مختارات جاك كيرواك
هايكو -1
(ترجمة: لينا شدود)
الدوري الصغير
على إفريز أنبوب التصريف خاصتي
ينظر حوله
** **
تبدو الشجرة
ككلب
ينبح على الجنّة
** **
فتاة العَرَبة ـــــ
ماذا
أعرف؟
** **
الثلاثاء ـــــ قطرة
مطر أخرى
من سقفي
** **
وجدتُ
قطتي ــــ نجماً
وحيداً صامتاً
** **
في صقيع الصباح
القطط
خَطَتْ ببطء
** **
ليس ثمّة برقية اليوم
ـــــ بل أوراق أكثر
تساقطت
** **
مُتجمدةً
في حوض الطيور،
ورقة
** **
أول موجة برد في
ديسمبرـــــ ولا حتى
جدجد واحد
** **
نسيم بارد ـــــ لعله
محض استعراض
سيقوضُ كل شيء
** **
خمسون ميلاً عن نيويورك
وحيدين في الطبيعة
السنجاب يقضم
** **
رجلا مبيعات مسافران
يعبر كلٌّ الآخر
على الطريق الغربية
** **
دخان
المعارك البحرية القديمة
قد انجلى
** **
طواحين
أوكلاهوما تلوح
من كل الجهات
** **
أهراءات الحبوب، تنتظر
الطريق
ليدنو منها.
** **
خرزات جوجو على
كتيب زن ـــــ
ركبتاي هامدتان
** **
أُصغِي إلى الطيور تغني!
كل الطيور الصغيرة
ستموت!
** **
غسقا ــــ الطير
على السياج
من معاصري
** **
حلول الليل ــــ أشدُّ حلكةً
من أن أقرأ الصفحة،
بردٌ قارس
** **
لا جدوى لا جدوى!
ــــ مطر غزير يتجه
إلى البحر
** **
وحيداً في البيت أقرأ
يوكا دايشي،
أشرب شاياً
** **
نعلا حذائي
نظيفان
من المشي في المطر
** **
قادمةً من الغرب
حاجبة القمر،
غيوم ــــ دونما أدنى صوت
** **
دُماها الصفراء تنحني
ـــــ على الرف
أرملةُ جدّي
** **
الطيور تغني
في الظلام
في الفجر المطير
** **
مُنهَكاً عند القفل،
أبواب الكاراج
بعد الظهر
** **
أُومِئ للحائط،
الأزهار
تعطس
** **
غمَزَت الأرض
لي ــــ تماماً
في الجون
** **
السابع من تشرين الأول
آخر
جدجد ضعيف
** **
حسناً ها أنا ذا،
الثانية ظهراًــــــ
في أي يوم نحن؟
** **
في خزانة أدويتي
ماتت ذبابة الشتاء
من العمر
** **
قلعة «الغاندهارفاس»
مكتظّة بأزواج شباب
يهرمون
** **
زهور الصباح الباكِر الصفراء
ـــــ تفكر
بسكارى المكسيك
** **
النبيذ في الفجر
ــــ سباتٌ شتائيٌ
مديد
** **
هبوط الليل ــــ أشدّ ظلمةً
من أن أقرأ الصفحة،
ظلمة حالكة
** **
ما البوذية؟
ـــــ طير صغير
مجنون يولول
** **
عابراً ملعب كرة القدم،
عائداً إلى منزله من العمل،
رجل الأعمال الوحيد
** **
السبْحة
على الكتاب المقدس
ــــ ركبتاي باردتان
** **
بعد الاستحمام،
بين الورود المنقوعة،
الطير يخفق في الحمام
** **
الحظيرة، تعوم
في بحرِ
أوراقٍ عصَفَ بها الريح
** **
القمر الأصفر
الواطِئ فوق
البيت الوادِع المُضاء بمصباح
** **
انقر بإصبعك
أوقف العالم!
