هل هناك صناعة كِتاب في العالم العربي؟
(5/5)
عماد الدين موسى
الكِتاب قد يكون أداة لإنتاج معرفةٍ زائفةٍ للتسلُّط على العقل، وطريقة تفكيره، فيؤسِّس لغياب حضاري، وقد يكون ضرباً من الحفر المعرفي يؤسِّس لثقافة النقد والاستيعاب. هذه أحياناً يتم خلطها عند أصحاب دور النشر، هذه الدور التي تحولت إلى مؤسَّسات أغلبها غايتها الربح، طالما أنَّ للكتاب سوقا، مُنتَجا ومُستهلكا. فمن كتب تروِّج للسحر والشعوذة والجن، إلى كتب تروِّج للجنس والحظ، إلى كتب تحتفي بالعلوم الإنسانية من رياضيات وفلسفة وطب وأدب وموسيقى وقانون. إلا أنها جميعاً مُنتَجٌ القصدُ والغايةُ منه الربح عندَ صُنَّاعه، هذا عدا عن السطو على طباعة كتب ذات حظوة علمية أو أدبية.
وبموازاة ذلك نرى العديد من المعارض المحلية والعربية والدولية للكتاب وما يرافقها من نشاطات ثقافية وحفل تواقيع وبيع الكتب من مؤلفيها.
في هذا الملف الخاص نستقصي آراء كتاب ومثقفين، جنباً إلى جنب مع آراء أصحاب دور النشر، حول صناعة الكتاب، بوصفهم صنّاعه ورُسل ثقافة ومعرفة، يؤسِّسون وينشرون المعارف والعلوم، ما يُشكِّل خيالنا الثقافي والاجتماعي ويبلوره. هنا الجزء الخامس والأخير:
عيسى مخلوف (كاتب لبناني): ثمّة جمر ما زال يتحرّك تحت الرماد
يشهد الكتاب اليوم، في العالم أجمع، تعاملاً غير مسبوق، إذ يُنظَر إليه، في المقام الأول، بصفته سلعة تباع وتُشترى قبل أن يكون تجسيداً لقيمة أدبية أو فكرية أو ثقافية. وهذا ما ينطبق على النتاجات الثقافية كلّها بعد أن وضع الرأسمال المنتصر يده على كلّ شيء. لذلك أصبح الترويج للكتاب أهمّ من مضمون الكتاب، وأصبح اسم المؤلّف أهمّ من نتاجه، كما أصبحت الجوائز معياراً أساسياً لتكريس هذا النتاج أو غيره، في غياب حركة نقدية موضوعية عميقة. هذا لا يعني، في خضمّ هذه الفوضى، عدم وجود كتابات وتجارب مهمّة تشكّل إضافة وتستحقّ المتابعة. إنها موجودة بالفعل، لكنّها تنتمي إلى النُّدرة وتشقّ طريقها بصعوبة متزايدة.
أمّا واقع الكتاب في العالم العربي اليوم فلا ينفصل عن الواقع الثقافي العربي العامّ ككلّ، لا سيّما أنه يتواجد في قلب صراعات وحروب لا تنتهي، لأسباب خارجية وداخليّة على السواء، ويتخبّط في وجوده كمن يُشارف على الغرق. لكن، رغم هَول البؤس السياسي والتطرّف الديني وأطماع الدول الكبرى، ورغم التخلّف العميم، ثمّة جمر ما زال يتحرّك تحت الرماد. وهذا ما تؤكّد عليه ثورة الشابّات والشباب الذين نزلوا إلى الساحات والشوارع في دول عربية عدة للمناداة بالحرية والعدالة ورفض الظلم والمطالبة بأبسط حقوقهم في الحياة.
