عملية نبع السلام: شمال شرقي سوريا منطقة آمنة أم احتلال تركي؟/ فراس حاج يحي
بموجب القانون الدولي، فإن جميع القوات الأجنبية الموجودة في سوريا بما فيها التركية هي قوات احتلال.
في 9 تشرين الأول/اكتوبر عام 2019، أطلقت تركيا بالتعاون مع قوات من المعارضة السورية (الجيش الوطني)، عمليتها العسكرية الثالثة في منطقة شرق نهر الفرات شمالي سوريا. حملت العملية اسم (نبع السلام)، بهدف إقامة منطقة آمنة على حدودها الجنوبية، داخل الأراضي السورية بعمق نحو 30 كيلومتراً، لإبعاد (وحدات حماية الشعب) الكردية عن حدودها.
بموجب القانون الدولي، تدخل تركي أم احتلال؟
لمعرفة ذلك لابد لنا من التمييز بين مفهومي التدخل والاحتلال بموجب القانون الدولي.
يعرف القانون الدولي التدخل على أنه “عندما تتدخل دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى”. أو على أنه تعرض دولة ما إلى دولة أخرى من خلال التعرض لأمورها الداخلية والخارجية دون وجود سند قانوني لذلك وبالتالي يحدث انتهاك لسيادة واستقلال الدولة المعتدي عليها”. فالتدخل سلوك غير قانوني موجه لانتهاك سيادة الدول، نظراً لتعارضه مع الفقرة الرابعة من المادة الثانية في ميثاق الأمم المتحدة مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومبدأ احترام السيادة الإقليمية وكذا مبدأ تساوي المركز القانوني للدول والتي تنص “يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد “الأمم المتحدة”.
بينما يعرف الاحتلال بموجب القانون الدولي بالمادة 42 من لائحة لاهاي لعام 1907 بأنه، “تعتبر أرض الدولة محتلة حين تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو، ولا يشمل الاحتلال سوى الأراضي التي يمكن أن تمارس فيها هذه السلطة بعد قيامها”.
بموجب هذين التعريفين من الواضح أن جميع القوات الأجنبية الموجودة في سوريا بما فيها التركية هي قوات احتلال واستناداً على القانون الدولي تتساوى جميع هذه القوات في هذا التوصيف، ولا يمكن التذرع باستدعاء دولة دون أخرى للتدخل في سوريا من قبل حكومة الأسد أو المعارضة.
بعد انطلاق الثورة السورية وحالة التنازع على الشرعية بين حكومة الأسد، وباقي الحكومات في المناطق الخارجة عن سيطرتها سواء في مناطق حكومة المعارضة السورية، أو مناطق الإدارة الذاتية الكردية، فهذه الحكومات الثلاث تتذرع بشرعيتها الفعلية بالحكم في مناطق سيطرتها. وعليه جميع هذه القوات هي قوات احتلال، وهذا ينطبق على القوات الروسية والإيرانية والتركية والأميركية في سوريا.
ويلحظ في موضوع التدخل التركي في سوريا، وحتى تاريخه، لم تعترض حكومة الأسد على الدخول التركي للأراضي السورية رسمياً، ولم تقدم شكوى بهذا الخصوص لدى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، في صمت لا يفسر إلا موافقة ضمنية على هذا التدخل أو الاحتلال.
أما الحكومة التركية تعتبر بأن دخولها في سوريا شرعي للأسباب التالية:
ـ أولاً: لأنه تم بموجب اتفاقية أضنة المبرمة عام 1998بين الطرفين التركي والسوري برعاية النظام المصري. إذ إنه يحق لتركيا اتخاذ جميع الإجراءات الأمنية والعسكرية اللازمة بدخول الأراضي السورية بعمق 5 كم في حال أي تهديد للأمن القومي التركي. ومن ضمن بنود الاتفاقية إيقاف نشاط حزب العمال الكردستاني في سوريا، وإيقاف أشكال الدعم لوحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبر الذراع العسكري لحزب العمال المحظور بسوريا من عهد حافظ الأسد.
