عزمي بشارة: لا بد من الاتفاق أولًا على ضرورة الديمقراطية
ترجمة سلمى قويدر
يقدم المفكر العربي والمدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عزمي بشارة، إطلالة تحليلية على الراهن العربي، في مقابلة مع اليومية الفرنسية “ليبيراسيون”، متطرقًا بالأساس إلى الدول التي تشهد موجة ثانية من الاحتجاجات، والتي يرى أنها بدأت بالفعل في مسار طويل من الانتقال الديمقراطي، تدعمه عوامل، وتقف في طريقه معيقات محتملة، لكنه في كل الحالات مسار يشي باستمرار التوق إلى التغيير، الذي بدأ في عام 2011.
ما هو تأثير التصعيد الحاصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على ثورة العراق؟
حتى قبل اغتيال سليماني، كانت إيران قد قرّرت المواجهة بالوكالة مع الولايات المتحدة الأمريكية في العراق عبر ميليشيات الحشد، في إطار استراتيجيتها لكسر الحصار الذي يمنعها من تصدير البترول الخاص بها، لكن في خضم هذا التصعيد، بحثت إيران عن سبل لتغيير اتجاه الاحتجاجات ضدّ نفوذها في العراق نحو صراعات ضدّ الوجود الأمريكي هناك.
حمّلت الحركة الثورية العراقية، الميليشيات الداعمة لإيران في العراق، وقوّات الأمن التابعة للحكومة، مسؤولية قتل مئات المتظاهرين. لقد تمّت المطالبة بسحب القوّات الأمريكية من العراق، تحت ضغط إيراني، لكن ردة الفعل المشجّعة من قبل حراك المتظاهرين، كانت الرفض للوصاية الأمريكية والإيرانية.
هل موجة الاحتجاج في عدة دول عربية سنة 2019 عرضة للفشل؟
بدأ الحدث الرئيسي في العالم العربي سنة 2011. لقد تم حصد بذور الحرّية وسقط جدار الخوف، رغم الجرائم المرتكبة ضدّ المدنيين، وفي الوقت الذي ظنّت فيه الأنظمة أنه باستطاعتها فرض نفسها، انتشرت عدوى الاحتجاج بين الشعوب.
هذه الموجة الثانية من الاحتجاجات، حملت لنا الأمل كديمقراطيين عرب. يتعلّق الأمر بردة فعل كانت أسرع مما كان متوقعًا على الفشل الذي حصل في سوريا، اعتقدنا أن هذا الفشل قد أسفر عن صدمة في الشرق الأوسط، وعن خوف من هذه الموجة الجديدة من الثورات، التي قد تقود نحو حرب طائفية، لكن عكس ما توقّعه المتشائمون؛ فإن البلدان التي تحكمها أنظمة طائفية هي التي تفجّرت فيها الثورة، وما حدث في العراق ولبنان في الأسابيع الأخيرة، وقبل ذلك في السودان والجزائر، ليس سوى تكملة للربيع العربي سنة 2011.
في الواقع أنا أتوقّع موجات احتجاج أخرى مستقبلًا، مشابهة لتلك التي حصلت في أوروبا بين سنتي 1789 و1848، والتي أدت إلى بسط الديمقراطية في نهاية القرن التاسع عشر. نحن في بداية عملية انتقالية قد تمتدّ لخمسين سنة.
رفض الطائفية كان إذًا محرّك الحراك في العراق ولبنان؟
لقد أدى تراكم الفساد والقمع والاستبداد من طرف هذه الأنظمة، إلى نشوب هذه الاحتجاجات. تفجّرت الثورات، وكان هذا مبعثًا للأمل، حتى لو لم يكن من المرجّح أن تقود هذه الثورات إلى تغيير سريع للنظام، خاصّة في لبنان والعراق، ففي هذين البلدين تحديدًا، ليس هناك نظام مركزي قويّ برئيس يُمكن الإطاحة به، لكن السبب أيضًا؛ يعود إلى أن لدى هذين البلدين نوع من التعدّدية السياسية ونظامًا برلمانيًا. الأمر لا يتعلّق هنا بالدكتاتوريات وإنّما بالأنظمة، بلا شكّ هي فاسدة ومحافظة، لكنها ذات ديمقراطية طائفية مبنية على تقسيم السلطات.