انتعاش الكتاب يحتاج إلى سياسة تربوية وتعليمية تحدّ من نسبة الأمّيّة وتشجّع على القراءة وتجعلها جزءاً من الحياة اليومية. يحتاج هذا التوجُّه إلى فضاء من الحرية غير متوفّر في الدول العربية حيث يتفشّى القمع السياسي والديني والرقابة ومصادرة الكتب. وفي بعض تلك الدول، الويل لمن ينادي بحرّيّة الرأي أو يعبّر عن نفسه بحرّيّة لأنه يعرّض نفسه للتهديد والاعتقال، وأحياناً للتصفية الجسدية. وكم من الكتّاب والمثقفين العرب اختاروا الهجرة هرباً من الظروف المناقضة لنموّ الفكر النقدي وممارسته. وهذا ما ساهم أيضاً في تفريغ المجتمعات العربية من طاقاتها الخلاّقة ومن التفكير العقلاني لتصبح فريسة الغيبيات والخرافات والتعصّب.
أيّ إبداع سيكون في هذا المدى المُعادي للإنسان والخائف من الكتاب والمُغلَق على الحرية، هذه التي لا يستقيم من دونها شيء. يقول بول كلوديل: “تحتاج الفراشة إلى السماء بأكملها لخَفق جناح”.
عبد الهادي سعدون (كاتب ومترجم عراقي): حق المؤلف والرقابة
أهم مشاكل صناعة الكتاب في العالم العربي برأيي هي انعدام حرية التعبير والمعاناة مع رقابة ما تزال تعتقد أن لها الحق بمنع وحذف وتعديل الكتب، في زمن لم يعد فيه ممكناً منع كتاب وكتابة بحجة وأخرى إلا في عالمنا العربي، والدليل قوائم الشطب والمنع في معارض الكتب العربية ومؤسسات الرقابة داخل أجهزة وزارات الثقافة نفسها. السلطات العربية ما تزال تتعامل مع الكتاب بكونه سلعة خطيرة مهددة لإسقاط أنظمتها. لذا لا مخرج للكتاب وتسويقه وصناعته بصورة تامة ووصوله للقارئ العربي بأفضل صيغة غير تهديم كل منع ورقابة محتملة.
أعتقد أن دور النشر العربية ما تزال تغمط حق المؤلف في النجاح الكلي للكتاب وكأن النجاح مناط بها وثمرته لها هي، وكأن الكاتب ومؤلف الكتاب لا علاقة له بها، بل يزيدون عليه وكأنهم يقومون بمهمة كرم لا مثيل لها لمجرد نشر الكتاب للكاتب!!.
كل كتاب ناجح يبدأ من محتوى الكتاب ليمر بجدية دار النشر من التصميم المناسب والترويج الكلي للكتاب عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والمشاركة في المعارض. على دور النشر العربية أن تتعلم من دور النشر العالمية في هذا المجال، وعليها أن تدرك أن لنجاح الكتاب لا بد من عوامل عديدة أهمها الاعتقاد الأساسي من الدار نفسها بأهميته وأحقية وصوله ليكون من أكثرها مبيعاً، غير ذلك سيكون الكتاب مثل سلعة تجارية بائرة.
لكل كتاب مناخ صحي يجب أن يؤدى، وإلا فلا يمكن أن تنجح العملية بأكملها. والعملية هي توافق بين حق المؤلف ونجاح تسويقه من قبل دار النشر. ربما في عالمنا العربي لم يتم الانتباه لهذه العملية الطردية بين المؤلف ودار النشر إلا في الأعوام الخمسة الأخيرة، ومنها ما تم تشييده من دور نشر ناجحة وفق المعايير العالمية، أي دور النشر التي تشجع كتابها وتقوم بعملية تنسيق وتوزيع ومشاركة الغاية منها التعريف بالكتاب والكاتب وبالتالي نجاح الدار نفسها.
صناعة الكتاب في العالم العربي وعلى الرغم من التاريخ الطويل، أعتقد أنها لم تنظر للأمور على محمل الجد والعمل على التطوير والترويج اللازم للكتاب والكاتب. وإلى أن نؤمن بأن العملية هي مشاركة جماعية بكل خيوطها، وأولها المؤلف وحقوقه المعنوية والمادية، لن يصيب الكتاب وعوالمه وصناعته في عالمنا العربي أي نجاح أو تطور وكأننا ما نزال في أزمة وتوقف ذهني أبدي.
