أسطورة القداسة وقيادة الوهم/ هوازن خداج
شكّل الخروج من دموّية العنف الديني، الذي رافق القرنين السادس والسابع عشر في أوروبا، نقلة نوعية نحو تأسيس الدول الحديثة، وتغيّر أشكال احتكار القوّة، وانزياح القيمة التي يقاتل البشر ويموتون من أجلها، وكان مبشّرًا بإنهاء احتمالية العنف بسبب الدين، أو استخدامه كمحرّض وسبب للصراعات، إلا أن “الصحوة الدينية” التي نعيشها جعلت الواقع صادمًا بما يكفي لإعادة النظر في المسلّمات التي تأسّست في المرحلة الماضية. فانتشار الأصوليات الدينية في الأديان الرئيسة خلّص الدين من موقعه الهامشي، وأعاده إلى وسط الصورة، ليصبح قوّة جديدة وعنصرًا من عناصر الواقع الراهن، جاعلًا من حياتنا مسرحًا عجيبًا يتقاطع فيه الديني والسياسي والثقافي والاقتصادي، لصنع أسطورة القداسة وقيادة الوهم.
تطوّرات السنوات الأخيرة من القرن العشرين، من عودة نزعة الكفاح الديني، التي لا يمكن ردعها لما يمتلكه المقدّس من قوّة رمزية يصعب معها نقض قرارات الإله أو وكيله، بلغت أوجها في أيلول/ سبتمبر 2001، وتحوّلت الجماعات الأصولية الدينية إلى تهديد لأقوى الدول، معلنةً رسالتها البالغة الخطورة بأن العدوان ليس حكرًا على الدول وعلى الطغاة والأنظمة الشمولية. فالتكنولوجيا صارت بمتناول الجميع، ويمكن للجماعات استخدامها لفرض واقع مختلف، وإعادة خلط الأوراق وتصنيف القوّة، فإثارة الفزع العالمي كانت محور الإرهاب “الإسلامي”، والردّ العنفيّ عليه (الحرب على الإرهاب) قبل بحث الحلول الممكنة، كان شحذًا جديدًا لقواه، وزاد الطين بِلّة أن الردّ لم يخلُ من استخدام المقدّس الديني في الصراع لخدمة غايات أخرى.
وقد تكون الحرب على العراق مدخلًا واضحًا لرصد آلية استخدام المقدّس الديني، ودلالته الرمزية، كمحرك لقسوة إعلان الحروب تحت غطاء الدين، وقد دُهش الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، من قول الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش، إنه “تلقى وحيًا من السماء لإعلان الحرب على العراق، لأن يأجوج ومأجوج انبعثا من جديد في العراق، وهو في طريقه لمطاردتهما، لأنهما ينويان تدمير الغرب المسيحي”، بحسب ما قاله الصحفي الفرنسي جان كلود موريس، في كتاب (لو كرّرت ذلك على مسامعي فلن أصدقه).
دهشة الرئيس شيراك يومها لم تكن دهشة عابرة لفكرة عابرة في حديث مارق بين زعيمين، فما تلاها من تفعيل للأيديولوجيات بمظاهرها الدينية والطائفية والفئوية، واندفاعها نحو العنف المطلق الذي تحرّكه إيحاءات الخير والشرّ، يدفعنا إلى التوقف طويلًا عند الافتراض بأن تحييد الدين عن السياسة في الدول الحديثة كان كافيًا حتى تستوي الأمور ويؤهّلها لتكون صانعة للسلام داخل هذه العملية، خصوصًا مع توسّع دائرة استخدام الدين والمقدّسات في الصراع الذي يطال الشرق الأوسط، والذي اتخذ أبعادًا مختلفة واستخدمته العديد من الدول، لتجعل من استخدام المقدّس حدثًا صعب التجاوز في مجريات الأحداث المختلفة والمفصلية في الشرق الأوسط، بحيث لا يمكن المرور عليها، ولو كانت مجرد صورة، كصورة العناق بين الإمام “الحسين بن علي” وقاسم سليماني، أحد أكبر قادة ميليشيا “الحرس الثوري” الإيرانية، بعد مقتله يوم 3 كانون الثاني/ يناير بغارة أميركية على مطار بغداد، والرد عليها بصورة موازية في عناق السيد المسيح للرئيس الأميركي ترامب.
