مِن “خان الزجاج” في دمشق… مَن خانَ الزجاج؟/ زين خزام
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها “مشغل أبو أحمد لصناعة الزجاج اليدوي”. سبق وزرته في بدايات العام 2019، بعدما هدأت حدة المعارك بالقرب من منطقة “الإحدى عشرية”، خارج سور دمشق القديمة، ومقابل “باب شرقي”، حيث يقع.
استقبلني يومها رجل سبعيني يلف قطعة من القماش القطني على رأسه، عرفت لاحقاً أن اسمه العم “أبو محمود” وأنه الابن الأكبر لمؤسس هذا المشغل، الذي ورث حرفة الزجاج اليدوي عن جده.
خلال زيارتي الأولى، أثارت استغرابي بعض التفاصيل، فالخان، كما رأيته، كان يشبه إلى حد كبير موقع تصوير مهجور لفيلم انتهى تصويره منذ زمن طويل، ولم يبق فيه إلا بعض الرجال كبار السن الذين يحرسونه. هنالك بعض العلامات التي تدل على أنه كان ثمة حياة في هذا المكان سابقاً، أما الآن فأول ما يمكنك ملاحظته هو الغبار الذي يغطي قطعاً زجاجية جميلة مكدسة في الخزائن بلا مشترين، وأفران آجرية باردة، إضافةً إلى وجود أكبر مكب للنفايات في مدينة دمشق، ملاصقاً للخان.
كل هذا لم يخفف من دهشتي عندما رأيت للمرة الأولى كيف تتحول كتلة ملتهبة من النار إلى مزهرية رقيقة وشفافة.
بعد حوالي عام من زيارتي الماضية، أقصد الخان مرة أخرى، لكن كصحافية. ما أن دخلت وعرّفت عن نفسي حتى بدأ العم أبو محمود، أحمد الحلاق، شيخ كار (أي كبير حرفيين) الزجاج اليدوي، بالكلام. “يبدو أنهم معتادون على زيارات الصحافيين”، قلت في نفسي، فالصحافيون في العرف السوري هم إما مصدر للخوف والريبة، أو آذان (قد) تكون صاغية للشكاوى الخدمية.
الفرن المطفأ نذير شؤم
يبدأ أبو محمود حديثه باستعراض المشاكل التي بدأت مع اندلاع الحرب في سوريا ولم تنته حتى اليوم، ويتنقل بسلاسة من موضوع هجرة اليد العاملة وندرتها، إلى موضوع عدم توافر مادة المازوت اللازمة لإشعال الفرن، رغم وعود حكومية بتوفيره لأصحاب الحرف بالسعر المدعوم، وهو 270 ليرة سورية لليتر الواحد (أي حوالي ربع دولار أمريكي). يقول: “هذا الفرن من المفترض أن يعمل ليل نهار على مدى ستة أشهر. الفرن المطفأ نذير شؤم، وها نحن نعيش معه منذ أشهر”.
ويُفسر الرجل عدم قدرتهم على شراء المازوت بشكل حر (بسعر 400 ليرة لليتر الواحد)، بأن المردود لن يغطي التكاليف ولا حتى جزءاً يسيراً منها، فالفرن مصمم كي يعمل بشكل متواصل لمدة ستة أشهر، ويحتاج إلى 160 ليتر مازوت كل 24 ساعة حيث ينتج بين 100-200 قطعة، بحسب حجم القطعة ونوعها وشكلها.
بحسبة بسيطة نستنتج أن استهلاك الفرن سيتجاوز 64000 ليرة سورية في اليوم الواحد، وهذا مبلغ لا يمكنهم تغطيته، في ظل طلب شبه معدوم على التحف الزجاجية.
فالسوق الخارجية لم تعد متاحة بسبب صعوبات الشحن وتكاليفه المرتفعة، إضافة إلى وجود مشاكل تتعلق بتحويل أي مبلغ مالي من خارج سوريا إلى داخلها، بسبب العقوبات المفروضة على البلاد، وعدم استقرار سعر الصرف.
لا يختلف الحال كثيراً بالنسبة إلى السوق الداخلية، فبعد الأحداث التي مرت بها البلاد، وتناقص عدد السياح في دمشق إلى حد كبير، أصبحت الحرف اليدوية ومنتجاتها بالنسبة إلى المستهلك السوري مجرد كماليات.