طارق إمام (كاتب وروائي مصري): من حرية التعبير إلى حرية السوق
عندما نتحدث عن “صناعة” الكتاب في العالم العربي، علينا أن نتوقف أولاً أمام ما تعنيه مفردة “صناعة” نفسها، كعملية متكاملة تفترض بداهةً عدداً من الشروط لا تتوفر عربياً سوى لدى عدد محدود جداً من دور النشر. وربما بسبب ذلك تنشأ العديد من التجارب في كل حقبة تقريباً، وتخلق انتعاشة “مرحلية” في الصناعة خاصة لو كانت تجارب شابة أو طليعية، لكنها لا تلبث أن تتوقف بسبب عجزها عن تحقيق الشروط الأوّلية للمواصلة.. لتطرأ غيرها، والتي تواجه المصير نفسه وبنفس التفاصيل تقريباً.
التحديات عديدة، لوجستية ورقابية، وزاد من صعوبتها ازدهار سوق سوداء تزوّر الكتب الرائجة (التي تعتمد عليها دور النشر كأطواق نجاة لخلق رواج مادي) فضلاً عن النسخ الإلكترونية التي تعج بها مواقع الإنترنت، ما جعل أصعب شيء هو الحصول على نسخة أصلية من كتاب “حتى لو توفرت المادة” لعدم توفر الكتب بسبب آليات التوزيع العرجاء، وما سهّل كثيراً الحصول على الكتب عبر قنوات الظل.
بالعودة لكلمة “صناعة”، ليس خافياً مثلاً أن عدداً ليس بالقليل من دور النشر يقبل مساهمات مادية من الكتاب نظير نشر أعمالهم، خاصةً الكتاب الذين ينشرون أعمالاً أولى أو الشعراء وكتاب القصة القصيرة فضلاً عن المسرح والأعمال الخارجة عن التصنيفات المألوفة وحتى الرواية ليست استثناء إلا لدى الكتاب المعروفين أو الرائجين. هذه الآلية في حد ذاتها تمثل خيانة جوهرية لكلمة صناعة، التي تفترض أن منتج السلعة هو من يحصل على المقابل لا العكس. أما من يحصل على حقوق مادية من الُكتَّاب، فستجد دائماً شكاوى من ضبابية هذه الحقوق، بدءاً بعدم الشفافية في عدد النسخ المطبوعة وبالتالي تدقيق الاستحقاق الحقيقي للمؤلفين، بل إن بعض دور النشر “المعروفة”، ولن أقول الصغيرة، لا يتوفر لديها قسم مالي حقيقي لمحاسبة المؤلفين. هذا إن نحينا عنصر التوزيع، لأن حركة تنقل الكتاب العربي شديدة الصعوبة، وعملية التوزيع هي العنصر الحاسم في استمرار الصناعة لأنها العملية التي تتيح “تصريف السلعة” ومن ثم تحريك دورة رأس المال.
التوزيع يعتمد بشكل أساسي على معارض الكتب لأن حركة الكتب في المكتبات “الشحيحة أصلاً” لن تتيح سيولة حقيقية. وفي مصر مثلاً، فإن صدور كتاب جديد يكاد يعني وجوده في مدينة واحدة هي “القاهرة” تنضم لها الإسكندرية على استحياء وبعدد مكتبات قليل جداً لا يلائم المدينة الكبيرة، أما بقية المدن المصرية فتكاد لا تستقبل الكتب إلا بنسب ضئيلة لو أتيحت مكتبات تدعمها جهود فردية والعديد منها لا يُكتب له الاستمرار.. وأعتقد أن الوضع العربي لا يختلف كثيراً عن الوضع في مصر. وحتى بعض المعارض الناشئة في البلدان الغنية والتي كانت تقدم عناصر جذب للناشرين لتدشين مكاناتها، باتت تقلص من امتيازاتها وبالتالي فقدت الصناعة “أجهزة تعويضية” كانت تمنحها قبلات حياة مرحلية تعينها على الاستمرار.
الرقابة جحيم آخر. فهناك بعض الدول دأبت على مصادرة العناوين دون قراءتها حتى، وهو توجيه غير مباشر بأن تتجه الصناعة نحو إرضاء ذائقة متحفظة تمثل القوة الشرائية الضاربة على المستوى العربي، وأصبحت تلعب دوراً جوهرياً في استمرار الصناعة لكنها أيضاً تحدد شروطها. فضلاً عن ذلك، هناك الرقابات الداخلية المتراوحة من بلد لآخر، وكلنا شهدنا وقائع منع ومصادرة بل وتنكيل وسجن لكتاب ولأصحاب مكتبات لأسباب رقابية وباتهامات مرعبة وصلت حد تهديد الأمن القومي.
