عزرا باوند… اللغة إذ تكشف عن أوصـالها
====================
الميلاد: 1885. الموطن: ولاية إيداهو. معلم. نُبِذَ إلى الخارج؛ المبرّر: «متقوقع جداً في الحي النيويوركي Latin Quarter». بحث في ما بعد عن ملاذ وسلوى وسط أرواح شبيهة، خارج بلده. ثلاث وثلاثون سنة: بمدينة البندقية؛ بينما كان يسمن بدنه بنظام غذائي أساسه بطاطا، نشر A Lume Spentoi، ديوانه الأول. عنه نشأت صداقة عنيفة مع ييتس، الذي كتب بصدده: «طبع منهمك بالصقل والمعاندة، يصدم دوماً أحاسيس الآخرين؛ لكنه يتوفّر، في ظني، على بعض عبقرية وحسن نية معتبرة».
———————–
ترومان كابوتي: عزرا باوند *
ترجمة رشيد وحتي
الميلاد: 1885. الموطن: ولاية إيداهو. معلم. نُبِذَ إلى الخارج؛ المبرّر: «متقوقع جداً في الحي النيويوركي Latin Quarter». بحث في ما بعد عن ملاذ وسلوى وسط أرواح شبيهة، خارج بلده. ثلاث وثلاثون سنة: بمدينة البندقية؛ بينما كان يسمن بدنه بنظام غذائي أساسه بطاطا، نشر A Lume Spentoi، ديوانه الأول.
عزرا باوند
عنه نشأت صداقة عنيفة مع ييتس، الذي كتب بصدده: «طبع منهمك بالصقل والمعاندة، يصدم دوماً أحاسيس الآخرين؛ لكنه يتوفّر، في ظني، على بعض عبقرية وحسن نية معتبرة». حسن النية؟ هذا أقل ما يمكن أن يقال! بين 1909 و1920، عندما كان يقيم في لندن ثم في باريس، جعل من نفسه بشير حروب أمجاد الآخرين. فلباوند أهدى ت. س. إليوت «الأرض اليباب». باوند هو من تدبر لجويس استكمال عوليس. سخاؤه في هذا الجانب نقطة شهد بها بالذات همنغواي ــ الذي نادراً ما يحتفي بعطاء الآخرين ــ هكذا: «حالياً، كتب همنغواي (بيد أنه كتب هذا في 1925)، لدينا، من خلال باوند، شاعر رئيس كرس للشعر، لنقلها، خمس وقته. بما تبقى من هذا الوقت، يكد باوند لتعزيز الحظوظ، المادية كما الفنية، لأصدقائه. يدافع عنهم حين يهاجمون؛ يدخلهم إلى مجلات، أو يخرجهم من سجون. يقرضهم مالاً. يبيع صورهم. ينظم لهم حفلات موسيقية. يكتب عنهم مقالات. يقدمهم لنساء ثريات (راعيات آداب وفنون). يحض ناشرين على أخذ كتبهم. يسهر طوال الليل عند أسرتهم عندما يزعمون أنهم يحتضرون، ويتطوّع مسبقاً كمنفذ لوصياتهم. يدفع لهم مقدم حساب على نفقات المشفى ويثنيهم عن الانتحار. ولكن بعضهم لا يتوانى، في آخر المطاف، عن طعنه في الظهر، كلما سنحت له الفرصة».
توفّق باوند، رغم ذلك، في نشر هجائياته بشكل منتظم، في الإرعاد بأناشيده («الأوديسة المدهشة لأديب»، هكذا عرفت ماريان مور هذه القصائد، في دليل جديد على دقتها)، في تكريس الجهود، للنحت والتشكيل، جهود لا شك في أنها مخيبة، لكنها، بالنسبة له، مهمة. مع ذلك، ما صار، شيئاً فشيئاً، العنصر الأكثر «جذباً» له، من بين كل مواضيع اهتمامه، هو دراسة الاقتصاد. («بوسع كل تاريخ يغفل الاقتصاد أن يركن للسبات») عمّق في هذا المضمار أطروحات غريبة، كان بعضها ماحقاً له. في 1939، كناطق مفوّه بالإيطالية وممالئ لموسوليني منذ أمد طويل، شرع في صوغ مسلسل خطابات ذات روح فاشية على موجات راديو روما. ما جعله موضع اتهام كخائن لبلده. خلال توغلها في إيطاليا، توفقت وحدات أميركية أخيراً في وضع يدها عليه في 1945. خلال أسابيع عديدة، ومثل دابة جربة في قفص حديقة حيوان، تم سجنه في بييزا في قفص في الهواء الطلق.