ـــــ مطر أكثر غزارة ينهمر
** **
فتيات جميلات يرتقين
درج المكتبة
بسراويلهن القصيرة
** **
أيتها النحلة، لماذا
تحدّقين بي؟
لست زهرة!
** **
في عطالته يبــكي المنجِّم الأطلسي
لأن الملك
أرقَدَ فتاة خريفه
** **
ينظر جنكيزخان بحدّة
شرقاً، بعينين حمراوين،
تواقاً لانتقام الخريف
** **
Juju::مغنية جاز يابانية
:Zen رمز لمدرسة ماهايانا البوذية
Yoka Daishi :سيد الصحوة لليلة
Grandharvas : فريق روك كندي
——————————
هايكو -2
(ترجمة: لينا شدود)
1
مرج الصباح –
تثيرُ انتباهي،
عشبة واحدة
2
أسنانٌ مسكينة معذّبة
تحت
السماء الزرقاء
3
تناولتُ هامبرغر
كوني أيلاند
في فانكوفر واشنطن
4
اجرِ وراء ذلك
الشخص – اجرِ
وراء نارٍ تتأجج
5
أثر الجبل
الهادئ، هذا
الوابل من النقاء.
6
شمسٌ على الصخور –
غصنٌ مقطوعٌ
يتشبّث
7
جذل بنشارة
– مكانٌ
للتأمل
8
الأسماك الباسمة –
أين هي،
أيها الطير المستطلع
9
أنا، غليوني،
ساقاي المطويتان –
بعيدون عن بوذا
10
أُغلقُ عينيّ –
أسمعُ وأرى
ماندالا
11
الغيوم تفترضُ
كما أفترضُ
وجوه نسّاك
12
رخياً، غصن
الصنوبر يغتسلُ
في المياه
13
راضياً، قمم الأشجار
انحجبت
في ضبابٍ رمادي
14
تناسلت لتبتهج،
أشعة الشمس الضاحكة
تُغادر
15
رجراج ودافئٌ،
ثلج الأعالي،
غير المطروق
16
منعتقٌ أبداً
ورهيف،
عمل الغيم
17
في كل مكان خلف
الحقيقة،
فضاء أزرق خاو
18
الجبال
راسخة بصبرها،
أيها البوذي
19
طلاء القارب
على
قميصٍ عتيق
20
الثلج يذوب،
تتدفق الجداول –
يغادر الحراس الوادي
21
رجلٌ – هو
محض
برميل مطر
22
ركام على البحيرة
روحي –
كسيرة
23
الليلة الماضية
حلمتُ
بهاري ترومان
24
لا شيء هناك
لأنني
لا أعبأ
25
في الأصيل المتأخر
ذُرى، ألمح
الأمل
26
قمة جبل
جاك – اكتملت
بالغيوم الذهبية
27
أوف – أوول ستارفايشن ريدج
نهاية
سديمية
28
كافة الحشرات
صمتَت
إجلالاً للقمر
29
طعم المطر –
لماذا
أركع
30
بدر، ثلجٌ أبيض، –
زجاجتي
من جيللي أرجواني
31
أنا في أوج حنقي
أستطيع أن أعضّ
قمم الجبال
32
قهوة ساخنة
ولفافة تبغ –
لماذا زازن
33
الشفق القطبي
فوق هوزومين –
الخواء مُقيم
34
نات ويلز، رحّالة
– أميركا في
عام 1905
35
ها قد عدت وسط
اللامكان –
هذا على الأقل ما أظنه
36
أيتها البشرة
المسكينة اللطيفة –
ليس من جواب
37
العاصفة،
مثل دوستوفسكي
تشيدُ كما تُدون
38
ما هو قوس قزح،
يا إلهي؟ – طوقٌ
للوديع
39
عليّ أن أذهب –
ابقرْ الوحش
واتجه صوب المكسيك
40
أواخر الظهيرة –
الخرقة تجفّ
على الصخرة
41
أواخر الظهيرة –
بارد
ظهري العاري.