أبسط مبادئ تمكين أي صناعة هو الحرية، من حرية التعبير إلى حرية السوق (وجها الليبرالية، الفكري والاقتصادي) و”الحرية” مفردة أخرى لن نجدها في معجم الظرف الثقافي العربي، ما يجعل صناعة الكتاب العربي في نهاية المطاف أشبه بفتاة ليل تعمل في الظلام ويستبيح جسدها جميع الجلادين.
فاتن حمودي (شاعرة سورية): صناعة الكتب تصنع الحياة
شكّل الكتاب بأشكاله المتعدِّدة، أحد معالم كل العصور. ومع ظهور الكتاب الرقمي في عصرنا الحالي، برزت توقعات كثيرة وكلها تدور حول نهاية الصيغة الورقية للكتاب، والتي رافقت الحضارة الحديثة قرابة خمسة قرون مذ ظهرت آلة الطباعة. كما برزت أيضاً توقعات بضعف الإقبال على القراءة مما يؤثر سلباً على صناعة الكتاب. وبالرغم من ازدياد الطلب على الكتاب الإلكتروني منذ ظهوره في أواخر القرن الماضي، إلا أنه بقي ضمن نسب مئوية أقل بكثير من الإقبال على الكتاب الورقي.
لا شك أن هناك غنى في العالم العربي بالإبداع لا سيما في الجانب الأدبي، هناك روائيون، شعراء، كُتّاب قصة، اقتصاديون، حقوقيون، فنانون، ربما الكثير منهم لا يجد من ينشر له إبداعاته، التي تبقى على صفحات الصحف، أو مواقع التواصل الاجتماعي.
وحين نقول صناعة كتب، نرى مشهد الإقبال على القراءة أو الإحجام، أماكن نشر الكتاب، اختلاف أحجام هذه الصناعة بين العالم المتقدم وعالمنا المزدهر بالحروب، والأزمات، بكل الأحوال تشكل معارض الكتب صورة عامة عن صناعة الكتاب، ورغم هذا هناك حقائق عالمية تؤكد على تراجع القراءة، وهو ما ينعكس حتما على هذه الصناعة.
في العالم العربي يوجد ناشرون كثر، ناشرون لهم تاريخهم في النشر، مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، في بيروت دار الريس، والآداب والمؤسسة العربية، في سورية دار كنعان، وممدوح عدوان، وورد، والتكوين، ونينوى، هناك ناشرون، ولكن تغيب الإحصاءات، وهناك المتوسط في إيطاليا، مسعى في البحرين، وفي الإمارات مشروع كلمة، في الكويت هناك الكثير من الكتب، مجلات كان لها كتاب شهري توقفت، مثل مجلة الصدى، وهناك دور نشر تتوقف تباعاً.
إن التاريخ يحدثنا أن العباقرة الذين تخرجوا من المكتبات أكثر من الذين تخرجوا من الجامعات مع أن سبيل الجامعات هو سبيل القراءة.
تواجه صناعة الكتاب في الوطن العربي صعوبات كثيرة منذ عام 2011م حتى الآن، هو ما نسمعه من الناشرين في معارض الكتب، رغم أن بعض الدول شهدت نموّاً مطرداً في الصناعة، لا سيما الجزائر، والإمارات، عبر تحفيز القراءة على الصعيد الوطني، والترجمات، والجوائز، لا سيما البوكر وغيرها.
يؤكد التقرير السنوي لاتحاد الناشرين الدولي، على عدم وجود سياسات في الدول العربية لتزويد المكتبات بالكتب وبخاصة العامة منها، وهو ما أدى إلى تحجيم حركة النشر، وبخاصة الكتب العلمية والدراسات الإنسانية.