وعلى الرغم من أن البعض عدّ كلتا الصورتين نوعًا من الفكاهة، فإنها كانت فكاهة مبطّنة ببعد رمزي له دلالته العميقة في استخدام إيحاء المقدّس وقوّة حضوره، والقدرة على استخدامه كعنصر مهم في قيادة البشر وتوجيه أفكارهم، حيث حملت الصورة الأولى البنية الفكرية لمظلومية مؤسطرة في التاريخ الشيعي، إضافة إلى منظومة فكرية يكرّسها الحكم الديني السياسي منذ الثورة الإيرانية عام 1979، ويعمل من خلالها على تعبئة جمهور من الشهداء المحتملين ردًا على الفاجعة. أمّا الصورة الثانية فكانت من أرشيف مؤيدي الرئيس ترامب، وكانت قد نُشرت منذ سنوات، في سياق تأييدهم لرئيسهم وإضفاء قدسية دينية عليه، ليعاد نشرها الآن في سياق حرب الرموز التي تحمل في باطنها معضلة حقيقية، صارت تواجه العالم اليوم في مسألة الاستخدام السياسي للمقدّس الديني وإقحام العقائد الدينية في صراعات كبرى.
لقد ساهم استنهاض الديني وتنصيبه في واجهة الصراع، واستخدامه ذريعة من قبل الدول لتبرير عنفها وإضفاء صبغة دينية عليه، من أجل شرعنته باعتبارها حاملة لمهمة مقدّسة، في خلق عالم أكثر رعبًا بفوضاه. فحرب العراق في مطلع 2003 بذريعة النووي العراقي، والحرب على الإرهاب، ورؤيا الوحي الإلهي الملهم، فتحت الباب على مصراعيه للتلاعب الإيراني وتأجيج الصراع الطائفي، ونشر الفوضى التي لم تعد حكرًا على العراق، بل امتدّت إلى سورية، مع إلهام إلهي آخر كان يقود إيران للتدخّل في العراق وسورية، الذي أتى التصريح عنه متأخّرًا وردًّا على الاحتجاجات بشأن تدخّلها السافر في المنطقة، ففي تاريخ 31 أيار/ مايو 2016، صرح أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، بأن “قرار التدخل في سورية والعراق، تم اتخاذه من قبل المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي وذلك بإلهام إلهي”.
الإلهام الإلهي لتدخل إيران في العراق وسورية وصورة العناق الحسيني لسليماني، قد لا يكونان دافعًا للاستهجان في دولةٍ استغنت عن ديكتاتورية الفرد بديكتاتورية الأيديولوجيا، فتسخير الدين جزء من بنية نظام أيديولوجي ثيوقراطي قاس، اتخذ رونقه بفضل شعاراته الغيبية والتبشير بقرب ظهور الإمام المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلًا، مستغلًا هذه المبررات، ليتهرّب من الاستحقاقات المترتبة عليه تجاه مواطنيه، ولبناء مؤسّسات سياسية ودينية وعسكرية أنتجت أذرعًا لها في مختلف أنحاء المنطقة العربية في محاولة لزرع التوترات وتأجيجها. بينما ذلك الإلهام الإلهي للرئيس بوش الابن، وصورة العناق المقدّس المسيحي لترامب، لا يقتصران على الاستهجان، كونهما صدرا عن رئيسي دولة عظمى لها ثقلها النوعي وبعيدة من كل أشكال التديّن، بل يدفعان للصدمة الناتجة عن إمكانية استخدام مقدّس النبوءات والتبريكات في قيادة الحروب أو تقديس الأشخاص بعد أن مرّ كل هذا التاريخ على ترسيم الحدود بين الديني والسياسي داخل المجتمعات الغربية التي وصلت إلى مرحلة من العقلانية تؤهلها للابتعاد عن أيديولوجيا الدين والتديّن.
ما يحدث في عصرنا من تفعيل المقدّس الديني بقوّته الرمزية، واستخدامها كقوّة مضافة إلى عناصر القوّة التي تمثّلها الدول المتطوّرة والمستفيدة من تطوّرها التكنولوجي، صار دافعًا للبحث مجددًا في فرضيات الحلول التي قدّمتها العلمانية، واعتبارها التيار الأقوى أثرًا، بحيث لن تعود العقيدة الدينية للقيام بدور رئيس في الأحداث العالمية، وكذلك في الرهان على أن زيادة عقلانية البشر تجاه الحقيقة الدينية، بعد تغيّر المعطيات السابقة بامتلاك المنطق الروحي، هي وحدها القادرة على إضفاء معنًى على حياة البشر، وأن تنوّع خياراتهم سوف يؤدي إلى تحديد مكانة الدين واقتصاره على المجالات الشخصية التي يقودها المنطق العقلاني ودوافعه في العثور على ما هو جديد من اختراعات وابتكارات، فامتداد فصول الموت وتحوّل المشاهد إلى ظواهر تنازعتها الأسباب الدينية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية صارت أكثر اتساعًا ورعبًا، بعد أن أضفت على القوّة مسحة التمدّن والتديّن الزائفة.
جيرون