وعليه بموجب الاتفاقية، ووفقاً لآخر الأحداث، فشل النظام السوري في اتخاذ التدابير الأمنية التي يضمن معها الحفاظ على أمن تركيا من ناحية الحدود. فلجأت تركيا لاتفاقية أضنة التي لم تلغى حتى تاريخه بين الجانبين.
– ثانياً: مشروعية دخولها الأراضي السورية وفقاً لطلب مقدم من الائتلاف الوطني السوري، والذي يحظى بدعم دولي. كما انه معترف بها كممثل للشعب السوري من خلال قرارات الجامعة العربية. وإلى اليوم لم تنزع جامعة الدولة العربية هذا الاعتراف عن الائتلاف.
-ثالثاً: حق الدفاع وفقاً للمواد المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. إذ تنص المادة (51) منه على أنه: “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقص الحق الطبيعي للدول – فرادى أو جماعات- في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلَّحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين”.
أهداف تركيا من العملية
تتلخص أهداف الحكومة بهذه العملية بإخراج المقاتلين الأكراد، الذين تعتبرهم أنقرة إرهابيين، من المنطقة الحدودية وإنشاء “منطقة آمنة” لإعادة توطين اللاجئين السوريين في البلاد، بهدف إعادة ما بين مليون ومليوني لاجئ فيها إلى هذه المنطقة الآمنة.
كما أن للحكومة التركية أهدافاً داخلية تتمثل في تعزيز حضورها الشعبي، من خلال التقليل من أعداد اللاجئين فيها. وبحسب زعم أنقرة لحماية أمنها القومي، حيث تعتبر قوات سوريا الديمقراطية ممثلة بقوات حماية الشعب الكردية (YPG)، امتداداً لحزب العمال الكردستاني، وهي جماعة مسلحة محظورة تصنفها تركيا كمنظمة إرهابية. وبالتالي إفشال إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية يشكل مصدر تهديد سياسي وعسكري، وحتى لا يكون ملهماً للانفصاليين فيها.
استمر القتال بين القوات التركية مع قوات سوريا الديمقراطية لمدة 10 أيام حتى 18 من تشرين أول/ أكتوبر عام 2019، عندما أعلن نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، أن واشنطن وأنقرة قد اتفقتا على وقف لإطلاق النار، أعطت الصفقة التي تم التوصل إليها بعد اجتماع مفاجئ بين نائب الرئيس الأميركي بنس والرئيس التركي في أنقرة، قوات سوريا الديمقراطية 120 ساعة لسحب قواتها على بعد 30 كيلومتراً من قطاع بطول 120 كيلومتر على طول الحدود التركية السورية، وهي منطقة “آمنة” تسيطر عليها تركيا بين بلدتي تل أبيض ورأس العين، كانت هذه منطقة أصغر مما كانت تأمل به تركيا قبل العملية.
كذلك وقعت تركيا اتفاقاً مع روسيا بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، يضمن لها إبعاد الوحدات الكردية عن حدودها مسافة 30 كيلومتر وتنظيم دوريات مشتركة روسية-تركية بحدود 10 كيلومتر، وسحب أسلحتها، على أن تتولى قوات نظام الأسد السيطرة على هذه المناطق وبخاصة الحدودية منها، وتسيير دوريات روسية-تركية مشتركة على طول الحدود.
موقف الأطراف السورية من العملية التركية
-المعارضة السورية: رحب قسم من المعارضة السياسية السورية بالعملية التركية وأصدر الائتلاف الوطني السوري بيان تأييد لها. فيما نددت بما سمته التدخل التركي في سوريا كل من منصتي موسكو والقاهرة للمعارضة السورية، وكذلك هيئة التنسيق الوطنية المعارضة. وانقسم السوريون بين مؤيد لهذه العملية ورافض لها.