هايكو
(ترجمة: عبد الكريم كاصد)
طواحين هواء
أوكلاهوما
في كلّ اتجاه
**
أيتها النحلة
لماذا تحدّقين بي
ما أنا بزهرةٍ؟
**
ليل مكتمل مضئ
أفسدته
شجاراتٌ عائلية
**
ثورٌ أسود
وطائرٌ أبيض
يقفان معاً على الساحل
**
متجاهلاً خبزي ،
الطائر
ينقر في العشب
**
ليل ربيعيّ –
ورقةٌ تسقط
من مدخنتي
**
البغل
هادئاً يستدير
حاكاً ظهره بجذع
**
مكنسة الزاهد ،
النار ، إبريق الشاي
– ليل آب
**
النجوم
تتسابق مسرعةً
عبر الغيم
**
يومٌ مشمس – أثرُ طائرٍ
وقطّةٍ
في الثلج
**
صباح مبكّر
وكلابٌ سعيدة –
نسيتُ الممرّ
**
العشب يتموّج
الدجاج يقوقئ
لاشئ يحدث
**
بعوضة الربيع
لا تعرف
حتى كيف تعضّ
**
غابات الصنوبر
تتحرك
في الضباب
**
” أنا وأنتِ “
غنيتُ
ناظراً إلى المقبرة
**
الكتاب
لحاله
يقف على الرفّ
**
قمرٌ
في ممرّ الطير –
نجمة أيضاً
**
الليل
أحمر
بالنجوم
**
ريحٌ صرّ
– عشّ فارغ
منتصف الليل
**
جيران جدد
– ضوء
في البيت القديم
**
هل أنا وردةٌ
لتنظري إليّ
أيتها النحلة ؟
**
سائراً على الماء
ظلّي
أثقل من الرصاص
**
نسمة صباحٍ باردة
قطّة تتدحرج
على ظهرها
**
يحدّقان في بعضهما ،
سنجابٌ فوق الغصن ،
قطة في العشب
**
بمقدوري
أن أشرب كلّ النهر الأصفر
حبّاً بـ (لي بو )
**
الريح
ارسلت ورقةً
على ظهر دوريّ
**
ليلٌ خريفيّ هادئ
وهؤلاء الحمقى
يشرعون في المجادلة
شذرات من جاك كيرواك… Jack Kerouac
_يوماً ما سأجد الكلمات المُناسبة، وستكون بسيطة.
_لا شيئ خلفي، كل شيئ أمامي كما هو دائماً على الطريق.
_ فقط استمر في التدحرج تحت النجوم.
_الحقيقة الوحيدة هي الموسيقى.
_ذنبي هو فشلي، ليس في الرغبات التي تملكتني، لكن في عجزي عن السيطرة عليها.
_الأشياء العظيمة لم يُنجزها هؤلاء الخاضعون للتوجهات والبِدع والرأي العام.
_السعادة تَكمن في ملاحظة أن كل شيئ حُلم كبير وغريب.
_أنا لا أعرف، أنا لا أهتم..لا شيئ يصنع فرقاً.
_لا تستخدم الموبايل. الناس أبداً ليسوا جاهزين للرد، استخدم الشِعر.
_ما المُخبأ لي في طريق لم أسلكه؟!.
_كل شيئ ينتهي بالدموع على كل حال.
_البيوت ملئى بالأشياء التي تَجمع الغُبار.
_لم يَكن لدي ما أعرضه على أي أحد سوى تشوشي.
_سأتزوج الروايات، وأحظى ببعض القصص الصغيرة للأطفال.
_قصة الحُب هي حكاية طويلة من الحُزن تنتهي في المقابر.
_أنا أكتب هذا الكتاب لأننا جميعاً سنموت.
_كُلما أكبُر أصير سكيراً-لماذا؟ لاني أُحب نشوة العقل.