تكمن المشكلة في أن الدولة فاشلة، والسياسيون منهمكون في تقاسم المناصب والثروات، عوض تأمين الخدمات للشعب.
نلاحظ في لبنان وفي العراق، أن المطلب الأوّل هو “نريد دولة هويّة وطنية وليست طائفية”.
هل تخلّصت هذه الثورات من التأثير الديني؟
إن النقطة الأساسية بالنسبة للعراق والسودان والجزائر ولبنان، هي غياب التيّار الإسلامي عن الحركات الحالية. يمرّ هذا التيّار بأزمة عميقة، بعد محاولات لاسترجاع وقمع ثورات سنة 2011.
هناك تجربة الإخوان المسلمين في مصر، التي أجهضها الانقلاب العسكري، قبل صناديق الاقتراع. أمّا في العراق، حيث يدوّي الغضب، وتحكم الأحزاب الإسلامية، لا يقتصر التشدّد الإسلامي على السنّة، بل هناك تشكيلات شيعية في الحكم. لم يتبق سوى وجه الثورات الحالية الذي يتمّتع بالمدنية الكاملة، والمطالبة بحقّ المواطنة، والانتخاب، ومحاربة الطائفية، والشفافية مع برنامج ديمقراطي واضح.
لكن نحن حاليًا في قلب الاحتجاجات ولا نرى أي برنامج جلي..
من الصعب أن ننتظر من ثورات شعبية عفوية، أن تقدّم لنا برنامجًا حقيقيًا، هذا لم يحدث من قبل.
تتطلّب الثورة العفوية سقوط نظام شامل، لهذا نطلق عليها تسمية الحراك الثوري، الذي ينتهي الأمر به في الأخير إلى تقديم ممثّلين له.
إن العفوية، هي القوّة المجابهة للنظام القمعي، فهو لا يواجه هنا جماعة معينة ليتمكّن من إخراسها أو القضاء عليها. لكن خلال سنة أو سنتين، تصبح هذه العفوية ضعفًا، لهذا يجب أن تخرج بعدّة تيارات سياسية، تستطيع الانبثاق وتقديم أنفسها في الانتخابات، وليتحقّق هذا يجب حدوث تغيير في قانون الانتخابات. خاصّة في لبنان والعراق، وهذا أمرٌ ضروري لوضع حدٍّ للطائفية.
ماذا عن الوضع في الجزائر؟
في الجزائر، يلاحظ أن هناك رغبة واضحة، سواءً من النظام أو من الشعب، للتعلم من دروس الماضي وتفادي الوقوع في سنوات سوداء. لقد أصبح هذا عنصرًا مؤسِّسًا في الهويّة الوطنية، مثلما حدّدت الحرب الأهلية الهوية اللبنانية، وكما سيكون الأمر في سوريا، حيث سيبني ما حدث منذ سنة 2011 تلك الهوية.
إنّ رفض العنف من طرف الجزائريين هو أمرٌ أساسي، فرغم ما تميّز به نظام بوتفليقة من استنزاف وفساد، إلا أنه حقّق خطوة مهمّة، وهي إخضاع الجيش للجسد السياسي وليس العكس، فبينما أتى العسكريون ببوتفليقة إلى السلطة، نجح هو في تهميشهم، لكنه ترك اللجام في الوقت نفسه في يد رجال الأعمال، بمن فيهم الفاسدون.
يقف الجيش في الجزائر اليوم في موضع قوّة، ويبقى علينا أن نعرف ما إذا كان سيسلّم السلطة للمدنيين أو أنه سيحتفظ بها.
وفقًا لخطابه، كان الجيش يبحث عن سبل ملء الفراغ الدستوري بتنظيمه للانتخابات، لأنّه لا يريد أن يمسك زمام الحكم، لكن لا يمكن التأكّد من صدق هذا الخطاب، والشعب الجزائري غير مقتنعٍ على كل حال. الجيش في الجزائر، لم يقم بأيّة مبادرة لطمأنة الشعب حول نواياه، ولم يقترح فتح باب الحوار.
