لتشذيب وإعادة الكتابة.. تجارب وشهادات/ صدام الزيدي
ا
(1)
لماذا يُعيد الأدباء والكتّاب النظر في أعمال ونصوص منجزة لتصدر ثانيةً إما في “طبعاتٍ منقّحة” أو في مجلات وصحف ومواقع للنشر الإلكتروني، تحت استدراك/تنويه: “كتابة ثانية”؟!. عربياً وعالمياً هناك أسماء وتجارب لافتة، اتسمت مسيراتها بالعودة إلى تشطيب شبه جذري لكتب وأعمال منجزة، كما أن البعض منهم (في غير مناسبة) تمنّى لو أنه عاد لتنقيح وغربلة كتاب ما.
عندما تُنجز دراسات وبحوث حول تجارب وإصدارات، ثم بعد حين يتغير شكل ومضمون تلك الإصدارات والنصوص بسبب أنها خضعت لكتابة ثانية، هل يفضي هذا بالضرورة إلى متغيرات جديدة في سياق القراءة والتحليل والدراسة والتقييم؟ هل البدايات هي من يفرض الأمر (بدايات تجربة ابداعية ما ليست بالطبع كمراحل لاحقة تصل فيها التجربة إلى النضج)؟ كيف أن أمر إعادة النظر في نتاج إبداعيّ مرّت عليه فترة من الزمن يكون وارداً لدى البعض وغير وارد لدى آخرين؟ كيف ينظر الأدباء والكتّاب إلى ظاهرة التشطيب وغربلة النصوص والمؤلفات من جديد أو ما عرف قديما بـ”التحكيك”؟ وما هي شهاداتهم من زاوية التجربة الشخصية حول “إعادة الكتابة”؟
هذه الأسئلة نطرحها في هذا الملف على أدباء وكتّاب وباحثين أكاديميين. هنا الجزء الأول منه:
صلاح بوسريف (شاعر وناقد أكاديمي/المغرب): ظاهرة تتدخل فيها أسباب كثيرة
إن طبيعة العمل الإبداعي أو الفكري تفرض التشذيب والتشطيب، والمراجعة أو المحو والتثبيت. لا شاعر، ولا كاتب، أو مفكر، يُسَلِّم ما كتبه للناشر، من دون أن يكون هذا العمل مرَّ بهذا النوع من التدقيق، ومن التشذيب والتشطيب. من يتأمَّل مخطوطات بعض الكُتَّاب، من مختلف جغرافيات الثقافة الإنسانية، وعبر كل الحِقَب، منذ شرع الإنسان يكتب على الورق، سيجد آثار المحو والتثبيت والتعديل والإضافة والحذف. وهذا أمر طبيعي في الكتابة، لأنَّ المبدع أو الكاتب الحقيقي بطبعه، يميل إلى المراجعة، بل إلى عدم الاطمئنان إلى ما كتبه، إلى الدرجة التي تجعل بعض الكُتَّاب، يعرضون أعمالهم على أشخاص قريبين منهم، ويرغبون في معرفة رأيهم في العمل، ما ينبغي منه أن يبقى، وما ينبغي أن يزول ويختفي.
لا عمل يَصِلُنا بدم الولادة، فالجنين، حين يغادر رحم أمه، القابلة لا تُسَلِّمَه لها إلا بعد أن تُنظِّفه، وتغسل أطرافه كاملة، ليبدو في صورته التي خُلِقَ عليها. هذا ما يحدث للكتب والأعمال التي تصلنا، فهي تخضع لنفس العمل، ولا نرى دمَهَا الأول، أو ما كان عَلِقَ بِها من شوائب الرَّحِم. أما ما يتعلَّق بالتنقيح والمراجعة، أو إعادة كتابة عمل منشور، في إطار إعداد طبعات أخرى جديدة، فهذا وضع آخر، يختلف من كاتب إلى آخر. ثمة من الكُتَّاب من لا يراجعون أعمالهم الصادرة، أو لا يتدخلون فيها، ويعتبرون أن الأعمال القادمة هي ما ينبغي الانهمام به، وثمَّة من الكُتَّاب من يراجع أعماله، كلما أتيحت له فرصة المراجعة وإعادة النشر، وغالباً ما كانت المراجعة تجري بالنسبة إلى الأعمال الأولى لهؤلاء، فهي في أغلبها تكون نُشِرَتْ في ظروف لم يكن فيها ما يكفي من النضج والوعي عند الكاتب. فمحمود درويش مثلاً، استغنى عن نشر ديوانه الأول ضمن أعماله الشعرية، وفي حوار له، أشار إلى أنه لو أعاد مراجعة ما نشره لأبقى على القليل منه، وأدونيس تخلَّى عن نشر ديوانه «قالت لي الأرض»، وحين نشرته دار النهار، فالأمر بينهما وصل إلى درجة كبيرة من التوتر. ما يعني أنَّ هذا نوعٌ من المُراجعة بالحذف والإلغاء والطَّمْس، رغم أن هذه الأعمال موجودة وقرأها الناس، وأصبحت جزءاً من التاريخ الإبداعي والفكري للشخص.