_تحقيق النِيرفانا أشبه بتحيد مكان الصَمت.
_لا تَلمسني.أنا مليئ بالأفاعي.
_بقدر ما أنا مهموم؛ الشيئ الوحيد الذي يمكن فعله هو أن تجلس في غرفة وتسكر.
_ربما تكون الحياة هذا…رَمشُ العيون وغَمزُ النجوم.
_أشعر بالذنب لكوني عضواً في الجنس البشري.
_هل نحنُ تلك الملائكة الساقطة ، والتي لم ترغب في التصديق بأن اللاشيئ هو اللاشيئ ؛ لذا ولدنا لنفقد أحبابنا وأصدقائنا الأعزاء واحدا تلو الأخر وفي النهاية حياتنا،لنراه مُتحققاً؟!.
_الشارع هو الحياة.
_إذا كان الإعتدال خطئاً؛ أذن فعدم الاختلاف جريمة.
_كُلما إقتربتَ أكثر من المادة الحقيقية، الصخر، الهواء، النار والخشب، الوليد، كل شيء يصبح أكثر روحانية.
_أنتِ يا نَحلة لمذا تُحدقين بي؟ أنا لستُ زَهرة.
_الألم ، الحُب ، الخَوف، يجعلونك حقيقياً من جديد.
_قالت عمتي ذات مرة: العالم لن يعرف السلام حتى يَخر الرجال عند أقدام نِسائهم ويطلبوا الغُفران.
_كل الكائنات البشرية كائنات حالمة، الحُلم يربط البشرية ببعضها بعضا.
_هناك ما هو أسوأ من أن تكون مجنوناً.
_هذه قِصة أمريكا: الجميع يعملون ما يعتقدون أنه كان عليهم أن يعملوه.
_اسمع عن كثب..سكوت الصمت الأزلي ـ سيستمر في كل مكان، لقد كان مستمراً..وسوف يستمر لأن العالم لاشيئ سوى حُلم وفكرة عنه. والأبدية الخالدة لا تُعيره أي إهتمام.
_الكليشيهات بديهيات، وكل البديهيات حقيقية.
_إذا كنتَ تملك بساطاً فأنت تملك الكثير.
_لم يسبق لشيئ أن حدث–ولا حتى هذا.!.
_طوال النهار
أرتدي قُبعة
لم تكن على رأسي.
_العِظام البشرية ليست سوى خطوطا مهدورة عبثاً، الكون كُله قالب فارغ للنجوم.
_البنات الجميلات يصنعن القُبور.
_جمال الأشياء يجب أن يكون في أنها تنتهي.
_حذائي نظيف من المشي في المَطر.
_أمريكا جَرة وحيدة من الخراء.
_من يقدر على القفز بالعالم والجلوس معي بين الغيوم؟!.
_لتخف من الحياة لكن لا تمت، أنت وحيد-الكل وحيد-…لا تستطيع أن تربح-لا تستطيع أن تخسر، كل شيئ زائل—كل شيئ خراء.
_هل تعتقد أن الله خلق العالم ليُسل نفسه؛ لأنه كان يشعر بالملل؟ لو كان كذلك سيكون الله هادفاً!
_بالنسبة للأطفال والأبرياء كل الأُمور سواء.
_حقيقة الأمر أنك تموت، كل ما تفعله هوالموت.ومع ذلك أنت حي نعم أنت حي–وهذه ليست كذبة من هارفرد.!.
_لا تُخبرهم بالكثير عن روحك؛ فهذا كل ما يردونه.
_أمن بأن العالم وردة أثيرية..وسوف تعيش.
_الصمت هو الجبل الذهبي.
_في النهاية، المُتشرد لديه سبب للبكاء، كل شيئ في هذا العالم مُوجه ضده.
_فجأة بدأت إدرك أن الجميع في أمريكا لصوص بالفطرة.
_…والنجوم كانت نُدف ثلج زائفة.
