صحيفة "الأخبار" تمثّل بجثث السوريين/ يوسف بزي
في لحظة حلول النكبة على إدلب، واستئناف النظام السوري حملة التدمير الشامل والتشريد الجماعي والتطهير السكاني، أبت صحيفة “الأخبار” إلا أن تثبت مرة أخرى تلذذها بالمشاركة في قتل السوريين، بل والإمعان في إهانة الأحياء منهم والأموات معاً. تلك الصحيفة التي تتمتع باحتقارها للبنانيين في انتفاضتهم وللعراقيين في ثورتهم وللإيرانيين في هباتهم وللسوريين في نكبتهم، نشرت صباح السبت 28 من كانون الأول الحالي، أن الهجوم الكيماوي على دوما وحسب “ويكيليكس” هو “ملفّق”. وبدت الصحيفة محتفلة ومبتهجة بتقريرها هذا.
ليست المرة الأولى التي ترقص فيها “الأخبار” فوق الجثث، وشهوتها في تغميس أقلامها بدماء الضحايا، وتدنيس حرمة الموتى… حتى صارت شهرتها في بيروت “صحيفة البراميل”.
وتدأب الصحيفة اللصيقة بحزب الله وبالنظام السوري على التفوق في عدائها للشعب السوري، وتبنيها لنزعة مخابراتية في مواجهة شعوب المنطقة والتحريض على الاقتصاص من الناشطين والمعارضين والمناوئين، على نحو سافر وفاجر.
كانت الجريدة هذه في بداياتها، تتبنى خطاباً يسارياً عروبياً يحاول الخروج من اللغة الخشبية التي ميزت التيارات القومية واليسارية العربية في العقود الأخيرة. وكان إيمان المؤسس جوزيف سماحة أن لا تناقض بين مبدأ الممانعة والطموحات الوطنية لشعوب المنطقة في حكومات أكثر عدلاً. لكن سماحة نفسه، كان قد بدأ يجد صعوبة في تبديد هذا التناقض. وفيما بعد، وجد الكثير من زملائه في تلك الصحيفة استحالة التوفيق بين منظومة الممانعة وطموحات الشعوب، فاستقالوا على إثر اندلاع الثورة السورية. ومع اندلاع الانتفاضة اللبنانية استقال أيضاً خمسة محررين أساسيين رفضاً لانحياز الصحيفة ضد الانتفاضة.
أصبحت “الأخبار” صافية ونقية الآن، ولا تضم سوى المخلصين للجهاز الفاشي والقاتل والمتآمر.
مأساة جوزيف سماحة في رهانه اليائس على حل التناقض بين “المقاومة” (التحرر القومي) والحرية، ابتدأت قبل تأسيسه لصحيفة “الأخبار”. كان يعي أن ثمة عطباً في استحواذ أنظمة التسلط والقهر على شعار المقاومة، لكنه دوماً منح “خطر” الهيمنة الغربية والإسرائيلية على خطورة الديكتاتوريين والفاشيات المحلية، ظناً منه أن الحرية ستأتي “تلقائياً” بعد التحرير. وهو ظن اختبرناه مع الناصرية والقذافية والصدّامية والأسدية والخمينية.. ونعلم نتائجه الوخيمة.
في شباط 2005، وبعد أيام قليلة على اغتيال رفيق الحريري، كتب الصحافي الراحل جوزيف سماحة في صحيفة “السفير” بما معناه: انتهى الحداد.. لنعد إلى السياسة.
كان قصد سماحة إقناع اللبنانيين أن الاغتيال هو مجرد حادثة يجب تخطيها وإغفال أي معنى لها وطيّ أي تداعيات ناتجة عنها. بمعنى تنحيتها جانباً وإدراجها في النسيان العمومي. وطموح سماحة هذا لم يكن إنكاراً لفظاعة هذا الاغتيال السياسي ولا استهانة بوقعه على نفوس اللبنانيين ولا استخفافاً بالضحية، ولا استسهالاً لدوافع القتلة وغايتهم. كان سماحة من أكثر الصحافيين دراية ومعرفة أن الذي حدث هو زلزال كبير، من المستحيل تقريباً تجاهل نتائجه السياسية. مع ذلك، كتب -انطلاقاً من قناعة راسخة لديه- ما يرغب به، أي دفن الميت وكأن شيئاً لم يحصل، ومن ثم استئناف الحياة على منوالها السابق.
بالطبع، لم ينزلق “أخلاقياً” إلى سوية تبرير الجريمة أو الشماتة أو الدفاع عن القتلة. لقد كان مستفظعاً الفعلة الشنيعة وملتاعاً مما سيترتب عليها داخل لبنان وخارجه. ولهذا السبب بالذات، كان يشتهي التخلص بأفضل السبل من الواقعة، متمنياً حذفها تماماً.
أدرك سماحة أن الغضب العارم من الاغتيال سيتحول ثورة قد تطيح بكل المنظومة المسيطرة على لبنان: النظام الأمني السوري الحزبلاهي والأجهزة الأمنية اللبنانية المدجنة حينها. وسيتم هذا في لحظة الاندفاعة الأميركية بالمنطقة. كان سماحة من المؤمنين بأولوية المقاومة ومواجهة الاستعمار ورفض الهيمنة الأميركية على كل ما عداها من تحديات تواجه دول المنطقة وشعوبها. بمعنى آخر، كان منحازاً للفكرة إياها “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. ورغم نفوره الشخصي من الاستبداد والظلم وقمع الحريات، إلا أنه كان يتخوف من انحراف الشعوب عن أولوية “التحرر القومي” وأولوية “تحرير فلسطين”. لقد كان “ممانعاً” لكن بميزة تمتعه بحس أخلاقي وحيوية فكرية نادراً ما يحوزهما “الممانعون”.
بعد تلك المقالة الشهيرة، حدثت قطيعة اجتماعية بينه وبيني إلى أن صادفني في مكتب عباس بيضون في جريدة “السفير”. دخل وجلس بجانبي بكل الود الذي يتصف به. قال: “لم يغتل رفيق الحريري إلا النظام السوري.. وهو دفع الثمن بانسحابه. فكفى. لماذا هذا الإصرار على ملاحقته ومعاداته؟ أميركا وإسرائيل يريدون السيطرة على المنطقة. ليس لدينا سوى سوريا وإيران (…)”.
بعد فترة صدرت جريدة “الأخبار” مترئساً تحريرها. كانت مشروعه الصحافي بوصفها منبراً لـ”الممانعة” وفق نسخته هو وليس مثلاً وفق نسخة جريدة “البعث”. وهو نجح إلى حد كبير بذلك. صحيفة تستنفر فيك قدراتك على السجال. لكن عيبها الأصلي كان في براعتها بكشف عيوب خصومها السياسيين وغض النظر عن فظاعات حلفائها. كانت تطمح إلى معالجة ضحالة “الممانعة” برفدها بخطاب يساري عروبي محدّث.
وفاة سماحة المبكرة والمفاجئة رمت صحيفة “الأخبار” بيد “ممانعين” أكثر قرباً إلى البعث والأجهزة السورية وحزب الله. وكانوا أكثر استعداداً للإصغاء إلى “التعليمات”. واليوم لم يبق من إرث سماحة سوى خطأ رهانه. أما نواياه الحسنة في الإلحاح على دفن الميت لـ”نعود إلى السياسة”، فقد انقلبت على يد “الورثة” إلى “هلم بنا ننتهك الجثث ونمثّل بها وندنسها”.
تلفزيون سوريا