المشكلة التي تُطْرَح هنا هي: هل يمكن بعد التعديل والحذف والتشطيب والزيادة والتثبيت، اعتبار هذا العمل هو نفسه العمل الأول، أو الأعمال الأولى للكاتب؟ في تصوري، هذا غير ممكن، لأنَّ هذا نوع من محو الأثر، أعني محو أثر البدايات، تلك الارتعاشات التي تسمح لنا بمعرفة طبيعة صيرورة التجربة ومنطلقاتها، والملامح الأولى التي ظهرت بها، وهذا نوع من التجميل، الذي يجريه الكاتب على أعماله، بمعنى أنه غير راض على صورة الجنين، ويرغب في جعله يولد ناضجاً منذ البداية، ظاهر الملامح، وهذا تضليل، في حقيقة الأمر، وتمويه، لذلك، شخصياً، حين يحدث مثل هذا النوع من التضليل، فأنا أعود إلى النص الأول قبل التعديل، والنص الثاني، لأبحث فيهما عن سبب التغيير والمحو والإلغاء والتثبيت، لأقرأ رؤية هذا الكاتب وفهمه، من خلال هذا التنقيح نفسه، أو التلقيح بالأحرى، الذي يمكن أن نستشف منه أسراراً أخرى، انفلتت من الكاتب، نفسه، في لحظة التجميل.
هناك دراسات في الغرب، جرت على مخطوطات الكُتَّاب، ومقارنتها بالأعمال الصادرة، وكانت دراسات لها أهميتها الكبيرة التي ساعدت في فهم أمورٍ، المخطوطاتُ كشفتْ عنها، ولهذا نجد مخطوطات الكُتَّاب في المتاحف، أو في بيوتهم الخاصة التي تحولت إلى متاحف، ذات قيمة كبيرة في السياق الثقافي، لأن الوثيقة تقول لنا أشياء لا يقولها النص النهائي.
يبقى أن من حق كل كاتب أن يُعيد مراجعة أعماله، ومن حقه أن يُعيد تجميلها، أو ما يتصور أنه نوع من التجميل، ومن حقنا نحن أيضاً أن نقرأ هذه الأعمال، لكن، مع الأصل، ونبحث فيها عن مكامن وأسرار هذه الرغبة في محو أثر الطريق، عند هذا الكاتب أو ذاك.
إننا إذاً إزاء ظاهرة تتدخل فيها أسباب كثيرة، بينها السبب الثقافي، والسّبب النفسي، الرغبة في الظهور بصورة الكمال، رغم أن هذا غير ممكن عملياً، لأنَّ النصوص تفضح أصحابها، في هذه الحالة، حتى وهم يعملون على طمس بداياتهم فيها، أو ما بدا لهم، لاحِقاً، من هنات وأعطاب، في الرؤية وفي التصور، أو في اللغة وفي البناء، أو في غيرها من جماليات الكتابة الإبداعية، أو الكتابات الفكرية التي تحتاج إلى هذا النوع من المراجعات، خصوصاً بظهور أفكار ومفاهيم ومعطيات جديدة، لم تكن متوفرة من قبل.
أسعد الجبوري (شاعر وروائي عراقي/ الدنمارك): أُفضِّل أن تُمزَّق النصوص أو تُحرَق على أن يُعاد تدويرها
لا أعتقدُ بأن النصوص تشتبك مع الملابس بالتوصيف، فالحبر مختص بالتدوّين لا بالخياطة. ومع ذلك، لا أجد إحراجاً من وراء إجراء التصليحات والترقيع، فيما وجد الشاعرُ أو الكاتب ضيقاً حصل بنصوص، وما عليه إلا أن يوسع من القماش الأدبي ليلائم جسده بدلاً من أن ينعق كالغراب متأسفاً على كتابة الهفوات والخطايا التي نسجها في الأقمشة القديمة المخبأة في خزائنه المعتمة.
ولو أنني أرى ضرورة التمزيق عوضاً عن الترقيع، والاستغناء عنها ولو بثياب البالة الأكثر متانة والأحدث زِياً من تلك الكتابات غير المأسوف عليها. فالتنقيح قد يفيد الأمراض السطحية العابرة للنصوص كالحساسية والرشح والحمى، ولكنه لا يزيل أورام الكتابة المستعصية الخطيرة.
ما من كتابة ثابتة. وما من كاتب ثابت على الورق. فالكاتب بالأصل لا يستعمل الورق الذي أمامه على الطاولة أو الورق الإلكتروني الموجود أمام عينيه على شاشة الحاسوب.
ورقُ الكاتب هو غير ذلك تماماً، ربما هو جلدٌ ثانٍ غير الجلد الأول. جلدٌ يتأثر بحرارة العقل وبمياه الحواس وأغاني الأعماق البعيدة التي لا تجاور إلا مخلوقات الخيال. أي إن من يفرض التعديل أو التصحيح أو الإضافات هو مؤلف الظل المتجسد في لا وعي الكاتب الأصل. ومؤلف الظل، هو من يوجه التأنيب للمؤلف الناقل للكلمات الضعيفة والعبارات الباردة والأفكار الخاطئة والصور الضحلة الميتة.
قد تأتي تحركات الكتّاب والمؤلفين لإعادة جدولة أفكارهم بعمليات التكرير الشمولية، بدافع تبييض النصوص نقدياً، أسوة بتبييض العملات، أولاً تخلصاً من العقاب، وثانياً الالتفاف على مخازي النصوص التي تعرضهم للتهميش والاحتقار، خاصة إذا ما قلنا بأن إعادة تدوير النصوص، عادة ما تأتي بفعل حركات الزلزلة النقدية، تلك التي تضعُ الكلمات على المشرحة، وتظهر ما في النصوص من يباب وعقم ولا معنى.
قد تكون الكتابات الأولى شبيهة بالحمل الكاذب. وهنا يتحمل المؤلف سبب ذلك الضعف الجيني، عندما يتعلق بكومة من الأوهام، وفجأة يقع من أعلى الطوابق، ليرتطم هو ومؤلفه أرضاً، فينفجر كل منهما ويموت بالطريقة اللائقة.
