استعادة التاريخ: عندما تفقد المجتمعات «صوابها»/ محمد سامي الكيال
يشتكي المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما دوماً من إساءة تفسير طرحه الشهير عن «نهاية التاريخ»، فعلى الرغم من كونه تنبأ بانتصار الأيديولوجيا الليبرالية، بما يرتبط بها من قيم الديمقراطية والفردانية والنمو الاقتصادي، وسقوط كل فلسفات التاريخ، التي تعد بما يتجاوز هذه المنظومة، إلا أنه لم يتحدث عن عالم خالٍ من الصراعات. فالرغبة غير العقلانية بتحصيل الاعتراف، خاصة بصيغه القومية والدينية، قد تكون دافعاً لاضطرابات اجتماعية وسياسية كبرى، حتى عقب نهاية التاريخ.
عموماً لم تتم إساءة فهم فوكوياما للدرجة التي يظنها، فلطالما اعتُبرت أشكال التطرف المعاصرة شذوذاً متوقعاً وواجب التطويق، ضمن الاتجاه العام للوصول للخلاصة التاريخية التي تمثلها الديمقراطية الليبرالية. بالنسبة لسلافوي جيجيك فاليسار نفسه أصبح «فوكويامياً»، يسعى لتوسيع المنظومة، وجعلها أكثر تسامحاً، كي تمنح الاعتراف العقلاني المناسب للفئات التي ترى نفسها مهمشة أو مهانة.
إلا أن تاريخانية فوكوياما، حتى بأكثر تأويلاتها صحة، ليست قادرة على تفسير الاضطرابات الاجتماعية التي تجتاح العالم حالياً، لم تعد الاحتجاجات مخلصة تماماً للمثل الليبرالي، على طريقة الثورات البرتقالية، والموجة الأولى من الربيع العربي، وحتى مظاهرات هونغ كونغ الحالية، بل أقرب للتشكيك بكل أشكال التمثيل والوساطة السياسية.
لا يطالب المحتجون باعتراف يمكن للسلطة أن تمنحه، بل يطرحون أسئلة صعبة حول كل الصيغ السلطوية الممكنة. في الوقت نفسه تبدو الأشكال «غير العقلانية» من الاعتراف مُتجاوزة لحد كبير، تتراجع الطروحات الدينية والقومية لمصلحة الشعارات الاجتماعية. ما يطرح تساؤلاً حول أي تصور تاريخاني، أي المنظورات التي تعتبر التاريخ متوجهاً نحو غاية معينة، بدافع جدلية ما، سواء كانت مادية أو مثالية: مسيرة الإيمان والخلاص عبر التاريخ البشري؛ الصراع لأجل الاعتراف؛ تطور العقل والروح الإنسانية، أو حتى الجدل المادي على الطريقة الماركسية الكلاسيكية.
لا تبدو الديمقراطية الليبرالية والشيوعية والحكم الإسلامي، أو أي نظام آخر، نهاية محتملة للتاريخ. ضمن هذا السياق يمكن اعتبار سياسات الهوية والنزعة الإسلاموية هي الغائب الأبرز عن الاحتجاجات، بشكل يذكّر بالأفول التدريجي للتاريخانية اليسارية. فإلى أي مدى تخلّص الحراك الاجتماعي في أيامنا من النزعة الخلاصية؟ وما هي البدائل أمام متمردين فقدوا إيمانهم بمنظومات تنتهي عندها مسيرة التاريخ؟
فردوس الأقليات المفقود
يمكن اعتبار سياسات الهوية صيغة واضحة للتاريخانية الليبرالية: عانت الأقليات طويلاً من الاضطهاد، خاصة منذ مطلع العصر الحديث، حين بدأ «الرجل الأبيض» بفرض تحكّمه الذكوري الاستعماري على كل أرجاء العالم. بدأنا نصل اليوم إلى حالة متقدمة من الوعي، تسمح بتغيير علاقات القوة، أو قلبها، داخل المؤسسات الاجتماعية والثقافية القائمة، لمصلحة الأقليات المهمشة، ومنحها الاعتراف المطلوب. مع نزعة تصحيحية تجاه التاريخ، عن طريق إعادة محاكمة التراث الإنساني، ومحاولة تنقيته من كل الشوائب غير الصحيحة سياسياً. يبدو أننا، حسب هذا المنظور، نقترب من الوصول إلى فردوس الأقليات السعيدة، حيث يمكن للنساء والملونين والمثليين العيش في مساحات آمنة، يتعافون فيها تدريجياً من آثار مظالمهم التاريخية. أما الخسائر المترتبة عن ذلك، وأهمها حرية التعبير، وفرض حالة من الرقابة والتحكم الثقافي واللغوي، والأخلاقوية المفرطة، والحكم على الماضي بعقلية الحاضر، فهي كلها أعراض يمكن تحمّلها في سبيل الوصول إلى الهدف النهائي لمسيرة التاريخ: منظومة سياسية ليبرالية، قادرة دوماً على توسيع نفسها، وإعطاء الاعتراف لمن يطلبه بشكل هوياتي.
