تاريخ الكذب لجاك دريدا/ علاء الدين العالم
ليست هيّنةً قراءةُ كتاب للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، لا لصعوبة استراتيجية التفكيك التي أعلنها منذ ستينات القرن الماضي فحسب، بل لأن قراءة دريدا تستلزم اطلاعاً واسعاً على تراث الفكر الأوروبي منذ فجره اليوناني، مروراً بعصر النهضة وفلاسفة عصر الأنوار، وانتهاء عند أعمدة الفكر الحديث؛ ماركس ونيتشه، وغيرهما كثيرون. يبان هذا القول جلياً لقارئ كتاب دريدا المترجم حديثاً، تاريخ الكذب، الصادر عن المركز الثقافي العربي من ترجمة رشيد بازي. قد يُضلِّلُ عنوانُ الكتابِ ويوجِّهُ الانتباه نحو سرد تاريخي للكذب أو تأريخ للمفهوم، وذلك بعيدٌ ــليس كثيراًــ عن ما يعمل عليه دريدا في كتابه هذا، الذي لا ينشد فيه سوى تحديد مفهوم الكذب، ما يدفعه لنبش الأفكار الإنسانية التي ناقشت هذا المفهوم منذ أفلاطون وأرسطو وصولاً إلى حنا آرنت ودراستها الموسعة في السياسية والكذب.
الكتاب المكوّن من محاضرة كان قد ألقاها جاك دريدا على طلابه في وقت سابق في الكوليج دو فرانس، يُفتتح برجوع دريدا إلى كتاب غسق الأوثان لنيتشه، وتحديداً المقطع المعنون بـ«تاريخ خطأ». يتتبع نيتشه تحت هذا العنوان «كيفية تحول العالم الحقيقي إلى خرافة»، وكيف استحال مفهوم «العالم الحقيقي» إلى أطول خطأ في تاريخ الإنسانية على التوالي مع كل من أفلاطون، المسيحية، كانط، ومن بعدهم الفلسفة الوضعية، إلى أن استفاق العقل من هذا «الوهم» مع زاردشت نيتشه. عِلّةُ عودة ديريدا إلى نيتشه هي سعي الأول لتفريق الكذب عن الخطأ، «أي أن كنه ظاهرة الكذب من حيث هي كذلك، لا علاقة لها بمسائل المعرفة والحقيقة والصحة والخطأ (..) فالكذب يختلف تماماً عن الخطأ، فبوسعنا أن نخطئ وأن نغلط، بل وأن ننطق بكلام خاطئ دون أن يكون الهدف من ذلك خداع الآخرين».
يُعرَف عن دريدا أنه سار على خطى نيتشه في تحطيم الثنائيات، فكيف سيعمل مُحطِّم الثنائيات على الكذب؟ الصفة التي لا تكون إلا بالصدق، أي أن وجودها مرتبط بثنائية حتمية (كذب/صدق). هذه البدهية في ذهننا، يحطمها دريدا منذ البداية، يتحدث عن الخرافة، تلك المساحة الشاسعة بين الصدق والكذب، ويستعين بنيتشه محطم الأوثان والثنائيات الأكبر، «فإن نيتشه يستمر في طرح أو افتراض علاقة متصلة بين الكذب والخطأ، ومن ثمة بين الحق والصدق، ما يمكّنه بالفعل من طرح قضية الكذب في أسلوب محايد وبعيداً عن الاعتبارات الأخلاقية، أي كمسألة نظرية وإبستمولوجية». بعد ذلك، يلتفت دريدا إلى الفكر اليوناني وفي مقدمته فكر أفلاطون، مُركِّزاً على عنوان فرعي ورد لدى أفلاطون تحت اسم «فن الكذب»، ومن ثم ينتقل دريدا إلى أرسطو الذي ركّز في كتاب الميتافزيقيا على ثلاث موضوعات تتصل بالكذب، أولها الشيء، وثانيها القول، وثالثها الإنسان الكذاب، وهو ليس «فقط الذي يملك القدرة على الكذب، بل هو الذي يميل إلى الكذب» حسب أرسطو.