قد أشعر بحزن عميق لإعمال التغييرات الشاملة على النصوص، وأفضل أن تمزق أو تحرق على أن يعاد تدويرها من خلال الآلة العقلية التي أنجبت تلك النصوص ذاتها.
كما وليس مستساغاً أن يشهر مؤلفو التغييرات الشمولية بأنفسهم، عندما يكرسون أوقاتهم لإعادة تدوير نتاجهم الأول، ولا يكتبوا بدلاً منه مؤلفات جديدة، قد تساعدهم على استحداث نقلات نوعية وذلك من خلال طرح نصوص مولّدة للمعاني والأفكار الأكثر تفرّداً وتناغماً مع العصر والحداثة المسكونة بالانقلابات ورياح التغيير.
وبعيداً عن التصحيح والشطب والإضافات والتعديل، فإننا أطلقنا في “بريد السماء الافتراضي” فكرة إعادة تكوين الشعراء بعد الموت، منعاً لشيخوخة الشعر دون الاقتراب من مسألة تصحيح النصوص مع أكثر من 152 شاعراً حول العالم. فصدر من البريد أجزاء ثلاثة: “شعراء نائمون في غرف الغيب” عن الهيئة السورية للكتاب؛ “شعراء برائحة الكآبة والجنس والانتحار” عن دار ميم في العاصمة الجزائر؛ “شعراء خارج موسوعة العدم” عن دار البلد في سورية.
وهذا البريد الذي كان حدثاً استثنائياً في تاريخ الآداب كما كتب بعض النقاد، أعاد الشعراء الغائبين إلى الحياة من جديد، ولكن ضمن رؤية جذرية.
عبد الفتاح بن حمودة (ايكاروس) (شاعر/تونس): النصوص ليست مقدسة
بعد رحلة ناهزت ربعَ قرن من الكتابة، تراءى لي أن أعود إلى إصداراتي كلّها لإعادة قراءتها وتشذيبها، فلي أكثر من سبب للقيام بذلك، أولا لرداءة الطبعات القديمة تصميما وإخراجا، وثانيا لورود مئات الأخطاء في الرقن واللغة ممّا تسرّب عن سوء دراية باللغة والتوزيع البصريّ للنصوص. وبعد جمعها وترتيبها حسب تاريخ الكتابة وتاريخ النشر، قدّمت أعمالي لثلّة من الأصدقاء الكتّاب والنقّاد في تونس والعالم العربي، فقدّموا لي مشكورين جميعا عشرات الملاحظات التي أخذت بأغلبها ونشرت إثرها الجزء الثّاني “باب يضيء لك أو لغيرك” والجزء الثالث “ممسكاً بريشة عصفور” أمّا الجزء الأول “أطلس” فقد قدّمته إلى الأصدقاء في تونس والعالم العربي على فترتين فهو الجزء الأشد تعقيدا فقد أقضّ مضجعي لياليَ طويلةً وثمة ليلة ذرفت فيها الدّمع لما لقيت من أهوال الكتابة والمحو والتشذيب بالعودة إلى أشدّ اللحظات عسرا بعيش لحظة الكتابة من جديد.
لقد رحّب بعض الأصدقاء بهذه الخطوة في حين رفض البعض الآخر الفكرةَ بحجّة أنها اعتداء على روح النّصوص، فأجبت بأنها تظلّ في حاجة إلى إعادة كتابة ومحو وشطب وتشذيب بما يخلق آفاقا جديدة للنصّ باتقاء مواضع الإغلاق والإبهام، فالنصوص الشعريّة حسب رأيي ليست مقدّسة أبدا، فهي تظل في حاجة إلى استعمال الممحاة بقسوة. فالله نفسه قد بدأ نصوصه التي قدمها إلى البشريّة عبر الرّسُل بالصحف الأولى ثمّ الزَّبور ثم الإنجيل ثم التوراة ثمّ القرآن. وأعتقد أن هذه التجربة الإلهيّة العظيمة تتضمّن درساً للكتّاب في العالم، إضافة إلى الشعر الجاهليّ الذي قام على التّحكيك والحذف (وهما جوهر العمليّة النقديّة باعتبار أن الشاعر أول ناقد في العالم). وبما أن النصوص الإلهيّة ليست مقدّسة عند الله والشعر الجاهليّ ليس مقدّسا عند أصحابه المحكّكين الأوائل، فالنصوص الشعرية الحديثة والمعاصرة ليست مقدّسة أبداً والقول بقداستها ظلم للشعر ولعمليّة القراءة النقديّة بل هو أمر ضدّ الشعر نفسه، فالنصوص قابلة للمحو والشطب والتّفتيت ولنا أمثلة في الأدب الحديث، فالشاعر الأميركي والت وايتمان ظلّ يشذّب عمله الوحيد “أوراق العشب” طيلة حياته. وأدونيس باعتباره الكاتب الأخطر من هذه الجهة يقول بالكتابة الأولى والكتابة الثانية بشكل يكسر خطّيّة القراءات ويعيد تشكيلها وفق آفاق تقبّل جديدة. وكم حزنت لأن أغلب شعراء الحداثة العربيّة لم يعيدوا النظر في أعمالهم الأولى بالشطب والمحو وإعادة الكتابة وكان يمكن لأغلبهم أن يمحو نصف ما كتب، ولكنهم كانوا مفتونين بأن المعنى يسكن بطن الشاعر وهذا ضد الاختلاف وتنوّع القراءات لأن المعنى يسكن بطن الشاعر والقارئ معا، فلو تخلّى شعراءُ الحداثة عن نصف ما كتبوا لقاموا بأعظم عمليّة نقديّة ولتخلوا عن بداياتهم المهلهلة والمليئة بعشرات الأخطاء في الرسم واللغة والتركيب والتعدية بحروف الجرّ.. خذ تجربة الماغوط مثالا، فقد قرأت أعماله الكاملة وفيها مواضع كثيرة من الزلل والوهن.
