فيلم “الكهف”: يوميات طاقم طبي تحت سطح الأرض/ علاء رشيدي
يمكن تخيل فيلم روائي تدور أحداثه تحت سطح الأرض، لكن خصوصية الفيلم التسجيلي تفرض علينا التأمل ملياً، فأماكن التصوير تحت الأرض ليست استديوات مصنعة إنتاجياً، بل هي أماكن عيش حقيقية لفئة من السوريين.
من خلال فيلمه الأول “آخر الرجال في حلب”، وفيلمه الحالي “الكهف”، تتبلور ميزات السينما التسجيلية التي يقدمها المخرج فراس فياض عن تجارب السينما التسجيلية السورية، منها تلك العناية بالجانب الدرامي وتوسعته داخل السرد السينمائي، العناية بالشريط السمعي للفيلم لنقل تجربة العيش تحت القصف والحرب، وكذلك الجانب المتعلق بالموسيقى التصويرية التي نادراً ما تحظى بالعناية في الأفلام التسجيلية.
من بداية افتتاحية “الكهف”، المرشح لجوائز الأوسكار الوثائقية هذا العام، يتلمس المتلقي شروط الحرفة السينمائية التي أرادها فياض. بصرياً: اللقطة بانورامية ثابتة على مجموعة أبنية سكنية في الغوطة الشرقية في ضواحي العاصمة دمشق وهي تتعرض للقصف. سمعياً: ينتقل الفيلم بالتدريج من صمت البداية إلى تشكل صوت صوت القذيفة يليه صوت انفجار، انفجار آخر، وتتحول أصوات الصواريخ والقذائف إلى أصوات أنين بشري. إذاً، نحن لسنا أمام شريط صوتي تسجيلي للفيلم، بل هو مصنع بمهارة حرفية، لتستخرج من قذيفة أصوات أنين كورال بشري.
المعلومات الأولية التي تظهر على الشاشة تفيد بأن الكاميرا في الغوطة الشرقية لضواحي العاصمة دمشق: “منذ قيام النظام السوري وحلفائه الروس بهجماتهم ضد المدنيين السوريين عام 2013، حصد القصف المتصاعد أرواحاً بشرية لا حصر لها، وحولت الشوارع إلى ساحات قتال، الانتقال من مكان إلى مكان عمل مميت”، ثم تهبط بنا الكاميرا من أعلى المدينة رويداً رويداً إلى باطن الأرض، هناك ستقع أحداث تمتد نحو 120 دقيقة تشكل ساعتي الفيلم.
يمكن تخيل فيلم روائي تدور أحداثه تحت سطح الأرض، لكن خصوصية الفيلم التسجيلي تفرض علينا التأمل ملياً، فأماكن التصوير تحت الأرض ليست استديوات مصنعة إنتاجياً، بل هي أماكن عيش حقيقية لفئة من السوريين. وبينما تعبر بنا الكاميرا بنفق طويل تأخذنا شيئاً فشيئاً إلى العالم السفلي، نحتاج المزيد من المعلومات حول هذه التجربة: “أنشأ السكان المحليون شبكة معقدة من الأنفاق والملاجئ، أملاً بأن تكون آخر متنفس لحماية السكان المحاصرين، واحدة منها مستشفى تحت الأرض يدعى الكهف”. بصرياً الكاميرا تعبر بنا نفقاً طويلاً لا نهاية له تحت الأرض، مصنوع من الألمنيوم والحديد، إنه المعبر-البرزخ بين سطح الأرض وأعماقها.
كل ما سبق يقدم لنا تجربة مغايرة للسينما التسجيلية السورية التي ظهرت مع عام 2011، فدقة الصورة السينمائية عالية، والشريط السمعي مشغول بأعلى التقنيات الصوتية، والسرد السينمائي مبني على توليف مونتاجي مركب. أما الحكاية فهي كما في فيلمي “مجانين حلب” و”من أجل سما”، اللذين سردا حكاية الطاقم الطبي الأخير في حلب الشرقية تحت الحرب والحصار، فـ”الكهف” هو عن الطاقم الطبي الأخير في الغوطة الشرقية-دمشق 2016-2018. وكما في الأفلام السابقة، فإن حكايات المستشفيات تعجّ دوماً بالأطفال، على الشاشة ترى رضيعاً بعمر الشهرين يتم إسعافه، رأسه مغطى بالغبار والدم، تالياً شظية في أسفل عنق طفلة كانت “تزق” المياه لعائلتها حين تعرضت للإصابة.