رغم تسيّد هذه الأفكار بشكل كبير، إلا أنها باتت في السنوات الأخيرة عرضة لموجة عارمة من الانتقادات، التي صار من المعتاد أن تخصص لها وسائل الإعلام، على اختلاف اتجاهاتها السياسية، حيّزاً كبيراً. أصبح التهكم على «الصواب السياسي» مألوفاً وذا شعبية كبيرة، بدون حدوث جدل اجتماعي مهم، فانصار «الصواب» لا يكلّفون أنفسهم غالباً بالرد، مكتفين بقوتهم المؤسساتية، أو يلجأون للبحث في أجساد خصومهم عن علة تفسّر مواقفهم غير الصحيحة: البياض، الذكورة، الغيرية الجنسية، التقدم بالسن أو حتى كراهية الذات، بكل بساطة.
تدريجياً تعود القضايا المادية والاجتماعية لتسحب البساط من تحت قضايا الهوية، صار من الصعب اعتبار قضايا الاعتراف شاملة مفهومياً لقضايا إعادة توزيع الثروة، كما نظّر الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث. سنوات من تمكين المرأة مؤسساتياً، وعبر عمل المنظمات غير الحكومية حول العالم، لم تقدم، على سبيل المثال، كثيراً لتحسين أوضاع النساء على أرض الواقع، أو تقليص التفاوت بالثروة بينهن، دعك من أنها ساهمت في خلق فئة كبيرة من المدينات لمؤسسات التمويل الصغير. وبالتأكيد فإن من يعانين تحت وطأة البطالة والتشرد والعمالة الرخيصة، لن يجدن كثيراً من العزاء بظهور بطلات خارقات على شاشات السينما.
ربما كان الاسترسال في نقد سياسات الهوية مضيعة للوقت، خاصة أن كثيراً من أنصارها يسعون حالياً لجعل طرحهم أكثر اجتماعية، كي يسايروا تطور الحراك الاجتماعي، إنه فردوس تاريخاني آخر بدأ في الضياع.
الإسلام لم يعد الحل؟
كان بحث خطر الإسلام السياسي هاجساً أساسياً لكثير من المراقبين والباحثين في الموجة الأولى من الربيع العربي. وهو هاجس بدأ بالتراجع مع موجته الثانية، فقدت النزعة الإسلاموية، بشقيها المدني والجهادي، كثيراً من وهجها، بعد تجاربها المأساوية في العقد الحالي. وعلى الرغم من أن الإسلاميين مازالوا قادرين على تحقيق نجاحات انتخابية وشعبية، إلا أنها لا ترتقي إلى التصورات السابقة عن حيثيتهم في الشارع، وتمثيلهم الطبيعي لثقافة الشعوب المتدينة بطبعها. لعبت الثورة السودانية دوراً مهماً في هذا السياق، فهي أول ثورة عربية وجهت نفسها بوضوح ضد «الكيزان»، أي العسكر والإسلاميين. في بلد عانى طويلاً من امتزاج الحكم العسكري مع الإسلاموية والعصبوية.