ولقد حذفت من كل مجموعاتي القديمة قرابة ثلاثين ألف كلمة في الأجزاء الثلاثة، كما أنني حذفت خمسة عشر نصا وحذفت فقرات كثيرة من نصوص مختلفة، وأغلبها من نصوص البدايات المتكئة على سجع الكهّان وعلى الأجراس الخارجيّة، فهي نصوص لم ترتق إلى ما بلغته كتاباتي في المرحلتين الثانية والثالثة ولم ترتق إلى مستوى ما حقّقته الشعريّة العربية الحديثة خاصة في طورها الثاني مع رواد الحداثة الثانية مثل شيركو بيكه سِ وسركون بولص وصلاح فائق ووديع سعادة وسليم بركات وحلمي سالم ومبارك وساط ومحمد بنطلحة ورياض الصالح الحسين ونوري الجرّاح وسعدي يوسف في النصف الثاني من تجربته القائمة على السرد والضمائر والتفاصيل والأمكنة. ويمكن حسب رأيي نسف أكثر من نصف المدوّنة الشعرية العربيّة الحديثة.
إن جمع المدوّنة الشعريّة وتشذيبها وإعادة كتابتها ونشرها في أعمال جديدة تحافظ على الإشارات والهوامش لمسارات الكتابة وتحوّلاتها أمر يوفّر الكثير أمام الباحثين والدّارسين والنقّاد، وإني أسعى دوما إلى ضرب قداسة الشّعر والشاعر، فوهم أن الشاعر يمتلك الحقيقة وفي بطنه يقيم المعنى، أمر ولّى وانتهى في عصر ظهرت فيه أشكال تعبيريّة وفنّيّة وأجناس أدبيّة مختلفة. فالشاعر والقارئ يخلقان المعنى معاً.
عبد الكريم كاصد (شاعر ومترجم عراقي/إنكلترا): الأفضل عدم الالتجاء إلى التشذيب
التشذيب يمارسه الجميع شعراء وأدباء وأصحاب بحوث علمية ودراسات نقدية، وهذا أمر طبيعيّ في سيرورة العمل الإبداعي، ولكن التشذيب يغدو مشكلة تستدعي التوقف حين يمارسه الشاعر والأديب والباحث بعد نشر نصوصهم، فتأتي هذه النصوص مفارقة للأصل. وهنا تحضرني نماذج استوقفتني لعنايتها الشديدة بالتشذيب الذي أضفى على نصوصها غموضاً هو وليد الصنعة المعقّدة، والانزياح الشديد الذي حذّر منه نقاد الانزياح أنفسهم. من بين هذه النماذج الشاعر ديلان توماس الذي قاد تشذيبه إلى غموض ومتاهات أشدّ للنقاد، رغم أصالة عوالمه الشعرية، أما نموذجه في أدبنا العربي فهو نزار قباني حين أعاد كتابة الكثير من قصائد ديوانه “قالت لي السمراء” فجاءت قصائد مختلفة تماماً عن الأصل فيها من الصنعة والتكلف الشيء الكثير، وهذا ما باح به نزار نفسه – كما أتذكّر- في أحد أعداد مجلة الآداب اللبنانية في باب “نقد العدد الماضي”، إذ احتوى على قصيدة من قصائده طالها التشذيب حتى كاد يمحوها، وهذا ما جعل من الصعب تسميته تشذيباً، فهو يكاد يكون محواً يطمس معالم الأصل فلا يخلّف منه أثراً لأنه نص جديد، أما بالنسبة إلى البحث العلمي والدراسات النقدية، فيبدو الأمر أكثر تعقيداً وغير سائغ ويُستعاض عنه بالإضافات الملحقة بهذا البحث وهذه الدراسات، مرفقةً أو منفصلةً.
التشذيب الذي يأتي بعد نشر النص، كما أفهمه، هو أقرب إلى صنيعة عالم الآثار الدقيق إزاء تحفة أثرية يعيد إليها رونقها، من خلال إبراز تفاصيلها، وإزالة ما علق بها من شوائب برهافةٍ ودقةٍ. ومن الأفضل عدم الالتجاء إلى التشذيب إلا في الحالات القصوى حين يؤرق الشاعر وجود لفظة أو عبارة زائدة هنا أو هناك، لأن للنص السابق بنيته الخاصة، ذات الرؤية المحددة التي وردت في هذا الشكل المحدد، وأيّ تغيير جوهريّ فيه سيصيب البنية بكاملها. حتى التغيير الذي لا يمسّ إلا ظاهر العمل قد يكون له تأثيره الوجداني المختلف لدى القارئ، بسبب فقدانه العفوية والبراءة الأولى. أما حين يصيب التغيير النص بأجمعه فهذا يعني أنّ ثمة خللاً في بنية القصيدة ذاتها، وترهلها، وإنشائيتها التي لا يعيها الشاعر إلا بعد فترة طويلة من ممارسة الكتابة، وخوض التجارب الفنية والحياتية العديدة، عندئذٍ يكون التشذيب ممارسة مهنية لا جدوى منها لإعادة الحياة إلى جسدٍ ميّتٍ. وهذا لا يعني أنْ ليس ثمة استثناءات في الأدب والشعر خاصة، لكنني لا أظن أنها استثناءات يمكن لها أن تكون قوانين في حقل يضيق بالقوانين أصلاً، حتى لو كان لها وجودها الواقعيّ الذي لا يمكن إنكاره. في الأخير أود أن أشير إلى أنّ لفظة تشذيب وإن استدعت إلى الذهن مفهوم الصنعة إلا إنها ليست بالضرورة خالية من المتعة لا سيما إذا ما أدركنا أنّ كل عمل فنيّ ناجح إنما هو مزيج من الطبع والصنعة معاً.