شهوراً بعد ذلك، غداة تقديمه للمحاكمة بتهمة الخيانة، قرر بأنه «معتوه» ـــ مثلما يكون كل شاعر في كامل قدراته الدماغية كفنان ــ وهكذا أمضى اثني عشر عاماً، حبيساً بعيداً عن الجميع، في مارستان القديسة إليزابث، في ولاية كولومبيا. هناك رتل على النزلاء أناشيده البيزية. عمل تقلد به جائزة بولنغن، كتشريف مجيد انتقد بتجريح في بعض الأوساط النفورة.
وذات يوم مطير من نيسان (أبريل) 1958، قدم باوند، الهرم ذو الاثنين وسبعين حولاً، بلحيته التي اشتعلت وترمّدت منذ أمد قريب، بوجه نصف إله قديس اختطته الأخاديد الملخصة بجلاء لقصته المؤسفة، أمام قاض يدعى بوليتا ج. لاوس وتلي عليه الحكم بأنه «معتوه لا شفاء يرجى له». لا شفاء يرجى له، لكنه غير ضار «بشكل يبعث على الاطمئنان»، ما يسمح بإطلاق سراحه. ليعلن فوراً: «كل رجل يستطيع العيش في الولايات المتحدة معتوه»، وليجمع متعجّلاً حقيبته من أجل العودة إلى إيطاليا.
أياماً قبل أن يستقل الباخرة، أخذت له صور: متعجرفاً، هازئاً، مطبقاً عينيه إلى حد الانغلاق الكامل، بينما كان يطلق في الهواء أنفاس أناشيد لا معنى لها، كان يمشي طولاً وعرضاً كما لو كان يخطو مرة أخرى في قفص بـييزا؛ قفص صار الحياة ذاتها.
«الكلاب تنبح: شخصيات عامة وأمكنة خاصة» ــــ 1951-1973، غاليمار، 1977).
———————–
النشيد الأول (ثلاثة مقاطع)
كأنه، بشموخه المهتاج وفوضى ملابسه، خارج للتوّ من نكبة زلزالية. عزرا باوند، شاعر «الأناشيد» الهائل، باندفاعه البدائي العاري، وصرخته الفالقة للزمن، وامتداده المطاول لقامات الآلهة الإغريقية. عزرا باوند، البهيم الذي اجترح رؤيا أخرى للفردوس، والرجيم الذي انجرف ذات ليل في وهدة ممالأة الفاشية فآل به الأمر إلى الزجّ به من طرف أميركا المنتصرة في مشفى عقلي، وعزرا باوند ابن هوميروس المبحر في أعالي بحار الذاكرة، والمتوغّل بروحه الوثنية في غابات الرموز والأساطير والعوالم الصينية والمتاهات الاقتصادية والفراديس القديمة بنفس القلب المشتعل الذي كتب به هذه الوصية الذهبية: «ما تحبه حقاً يبقى وما عداه حثالة/ ما تحبه حقاً لن ينهب منك/ ما تحبه حقاً هو ميراثك الأكيد…».
تقديم وترجمة محمد الشركي *
ثم هبطنا إلى المركب،
وضعنا الوتد على مكاسر الموج، مباشرة فوق البحر الإلهي،
ورفعنا الصاري والشراع فوق تلك السفينة السوداء،
حملنا الأغنام، وكذلك أنفسنا
مثقلين بالدموع، ومن الخلف
دفعتنا الرياح تحت الشراع المنتفخ
الذي نسجته سيرسي، الإلهة المغرمة.