عمل المرأة والحرب والعالم الذكوري
فيلم “الكهف” حصيلة المذكرات اليومية التي تدونها الطبيبة أماني بلور، مديرة مستشفى الكهف منذ عام 2013، والتي سنستمع إلى مونولوغاتها الداخلية بين فترة وأخرى من الفيلم. وبالعودة إلى المقارنة مع الأفلام التسجيلية السورية منذ عام 2011، نجد أن “الكهف” هو الفيلم الأول الذي يعلن استناده إلى نص (كتابة: أليسار، فراس فياض)، وهو مكتوب بناءً على مذكرات ويوميات، ما قد يعتبره البعض انزياحاً عن صدقية النوع التسجيلي، بينما قد يعتبره البعض الآخر ارتقاءً به نحو الحرفية للانطلاق من نص مكتوب.
الموضوعة التي تتكرر في يوميات الطبيبة أماني هي الصعوبات المتعلقة بعمل المرأة في عالم ذكوري. يروي لنا الفيلم مشهداً، يدخل فيه زوج إلى إدارة المستشفى، ليشكو من فقدان دواء زوجته، ولا يقتنع بأن ظروف الحصار فرضت واقع نقصان الأدوية الأساسية، وحين يكتشف أن المديرة امرأة، يعتقد أنه سوء تدبير منها: “لو كان المدير رجلاً لدبر أمره. مكان المرأة منزلها”، ليتدخل أحد الأطباء، مبيناً أن المديرة منتخبة للمرة الثانية من قبل العاملين في المستشفى.
ويمارس والد أماني ضغوطاً عليها لتترك عملها، ونتابع الاتصالات الصوتية بينهما، يستعمل العاطفة مرةً: “أنا وأمك ننتظرك، اتركي المكان وتعالي”، ويستعمل الترهيب أحياناً أخرى: “المرأة في الحرب سلاح بيد الأعداء”، وهي اتصالات تتكرر على طول الفيلم: “أنا نادم لأني جبتك لهالعالم، لو كنتي صبي أحسن”. لكن دوافع أماني للانخراط في العمل عميقة وذاتية. كانت طالبة في كلية الطب تخطط لمستقبلها والتخصص في طب الأطفال، وحين اشتد الحصار على الغوطة، فضلت تقديم المساعدة على حلم الدراسة: “لم أكمل الاختصاص، فالغاية من دراستي في أي حال مساعدة الضحايا، كما أنني أريد أن أعرف الحقيقة”.
التجربة السمعية للحرب والقصف
ينقل لنا فيلم “الكهف” أصوات الحرب، من صمت مقلق، إلى طيران متكرر، وأصوات القصف والانفجارات. لقطات طويلة من الفيلم تعتمد على نقل تجربة الحرب الصوية، من الحقيقة إلى صالة السينما، ربما تكون لفيلم “الكهف” الريادة في هذه الغاية، أي استخدام التقنيات السينمائية الصوتية لمعايشة تجربة سماع الأصوات في الحرب، الانتقالات المؤثرة من السكون إلى القصف المفاجئ، من السكون إلى القصف المتصاعد الذي يتحول إلى أنين بشري. (تصميم الصوت: بيتر ألبرشتاين).
الموسيقى التصويرية الدرامية
هناك ميزة أخرى للفيلم، تتعلق بالموسيقى التصويرية، فكما في فيلمه “آخر الرجال في حلب”، يولي فياض عناية فائقة بالموسيقى التصويرية، وهو ما يندر غالباً في النوع التسجيلي، فيتعاون مع المؤلف الموسيقي (ماثيو هربرت)، ومع أوركسترا لندن المعاصرة لإنجاز الموسيقى التصويرية للفيلم. في كتابها “جماليات موسيقى الأفلام”، تعتبر الناقدة صوفيا ليسا أن دور الموسيقى في الفيلم التسجيلي هي نقل الأصوات في تجربة الواقع، أي الأمانة لخصوصية تسجيل الواقع. لكن فياض يضيف إلى الفيلم التسجيلي إمكان استعمال الموسيقى التصويرية في السرد الدرامي، أي موسيقى تعبر عن مشاعر الشخصيات أو عن أحاسيس اللحظة: القلق، الفرح، الخوف، اليأس، الشفقة، التأمل… يوظف لهذه الغاية مقطوعات موسيقى أوركسترالية من وتريات، نفخيات، وأصوات كورال بشري. ما قد يعتبره البعض تدخلاً من صانع الفيلم في تجربة المتلقي لبثه مشاعر الشجن أو العواطف، بينما قد يعتبره البعض الآخر عاملاً جمالياً وفنياً مضافاً إلى الفيلم، وأداة من أدوات السرد الأدق.