عبد اللطيف الوراري (شاعر وناقد/المغرب): “الطبعات المنقحة” صارت من النوادر
قلّ بين كُتّابنا من يهتمّ بالتنقيح والمراجعة في وقتنا الراهن لأسباب ذاتية وموضوعية، وقلّ أن تجد على أغلفة الكتب صفة “طبعة منقحة ومزيدة”، ولا سيما في مجال الإبداع الأدبي (شعر، رواية، مسرح..)؛ لأنّ هذه الصفة يكاد يستأثر بها التأليف الفكري بمختلف مجالاته الدينية والفلسفية والنقدية، الذي وضعه علماء ومفكّرون لهم صيت وسمعة بين جمهور القرّاء، أو كانت آراؤهم موضع سجال لفترة ليست بالقصيرة؛ بمعنى أصبحت لها قدرة في تاريخ الأفكار، على مواصلة حوارها وتفاعلها مع التحوُّلات الجارية. ورُبّما استشهدتُ، هنا، بالمفكر المغربي عبد الله العروي الذي عاد إلى كتابه ذائع الصيت “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” منذ صدوره قبل نصف قرن من الزمان.
ولا أجد ما يناقض الأمر أن يعود الشاعر – مثلاً- إلى دواوينه السابقة من أجل تنقيحها والعمل عليها في الحاضر، إذا علمنا أنّ العمل الحديث هو بطبيعته مفتوح بحسب تعبير أمبرتو إيكو، فهو يحتفي بجماليّات النقصان وتخترقه البياضات، عدا ما يمكن أن يقع فيه سهواً من أخطاء لغوية أو في غفلة من الكاتب نفسه. ومن ثَمَّ، لا أتّفق مع من يرى في مثل هذه العودة بأنها سُبّة أو إقلال من قيمة نصّ الشاعر، كما لا أتفق في أن يتنكّر أحد الشعراء من المشاهير لباكورته الشعرية التي عادةً ما تحمل التوقيع الأول والواعد لتجربة تواجه مصيرها التالي بثراء وعنفوان، بمن فيهم محمود درويش.
لكن ماركة “الطبعات المنقحة” في مجال الشعر صارت من النوادر، بالنظر إلى غياب المقروئية وكساد سوق الشعر، وهو ما ينعكس بالسلب على مزاج الشاعر واستيائه من الوضع العامّ ككل.
(2)
عبد السلام الربيدي (كاتب وباحث أكاديمي/اليمن): الكاتب أو الباحث الذي يعدل ويزيد وينقح عمله بصورة أصيلة وحقيقية يحترم القراء
الكتابة، في الغالب، ليست عملية بسيطة، وإنما هي طبقات من العمل المركّب والمتلاحق والمتطور. تبدأ الكتابة بالنسخة الأولى ثم تأتي عمليات التحرير والمراجعة والتدقيق ليصل المبدع أو الباحث إلى نسخته النهائية. يطلق في التراث العربي مصطلحا “المسوَّدة والمبيضَّة” على مرحلتين من تطور النص أو الرسالة أو الكتاب: في المرحلة الأولى يسوّد النص بالحبر على الورق، وفي المرحلة الثانية تتمّ تنقيته وتحريره من الأخطاء حتى يصير أبيض، في نظر صاحبه، خاليا من الشوائب. وكلمة تحرير العربية لها صلة اشتقاقية بالحرية؛ فمن يخلِّص النص من أخطائه وشوائب المرحلة الكتابية الفيضية الأولى، فإنه يحرره ويطلقه من قيود كانت تكبل وصوله إلى المتلقي. هنالك مقولة تتلخص في أن “المسوَّدة الأولى من القلب، أما الثانية فهي من العقل”، وهي توحي بأن الكتابة تكون في بداياتها فيضا أو دفقا تلقائيا عاطفيا، ثم تأتي مراحل عقْلنتها وضبطها وتوضيحها. ومن هنا، فإن من شأن دراسة مسوّدات الكتّاب والشعراء، في حال أتيح ذلك، أن تفتح المجال لمعرفة استراتيجيات الكتابة عند هؤلاء المبدعين ومنعطفات تطور المعنى. في الشق الأول، وهو الاستراتيجيات، نتعلم من المسودات الطرق الأسلوبية والتقنية للكتابة، وفي الشق الثاني، وهو تطور المعنى، نتعلم أن المعنى الكلي لا يخلق في النص فجأة بل يتخلّق طيلة فترة التبييض والتحرير حتى يصل إلى مستقر معين فيه تثبت الحركة على الأقل في جانب منشئ النص. وأيضا قد تعلمنا العودة إلى مسوّدات الكتاب والشعراء مظاهر الرقابة الذاتية أو الغيرية التي يعيشها المبدعون والباحثون وهم يكتبون؛ فهناك المحاذير الاجتماعية والسياسية، وهنالك الدوافع النفسية الفردية للحذف أو الإثبات. ومن هنا، حرصُ بعض الكتاب على تمزيق نصوص مسوّداتهم. إن دراسة المسودات ليست ذات فائدة نصية فحسب، بل ذات فائدة اجتماعية ثقافية.