– قوات سوريا الديموقراطية: بدورها قيادة قوات سوريا الديموقراطية أصيبت بالصدمة من موقف الولايات المتحدة الامريكية من العملية. مما دفعها إلى عقد اتفاق مع نظام بشار الأسد برعاية روسية تسمح لقوات الأسد نشر قواتها على طول الحدود السورية-التركية. وقوبلت العملية برفض شعبي كبير من أكراد سوريا.
-النظام السوري: العملية التركية حظيت بقبول ضمني غير معلن من العملية، حيث وجد له مصلحة بها لإضعاف القوات الكردية، والسيطرة المجانية على مناطق جغرافية واسعة وشاسعة بدون قتال. حتى أنه مع بداية العملية وصف عبر مسؤولين في وزارة خارجيته ووسائل إعلامه الأكراد بالخونة و”عملاء الأميركان”. لتقوم روسيا بعدها بالتقريب بين نظام الأسد والأكراد للوصول إلى اتفاق بدخول قوات الأسد إلى المناطق الحدودية مع تركيا. حتى أن وزارة خارجية النظام لم تقدم حتى مذكرة احتجاجية إلى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن تطلب فيها خروج القوات التركية أو تطلب وصفه بالاحتلال.
المواقف الدولية من العملية التركية
-الولايات المتحدة الأميركية: بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، ومعارضة الكونغرس لهذه الخطوة ومطالبته ترامب بالتراجع عنها، فرض عقوبات على تركيا ولكنه عاد وتراجع عنها بعد عقد اتفاق بنس-اردوغان بتاريخ 18 من تشرين أول/ أكتوبر عام 2019، والذي تضمن وقف إطلاق النار وبنود مرضية للطرفين.
-روسيا الاتحادية: وجدت لها مصلحة بالعملية التركية عبر امتداد مناطق نفوذها العسكري في مساحات جديدة من سوريا انسحبت منها الولايات المتحدة الأميركية. ولعبت دور الوسيط بين تركيا والقوات الكردية من جهة، وبين تركيا والنظام السوري توج بلقاء بين بوتين وأردوغان، وتوقيع اتفاقية بينهما بتاريخ 22 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، يضمن لها إبعاد الوحدات الكردية عن الحدود التركية، وتنظيم دوريات مشتركة روسية-تركية.
-إيران: كان الموقف الإيراني الرسمي متناقضاً بين رفض العملية والترحيب بها، وبالنهاية غلب الحرص الإيراني بالحفاظ على علاقة جيدة مع الأتراك على أي اعتبارات أخرى لينتهي بقبول نتائج العملية.
-الدول العربية: دعت مصر إلى اجتماع طارئ في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، على مستوى وزراء الخارجية، وقد صدر عن الاجتماع بيان ختامي أدان ما أسماه العدوان التركي على سوريا. وقد تحفظت على البيان كلٌّ من قطر والصومال. ولكن بعد الاتفاقات التي وقعتها تركيا مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا التزمت الدول العربية الصمت.
-الدول الأوروبية: قوبلت العملية التركية برفض أوروبي شديد. وبخاصة بريطانيا وألمانيا، وفرنسا التي أدانت العملية، وحاولت إصدار قرار من مجلس الأمن يدين العملية ويفرض عقوبات على تركية. لكنها أخفقت مرتين في أروقة مجلس الأمن، لذا دعت فرنسا التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب إلى عقد اجتماع لمناقشة العملية. كما ودعت ألمانيا إلى إقامة منطقة آمنة بحماية دولية لتقويض الطموحات التركية.
منظمات حقوقية دولية تتهم تركيا بارتكاب انتهاكات وجرائم بحق المدنيين
قالت منظمة العفو الدولية إن القوات العسكرية التركية، وتحالف الجماعات المسلحة السورية المدعومة من تركيا، قد أبدت ازدراء مشيناً لحياة المدنيين. حيث ارتكبت انتهاكات جسيمة وجرائم حرب، بما في ذلك القتل العمد، والهجمات غير القانونية التي قتلت وجرحت مدنيين، وذلك خلال الهجوم على شمال شرق سوريا”.
