من قتل الدكتور لي ون ليانغ؟/ بكر صدقي
لي ون ليانغ هو طبيب عيون، شاب في التاسعة والعشرين من عمره، متزوج، أب لطفل، وزوجته حامل بطفلهما الثاني. مات قبل أيام بعد إصابته بفايروس كورونا الذي أصبح، منذ بضعة أسابيع، مصدر رعب في أنحاء العالم، وتسبب بوفاة ما يزيد على 800 شخص، إلى الآن، في جائحة لا نعرف مدى الخسائر البشرية التي ستنتج عنها قبل اكتشاف المضادات الحيوية اللازمة للقضاء عليها.
تم اكتشاف الفايروس الجديد في مطلع شهر كانون الأول 2019، لكن السلطات الصينية تكتمت على أخباره، ولم تبلغ منظمة الصحة العالمية بأمره. إلى أن عبر الدكتور لي، في تبادل للأخبار على إحدى منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بالأطباء عن شكوكه حول تزايد الإصابات بأعراض شبيهة بذات الرئة (سعال جاف وارتفاع حرارة وضيق تنفس…) في مدينة ووهان، فقال إنه ربما كان الأمر يتعلق بفايروس جديد من أسرة فايروسات كورونا، غير معروف إلى حينه.
ما الذي فعلته السلطات الصحية إزاء شكوك الدكتور لي؟ تم استدعاؤه وتوبيخه على تسببه في انتشار ذعر لا مبرر له حسب زعم مديرية الصحة في ووهان. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فكما يمكننا أن نتوقع من نظام دكتاتوري شمولي منغلق كنظام الحزب “الشيوعي” الصيني، قامت الشرطة باستدعائه أيضاً فأجرت معه تحقيقاً مفصلاً حول “نواياه السياسية” (!) من وراء نشره إشاعات كاذبة تهدف إلى خلق الاضطراب في النظام الاجتماعي، وطلبت منه أن ينشر تكذيباً لمزاعمه الهدامة!
نعم. هذا ما جرى مع الدكتور لي الذي كشف عن فايروس كورونا الجديد، قبل أن يتوفى من أثر إصابته بالفايروس نفسه الذي ربما انتقل إليه عن طريق أحد مرضاه أو بطريقة أخرى لا نعرفها.
تذكرت، وأنا أقرأ أخبار ما جرى مع هذا الطبيب، كلاماً للمرحوم ممدوح عدوان في مداخلته أمام وفد الجبهة الوطنية التقدمية التي قررت الاستماع إلى آراء المثقفين فيما كان يجري في العام 1980 من صراع دموي مع مجموعة “الطليعة المقاتلة” للإخوان المسلمين، استخدمه النظام ذريعة لضرب كل صوت مستقل. كان ذلك الاجتماع مع أعضاء من اتحاد الكتاب العرب، تمريناً مصغراً وضيقاً على ما سيتحول، في مطلع الألفية الجديدة، إلى ظاهرة المنتديات السياسية أو ما سمي بربيع دمشق. ففي الخالتين سمح النظام للمثقفين أن يقولوا ما لديهم، وكأنه كان ينصب فخاً للإيقاع بهم.
المهم، قال الشاعر الراحل ممدوح عدوان، في ذلك الاجتماع، إن السلطة تكذب في كل شيء، بما في ذلك حتى انتشار مرض ما أو درجات الحرارة. “هل يعقل أن تكذب وسائل الإعلام في درجات الحرارة؟ نعم، هذا ما تفعله وسائل إعلام هذه السلطة!” قال عدوان بنبرة غاضبة.
ولكن لماذا تشعر الأنظمة الدكتاتورية بالحاجة إلى الكذب، فتنكر وقوع إصابات بمرض جديد، أو تقلل من عدد المتضررين من كارثة طبيعية كالزلازل والسيول وغيرها؟ لماذا تشعر أن قول الحقيقة، حتى في أمور لا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد، يسيء إلى سمعتها وهيبتها؟
قالت السلطات السياسية الصينية إن الغاية من نشر شائعات كاذبة بشأن جائحة الفايروس الجديد إنما هي الإساءة إلى الإنجازات الاقتصادية الصينية وقطع الطريق أمام المزيد منها!
النظام الشمولي يسعى دائماً إلى إعطاء الانطباع للسكان الذين يحكمهم أنه يسيطر على كل شيء، لا شيء يحدث بمعزل عن معرفته وإرادته، كل شيء وكل شخص تحت المراقبة والضبط والتحكم، بما في ذلك القشرة الأرضية والفايروسات والأمطار والرياح. كل شيء، يعني كل شيء! وأي خدش لهذه القدرة الكلية والسيطرة الكلية يعتبره النظام الشمولي انتهاكاً خطيراً لهيبته في نظر السكان. لذلك يحسن التكتم على كل ما من شأنه أن يشوش السيستم. هناك أيضاً عامل آخر، تفصيلي، في الأنظمة الشمولية، يتعلق بتراتبية شبكة النظام، حيث المستويات الأدنى تتصرف، دائماً، وعينها على المستويات الأعلى، خشية التعرض لغضبها فطردها من جنة السلطة وامتيازاتها. “ترى هل يحسن بنا إعلام السلطات العليا بهذه الواقعة، أم التكتم عليها؟” هذا هو لسان حال المستويات الدنيا التي يمكن أن تتكتم على خبر تعتقد أنه قد لا يسر “الأخ الأكبر” فوق.
لقد ذاب الثلج وبان المرج مع ازدياد حالات الإصابة بـ”المرض الغامض” فاضطرت السلطات الصينية، أخيراً، إلى الاعتراف بوجود الإصابات – مع الإعلان عن عدد أقل من العدد الحقيقي طبعاً -، وتم الحجر على مدينة يوهان، فمنع الخروج منها والدخول إليها، ولكن بعد فوات الأوان. فقد غادرها آلاف المقيمين بين بداية ظهور الإصابات والإعلان عنها، أي في فترة ما يقارب الشهر. ومن المحتمل أن حاملي الفايروس قد انتشروا في أنحاء الصين وأنحاء العالم. ذلك أن في المدينة، إضافة إلى سكانها التسعة ملايين، آلاف الأجانب أيضاً من طلاب جامعات وخبراء صناعيين وغيرهم، سافروا إلى بلدانهم في عطلة أعياد رأس السنة.
مختصر القول إن النظام الشمولي قد تكتم على خبر انتشار الجائحة حتى وقعت الفأس في الرأس.
الجائحات المرضية يمكن أن تحدث في أي مكان، وهي توقع خسائر بشرية كبيرة. ما يمكن عمله هو الحد من الأضرار قدر الإمكان. وأول خطوة ضرورية هي عدم إنكار حدوثها وتوعية السكان لتجنب الإصابة بها.
يمكننا الآن الإجابة على السؤال الوارد في العنوان: من قتل طبيب العيون الصيني؟
نحن الذين نعرف جيداً مسالك الأنظمة الشمولية، يحق لنا التشكيك بالرواية الرسمية الصينية حول أسباب وفاة لي ون ليانغ. ترى هل قتلته السلطات الصينية عقاباً له على نشر “الشائعات التي تنال من هيبة الدولة؟” أم مات فعلاً بفايروس كورونا.
ربما هذا ما يدور من كلام بين الصينيين. فسواء كان موته نتيجة الإصابة أم قتلته السلطات عمداً، يبقى النظام هو المسؤول عن مصيره.
فهل تتحول هذه الحادثة إلى ما يشبه مقتل المصري خالد سعيد تحت التعذيب، فنكون أمام تمرد تيان ان من جديد في بكين؟
تلفزيون سوريا