في «الجهل» الثوري: انتفاضة ضد المربين/ محمد سامي الكيال
تعود عبارة «المربي نفسه بحاجة إلى تربية» لإطروحات كارل ماركس الشهيرة حول الفيلسوف الألماني لودفينغ فيورباخ، ففي نقده لأفكار المادية التأملية السائدة في عصره، اعتبر ماركس أن الإقرار بأن البشر نتاج ظروفهم وتربيتهم يمكن أن يؤدي إلى تقسيم المجتمع لفئتين، إحداهما فعلياً فوق المجتمع، وهي الفئة المنتجة للأفكار والعلوم والقوانين والعقائد الصحيحة، أي فئة المربين، القادرة على تحديد جانب كبير من الظروف المادية التي يعيشها بقية الناس. وبذلك يصبح التغيير الاجتماعي مرهوناً بظروف أخرى وتربية جديدة. إلا أن هذا المنظور يُغفل، حسب ماركس، أن البشر أنفسهم، هم من يصنعون ظروفهم ويغيرونها، وأن المربين أنفسهم هم جزء من المجتمع، وبالتالي ليسوا فوق الصراعات الاجتماعية والأيديولوجية، بل هم نتاجٌ لها.
يبدو أن مسألة المربين هذه تعود في أيامنا لتحتل أهمية كبيرة في الاضطرابات الاجتماعية حول العالم. نشهد حالة سخط عامة تجاه النخب القادرة على تحديد سمات عالمنا: السياسيين، رجال الدين، المصرفيين، الخبراء والمديرين التكنوقراطيين. بدون أن تكون لدى المحتجين أفكار أو بدائل واضحة عمّا ينتفضون ضده، ما يجعل اتهامهم بالجهل أو الشعبوية هيّناً. فما يطالبون به يبدي تعارضاً كبيراً مع ما هو متعارف عليه من أسس الإدارة السياسية والاقتصادية والبيئية، وأحياناً مع المنظومة الأخلاقية السائدة نفسها، ما يجعل احتجاجاتهم معدومة المنطق والأفق.
إلا أن انعدام الأفق هذا لا يقتصر على المحتجين، ففشل أساليب الإدارة الحالية، وقصور ما يُعتبر معارف صحيحة في مختلف المجالات، هما سبب كثير من المشاكل المستعصية في زمننا: الأزمات المالية والاقتصادية، التفاوت الكبير في توزيع الثروات، تدهور فرص العمل وحقوقه، السياسات غير المتوازنة في التعامل مع القضايا الاجتماعية والبيئية، فضلاً عن أنماط التحكم والرقابة الثقافية السائدة. يبدو أننا نعاني من فشل النخب أكثر من شعبوية احتجاجات «الخاسرين» من المنظومات القائمة. فما هي فرص نجاح انتفاضات البشر ضد مربيهم الحاليين؟ وهل يمكن للحراك الاجتماعي إنتاج صيغ جديدة تعيد تربية المربين؟
على خلاف الثورات التي طالبت بالديمقراطية الليبرالية، مثل الثورات الملونة والموجة الأولى من الربيع العربي، يمكن تحديد ثلاثة أنماط متداخلة من الحركات الاحتجاجية، في عقدنا الحالي، خالفت الصوابية السائدة: الأول هو الاحتجاج ضد المنظومة المالية، من مظاهرات «احتلوا وول ستريت»، مروراً بالأزمة اليونانية، وصولاً إلى الانتفاضة الحالية في لبنان. لا يبدو المحتجون ضليعين بالاقتصاد، في حين يؤكد كثير من الخبراء ألا بديل عن النمط الاقتصادي السائد. والنتيجة انفضاض الاحتجاجات في الولايات المتحدة، وغرق «اليسار» في سياسات الهوية، استسلام اليونان أمام شروط الاتحاد الأوروبي، في حين يبدو لبنان عالقاً في أزمة خانقة، مفتوحة على كل الاحتمالات.