وقالت هيئة الصحة التابعة للإدارة الكردية في شمال شرق سوريا، إنه في 17 تشرين الأول/ أكتوبر قتل ما لا يقل عن 218 مدنياً، من بينهم 18 طفلاً، منذ بدء الهجوم.
ووفقًا للسلطات التركية، قتل 18 مدنياً، وأصيب 150 آخرون في تركيا حتى 15 تشرين الأول/ أكتوبر، نتيجة لهجمات بقذائف الهاون التي نسبوا إطلاقها إلى القوات الكردية في سوريا.
ويضيف تقرير منظمة العفو الدولية الصادر بتاريخ 18 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019: “بأن عدد النازحين من منطقة العمليات التركية بلغ 100 ألف نازح لا يحصلون على ما يكفي من الغذاء والمياه النقية والإمدادات الطبية – وكيف سيستمر المحتاجون في تلقي المساعدة على المدى الطويل، بينما حذرت اللجنة الدولية بعد بضعة أيام من أن الأعمال العدائية قد تؤدي إلى تشريد 300 ألف شخص”.
وهو ماردت عليه الخارجية التركية ببيان قالت فيه “نعتبر تلك الادعاءات، التي لا أساس لها، جزءً من حملة التشويه الجارية حيال كفاحنا ضد التهديد الإرهابي القادم من سوريا، والذي يستهدف أمننا القومي”.
أما تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” الصادر بتاريخ 27 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019: “إن فصائل الجيش الوطني، نفذت إعدامات خارج القانون بحق المدنيين، ولم تُفسر اختفاء عمال إغاثة أثناء عملهم في “المنطقة الآمنة”، وأضافت المنظمة أن “الجيش” منع عودة العائلات الكردية النازحة جرّاء العمليات العسكرية التركية، ونهب ممتلكاتها واستولى عليها أو احتلها بصورة غير قانونية”.
من جانبه، نشر الجيش الوطني بياناً ردّ خلاله على تقرير المنظمة الدولية، قال فيه: “إن التقرير حول وجود انتهاكات خلال عملية “نبع السلام” ضم شهادات من شاهدي زور منحازين للوحدات الكردية، إن لم يكونوا أعضاء فيها ومناصرين لها”. وأضاف البيان “عندما يتكلم التقرير عن حدوث انتهاكات في “المناطق الآمنة” يجب عليه التكلم عن انتهاكات الميليشيات الكردية بحق المدنيين وتفجيراتها “الإرهابية” وزرعها للألغام”.
الشعب السوري الخاسر الأكبر
بعد مضي قرابة 4 أشهر على العملية التركية التي الشعب السوري هو الخاسر الأكبر فيها بعد دخول القوات التركية. بالإضافة إلى خسارة القوات الكردية نصف مساحة الأرض التي كان يسيطر عليها قبل العملية لصالح تركيا ونظام الأسد.
كما وزادت هذه العملية من حدة الانقسام بين السوريين. فهناك طرف أول رافض لها يراها احتلالاً تركياً يهدف إلى خلق حزام سكاني “عربي ـ سني” يحل محل “الكريدور الكردي”، الذي يرى فيه تهديداً لأمنها ووحدتها الترابية. وبالنظر إلى قربه من مناطق انتشار أكراد تركيا، الأمر الذي سيتبعه إجراء واحدة من أوسع عمليات إعادة “الهندسة الديموغرافية” في شمالي سوريا، تنتهي إلى إعادة توطين مليوني لاجئ سوري، من غير سكان المنطقة وأبنائها، وإبعاد أكرادها مسافة ثلاثين كيلومتر عن حدودها. إضافة إلى إجبار أكراد سوريا على العودة إلى عباءة النظام السوري والخضوع لسلطته وتحت حكمه.
وطرف ثانٍ من السوريين، يجدون التدخل التركي حامٍ لوحدة سوريا من قيام كيان انفصالي كردي شمال شرقها. كما وينهي انتهاكات مارستها القوات الكردية بحق السكان المحليين العرب في تلك المناطق.
درج