ولو أنه لم يلتفت كثيراً إلى الكذب في كتابه الأهم الكينونة والزمن، إلا أن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر صرّح خلال أعوام 1922 و1923، أن «الكينونة تحمل في داخلها إمكانات ظهور الخداع والكذب»، وهذا ما يأتي على ذكره دريدا، ويركز على مفردة «إمكانات» غير القاطعة في كلام هايدغر، ويبني عليها فرضيته القائلة بأنه «من المستحيل دائماً، لِاعتبارات بنيوية، البرهنة، بالمفهوم الضيق لهذه الكلمة، على أن أحداً ما كذب، وهذا حتى في حالة إن تمكنا من البرهنة على أنه لم يقل الحقيقة»، أي أنه ولو أتينا بالقرائن التي تُدلّل على كذب فلان، لكن لن يمكننا الحسم بما يخص نيته على الفعل، وستمنع عبارات من قبيل «حصل سوء تفاهم» و«كانت نيتي حسنة»، من قطع الشك باليقين في كذب أحدهم.
يُفكّك دريدا «المفهوم الكلاسيكي السائد» عن الكذب، ويهدم التعريف التقليدي له، القائل بأن الكذب «فعلٌ مقصود». من هنا ينطلق دريدا ليشير إلى تفريق ضروري، «فلا وجود بتاتاً للكذب»، بل الوجود الذي يقصده دريدا هو «فعل الكذب». كذلك يتجاوز دريدا التقسيم الكانطي الأخلاقي، حيث يضع كانط الكذب ضمن عالم الأخلاق الموجود بذاته، أي أن الكذب هو الآخر موجود بذاته، وهذا ما ينسفه دريدا هنا تماماً بالتفنيد السالف، ولا يفتأ من التأكيد على مناقشة «قصدية الكذب»، مُعرِّجاً بسرعة على مفهوم «قصدية الوعي» عند فيلسوف ألماني آخر هو إدموند هوسرل، منتقلاً بعد ذلك إلى تفتيت تعريف القديس أوغسطين، معيداً إياه إلى عناصره الأولى، ورافضاً الحكم على تعريف أوغسطين بالسطحية، بل إن ما يتناثر من عناصره حينما يفتته يؤكد على أهمية التعريف، فإنه «بمثابة متاهة بإمكاننا أن نضل طريقنا فيها في أي لحظة، وسنحتاج إلى كل العناصر المكونة له في تحليلنا، وكذلك سيتطلب منا القيام بأشياء تفوق كل إمكاناتنا، كالتطرق مباشرة إلى جوهر الإرادة والقصدية والوعي القصدي والحاضر لذاته». من هنا، يطلق دريدا مفهوم الكذب، ويقترح أن يبقى الكذب خاماً وفظاً، وأن نسميه بالمفهوم الطليق للكذب، «والطلاقة هنا رهينة بالوضوح القوي والحاسم». ويعود بعد ذلك بقليل ليؤكد أنه حينما يتحول الكذب إلى ظاهرة خالصة، فإنه «من المستحيل وضع الإصبع عليها وتقديم براهين لإثباتها وإخضاعها بطريقة صارمة لأي حكم نظري تحديدي». لا يمشي «المفهوم الطليق للكذب» هانئاً، فسرعان ما يكتشف دريدا أن الصمت يظهر هنا كتحدٍ أمام المفهوم الطليق للكذب؛ كيف يحضر الكذب بالصمت؟ وهل هناك لغة تساعدنا على تفكيك الصمت وتبيان دوره في الكذب؟! لا، يجيبُ دريدا، فكيف لنا أن نحيط بـ«مختلف الظواهر المحيطة بالصمت، والتي تهدف إلى خداع الآخرين، وأحياناً إلى إلحاق الأذى بهم، وقد تكمن من ورائها، على العكس من ذلك، مقاصد حسنة لا يمكن التشكيك فيها».