اللحظات الإنسانية في يوميات الشخصيات
لا تبحث كاميرا فياض عن نقل أحداث ذات طبيعة إعلامية فقط، بل يصر الفيلم على إظهار شخصياته بلحظات درامية، مشاعراتية، فالفيلم يدمج ما أمكنه بين السرد التسجيلي والسرد الدرامي، فهناك مونولوغات الطبيبة (أماني) التي تبث فيها مشاعرها وأفكارها، وهناك لقطات لها وهي تتأمل، أو تضحك، فيما تتحرك الكاميرا ببطء، وترافقها موسيقى نفخيات. زملاء أماني يجرونها وهي فوق سرير التمريض في ممرات المستشفى، لقطات عن حفلة عيد ميلادها، ومشهد للشخصيات تكتب أسماءها على الجدران بأقلام ملونة، كلها مشاهد تسرد لحظات إنسانية في يوميات الشخصيات.
سطح الأرض/ باطن الأرض
تتماثل حكايات المستشفيات الميدانية في المناطق المحاصرة، من نقص الأدوية، إلى خطورة العمل تحت القصف، والإصابات الخطرة، وصولاً إلى مشاهد تعرض حواضن الأطفال المولودين حديثاً للقصف، كما رأينا في أفلام مثل “مجانين حلب” و”من أجل سما”. لكن في مستشفى الغوطة الشرقية “الكهف” صعوبة جديدة، هي الحياة تحت سطح الأرض، لتنقلب المعادلة البشرية بين سطح الأرض وباطنها. ففي “الكهف” ليس تحت الأرض رمز للموت أو القبر، بل هو ملجأ الناس المحاصرين للشعور بالأمان، للحصول على المساعدات الطبية والعلاج، بينما فوق الأرض هناك خطر القصف والموت والدمار. كلما خرجت الكاميرا من الكهف إلى سطح الأرض لا يظهر إلا الخراب والدمار والشعور بالخطر، وكلما غاصت أكثر تحت طبقات الأرض كان الشعور باستمرارية الحياة، والحماية، وفرص العلاج الطبي. هذه المعادلة بين سطح الأرض وباطنها تثير خيال المشاهد طيلة الفيلم.
لكن حتى أعماق باطن الأرض غير محمية بالكامل، فمع تقدم أحداث الفيلم يقترب القصف رويداً رويداً من المستشفى، تتصدع أساسات المكان، تصاب أماكن فيه وراء بعضها بعضاً، ويشتد الخطر. لذلك ومع تقدم الفيلم يصبح الشعور بالخطر والانهيار أعلى وأشد، ونصبح كمشاهدين محبوسين مع كاميرا الفيلم في مكان مغلق تحت الأرض يتعرض لعملية انهيار تدريجية. وفي الثلث الأخير من الفيلم، يشتد الخطر مع توقع فريق الطاقم الطبي هجمات كيماوية بغاز الكلور، فتوضع السواتر الترابية التي تعيق تسلل الغاز، ويرتدي جميع العاملين في المستشفى الأقنعة الواقية، فتزداد مشاعر الرعب والفزع من تعابير الوجوه ونوع الموسيقى، من دون أن يقع هذا الهجوم الكيماوي بين أحداث الفيلم. لكن، أثناء تصوير الفيلم بين عامي 2016-2018 مات أربعة عاملين في مستشفى الكهف بحسب المعلومات الواردة في نهاية الفيلم.
في النهاية، يطلعنا الفيلم على عملية ترحيل الطاقم الطبي والأهالي من الغوطة الشرقية، وتوجههم إلى مخيمات اللجوء في الشمال السوري، ومنهم من غامر بالهجرة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، الذي كانت أعماقه نهاية حوالى 20 ألف غريق سوري، لهذا ينتهي الفيلم بلقطات من أعماق البحر المتوسط، في إشارة إلى الغرقى في أعماقه، كأن مصير السوريين العيش بين باطن الأرض وأعماق البحار.
درج