الحقيقة المذهلة أيضاً في صناعة النشر العربية هي افتقاد دور النشر لمدير النشر الذي هو من يقيّم الكتاب ويعدّ دراسة جدوى له وخطة تسويقية، بل ويبحث عن مؤلفين في موضوعات محددة يراها مهمة وناقصة في حركة النشر، وبالتالي لدينا طباعون للكتب وموزعون لكنهم تجار، هذا ما يجعل النشر في الوطن بلا سياسات محددة إلا ما ندر في مؤسسات رسمية.
جاء في «تقرير التنمية الثقافية» للعام 2011م الصادر عن «مؤسسة الفكر العربي» أن العربي يقرأ كمعدل عام 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ الأوروبي 200 ساعة سنويا.
يبدو أننا نعيش خارج ظل الظل في العتمة القصوى للوجود، ومرد هذا الظروف اللاإنسانية التي يعيشها المواطن العربي، أو كل إنسان يعيش في واقع عربي متفجر.
محمد جعفر (قاص وروائي جزائري): حقوق الكاتب في مهبّ الريح
بحكم زيارتي لكثير من معارض الكتاب والتقائي بعدد كبير من الناشرين، بالإضافة إلى تعاملي ومن خلال إصداراتي مع أكثر من دار عربية، يمكنني الجزم أن مسألة نشر وتوزيع الكتاب في العالم العربي تكاد تكون مثلها مثل أي صناعة عربية أخرى، وهي في غالبها لا تستطيع تقديم منتجها إلا في نطاقات ضيقة محسوبة سلفا ومحكومة بتأثيرات وجوانب تخضع في مجملها لعوامل عديدة، وإن كان لا يمكنها أن تخرج في عرفها عما تعرفه الصناعة المحلية، فهي محدودة (أغلب دور النشر لا توزع إلا محليا، ولا تكاد تبيع خارج بلدانها) تبتعد عن المناورة (فلا تغامر بمنتجها في أسواق لا تعرفها، فإذا فعلت ففي حدود ضيقة)،
وتفتقد إلى هيكليات هي لب الصناعة في كل بلاد العالم (موظفون مختصون بالماركوتيج والإشهار، موزعون خاصون، مكتبات مستقلة)، قانعة بمكاسب محددة سلفا؛ وإن كنت في أحايين كثيرة أجدني أتعاطف مع هذه الدور نفسها، خصوصا وأن خصوصية منتجها قد يكبدها خسائر باهظة ومكلفة (منع كتُبها من التوزيع، غلق دور النشر، اعتقال أصحابها)، هذا دون أن ننسى سياسات الدول العربية بخصوص الكتاب، فهي لا تزال تعيق حركيته من خلال سن قوانين مجحفة وصارمة لا تسهم في الاهتمام والنهوض بهذه الصناعة، وفي الجزائر مثلا لا يزال يمنع الكتاب المحلي من حقه في التواجد عربيا وإقليميا (أي تصديره)، ولعل هذه النقطة نفسها لا يكاد يعرفها إلا قلة من الكتاب عندنا في الجزائر، مع أنهم جاهزون في كل مناسبة إلى إلقاء اللوم على الناشر نفسه. ومن هنا فإن كل العراقيل والمشكلات والتي من الممكن أن تواجه الكاتب المؤلف أو المترجم لا يمكنها أن تبتعد عن المشكلات التي أسلفنا في ذكرها، فدون صناعة قوية ومبيعات ضخمة لن تتوفر وتتجمع فوائد كبيرة من شأنها أن تعود بالفائدة على الكاتب نفسه، لتبقى مسألة الحقوق (حقوق الكاتب) دائما في مهب الريح إلا في ما ندر (كحالة الكاتب المكرس أو النجم)، ولعلنا لاحظنا أن كثيرا من الكتاب العالميين يبدون استغرابهم وخيبتهم عندما يتعلق الأمر بتقديم أعمالهم مترجمة في العالم العربي، ولعل النهوض بهذه الصناعة يجب أن يخضع في أساسه إلى سن قوانين جديدة مساعدة تتعلق بالتجارة وفتح الأسواق بعيدا عن الرقابة، أضف إلى ذلك أن خصوصية الكِتاب تجعل منه مادة لا تجد متنفسا لها إلا في عوالم تتمتع بسقف كبير من الحرية، وما دامت أغلب البلاد العربية تسن كل سنة قوانين جديدة ليس من شأنها إلا تقليص مساحة الرأي، كما تظهر في كل صورها وكأنها تعادي المثقف فهو الخصم والعدو الذي يجب أن تحذره، وهو البعبع الذي تخيف به في مناسبات عديدة الأمة من خلال شعارات مكرورة (فهذا ملحد فتان، وذاك متواطئ مع قوى أجنبية، وثالث ينادي بالرذيلة والفسق، وهكذا…) بما لا يخدم مصلحة الثقافة في شيء. وأعتقد أن النضال في هذا المجال لا يزال في بداياته، ونجاح الكِتاب كان وسيظل مهمة الجميع، ومن خلال توافر مساحات أمن وأمان جديدة سينتصر الجميع، وسيتحقق ما يشكل أملا سعيدا لهذه الصناعة.
