لأن محكمة الجنايات الدولية يجري التحكم بها من قبل مجلس الأمن، بالإضافة إلى أنها لا تطال في الغالب أكثر من عشرة أشخاص وتأخذ وقتاً طويلاً لدرجة أن الناس تنسى أن عندها حقاً تريد أخذه كما يجري بمحكمة رفيق الحريري، وكما حدث في قضايا سابقة، تأخذ وقتاً طويلاً، ولا تطبِّق قراراتها إلا الدول الموقعة على الاتفاقية، بينما مذكرات التوقيف الصادرة أوروبا كلها مجبرة على تنفيذها لأن الجميع يعترف بالانتربول ومرتبط باتفاقيات ثنائية، وحتى الدول غير الموقعة على محكمة الجنايات الدولية لا يمكنها تجاهل هذه المذكرات.
*هل تحاولون التعاون لخلق اتصال مع دول أخرى تعيش تجاربكم نفسها؟
**هناك تعاون مع المصريين بشأن ما حدث في مصر، وسنبحث مع العراقيين ما يمكن تقديمه لهم، ولا أعرف بالنسبة للبنانيين، إن شاء الله تبقى الأمور على حالها، وأن تبقى إمكانية محاكمة المجرمين داخل لبنان وألا تحدث جرائم كبيرة.
*بعد نجاحكم في مقاضاة القيادات السورية المسؤولة عن إراقة الدم السوري هل يمكن مقاضاة حلفاء النظام من الدول والميليشيات التي ارتكبت جرائم لا تقل فظاعة؟
** فكّرنا بالموضوع. هنا الإمكانية القضائية تلعب دورها. الصلاحية العالمية تبدأ بإثبات المسؤولية الشخصية، وأن تلاحق الأشخاص وليس أنظمة الحكم، يعني يجب اللحاق بالمسؤولية الشخصية، فبشار الأسد لم نستطع الوصول إليه بالدعاوى السابقة كرئيس جمهورية مسؤول أو رئيس دولة مسؤول عن جرائم مُرتكبة لأننا لا نستطيع ملاحقته بناء على المسؤولية الافتراضية، فقط نحن نستطيع ملاحقة المسؤولية الشخصية، أي أن يقوم هو بالفعل، أو نُثبت أنه مَن أعطى الأمر بارتكاب الفعل، أو نُثبت بشكل يقيني أنه عرف بالجرم ولم يُوقفه أو يُحاسب المرتكب من موقع المسؤولية، هذه هي الأمور الثلاثة التي يمكن من خلالها إدانة أي شخص.
بالنسبة لإيران، نحن نتعاون مع منظمة إيرانية قامت بهيكلة سابقة للحرس الثوري الإيراني والجيش. نتعاون معها لإيجاد شخص إيراني ارتكب جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية في سوريا نستطيع ربطه بسلسلة الأوامر والرتب لمسؤولين في طهران، هذه المسألة ليست سهلة، فضلا عن أننا ندَّعي أمام قضاء لا يعرف سوريا، ولا يستطيع الوصول إلى مكان الجريمة. لذا نلجأ إلى نوعية الجرائم التي نستطيع إثباتها في أوروبا من دون أن يضطر القاضي للمعاينة الميدانية.
*سمّيت كل الوجود العسكري بالاحتلالات رغم أن الروس يقولون إنهم موجودون بناء لطلب الحكومة السورية، وبالتالي غير محتلين؟
**أنا عندي وجهة نظر قانونية وليست شخصية، الاتفاقيات العسكرية بين دولة وأخرى تتيح لها أن تطلب الدعم العسكري في حال واجهت خطراً خارجياً، هذه الاتفاقيات جُيِّرت لمصلحة فئة حاكمة ضد شعبها، وبالتالي خرجت عن الاتفاقيات الدولية الموقعة، ولا يمكن الاعتداد بها أنها ضمن الاتفاقية العسكرية بين الدولة السورية وروسيا، لأن الاتفاقية جُيّرت لمصلحة أشخاص للحفاظ على الحكم، لا للحفاظ على الدولة السورية، وهنا فرق كبير. بوتين يدَّعي أن من طلبهم هو الحكومة السورية، ولكن الذي دعاهم “أزعر” وليس الدولة السورية لأن الدولة لم تتعرَّض للاعتداء. عليه أن يضرب الأتراك والأمريكان الذين دخلوا إلى سوريا إذا كان يريد حماية الدولة السورية، هذا “استغباء” لا يمكننا تحمّله.