وبعد أن جلسنا وسط المركب ذي الدفة المحصورة بالريح،
والشراع منتفخ، أبحرنا إلى أن شارف النهار على الرحيل،
آذنت الشمس بالمغيب، وخيّمت الظلال على أرجاء المحيط،
وصلنا إلى تخوم الأغوار الكبرى،
بلد الكيميريين، شعب تلك المدن
المغطاة بضباب كثيف لا تخترقه
الشمس الوهّاجة أبداً
[..]
وبعد انحسار المحيط، وصلنا أخيراً إلى المكان
الذي أشارت إليه سيرسي،
هناك تمت الشعائر، رفقة بيريميد وأوريلوك،
استللت السيف من خصري
وحفرت الحفرة الصغيرة المربعة بطول ذراع؛
سكبنا الخمور لكل واحد من الموتى،
بدأنا بنبيذ العسل، وأعقبناه بخمرة معتدلة، وبالماء المخلوط بالدقيق الأبيض.
ثم تلوت أدعية عديدة لتلك الرؤوس المعطوبة الراحلة؛
وكما نفعل في إيثاكا، ضحّينا بأجود الثيران العقيمة،
جمعنا القرابين فوق المحرقة،
وقدّمنا حملاً لتيرزياس بمفرده، ودابة مجلجلة.
سال الدم القاتم في الحفرة،
فخرجت الأرواح من مراصدها، أرواح فقدى جثمانيين، وعقيلات وأطفال وشيوخ برح بهم الألم؛
أرواح مبلّلة بدموع قريبة العهد، فتيات مرهفات،
جمهرة من الرجال المثخنين ببرونز الرماح،
جثث معارك لا تزال تحمل أسلحتها المضرجة بالدم،
تحلق حولي ذلك الحشد؛ وتعالى الصراخ،
امتقعت، وطالبت رجالي بالمزيد من الأضاحي،
[..]
لكن في البداية جاء ألبينور، صديقنا ألبينور،
الذي لم يدفن بعد، وبقي ممدّداً على البطحاء،
كانت أعضاؤه قد ظلت تحت سقف سيرسي،
دونما بكاء أو قبر، لأن مهامّ أخرى كانت أكثر استعجالاً.
كان حقيقاً بالرثاء. فهتفت بهذه الكلمات العجلى:
«يا ألبينور، كيف وصلت حتى هذا الساحل المعتم؟
هل جئته راجلاً فسبقت طاقم السفينة؟»
فرد بصوت جهوري:
«القدر وغزارة الخمور. كنت نائماً عند سيرسي، في ركن النار.
وحين كنت أهبط السلم الطويل دون احتراس
سقطت على دعامة المبنى،
دقّ عنقي، وفاضت روحي.
لكن أنت، أيها الملك المنان، لا تنسني، دون بكاء أو جنازة،
اجمع أسلحتي، وشيّد قبراً على الساحل الرملي، واكتب:
«رجل تعيس اسمه سيأتي»
واغرز المجداف الذي كنت أحرّكه بين رفاقي».
ثم جاء آنتيكلي فنحّيته، وأعقبه تيرزياس ابن طيبة
ممسكاً بعصاه الذهبية، فتعرّف إليّ وبادرني:
«مرّة أخرى؟ لماذا؟ أنت المولود بطالع سيّئ،
ترى الموتى المحرومين من الشمس وهذه المنطقة العديمة البهجة؟
تنحّ عن الحفرة، ودعني إذن أشرب الدم
وأتنبأ».
تراجعت،
وهو، بعد أن تقوّى بذلك الدم، قال: «سيعود
عوليس رغم نپتون الحقود، فوق البحار القائمة،
وسيفقد كل رفاقه».
[…]
* شاعر ومترجم مغربي/ الرباط.