عباس علي موسى (كاتب وصحافي كُردي سوري): القوائم الحمراء
بالطبع هناك صناعة كتاب في العالم العربي، لكن ثمة ككل شيء عوائق وصعوبات تواجه هذه الصناعة، أولها هو ترتيب هذه الصناعة في سلم الأولويات للحكومات العربية، فهي ليست في مراتب متقدمة في هذا السلّم وموازنات دعم قطاع الثقافة والإنتاج الثقافي هي موازنات ضعيفة، والقليل المخصّص لها لا يتم صرفه بأوجه جيدة.
أما ما يخصّ مسألة الحقوق، فهناك عدد كبير من الانتهاكات من قبل دور النشر التي تطرح نفسها كبسطات ربحية وهي لأجل ذلك لا تراعي حقوق الترجمات ولا المؤلف ولا دور النشر.
القمع في العالم العربي يخفت أحيانا ويعلو أحيانا، لكن الثابت أنّ الجميع لديه قوائمه الحمراء في استقبال كتب معيّنة، فهناك من الحكومات العربية ما تمنع الكتب التي تنتقد الدين، وأخرى ما تنتقد السياسة وبين حدي المقص، يتم قصقصة أوراق الكتب.
صناعة الكتاب بحاجة إلى تمويل ودعم من الحكومات، وكذلك تشجيع رؤوس الأموال المحلية في الاستثمار الثقافي، أسوة بالقطاعات الأخرى التي تحظى بالدعم.
منير عليمي (كاتب ومترجم تونسي): قوانين السوق وثقافة التملق للسلطة
عندما نتحدث عن صناعة الكتاب نجد أنفسنا أمام سوق كبيرة لا تفرض شروطه قيمة الكتاب العلمية والأدبية بل تفرضه قوانين السوق التي باتت اليوم تنتج أصناما وتهدم أخرى.
الكاتب العربي ما زال يفتقر إلى أبسط شروط الحياة الإبداعية التي من خلالها يبدع ويطرح السؤال ويمهد للإجابة عنه فيتعثر على عتبات دور النشر التي حولت بوصلتها نحو الأدب المترجم مهما كانت قيمته وتركت النص العربي يتخبط ويبحث عمن ينتشله من القاع. والمترجم العربي في حد ذاته يعاني فمجال اختيار أعمال مهمة محدود والأمر مرتبط بالأساس باختيارات دور النشر التي همها الربح قبل كل شيء.
نحن بلا مؤسسات ثقافية حقيقية نصنع بها التاريخ ونغير بها الواقع. أغلب المؤسسات الثقافية دمّرت بسبب البيروقراطية الثقافية وثقافة التملق للسلطة فلا نجد في اتحادات الكتاب العربية إلا التكلس والسبات العميق أو الضجيج الذي بلا فائدة. الأنظمة العربية لم تكن يوما في صف الكاتب بل كانت في صف جلاده. إنها تنظر إليه كمن ينظر إلى فريسة جريحة لا يقوى على تضميد جراحها لكن لعابه يقطر كي ينهش لحمه ويكتب المرثيات اللعينة حين يموت.
قدر الكاتب في هذه السوق أن يكتب إلى آخر رمق ورغم وحشية هذا العالم سينهض من رماده ذات يوم.