أما الطبعات المنقحة والمزيدة من الكتب، وحتى من بعض النصوص الإبداعية، فتشير إلى النقص الإنساني؛ لكنه، هنا، نقص واع وطامح للكمال. يقول الراغب الأصفهاني: “إني رأيت أنه لا يكتب أحد كتابا في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل.. إلخ” ويمتدح بورخيس دور النشر فهي، في رأيه، تنقذ الكاتب من أن يظل يعدل عمله حتى الممات دون أن يرضى. وعند العودة إلى المعنى المادي للتنقيح والتشذيب في العربية نجد أنهما مأخوذان من حقل الزراعة؛ أي إزالة الفروع والأغصان الزائدة واجتثاث الحشائش غير النافعة ورميها بعيدا عن الأشجار ذات الثمار. وهناك قصص طريفة وشيقة لكتّاب من كل العالم أفنوا سنوات من أعمارهم في تهذيب كتاباتهم وتعديلها بأنفسهم أو عن طريق الاستعانة بمحررين عندهم الكفاءة في قراءة الكتب وتحسين جودتها. وفي رأيي أن الكاتب أو الباحث الذي يعدل ويزيد وينقح عمله بصورة أصيلة وحقيقية هو كاتب يحترم القراء ويأخذ عمله على محمل الجدّ، وهو دليل على أنه يتطور في فكره ولا يستنكف عن الاعتراف بما طرأ على نسخه الأولى من نقص نتيجة نقص مصادر أو جهل بجانب من جوانب المعرفة التي يعالجها.
ريتا الحكيم (شاعرة/سورية): علينا أن نحترم تجاربنا الأولى
إن أي عمل أدبي نرسم له خارطة طريق قبل البدء به، إن كان عملا روائيّاً، شعريّاً، أم قصصيّاً. نضع له الأساسات المتينة وبعد ذلك تتوارد الأفكار تلقائيّاً، ندوِّنها، ونعمل على تدعيمها من خلال تجاربنا الحياتية ورؤانا لما حدث فيما مضى وكان له التأثير القوي علينا سلباً أم إيجاباً.
بعد الانتهاء من العمل، نتركه، ونعيد قراءته من جديد؛ ليبدو أمامنا كأنه عمل لا يمت لنا بصلة، أو كأننا نقرأه لأوَّل مرَّةٍ كي نستكشف الثغرات فيه إن وُجدت. والثغرات هنا غالباً ما تكون لغويَّةً. وتشذيبها ضروريُّ قبل النشر والطباعة على ألا يتأثر المضمون بأي تعديل.. ذلك لأن ما كتبناه لم يكن قراراً نعدل عنه متى شئنا وإنما لأنه كان نتاج لحظة تجلٍّ وإلهام جاءت إلينا بذراعين مفتوحتين ولم نذهب نحن إليها.. وأي تغيير في المضمون ربما يؤثر على مجمل العمل ويفقده ألقه أو يضعفه.
ما أقصده هنا يتضمن المنشورات الورقية وليست تلك التي لم تُنشَر بعدُ. علينا أن نحترم تجاربنا الأولى لتكون شاهداً على تطورنا في مجال الكتابة، إذ من خلالها يتم التقييم لما نكتبه فيما بعدُ.. من وجهة نظرنا، ومن وجهة نظر النُّقاد أو القرَّاء الذين سيستندون بالتأكيد إلى ما كتبناه سابقاً؛ ليكون التَّقييم منصفاً وعادلاً بعد تجاربنا الأولى في الكتابة.
التجارب الأولى هي المقياس الدقيق لتحديد مدى جودة المطبوعات التي تليها بعد اكتمال النضج والوعي لدى الكاتب.
وأعتقد أن عبارة “طبعة منقحة” هي شبه إدانة للعمل بأكمله، وأنا أرى أن يبقى العمل كما هو حين إصداره، ولنعمل على تحسين أدائنا في الأعمال التي تأتي بعده، على أساس أنَّنا عرفنا نقاط الضعف فيه ولا بدّ أن نستدركها فيما بعدُ، لكن بعض الكتّاب يعتبرون التجارب الأولى إساءةً لمسيرتهم الأدبية بعد النضج، واكتساب الخبرة.
يمكن أيضاً أن يكون التَّنقيح إسقاطاً لفقراتٍ أو فصول من الرواية أو حذفاً لعناوين فرعيَّةٍ منها، وإهداءاتٍ، كما في حالة محمد شكري الذي استبدل عنوان كتابه “الشطار” بآخَر “زمن الأخطاء”، وهايدغر حين أعاد نشر كتابه “الوجود والزمان” حذف الإهداء الذي كان قد كتبه للفيلسوف هوسرل.
هناك أيضاً ظروف خارجة عن إرادة الكاتب بسبب عين الرقيب على المنشورات، خاصة إذا كان مناوئاً للسلطة السياسية التي تحذف، وتقص ما تراه ليس مناسباً، كما حدث لرواية الروسي ميخائيل بولغاكوف “المعلم ومرغاريتا” التي أعيدت صياغتها كاملة ثلاث مرَّاتٍ، قبل أن تُنشر مسلسلة في مجلة موسكو الأدبية، وقد اقتطع منها الناشر مرة أخرى عدداً من الفقرات، قبل أن تصدر في كتابٍ ورقيٍّ. في حالة هذه الرواية، كان الحذف والبتر بسبب مقص الرقيب السياسي، وعملية النقد الذاتي التي مارسها الكاتب عليها، سبباً مهمّاً لتصل إلى القراء في أبهى حلَّةٍ، وتكون علامةً فارقةً في الأدب الروسي، وقد لقيَتْ نجاحاً بعد أن تمَّ إصدارها في كتابٍ عام 1966 في الاتحاد السوفييتي وبنسخة مرّت عبر مقصّ الرقيب، وأصبح نشرها الكامل متاحاً بعد 25 عاماً من وفاة كاتبها.