يضيف أبو محمود: “كان هنالك قانون يجبر التجار على تغطية 60% من احتياجات السوق بالبضائع المصنعة محلياً، وكان هذا القانون ساري المفعول قبل عام 2011، لذلك كنت ترى الزجاج الدمشقي اليدوي في الكثير من المطاعم والفنادق والمنشآت السياحية، أما الآن فقد تغيرت الأوضاع. لم يعد القانون مفعلاً، كما أن القدرة الشرائية للسوريين تدهورت إلى حد كبير، مَن الذي سيدفع ثمن كأس شاي من الزجاج اليدوي يعادل ثمن دزينة من الكؤوس الزجاجية المستوردة من الصين؟ حتى أنا في منزلي صرت أستخدم الكؤوس التجارية المستوردة بسبب سعرها المنخفض”.
في هذه الأثناء يسكب لي أبو محمود شاياً ساخناً في كأس من الزجاج اليدوي، يتنهد، ويقول لي وكأنه يبوح بسر: “قبل الحرب كانت الحالة ميسورة والحمد لله، أما الآن فالحالة أقل من وسط. لم يعد هنالك طبقة وسطى في سوريا”.
دونكيشوت دمشقي آخر
يأخذني أبو محمود في جولة بين أقسام المشغل. ما أن يبدأ باستعراض التحف الزجاجية حتى يشرق وجهه بابتسامة لم تكن موجودة عندما كان يتحدث عن مشاكله. يحكي لي أن الفينيقيين هم الذين اكتشفوا أن تفاعل النار مع الرمل والنيترات يعطي المادة الأولية للزجاج، وذلك في الألف الخامس قبل الميلاد، وأن الدمشقيين هم أول من نفخ عجينة الزجاج الملتهبة في العالم، قبل حوالي ألفي عام.
ويتابع: “عام 2012 قصدتني امرأة محترمة وذات شأن من لبنان، وطلبت مني أن أرافقها إلى صور، حيث ستفتتح منشأة سياحية تضم معامل للحرف اليدوية التي يشتهر بها حوض البحر الأبيض المتوسط. عرضت عليّ مبلغاً جيداً من المال، وأطلعتني على صور مبهرة للمنشأة، وقالت إن لديهم رغبة في أن أفتتح القسم الخاص بصناعة الزجاج اليدوي، أن أبني لهم الفرن وأشرف على نقل أسرار هذه الحرفة إلى جيل جديد من الحرفيين”.
يضيف بفخر: “في البداية تحمست كثيراً، لكنني رفضت في ما بعد، فقد اشترطت الجهة الممولة عليّ أن أقول إن أصل هذه الحرفة هي منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، دون تحديد، لكنني وجدت في ذلك خيانة لتراث أجدادي. نفخ الزجاج بدأ في دمشق، ومنها انتقل إلى مدن أخرى كالخليل والقدس وصور”.
ندخل إلى غرفة مضاءة بشكل جيد يجلس فيها أخواه الأصغر منه، أحدهما يضم كرات الزجاج الصغيرة إلى بعضها ليصنع منها ثريا تشبه عنقود العنب. يقول لي إن هذه الثريات مشهورة في دمشق وأن الجامع الأموي يحتوي على قطع منها بأحجام كبيرة.
الأخ الثاني يزين صحناً من الزجاج بالخرز الناعم الملون. يقول لي إنه من قلة الشغل صار لديه وقت كاف كي يبتكر موديلات جديدة. يعمل الأخوان بصمت وتركيز، كأنهما يمارسان نوعاً من أنواع التأمل.
أحلام كبيرة؟
في نهاية جولتنا نقف أمام باب المشغل الخارجي. أنا، أبو محمود، ابنه وحفيده الذي يحمل اسمه. يأخذ الحفيد رقم هاتفي كي يرسل لي على “واتساب” صوراً وفيديوهات صورها هو بنفسه لجده أثناء عمله، ويوصيني بأن أتابعهم على صفحة المشغل على فيسبوك، فرغم أنه لم يأخذ المهنة عن أبيه وجده، إلا أنه يعمل على الترويج للمصنوعات الزجاجية عبر فيسبوك.
لا يخفي العم أبو محمود خشيته من اندثار حرفته التي ورثها عن أجداده وتعلق بها، لكنه يصر على التمسك بآخر ذرة من الأمل. قبل أن أغادر يطلب مني زيارتهم في الربيع القادم، كي أرى الورود التي سيزرعها أمام الباب الرئيسي.
رصيف 22