والحراك الجزائري لا يملك وجهة واضحة..
لو كان الحراك في الجزائر يمتلك وجهةً أو لديه ممثلين، كان ليقدّمهم خلال الانتخابات الرئاسية، التي كان من الممكن الخروج منها ببرنامج لتنظيم انتقال ديمقراطي.
الحل الوحيد هو التحرّك نحو تمثيل الحراك. ما زلت أعتقد رغم ذلك، أن الجزائر تمتلك فرصًا كبيرة للنجاح، لأن هناك توافقًا حول الدولة. الجزائر بلد غني يمكنه تحمل فترة انتقالية عكس تونس ومصر، وأيضًا بفضل المستوى التعليمي للجزائريين، خاصّة حاملي الشهادات العليا.
من المؤكّد أن كلّ الشروط مجتمعة في هذا البلد، وإذا انتهجت الجزائر سكّة الديمقراطية، ستكون قد منحت خطوة مشّجعة لكافة دول العالم العربي.
هل الديمقراطيات الأوروبية محرَجة أمام الاحتجاجات ضدّ الأنظمة العربية؟
يخيم شبح الإسلاميين على بعض الدول الأوروبية، تزامنًا مع الثورات، فقد استفادت الجماعات الإسلامية من الانتخابات الحرّة التي عرفتها الجزائر سنة 1990، وفي مصر، لم يكن واضحًا ما قد يأتي به حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، المنبثق عن صفوف الإخوان المسلمين. لكن هؤلاء لم ينتهجوا أسلوب العنف، وإذا كانت لديهم أخطاءٌ قد ارتكبت، فقد كان من المعروف أن مصر لن تكون إمارة إسلامية.
لعبت بعض الدول الغربية دورًا سلبيًا بدعمها لانقلاب السيسي، وإضفاء شرعية على حكمه، وكانت فرنسا بشكلٍ أخصّ، مؤيّدة له ظنًا منها أنّه يمكنها التأثير عليه، لكن دعمها هذا لم يخدمها كثيرًا، فنظامه استقوى كثيرًا لدرجة أنه تخلّص من ماكرون الذي طالبه باحترام حقوق الإنسان.
إن الدرس الذي نخرج به هنا، هو أن الدعم الذي يُمنح لديكتاتور متوحّش، يقوده بالضرورة نحو التمرّد. هناك أيضًا مشكلة في المصداقية لدى الأوروبيين، حينما يتعلّق الأمر بدعم الديكتاتوريين على حساب شعوبهم.
ما هي الحصيلة القادمة المنتظرة للثورات العربية؟
هناك ثورات تتفجّر ضدّ الاستبداد، وأخرى ستنبلج مع الوقت، في اعتقادي أنّه لا بلد عربي اليوم بمنأى عن الاحتجاجات. الأنظمة الحالية تشكل “سلطنات”، تحت قيادة رئيس تحوم حوله عشيرة ملتحمة.
إن الديمقراطية ليست نظامًا سياسيًا مثاليًا بطبعها، لكنها الخيار البديل للاستبداد.
تكمن المشكلة، في عدم نجاح الحركات المعارضة في بناء قواعد لهذه الديمقراطية، ولم تستطع حتى أن تتّحد، لا سيما في مصر. لم تتكوّن بعد جبهة مشتركة بين الإسلاميين واللائكيين ضد الدكتاتورية، حتى أننا رأينا لائكيين يفضّلون الدكتاتورية العسكرية على الحكم الإسلامي.
يتوجّب على الإسلاميين أن يكفّوا عن فرض أسلوبهم في اللباس والأكل وطريقة التصرّف على الناس، إنّ احترام الحرّيات الفردية يجب أن يندرج في أولويّات البرامج لدى الحكومات الإسلامية، وقد بدأت بعض التيّارات الإسلامية فعلًا في مراجعة مواقفها حيال هذه المواضيع.
باختصار، يجب الاتّفاق أولًا على ضرورة الديمقراطية، ومن ثَمَّ يمكن الاختلاف والنظر في أمر من سيتحمل المسؤولية. بعبارة أخرى، لنقرّر كيف نحكم قبل معرفة من سيحكم.
الترا صوت
ليبيراسيون