النمط الثاني هو الاحتجاج على الديمقراطية التمثيلية نفسها، نتيجة شعور عام بعجزها وعدم قدرتها على تحقيق تغيير حقيقي، وهو ما رأيناه عربياً في لبنان والعراق وتونس، بل حتى في مصر التي لا تزال تعاني من الديكتاتورية العسكرية. مظاهرات «السترات الصفراء» في فرنسا، وكثير من احتجاجات جنوب أوروبا، أبدت بدورها سخطاً واضحاً ضد التمثيل والوساطة السياسية. ومن جديد تؤكد معارف عصرنا ألا بديل عن الديمقراطية التمثيلية سوى الديكتاتورية، أو أسوأ أشكال الشعبوية.
تظاهرات الفلاحين في ألمانيا وفرنسا وهولندا، رسّخت نمطاً ثالثاً من الاحتجاجات، بدأ مع «السترات الصفراء» في فرنسا، وهو الاحتجاج ضد السياسات البيئية، التي بدأت تزيد صعوبة حياة الفئات الأفقر. هنا يصبح الموضوع أكثر حساسية، فالمتظاهرون يبدون كأنهم معادون للعلم ذاته، وغير مهتمين بمستقبلهم أو مستقبل الأجيال القادمة. لا تخفف من هذا كثيراً الشعارات الاجتماعية حول جعل عبء المنعطف البيئي على عاتق الأغنياء والشركات الكبرى. هنالك منظوران للتفكير بالموضوع: إما أن البشر باتت لديهم مشكلة مع الاقتصاد والسياسة والعلم، وبالتالي لا بد من تربيتهم من جديد، عن طريق مواجهتهم بـ«الحقائق»، أي المزيد من الهيمنة التكنوقراطية، الملازمة للأيديولوجيا النيوليبرالية، واستبدال السياسة بالإدارة، أو البحث أعمق قليلاً في الجذور الاجتماعية لهذه الحقائق، هل بالفعل لا يوجد بديل عن نمط الاقتصاد الحالي، وشكل الدولة الذي نعرفه، بسياساتها التي تدعي مراعاة العلم؟
لا يبدو أن الانتفاضات الحالية قادرة حتى الآن على القيام بمثل هذا البحث. ابتكار بدائل ناجزة ليس من مهام الحراك الاجتماعي على كل حال، إلا أن كثيراً من الثورات عبر التاريخ، حتى الفاشلة منها، أنتجت مطالب وأشكالاً من التنظيم، يمكن اعتبارها الأساس الأولي للتغيير الاجتماعي اللاحق: رفض الامتيازات الارستقراطية، وأنماط ملكية الأرض، والاستعباد والقنانة، والمطالبة بحرية التبادل التجاري، وتأسيس الذات القانونية وحقوق الإنسان نظرياً، كما في حالة الثورات البورجوازية؛ المجالس العمالية والأحزاب الثورية في حالة الثورات البروليتارية؛ جيوش التحرير الشعبية وحركات الإحياء الثقافي في حالة حركات التحرر الوطني. هذه المطالب والممارسات عارضت الأخلاق والعلوم وأنماط الحق، التي اعتبرها مربو تلك العصور حقائق مقدسة لا بديل عنها. في انتفاضاتنا المعاصرة تصعب ملاحظة ممارسات مماثلة.