أحياناً تُعاد الطباعة لأسباب فنية، كسوء الطباعة ليس إلا.. كما حدث معي حين أصدرتُ كتابي الأول، دار النشر لم تهتم بالطباعة أبداً؛ فجاء الخطُّ غير مقروءٍ لأن الطباعة عادة يُعتمد فيها نوع خط معيَّن لم تلتزم به الدار، وكان هذا أمراً مسيئاً للعمل نفسه، لدار النشر ولي أيضاً.. في هذه الحالة ربما أعيد طباعته في دار نشر أخرى فقط لإعادة النظر في الخط وليس لتغيير المضمون أو تعديله أو حتى إضافة أي شيء إليه أو حذف أي نص منه، وهذا لا أسميه “طبعة منقحة” وإنما إعادة اعتبار لي وللإصدار الذي كان باكورة أعمالي ولم أكن راضية عنه للأسباب التي ذكرتها أعلاه، وإعادة الطبع هُنا لن تؤثِّر على المضمون لأن الثغرة هُنا هي نوع الخط الذي اختارته دار النشر، ولم تطلعني عليه مُسبقاً.
مسيرة الكاتب تبدأ خجولة بعض الشيء وهذا أمر بديهيٌّ لا أحد ينكره، بعد ذلك تنضج تجربته ويتَّضح أمامه الطَّريق؛ ليكون التنقيح قبل النشر دليل نضجٍ، وتأنٍّ، ونقدٍ ذاتيٍّ.
أي تعديل مقبول قبل الطباعة وليس بعدها، وأشير هنا إلى أنَّ هذا رأيي الشخصي وليس بالضرورة أن يلقى ترحيباً من الآخرين.
أحد الاصدقاء أعلن في منشور له أنه سيغيِّر عنوان كتابه في طبعته الثانية وقد ذكر العنوان الجديد، ومن خلال ردود متابعيه في تعليقاتهم لاحظتُ أنهم متمسكون بالعنوان السابق، وهذا يدل على أن أغلب القراء أيضا لا يحبِّذون التعديل؛ فالعنوان علق بأذهانهم وارتبط بمحتوى الكتاب، علما أن هذه الخطوة لن يتأثر بها المضمون أبداً، وهذا لا أعتبره تعديلاً كاملاً بل جزئيّاً، رغم أن العنوان هو عتبة الكتاب برمَّته.
أما فيما يخص الكتب العلمية والبحثية؛ فلا ضير من إعادة طبعها بعد التنقيح لأن العلم في تطور متصاعد وهناك اكتشافات تلغي ما سبقها أو تضيف إليها.. مجال البحث العلمي متاح دائماً لإعادة الطباعة تحت مسمّى “طبعة منقَّحة”، وذلك لإغناء العلم بما يستجد من معلومات، حتى في الكتب التاريخية يتوجب إعادة طباعتها لأن الاكتشافات الأثرية لمدن وممالكَ قديمة لا تتوقف عند حدٍّ، وهذا يحتاج إلى إضافتها إلى ما سبقها من معلومات أو لتصحيح بعض المعلومات فيها.
في مجال الأبحاث التي تخصّ النقد ظهرت نظريات جديدة تضيف إلى ما قبلها الكثير الكثير أو تدحضه، وهذا يتيح لمَن كتب في هذا المجال وأوجد رؤى جديدة أن يعيد الطباعة لتصحيح نظريته السابقة، بأن يحذف منها أو يضيف عليها، إن أراد ذلك.
أعود إلى الكتب الأدبية، من شعر ورواية وقصص قصيرة والتي بعضها خضع لدراساتٍ نقديَّةٍ، وأتساءل هل رؤية الناقد نفسه ستتغيَّر فيما لو أعاد دراسته النقدية لنفس الكتاب في طبعته المنقَّحة؟ هل سينسف ما سبق أن كتبه؟ أم سيضيف؟ أرى أنها ستكون دراسةً نقديًّةً منقحةً أيضاً. إذاً بتنا الآن أمام “طبعة منقحة” و”دراسة نقدية منقحة”.
نعود الآن إلى القارئ الذي سيقع في حيرةٍ من أمره.. ويتساءل: أيهما أصدِّق، ما قبل التنقيح أم ما بعده؟
أما فيما يخص الكتب المُترجمة عن لغات أخرى، وبكافة أجناسها، الأدبية منها والعلمية، الدينية والتاريخية أو الفلسفية، فالطبعات المنقَّحة منها تكون لاستدراك أخطاء وردت فيها من قِبل المترجم، ويرى أنه يجب تصحيحها من أجل الأمانة، والمصداقية في الترجمة.
فتحي قمري (شاعر/تونس): من المعيب أن يتبرّأ الشاعر من إرثه القديم
أعتقد أنّ المراجعة وإن كانت في جزء كبير منها متّصلة بمرحلة البدايات فإنّها في نظري عمل يستمرّ مع الشاعر ويرافقه في جميع مراحل تجربته ولكن بشكل أقلّ تأثيرا وحدّة عند المقارنة بين الكتابة الأوّليّة والصيغة النهائيّة للعمل كلّما تقدّمت التجربة واكتسب الشاعر خبرة الكتابة.