في مقدمته هذه لتاريخ الكذب، يقسّم دريدا هذا التاريخ، ولا يكتفي بتاريخانية الكذب المطروحة سابقاً، ففي الحديث عن تاريخ الكذب هناك ثلاث شبكات في هذا المفهوم علينا الاحتراز منها، الأولى «تاريخٌ خاص بمفهوم الكذب، والثانية تاريخٌ خاص بالكذب يضم كل الأحداث التي وقعت للكذب أو بسببه، وأخيراً، تاريخٌ ذو بعد واقعي يروي كل الأكاذيب أو الكذب بصفة عامة». بناءً على ذلك، فإن ما يقدم له دريدا في مقدمته هذه عن تاريخ الكذب يفرّق بين الشبكات الثلاث التي تتخفى وراء مفهوم الكذب، لذلك نجده ينتقل في قادم الصفحات من الشبكة الأولى «التاريخ الخاص بمفهوم الكذب» إلى الشبكة الثانية «تاريخ خاص بالكذب» عبر نقد قراءتين معاصرتين لمفهوم الكذب، الأولى لحنا آرنت بعنوان السياسية والكذب، والثانية لأوسكار وايلدر تحت عنوان انحطاط الكذب، وفي النهاية ينتقل دريدا إلى الشبكة الثالثة، حيث يورد حوادث كذب سياسي كبرى ويناقش من خلالها تاريخانية الكذب.
ينتقل دريدا بعد هذا الحفر النظري الوعر إلى الأمثلة التطبيقية، يَذكُرُ اعتذارَ رئيس فرنسا الأسبق جاك شيراك لليهود باسمه وباسم الدولة الفرنسية عن مسؤوليتها في عدم حماية بعض المناطق اليهودية في فرنسا من ألمانيا النازية، ويذكُرُ رفض بيل كلينتون الاعتذار عن إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناكازاكي، ويتطرق إلى اعتذار الوزير الياباني لشعبه عن ما أصابهم في الحرب العالمية الثانية، ويدرس التحولات المرتبطة بمفهوم «الجريمة ضد الإنسانية»، ويعلن بعدها أن ما قدمه الوزير الياباني ساهم في دفع البشرية نحو «الرقي» (بالمفهوم الكانطي) كما الدفعة التي حصلت مع الثورة الفرنسية على سبيل المثال، لكن مع الأسف، بقيت هذه التجربة حبيسة اليابان وظهرت بخجل في باقي الدول. وما يطالب به دريدا هنا بشكل مباشر هو قيام الدول الاستعمارية بالفعل ذاته، الاعتراف بجرائمها وطلب الصفح، لتُزاوِجَ بذلك بين «الكذب» الذي حصل في تلك الحرب و«الخطأ» الذي تُكفِّرُ عنه الدولة باعترافها وطلبها الصفح من الشعوب.
«هل بإمكاننا التوصل إلى تاريخ خاص بالكذب من حيث هو كذلك؟ أنا أشك في ذلك أكثر من أي وقت مضى»، هكذا يُسدل جاك دريدا الستارة على مقدمته لتاريخ الكذب؛ لا يصل إلى يقينية، ولا يُقدَّر له ذلك، سيما وهو المعروف باستراتيجيته التفكيكية التي لا تركن إلى تحديد، ولا تسكن تجاه تعريف المفاهيم وإعادة تعريفها والبحث عن الشبكات المعرفية المكونة لها، وهي الاستراتيجية التي يستند إليها ما قدمه في كتابه هذا عن تاريخ الكذب الذي «كل ما يمكننا الحديث عنه هو الشكل الذي قد يتخذه، أو يجب أن يتخذه، ما وراء المعرفة… هذا في حالة إذا كان وجوده ممكناً».
موقع الجمهورية