الموجة الأولى من الربيع العربي، مع محدودية طموحاتها، كررت الرطانة الوطنية والاجتماعية السائدة كثيراً من الأحيان، فلم تنجز قطيعة حتى مع أيديولوجيا الدول التي ثارت عليها، أما موجته الثانية فتبدو أكثر جذرية، إلا أنها لم تقم حتى الآن إلا بالتعبير عن السخط من المنظومة، بدون ابتكارات ثورية مبشّرة. محتلو وول ستريت، الذين كانوا يطمحون لتوحيد 99٪ من المجتمع ضد الأقلية ذات الامتياز، باتوا اليوم يتراشقون في ما بينهم التهم المتعلقة بلون البشرة والنوع والتوجه الجنسي، أما «السترات الصفراء» في فرنسا فلم تنجح بأكثر من استعارة البلاغة العتيقة لأقصى اليسار واليمين، ولم تنتج تنظيماً يتوافق مع طموحاتها الكبيرة بإيجاد صيغ أكثر تقدماً من الديمقراطية التمثيلية. هنالك شعار لافت للانتباه، رغم تواضعه، في احتجاجات الفلاحين الأوروبيين الأخيرة، وهو «تعالوا إلى الحقول!»، أي دعوة صانعي السياسات لترك مكاتبهم والاسترشاد بالممارسة العملية للمزارعين، كي يدركوا أن الإجراءات التي يفرضونها مستحيلة التنفيذ. ربما يمكن اعتبار هذا الشعار صرخة ذات مدلول مهم ضد حقائق مربي عصرنا، ساهمت، إلى جانب التنظيم الذي بناه الفلاحون عبر «واتساب» و«فيسبوك»، والذي مكّنهم من اقتحام المدن بجراراتهم الشبيهة بالدبابات، بإيصال صوت فئات غير مرئية إلى حد كبير بين ضغط اللوبيات والمنظمات غير الحكومية، التي تعتقد أنها فوق السياسة والأيديولوجيا، وأن خطابها مستمد من الأخلاق، والحقيقة بحد ذاتهما، ولكن هل تملك الحقول فعلاً معارف قادرة على تربية المربين؟
بالعودة لأطروحات ماركس عن فيورباخ، وهي أحد النصوص التي أثّرت بعمق في الفكر المعاصر، وتمت إعادة تأويلها بأساليب متعارضة، ساهمت بنشوء مدارس فلسفية جديدة، فإن «الممارسة» Praxis بوصفها فعلاً اجتماعياً، هي ما يؤدي لتغيير الظروف التي يحياها البشر، وتبديل المعارف التي ينقلها المربون لبقية المجتمع. بالنسبة للويس ألتوسير، حقق ماركس ابتداءً من نصه هذا قطيعة مع الأيديولوجيا السائدة في عصره، تجسدت في فكرتين: الأولى أن البشر ليسوا ذواتاً فردية مستقلة، بل محصلة لمجمل الظروف الاجتماعية التي يعيشونها. والثانية أن المعرفة الإنسانية «إنتاج» اجتماعي، وليست عملية مطابقة لمبادئ أولية وكلية موجودة بشكل مستقل عن الفعل الاجتماعي، وبذلك ابتعد ماركس عن منظور هيغل ليصبح أقرب لمنظور سبينوزا. لم يكن ألتوسير، باعترافه شخصياً، قارئاً «أميناً» لماركس أو غيره، لأن فعل القراءة حسبه لا يمكن أن يكون بريئاً، إلا أن تأويلاته هذه قد تكون مفيدة في الأزمة الفكرية والسياسية التي نعاصرها. اعتبار السياسات العمومية مرتبطة بحقائق سابقة عن الصراع الاجتماعي، وعلى البشر، بوصفهم ذواتاً عقلانية وأخلاقية، الاقتناع بها والتأقلم معها، يؤدي لنوع من الكهنوت المعرفي، الذي تحتكر فيه فئات معينة «الحقيقة»، حتى المقولات العلمية المثبتة تجريبياً لا يمكن أن تؤدي أوتوماتيكياً إلى سياسات أحادية لا بديل عنها، فهذا استخدام أيديولوجي للعلم، فما بالك بميادين إشكالية متنازع عليها مثل السياسة والاقتصاد والبيئة.
ربما كان الأجدى الاعتراف بتعددية المواقع والمصالح الاجتماعية، وعدم جعل الحقائق تعمل دوماً ضد مصالح الطبقات الأدنى، وهذا أقرب لمفهوم العقلانية التواصلية عند هابراماس، الذي تصبح فيه الحقيقة «بين ذاتية»، فيمكن لـ«عالم الحياة» أن يعبّر عن نفسه بلغته العادية، ويواجه العقلانية الأداتية للسلطة. من هنا يمكن أن تكتسب الدعوة لـ«زيارة الحقول» أهميتها، فلكل فئة اجتماعية مستغلة أو مفقرة «حقولها» التي يجب أن تقتحم الحيز العام بعد تثويره، وتفرض حضورها السياسي غير القابل للتجاوز، وبهذا يمكن للاحتجاجات المعاصرة أن تكتسب إمكانية تربية مربين جدد.
كاتب سوري
القدس العربي،