———————–
آنَسْتُ ريحاً خفيفةً بينَ أصابعي/ عزرا باوند
اختيار وترجمة تحسين الخطيب (*)
طيفُ/ تلكَ الوجوهِ/ في الزّحامِ: بتَلاتٌ/ على غصنٍ أسودَ، رَطْبٍ.
■ ■ ■
وليستِ الأيّامُ/ تكفي/ لا/ ولا حتّى اللّيالي/ تَمْلُصُ الحياةُ/ كفأرِ حَقْلٍ/ فلا عشبَ يهتز.
■ ■ ■
أميركا مصحّةُ مجانين.
■ ■ ■
لطالما آمنتُ بأنّني قد عرفتُ شيئاً. بَيْدَ أنّني أدركتُ، ذاتَ يومٍ غريبٍ، بأنّني لم أعرف أيَّ شيءٍ، أَجَلْ، لم أعرف أيَّ شيءٍ البتّةَ. صارتِ الكلماتُ عقيمةً. لقد تأخّرتُ كثيراً في الوصولِ إلى الشكِّ المُطلَق.
■ ■ ■
حينَ تكُفُّ الكلماتُ عنِ التشبُّثِ بالأشياءِ، تسقطُ الممالكُ، وتنحطُّ الإمبراطوريّاتُ وتَفنى.
■ ■ ■
لَمْ أَدخُلِ الصّمتَ. قبضَ عليَّ الصّمتُ.
■ ■ ■
آنَسْتُ ريحاً خفيفةً/ تهبُّ/ متماوجةً/ بينَ أصابعي.
■ ■ ■
العبقريّةُ… أن تكونَ قادراً على رؤيةِ عشرةِ أشياءٍ في الوقتِ الذي لا يَرى فيهِ العاديُّونَ إلّا شيئاً واحداً، فحسبُ.
■ ■ ■
تكنيكُ العارِ أن تُروِّجَ لكذبتينِ، في الوقتِ ذاتهِ، ثمّ تجعلُ النّاسَ يتجادلونَ، بحماسةٍ، أيّهما الحَقُّ.
■ ■ ■
الشِّعْرُ هُوَ ٱللّغةُ وقَد تعرَّتْ حتّى تَجَلَّتْ أركانُها.
■ ■ ■
لا بُدَّ أن يقتصرَ التّعليمُ الحقيقيُّ على الذينَ يُلِّحون في طلبِ المعرفةِ؛ أمّا بقيّةُ (التّعليمِ) فَرَعْيُ أغنامٍ.
■ ■ ■
تُعرَّفُ الديمقراطيّةُ في أوروبّا الآنَ بوصفها «البَلد الذي يديرهُ اليهودُ».
■ ■ ■
كانتِ الحروبُ تُخَاضُ، في الأزمنةِ الغابرةِ، لِأَسرِ العبيدِ. الوسيلةُ الحديثةُ لفرضِ العبوديّةِ هي الدّيُون.
■ ■ ■
إمّا أن تتحرّكَ أوْ تُحرَّك.
■ ■ ■
لِمَ تحاربُ مُنضوياً تحت رايةٍ ما، وأنتَ قادرٌ على شراءِ واحدةٍ بِنِكْلَةٍ.
■ ■ ■
المعبدُ مُقدَّسٌ، لأنّه ليسَ للبيع.
■ ■ ■
واجبُ الفنّانِ أن يجعلَ الإنسانيّةَ واعيةً بذاتِها.
■ ■ ■
لم أعرف أحداً قَطُّ يستحقُّ اللَّعْنَ إلا وكَانَ نَزِقاً سريعَ الغضب.
■ ■ ■
المعضلة الحقيقيّةُ للحربِ (الحربِ المعاصرة) أنّها لا تمنحُ أحداً الفرصةَ لِقَتْلِ النّاسِ المُناسبين.
■ ■ ■
وُجدَتِ الحربُ لِتُرهقَنا بالدّيون.
■ ■ ■
لا بُدَّ للفنّانِ المعاصرِ أن يحيا بالصَّنْعةِ (الفنيّةِ) والعُنْف. فآلهته آلهةٌ عنيفةٌ.