_لقد إتفقنا أن يُحب كلٌ من الأخر بجنون.
_لأن العالم بلية ،علاجه عصا ملوية.
_نحنُ لاشيئ
ربما نموت غداً
نحنُ لاشيئ
أنتِ وأنا.
_في خزانة دوائي ، ذبابة الشتاء ماتت من التقدم بالسن.
_كل شيئ مِلكي لأني فقير.
_الإله ليس خارجنا،، بل هو نحن. الأحياء والأموات لم يحيوا ولم يموتوا أبداً.ما يجب أن نتعلمه هو أن- الأن- الواقع الأسمى، كان مكتوباً منذُ زمن طويل في أرشيف العقل الكوني وها قد تم–ولا يوجد شيئ ليُفعل.
ترجمة/شيفا-
—————————-
جاك كيرواك أكثر الشعراء الأميركيين تأثيرا/ محمد الحمامصي
يعد جاك كيرواك من أبرز كتّاب جيل الخمسينات الأميركي “جيل البيت”، وهو شاعر وروائي متعدّد المواهب، نال الشهرة من عفوية نثره، وعرف بكونه أحد مؤسسي جيل البيت، ولُقّب في الكثير من المناسبات بـ”ملك جيل الإيقاع”. وتعكس أعماله فضلا عن سيرته الشخصية، إطلالة مختلفة على العالم. ويعدّ كيرواك من الأقانيم المبهرة في تاريخ قصيدة النثر الأميركية التي أخذت منحى مغايرا كليا عن تاريخ قصيدة النثر الفرنسية.
ترجم الشاعر المصري محمد عيد إبراهيم مؤخرا مختارات لجاك كيرواك في كتاب عنونه بـ“ملاكي التالف” من ديوان الشاعر “قصائد على كلّ لون”، ثم ألحقه بترجمة ديوانه الآخر “الكتاب المقدس للأبدية الذهبية”، وهو قصيدة نثر طويلة، أنشأها وهو ناسك بوذي في اليابان.
كما يضم الكتاب مجموعة من قصائد كيرواك القصيرة على نمط قصائد “الهايكو” اليابانية. وقد صدرت المختارات عن دار يسطرون في القاهرة، بالاشتراك مع منشورات أنا الآخر، بمقدمة ومقالين الأول للمترجم والثاني لرفيق درب كيرواك الشاعر ألن غينسبرج.
شاعر الأصوات
يقول عيد إبراهيم إن “جاك كيرواك (1922 ـ 1969)، متعدّد المواهب، يكتب الرواية والشعر والنقد والتأمّلات. من أصل فرنسي كندي. انفطر قلبه بعدما مات أخوه في التاسعة. انضمّ إلى البحرية، لكن سرعان ما فصلوه بتشخيص أنه مصاب بالفصام. فعاش شريدا من صيد البحر فترة، وهو النمط الذي استلهمه في رواياته الأخيرة. نشر روايته الأولى ‘البلدة والمدينة’ 1950، ثم انخرط قليلا في الدراسة بجامعة كولومبيا. نال الشهرة من عفوية نثره غير المألوف، كأنه يحتاج لمزيد من إعادة السبك”.
ويشير إلى أن أعمال كيرواك لا تعدو كونها أعمالا عن سيرته الشخصية، فهي تعكس علاقاته الحميمة لكن العاصفة. ويبدو أنه قد تحرّر من التوهّمات نتيجة حسّه المرح ورغبته في السخرية من الكتّاب الراسخين. علاوة على انتمائه الطويل إلى الصوفية، حيث أمضى سنوات في اليابان مع بعض الفرق البوذية، وهو ما منحه غاية تلقائية في استعماله الأدب، فلا أحد يرغمه على شيء، بل يملك حياته عن حق من “قوة الاستغناء”.