*المشهد السوري أصبح معقداً جداً، هل يمكن لهذا التعقيد أن يُنتج حلاً؟
**أي على وزن “اشتدي أزمة تنفرجي”. لا إمكانية للتنبؤ بواقع الوضع السوري، في صباح الغد يمكن أن تستيقظي على خبر يمكن أن يقلب الموازين رأساً على عقب، كما حصل حين أعلن ترامب الانسحاب من سوريا، أو بوريس جونسون (رئيس الوزراء البريطاني) الذي قلب الطاولة على الجميع باستقالته قبل أن يُنفِّذ وعوده بخصوص “بريكست” وكذلك سعد الحريري (رئيس وزراء لبنان) الذي استقال وقلب الطاولة كلها. ما أراهن عليه أن يحدث أمر ما يقلب الموازين، لأنه في الآخر لن يصح إلا الميزان الذي يحقق مصلحة الشعب السوري. تضحياتنا كثيرة ومصير الثورة السورية هو الذي يقود المنطقة كلها من الأساس، بغض النظر عن الكلفة الهائلة التي دفعها السوريون، لكن موقع سوريا وتاريخها، والشيء الذي حدث في لبنان والعراق قلب الموازين، وقضى على مخططاتهم. هذا شعب حيّ لا يموت، ولن تندثر ثورته، من هنا تفاؤلي وإيماني بأن هذه الثورة ستنتصر رغم الكلفة العالية.
*نحن اليوم أمام مواجهة إيرانية-أمريكية كبيرة والمنطقة بأسرها تدفع الثمن، من أي منطلق تعتبر أن سوريا هي مفتاح الحل؟
**سوريا أضحت هي عقدة هذا الكباش، بعدما وضعت إيران يدها على العراق من دون اهتمام من أحد، في سعيها لإنشاء الهلال الشيعي. معركة إيران في سوريا هي معركة حياة أو موت، وهي تعلم ذلك. إذا خسرت إيران لبنان يبقى لديها الأمل باستعادته. أحد نواب خامنئي صرح منذ سنتين بأنه لو خسرت طهران الأحواز كلها ليس هناك من مشكلة لأنه بالإمكان استعادتها، ولكن إذا خسرت دمشق فهذا معناه أنها تخسر طهران. وبالتالي كل هذا الضغط على إيران وانهيارها في لبنان والعراق معناه انهيارها من الداخل. روسيا جاءت لتبيع وتشتري، ليست لها مصلحة في سوريا للهيمنة ولم يعد عندها النظام العقائدي الذي يريد السيطرة، روسيا “تاجر صغير” يحاول جمع قليل من البضائع حتى يبيعها لأمريكا والغرب، ولكن البضاعة الأساسية التي إلى جانبه هي أوكرانيا وجورجيا. الهمّ الروسي هو بتخفيف العقوبات عنه وأن يكسب في القرم وشرق جورجيا. لا أحد يريد الشراء منه، بضاعته أصابها العفن ولا أحد يريد الشراء. عدة مرّات قال إن ليس له علاقة بالرئيس بشار وأنه لا يتمسك به فتعالوا لشرائه، ولكن لا أحد يريد شراء بشار منه. الروس متحمسون للجنة الدستورية فقط لاستجداء المال لإعادة الإعمار، لكن هذه اللعبة لم تعد تنطلي على أحد. هو يضحك على نفسه وهم يضحكون عليه، وفي النهاية سيرمي بضاعته بعد أن أصابها العفن.
الداخل الإيراني لن يطول انتظاره، فالحصار الاقتصادي وانهيار مشروع الملالي سيكون واحداً من لبنان إلى منتصف طهران. انكسارهم سيكون في الداخل لأنه لم يعد عندهم شيء يسوّقونه للعالم ولجماعتهم، بعدما صرفوا عليه مئات المليارات.
القدس العربي