تكاد القضايا التقليدية للإسلاموية تغيب تماماً عن الاحتجاجات الحالية، ليس فقط بمعناها الخلاصي الاعتيادي: الهوية الإسلامية وتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، القادرة على تحقيق يوتوبيا العدالة الالهية، بل حتى بالمعنى «بعد الإسلاموي»، حسب المصطلح الذي صاغة الباحث الإيراني آصف بيات، الأقرب للخلاصية الليبرالية، والذي يقوم في جانب منه على الاعتراف المتبادل بين الإسلامويين والمنظومة الديمقراطية الليبرالية. فيتخلى الطرف الأول عن فكرة الدولة الإسلامية الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، لحساب تفهّم أكبر للتعددية وحقوق الأفراد، في حين يقبل الطرف الثاني بحضور الإسلام بوصفه جزءاً أساسياً من قضايا الحيز العام. كل هذا بات في رأينا مُتجاوزاً بعد اكتشاف كثيرين أن التاريخ لا يمكن أن ينتهي، لا بمنظور إسلاموي، ولا بمنظور ليبرالي قادر على التوسع لاستيعاب الإسلام.
تاريخية السياسة
تجاوز منظور التاريخانية، يفتح باباً للسياسة بمفهومها الراديكالي: علم وفن خوض الصراع الاجتماعي الدائم، الذي لن ينتهي يوماً، بأساليب أقرب للسلمية، وتوفير الفرص لطرح بدائل حقيقية، يمكن لمواطني المتحد السياسي الاختيار في ما بينها. هذا المفهوم جمهوري بالضرورة، عرفنا تجسيده الأول في دولة المدينة اليونانية، وروما في عصرها الجمهوري. بدون أن يعني هذا أن نموذج الجمهورية الديمقراطية هو نهاية التاريخ. فقد عرفت الجمهوريات القديمة حالات الاستثناء، والديكتاتورية المشرعنة، واندلاعاً متكرراً للحروب الأهلية. يبقى المفهوم الجمهوري الراديكالي، أقرب للمنظور التاريخي لا التاريخاني: لن يصل الجدل التاريخي إلى حل أو تركيب أسمى، والأفضل الاعتراف بذلك، وممارسة السياسة لتوفير مزيد من المكتسبات الاجتماعية لغالبية المواطنين. يمكن تعميمها في ما بعد لتصبح حقوقاً كونية. سلب السياسة من المجتمع، واستبدالها بالإدارة والاعتراف (حسب المنظور النيوليبرالي)، أو الشريعة والعدالة الإلهية (حسب المنظور الديني)، ليس في واقعه تجاوزاً للسياسة، بقدر ما هو احتكارٌ لها من قبل الفئة المهيمنة على جهاز الدولة. وحرمان أغلبية البشر من إمكاناتهم السياسية، وهو أحد أكثر أشكال الهيمنة الأيديولوجية قمعية وشمولية.
هنالك منظوران تحرريان للسياسة الراديكالية. الأول يرى في مؤسسات الدولة الديمقراطية – الليبرالية مجالاً مناسباً لممارسة سياسية، تقوم على الصراع بين خصوم يسعون لفرض هيمنتهم، ما يتطلب قيام ائتلاف شعبي متنوع الفئات والمطالب، يفرض هيمنته على جهاز الدولة. وهو موقف الشعبويين اليساريين. والثاني يطالب، على العكس، بتفجير القدرة السياسية للمجتمع، لتتجاوز القنوات السياسية المحدودة التي تسمح بها الدولة، أي رفض مبدأ التمثيل والوساطة لمصلحة ديمقراطية قاعدية، وهو موقف أنصار التسيير الذاتي. ربما كان على الاحتجاجات المعاصرة بالضرورة اختيار أحد هذين المنظورين، إذا أرادت تحقيق تغيير حقيقي، يتجاوز الأوهام التاريخانية.
يبقى أن السياسة، بوصفها منظوراً تاريخياً، علمانية ولا دينية بالضرورة، لأن القبول باستمرارية الصراع الاجتماعي وشرعيته، يتناقض مع الإيمان بتسامٍ اجتماعي منشود، يعيش بفضله البشر حالةً من التناغم، بناءً على قواعد صوابية ما. هذا التناقض يدفع التصورات الخلاصية إلى مكانها الأنسب: الإيمان الفردي في الحيز الخاص.
٭ كاتب من سوريا