■ ■ ■
لعلَّ عصرَ الأدب العظيمِ هُوَ دائمًا عصرُ الترجماتِ العظيمة.
■ ■ ■
مفهومُ أنّ العبقريّةَ مرادفةٌ للجنونِ صنيعُ عُقدةِ النّقصِ لدى الجماهيرِ.
■ ■ ■
الشِّعرُ نوعٌ مِنَ الرّياضيّاتِ المُلهَمة التي تمنحنا معادلاتٍ ليستْ للأشياء المُجرَّدةِ، والمثلّثاتِ، والمربّعاتِ، وما شابَهها، وإنّما للعواطفِ الإنسانيّةِ. فَلَوِ اِمتلكَ المرءُ عقلاً يَخْلَدُ إلى السّحرِ بدلاً من العلمِ، فإنّه سوفَ يُهَمِهِمُ بِهذهِ المعادلاتِ كأنّها رقىً أو تمائمُ؛ كأنّ الأمرَ سريٌّ، غامضٌ، وملتبس.
■ ■ ■
حين يخشى المرءُ المجازفةَ، جهراً، بآرائهِ؛ فَإمّا عقيمةٌ هذه الآراءُ، أو — لعَمْري—عقيمٌ هُوَ.
■ ■ ■
الأدبُ هُوَ الأخبارُ إذْ تظلُّ أخباراً.
■ ■ ■
سينتهي فنّ الأدب قبل سنةِ ألفينِ بعدَ الميلادِ. سأنجو بوصفيَ شيئًا نادراً.
■ ■ ■
وأمّا بالنسبة إلى هذه المسألة، فعادةً ما يجلسُ القارئُ الضّعيفُ القلبِ في الطريقِ، يخلعَ نعليهِ ويبكي لأنّه «لُغويٌّ سيّئٌ» أو لأنّه غير قادرٍ على تعلّمِ كلّ تلكَ اللّغاتِ. على المرءِ أن يُفرّقَ بين القرّاءِ الذين يرغبونَ في أن يصبحوا خبراءَ وبينَ أولئك الذينَ لا يودّونَ ذلك؛ وأن يُفرّقَ، كما هي الحال دوماً، بينَ أولئك الذين يريدونَ رؤيةَ العالَمِ وبين أولئك الذين لا يرغبونَ إلّا في معرفةِ أيّ بُقعةٍ من العالَم يعيشونَ فيها.
■ ■ ■
للعبقريِّ الحَقُّ في أيِّ طريقةٍ في التّعبير.
■ ■ ■
أظنُّ بأنّ تعريفَ المجنونِ هو الإنسانُ الذي يحيطُ بهِ المجانينُ.
■ ■ ■
لا أحدَ يفهمُ كتاباً عميقاً حتّى يكونَ على الأقلِّ قد أبصرَ بعضَ ما فيهِ وعاشَهُ.
■ ■ ■
الصّورةُ أكثرُ مِن (مُجرّدِ) فكرةٍ. إنّها دوّامةٌ أو عنقودُ أفكارٍ منصهرةٍ، تحبلُ بالطّاقةِ.
■ ■ ■
الكتّابُ الجيّدونَ هم أولئك الذين يُبقونَ اللغةَ فعّالةً. بعبارة أخرى: يُبقونَها دقيقةً، يُبقونَها واضحة.
■ ■ ■
تضعفُ الموسيقى حينَ تبتعدُ كثيراً عن الرّقصِ.. ويَضمُرُ الشِّعرُ حينَ يبتعدُ كثيراً عن الموسيقى.
■ ■ ■
على الشِّعرِ أن يُحكَمَ في الكتابةِ كما يُحكَمُ النّثر
(*) شاعر ومترجم فلسطيني/ عمان.