وقد ألحق عيد إبراهيم ترجمته لمختاراته من “قصائد على كلّ لون”، الذي نُشر بعد وفاة كيرواك المفاجئة، وهو في الأربعينات من عمره، ديوانه الآخر “الكتاب المقدس للأبدية الذهبية”، وهو قصيدة نثر طويلة في ستة وستين مقطعا، وهي تجربة صوفية عالية، أنشأها وهو ناسك بوذي في سفرياته باليابان، مع عدد من أصحابه الشعراء من “جيل البيت”، الذين قاموا بثورة إبداعية مدمرة في الشعر الأميركي، فترة الخمسينات من القرن العشرين.
أما رفيق درب كيرواك وشريكه في تأسيس “جيل البيت” آلن غينسبرج، فكتب في مقاله “كان شاعراــ قال كيرواك مرة ‘أنتم تدعون أنفسكم شعراء، تكتبون قليلا من الأبيات القصيرة، وأنا شاعر، أكتب فقرات وصفحات وأحيانا صفحات طويلة‘، قال هذا خلال فترة الخمسينات، في رسالة كتبها من مكسيكو سيتي، تضمّ مجموعة من قصائده. أطلق عليها وليم بوروز ‘قصائد نثر عارية‘، كان يكتب أحيانا عبارة لا يدرك معناها، لكنه يدرك موسيقاها، مستفيدا من توماس وولف، هيرمان ملفيل، شكسبير، رابيليه، شيلي، إدجار ألن بو، وغيرهم على النمط الرومانسي. ومن الحداثيين؛ ويتمان، إليوت، إزرا باوند، سيلين وجينيه. كما كان يكتب بروح من دوستويفسكي وجوجول. ولا ننسى أنه استفاد من روحانية موسيقى باخ”.
وأضاف “ذاع تأثيره عبر العالم، ليس روحيا فحسب، من ثقافة شبابية كونية، بل من تقنياته الشعرية أيضا. لقد نبّه بوب ديلان فقد سألته مرة ‘كيف تعرفت إلى شعر كيرواك؟’، بعدما راجعنا بعض الأغاني وقرأنا ألحانا على قبر كيرواك عام 1976، وكانت الكاميرات حولنا، جنبا لجنب، تحت أشجار عالية، وسُحب متقلبة، ونحن نختفي حول شواهد القبور في جزيرة بعيدة”.
ردّ ديلان “سلّمني أحدهم قصائده التي كتبها في مكسيكو سيتي عام 1959، ففجرت دماغي”. قال هو أول شعر كان يتحدث لغته هو. كنت أحاذي تجربة كيرواك الشعرية بل وأفكاره وأصواته مباشرة على الصفحة. فالشعر “يكتب العقل”، كما صرّح شوجيان ترانبا، شاعر الهايكو البوذي من التبت، كلازمة لشعاره “الفكرة الأولى، هي أفضل فكرة”، فهي تتوازى مع صيغة كيرواك “العقل تشكيل، والفنّ تشكيل”. ولدى قراءة قصائد كيرواك على ذلك المعلّم البوذي الكبير في طريق طويل يسميه “ذيل النمر”، ضحك طيلة الطريق وهو ينصت “لا يشبه الغضب أن تتذكّر القبضات.. العجلة ترنّح مفهوم اللحم.. بطريقة الدمية وهي تقف، ساقاها محنيتان بأحلامي، وتنتظر خدمتي.. فلا تتجاهل أجزاء العقل الأخرى..”. وحين خرجنا من السيارة وقف على الرصيف قائلا “إنه استعراض كامل للعقل”.
وتابع غينسبرج حديثه عن بوب ديلان وتأثره بكيرواك “في اليوم التالي بلّغني ‘لقد ظللت أسمع صوت كيرواك طيلة الليل.. إنه منحني فكرة جديدة عن الشعر الأميركي، من شاعريته الخاصة. وبعد عامين، تأسست ‘مدرسة كيرواك لتمزيق أوصال الشعرية’، وذلك لعمل نمط من الوفاق بين ممارسة تأملات الحكمة الشرقية الكلاسيكية مع الفكرة الصريحة النشطة والتلقائية الغربية، وهي فرضية صحية بين العقل الشرقي والغربي”.