فتشذيب النصوص ومراجعتها أمر درج عليه عموم الشّعراء والعودة إلى النّص بعد الكتابة الأولى أمر ضروريّ لتجويده وتخليصه من شوائب لحظات الانفعال الذي يطغى على تلك الكتابة، ولكنّ هذه الأعمال تتوقّف بمجرّد نشر النّص وتحوّله إلى موضوع قراءة يتسلّمه القارئ بمختلف درجاته ويبدأ بممارسة دوره فيقرأ ويتحلّل ويقوّم وغير ذلك من وظائفه كركن أساسيّ في العمليّة الإبداعيّة.
لكن في الأثناء شاعت فكرة العودة إلى أعمال إبداعيّة “قديمة” بإعادة النظر في صياغتها وكتابتها على نحو معظمه جزئيّ غير أنّه قد يصل إلى الحدّ الذي يتغيّر فيه النصّ بصورة واضحة، ولهذا التّصرّف في نظري تأثيرات بالغة لا تقف عند حدود التساؤل عن علاقة الشّاعر بكتابته وعند الشكّ في درجة إيمانه بإبداعيّة نصوصه في نسخها الأصليّة بل يدفع بنا جميعا إلى الحيرة إزاء ما حُرّر من أعمال نقديّة وبحثيّة اعتمدت هذه النصوص أسانيد لها ومراجع بحث. فإعادة الكتابة ليست مجرّد تعديل لما استقرّ من نصوص سبق نشرها ولكنّها في اعتقادي بالصورة التي ذكرت هي اعتداء وإساءة لكلّ ما اتصل بها من قراءات واستهتار بالجهود التي بذلت خلالها. فأن نكون إزاء ذات العمل في صيغتين مختلفتين إحداهما خارج السياق المتعارف عليه هو مأزق يعانيه الناقد ويمنعه من تنزيل النص في بعده التاريخيّ لتجربة الشاعر. ويحرم من قراءة النصّ ضمن سياقاته النفسية والاجتماعية وما إلى ذلك من ظروف تحفّ بالكتابة وتمثّل مداخل للقراءة والنقد. إنّي أتساءل حقّا عن الجدوى ممّا يسمّى بالصيغة النهائيّة أو إعادة كتابة لأعمال منشورة سلفا بمنطق التعديل والتهذيب والمراجعة. وحريّ بالشّاعر أن يعالج ما يراه نقائص في أعماله عبر منجز جديد يراكم من خلاله تجربته ويعمّقها بدل البحث عن “حيل” لطمس ما يراه هو خللا أو نقائص.
أختم بالتأكيد على أنّه من المعيب أن يتبرّأ الشاعر من إرثه القديم وخصوصا مرحلة البدايات مهما بدت المعايب والعثرات وما عليه سوى أن يتريّث ويتعهّد نصوصه جيّدا قبل طباعتها ونشرها تجنّبا لأيّ مراجعة لاحقة لا معنى لها أو قيمة إلاّ إذا استثنينا أن تكون تمرينا يعبّر عن صناعته وحرفيّته لا غير.
حسونة فتحي (شاعر/مصر): التشذيب إعادة تدوير لفكرة النص وفق رؤية آنيّة للشاعر وهذا أمرٌ سيّء
بمبدأ التقادم، فكل قصيدة كتبها شاعر ونشرها أو حتى ظلت حبيسة أدراجه دون أن ينشرها هي قصيدة قديمة عند الشاعر نفسه قبل المتلقي.
بداية من الضروري أن نأخذ في حسباننا أمرين مهمّين:
أولهما، أن ندرك الحدود الفاصلة بين مفهوم القصيدة ومفهوم النص الشعري، فالنص الشعري تجاوز دلالة القصيدة وشروطها وضوابطها ومقوماتها وجمالياتها إلى عوالم أكثر رحابة وانفتاحاً وشفافية وصفاءً، فإن كان فيه ما يُنقِص أحد هذه المبادئ فهو مجرد محاولة تقترب من النص وليس نصاً.
ثانيهما، أن المنتج الشعري ينقسم إلى تيارين، تيار يعتمد العقل والمعرفة (الذهنية) وتيار يعتمد الإحساس والعاطفة (الشعور)، ونصوص هذا التيار تكون وفق الإحساس بالمفردة والعبارة والموضوع والدلالة وجميع المكونات في النص الشعري.
وفق هذين الأمرين يمكننا ببساطة أن نحدد نوعية النصوص الشعرية التي قد يُخضعها كاتبها لإعادة الصياغة أو التنقيح والتشذيب، فهي إما ما يقع تحت باب “القصيدة” أو ما يقع تحت باب “النص الشعري الذهني”، أما المنتج الشعري من النصوص التي تعتمد الشعور “القلب” فقلما تحتاج إلى تنقيح أو تشذيب يمكن اختصاره في تغيير عبارة أو تغيير موقع جملة أو مقطع.
من هذا المنطلق نتيقن أن تحولات النص الشعري العربي خلال العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة شكّلت نقلةً نوعية ودلالية مكّنت كل من واكبها بمنتجه الشعري من الشعراء على اختلاف أجيالهم من كتابة نص خالص أو شبه خالص، لا يقبل تغييراً أو تبديلاً إلا في أضيق الحدود، وهذا يجعل تأثر ما تم إنجازه من قراءات حول تلك النصوص يكاد يكون منعدماً، إذا ما قام الشاعر بإعمال التنقيح والتشذيب على بعض قصائده وإعادة نشرها، أما ما لم يواكب تلك التحولات من منتج شعريّ فالتشذيب سيكون – على أقل تقدير- هو إعادة تدوير لفكرة النص وفق الرؤية الآنيّة للشاعر، وهذا في نظري أمرٌ سيّء، يضع الشاعرَ في منزلة لا ولن تطال ما فعله شعراء الحوليات والذين امتدت قصائدهم عبر تاريخ الأدب العربي.
ضفة ثالثة