——————–
رسالتان
ترجمة محمد ناصر الدين
حول تعريف الشعر (مقتطَف)
الشعر يجب أن يُكتَب نثراً. لغته يجب أن تكون أنيقة، وألا تفرّقه عمّا نحفظه من الكلام كثافة عالية. يجب ألا تكون فيه كلمات متحذلقة، ولا إطناب، ولا قلب للغة. يجب أن يكون في غاية السهولة مثل أفضل نثر لِدُو مُوپَاسَّانْ، وبغاية الصعوبة كنثر سْتَنْدَالْ.
يجب ألا يتضمن ملاحظات اعتراضية، لا كلمات تحوم من أجل لا شيء. إنه لمن الأكيد أن من يكتب الشعر لا يمكنه أن يحصل على الكمال في كل محاولة، لكن هذا ما يجب أن يكون مبتغاه.
الإيقاع يجب أن يكون ذا معنى. لا يمكنه أن يكون مجرد وثبة، من دون تماسك أو سند حقيقي للكلمات والمعنى، من قبيل: Tumty Tum Tumty Tum Ta.
يجب أن لا يتضمن الشعرُ الكليشيهات، والتعابير المضبوطة، والنمطيات والكتابة الصحافية. الخلاص الوحيد مِمَّا سبق هو بالدقّة، التي هي نتيجة الانتباه المكثّف للمرء عما يكتبه. الاختبار بالنسبة إلى الكاتب هو قابليته لهذا التركيز وقدرته على البقاء على تركيزه حتى يصل إلى نهاية قصيدته، سواء أكانت من سطرين أم من مئتي سطر.
الموضوعية وأيضاً الموضوعية والتعبير: لا إدراك مسبق أو متأخر، لا نعوت مزدوجة (مثل الطحالب الغبية شديدة الرطوبة)، لا أسلوب خطاب تينيسونi، لا شيء — لا شيء مما لا يمكنك قوله في ظروف معينة، وتحت ضغط انفعال ما. أي تنميق، أي كلمات متحذلقة ستبدد قسماً من صبر القارئ، قسماً من إحساسه بجديتك. حين يحسّ الشاعر بحق ويفكر، فإنه عادة ما يتلعثم بخطاب بسيط؛ فقط في الفورة الضحلة والحماسة السطحية للكتابة أو في الإدمان على الوزن يسقط الشاعر في الخطاب السهل، سهل، — آه كم هو سهل — للكتب والقصائد التي كان قد قرأها.
اللغة مكوّنة من أشياء محسوسة. العبارات العامة المنسكبة في مفردات غير حسية هي نوع من الكسل. إنها ثرثرة، وليست بالفن، إنها ليست بالخلق. إنها نوع من مقاومة الأشياء للكاتب، وليس فعل خلق من قبل الكاتب.
«الصفات» هي نوع من التجريد — أعني ما يسمونه بـ «الصفات» في كتب الشعر. إن النعت الوحيد المناسب للاستعمال هو النعت الأساسي لمعنى المقطع الشعري، لا النعت المزخرف المرصّع.
كنت آمل أن أرى مقداراً أكبر من القساوة السوفوكليسيةii في ما تطمح إليه قطعة (أصدقائي وزملائيMes amis et confreres). إن الضعف العام في المدرسة الجديدة ينبثق من الضياع، وغياب البناء الإيقاعي والكثافة.
(الرسالة مؤرّخة بشهر مارس 1916، ومقتطعة من أعمال عزرا باوند الشعرية والنثرية، منشورات غارلاند، نيويورك 1991.)
نصيحة إلى شاعر شاب
الرسالة التالية يمكنها أن تهم العديد من الشعراء الطامحين: الجملة الافتتاحية في كرّاستك تظهر نوعاً من الجهالة المُزرية بأعمال هوميروس، فيلون وكاتولوس… إن لم نذكر من هم أقل بريقاً مثل دانتي، غوتييه، كاڤاكانتي، لي بو، عمر الخيّام، كوربيير، أو حتى شكسبير (كي نضرب مثالاً مألوفاً). أنت بداهةً جاهل مثل حامiii بالنثر والشعر معاً. توحي بأنك لم تقرأ قَط. ستندال، فيلدينغ، فلوبير، برانتوم — ما الذي قرأتَه أو درسته على أية حال؟
كيف تتوقع أن تجعل نفسك مثار اهتمام أناس ممن طرقوا أدمغتهم بشدة بهذا النوع من الأشياء؟ وكذلك بالنسبة إلى ما يسمى «معرفة القلب الإنسان»؟ إن الأمر يتطلب الذكاء وكذلك الحدس.