ويرى غينسبرج أن شعراء النهضة الجدد في سان فرنسيسكو كانوا فضوليين، مهتمين، متأثرين، يستلهمون أحيانا عزلة كيرواك بقوة أصلية، في آذانهم كان صوت كيرواك، يتلمّسون لغته الأميركية دون عوائق. وكان روبرت دانكان مندهشا من “الإيمان بقصيدة النثر المعاصرة وتقنياتها”. كما تحدث روبرت كريكي في ذلك الوقت عنه “لكيرواك أُذن فائقة الحساسية، أُذن معصومة من الخطأ، قد تسمع أنماطا مختلفة وتخلق أنماطا مختلفة، ضمن أصوات اللغة وإيقاعاتها، مثل لغة الحديث المنطوق، أُذن فائقة الحساسية، بالطريقة التي يستطيع بها أن يعيش ويبني شعره باستمرار بصورة طبيعية”.
وأوضح “قبل كيرواك، كانت المعايير تتراوح ما بين كمنجز إلى بريفير، لكن كيرواك جعلها صوتا بشريا، لا كمحاكاة، بل كحقيقة. إنه صوت يتكلم. ذلك ما فعله في كلّ من الشعر والنثر، وهو ما أثرّ بي”.
كان كيرواك كاتبا، كما علّق بوروز، لأنه “يكتب”، وتمرن على الكتابة، وكانت الكتابة بالنسبة إليه تمرينا مقدسا، كما وصف هو بنفسه “قدّمت ابتهالات في هذا الحلم”. وكانت رؤاه المجمّعة القدسية عن الوجود الفاني ذات منظور كلي عن العذاب والزوال من عاطفة بوذية وعاطفة كاثوليكية معا، تمنح حافزا سامقا ولعوبا على الدوام، وهي للعقل أقرب شعريا. وقد سابقه أولسون وليو ويلش في كتابة الهايكو على النمط الأميركي.
ما بعد رامبو
رأى غينسبرج أن ثمة شيئا ضخما في كتب كيرواك الشعرية بالموازاة مع مقاطع شعره النثرية في رواياته، سواء كانت الصور الوصفية أو في رؤيته لكتابة الهايكو، ولقطاته اللعوب، واستلهاماته الناضجة التي نُشرت بعد وفاته في ديوان “قصائد على كل لون”.إن كيرواك شاعر أساسي، وربما منويّ، في النصف الأخير من القرن العشرين بأميركا، ومن هنا جاء تأثيره على بوب ديلان وعليّ شخصيا ضمن آخرين، وهو تأثير شعري قد يمتد إلى الكون بأسره. كان كيرواك شاعر الشعراء، كما كان شاعر الناس، وشاعر البرج
العاجي، مثل رامبو الذي دارت شهرته على الشباب عبر العالم. لكن العجيب الغريب أنه لم تشمله المختارات الشعرية قياسا على ما شملت به الكثير، مثل أوهارا، آشبري، وأنا، أولون، كريلي، كوخ، لامانتيا، سنايدر، ليفرتوف، إلخ. فيا له من فقدان ذاكرة كليّ! ولا يزال تأثيره غامرا على أجيال كثيرة من بعده، بما اخترق به الحالة الشعرية التي كانت شبه راكدة قبله ومعه.
لكن أين نصوص كيرواك؟ فهو لا يكاد يكون موجودا على مقاعد الدرس في الجامعات إلا قليلا، على رغم وجود شعراء متوسطين وأسماء مغمورة وتجريبية متواضعة هناك. وأين كيرواك وسيط الثورة الأدبية الأميركية؟ حتى الآن لا يوجد كاسم “تأسيسي” في المختارات الشعرية!
كاتب مصري