إن كانت معرفتك ازدادت بما قد تم إنجازه قبلاً، فلا تتوقع أن يقع الناس قَبلك في عبادة ما تعتبِرُه أنت «توليفاتٍ جديدة وزاهية»، بل ممن يعتبره البشر الأكثر تمرّساً بالقراءة مبتذلاً وتافهاً.
أنت تبدأ النص بأُعطيَة معينة، نوع من الزخرفة المنفَعلة، بوَلَد في جدار من الطوب، أو انطباعات تبثّها الروائح، وهلمّ جرّاً. كل هذا جيد جداً، كل هذا جميل جداً، لكن بالله عليك ما هو الشيء الذي تعي أو تشعر أننا لم نعه أو نعرفه نحن من قبل؟ على أية قاعدة تستند لتثير اهتمامنا؟
هناك الكثير من هذه الزخرفة عند سپنسر وتاسو، إلى آخره، إلى آخره. في فرنسا في النصف الثاني من القرن الماضي، 1850-1900، وعلى نحو ذلك. ولقد تشبّعنا بذلك.
لو كان بمقدورك أن تقنع نفسك بأن تقرأ شيئاً ما، لو كان بمقدورك أن تقنع نفسك بأن تعثر على القليل من الفن الذي تقاربه… يحتمل أن تُرسل لي بعد سنوات خمس شيئاً مثيراً للاهتمام.
أن تكون معجباً بالكثير من الأشياء الجيدة لا يميزك عن 500000 من الناس، من الرسامين الانطباعيين الشبان من مقلّدي مونيه الرديئين، إلى آخره، إلى آخره.
لويس، جويس، إليوت، كلهم أعطوني شيئاً ما لم أكن لأجده في نفسي.
لن تطوّر فَنك برفضك الاعتراف أنك في الرابعة والعشرين لم تدهش العالم إعجاباً بمواهبك. أنت ببساطة لم تبدأ بالعملية التي يصقل بها ذوو الأمزجة الخاصة أنفسهم إلى فنانين (أو إلى لا شيء، تبعاً للقابلية الداخلية للصقل في المادة الشخصية).
يمكنك البدء بـ «الفن الشعري» لأرسطو، أو بـ «حول الجليل» للونجينوس، أو «البلاغة العامية» لدانتي، الملاحظات المتفرقة لكولريدج ودي كوينسي، والكتابات النقدية في الحقبة الإليزابيثية لن تضرك في شيء. يجب عليك أن تعلّم نفسك، كما تم ذكره سابقاً، في النثر والشعر. لأن المولودين في أميركا كانوا دوماً كسالى بحيث لم يأخذوا بالخطوات السابقة، فإننا بالكاد نعثر في كتاباتهم على شيء ذي قيمة.
أن نجيد فناً ما لا يعني أن نغشّ الناس. العمل يثبت جودة الفن ولا بديل عنه. أن نحمل هذه النظرية أو تلك لا يساعد البتة أحدنا في تخطي عثرة ما، إلى آخره، إلى آخره. لقد ذهب الشعر إلى الأسلوبية، واللمعات الذهنية، في فترات عدة، وإلى المفردات الغريبة، والاستعارات المتوترة والتشبيهات. نعي بغاية الكمال كل ذلك. في عمر العشرين، اقترفتُ نفس التعميمات الحمقاء في حق المسيحية وجمالياتها، وهو ما تقترفه أنت الآن في حق الشعر.
عزرا باوند، ديسمبر 1917
(من رسالة إلي ماكسويل بودنهايم: أعمال عزرا باوند الكاملة، منشورات غارلاند، نيويورك، 1991).
ملحق كلمات
—————————
==========================