«ثلاثية الحياة» لبيير باولو بازوليني… حكايات شعبية من ثلاث ثقافات/ سليم البيك
في الخامس من مارس/آذار، سنمر بالذكرى الثامنة والتسعين لولادة أحد أكثر المخرجين في تاريخ السينما تحريضاً واستثارة، هو الإيطالي الشاعر كما هو السينمائي بيير باولو بازوليني 1922 – 1975، صاحب التباينات في مواضيعه السينمائية، شكلاً، لتكون المواضيع ذاتها، متماثلة بأبَعادها، ما خلف الصورة المباشَرة. نقول في ذلك -مثلاً- إن «ثلاثية الحياة» هي راهنة سياسية أكثر من كونها حكايات خرافية.
هذه المناسبة وغيرها، كأن يمر نصف قرن على بدئه تصوير ثلاثيته هذه، بعد أشهر، يحرضنا على العودة إليها، فيلماً فيلماً. وهي من المرحلة الأخيرة في حياته، إذ لم يلحقها غير فيلم «سالو أو مئة عام في سدوم»، Salò o le 120 giornate di Sodoma، عام 1075.
«الديكاميرون»
Il Decameron
1971
الفيلم الأول من «ثلاثية الحياة» لبازوليني، مبني على كتاب من القرون الوسطى (القرن الرابع عشر) بالعنوان نفسه للشاعر الإيطالي جيوڤاني بوكاتشيو، وهو كتاب مماثل في طبيعته للكتابيْن الآخريْن اللذين أخذ عنهما بازوليني الجزءين الآخرين من الثلاثية: «حكايات كانتربري» و«ألف ليلة وليلة»، حيث فيها جميعها حكايات شعبية منفصلة بأمكنتها وشخصياتها وقصصها.
هنا، اختار بازوليني ما رآه الأجمل في كتاب «الديكاميرون» وصورها في بيئتها، وكانت ثماني حكايات من بين مئة، واصلاً بخيط رفيع في ما بينها، قد تكون أهم ميزاته المباشرة هي الجنس والشباب والموت، وذلك بشكل لاذع يسخر من أكثر ما ميز تلك الحقبة، وهو الدين والعفة المكاذبة.
في الفيلم السياسي تماماً، نقدٌ للهيبوكريسي، أو الرياء الاجتماعي، الممتد من ذلك الزمن حتى اليوم، لكنه وقد خرج في بداية السبعينيات، يبقى جريئاً في طرحه وتصويره، ليس في ما يخص الدين، فقد تخطت السينما وغيرها من الفنون ذلك، بل في ما يخص العري، الجرأة في تصويره كماً ونوعا، وطرحه في سياق ديني، وقد اتهم بالبورنوغرافيا في حينه.
مكان الحكايات هو مدينة نابولي، في الأولى منها ينجح شاب (نينيتو داڤولي) في سرقة راهب في تابوته، بعدما اتفق مع رجليْن على السرقة وتركاه عالقاً في التابوت. في الثانية يعمل شاب جنائنيا لدى راهبات، ادعى أنه أصم وأبكم كي يقبلن به ويمارسن الجنس معه، تحرشن به كلهن ومارسن معه الجنس، إلى أن تكلم متمرداً قائلاً إنه أراد ذلك لكن لم يتوقعه إلى هذه الدرجة. في الثالثة تخون امرأة زوجها مع آخر، يعود الزوج إلى البيت فتختلق المرأة قصة تجعل الرجل يمارس الجنس معها بحضور زوجها، بدون معرفته. في الرابعة تاجر يكرس حياته للمعاصي، يمرض ويموت لكنه يُرقى كشهيد، في الخامسة تمارس فتاة الجنس مع شاب في بيتها، يراهما والداها لكن ولأن الشاب ابن عائلة غنية، يطلبون منه الزواج من ابنتهما. في السادسة تقيم فتاة علاقة مع شاب يعمل لدى إخوانها، يرونه خارجاً من غرفتها، فيستدرجونه ويقتلونه، تحلم بمكان قبره فتذهب وتقطع رأسه لتعود به إلى غرفتها وتخبئه في جرة تحت نبتة ريحان. في السابعة يقنع طبيب امرأة بإمكانية تحويلها إلى حصان وإرجاعها إلى امرأة بعدما تحرث أرض زوجها، لكنه يمارس الجنس معها أمام زوجها لضرورة ذلك، في الثامنة يتفق رجلان على أن يخبر من يموت أولاً الآخرَ عن الجنة والنار. في الأخيرة يؤدي بازوليني دور طالب لدى الفنان الإيطالي جيوتو يرسم جداريات للكنيسة.
جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان برلين السينمائي
«حكايات كانتربري»
I racconti di Canterbury
1972
الفيلم الثاني من «ثلاثية الحياة» لبازوليني، مبني على كتاب من القرون الوسطى بالعنوان نفسه للشاعر الإنكليزي جيوفري تشوسر، وهو كتاب مماثل في طبيعته للكتابيْن الآخريْن اللذيْن أخذ عنهما بازوليني الجزءيْن الآخريْن من الثلاثية: «الديكاميرون» و«ألف ليلة وليلة»، حيث فيها جميعها حكايات شعبية منفصلة بأمكنتها وشخصياتها وقصصها.
اختار بازوليني ثماني حكايات من أربع وعشرين حكاية من الكتاب، مماثلاً في الموضوعات بين جميع أجزاء الثلاثية، خاصة العري والجنس والموت. وفي هذا الفيلم، يذهب أبعد في تصوير الممارسة والأعضاء الجنسية، وكذلك مانحاً مساحة أوسع للجنس المثلي، العضو الذكري وشعر العانة الأنثوي ظهرا، كما لم يظهرا في فيلم سينمائي، بهذه القيمة، قبله. وقد وصل بازوليني إلى زمنه الذي صار فيه أشد جرأة وفضائحية، ونضجاً، في ما يتعلق «بالتجاوزات الأخلاقية»، وذلك كله في سياق هزلي وساخر.
صُور الفيلم في إنكلترا، وكباقي أفلام الثلاثية اعتمد على ممثلين هواة، أكثر من المحترفين، وببطولة صديقه نينيتو داڤولي، وأدى بازوليني نفسه دور تشوسر الذي نراه يفكر في ما سيكتبه بين حكاية وأخرى.
لم تخلُ أفلامه الثلاثة من البعد الاجتماعي لدى بازوليني، وهو الشيوعي وكذلك المثلي، ما أعطاه سببين لتكون للأفلام، وإن نُقلت عن نصوص قديمة، سياقاتٌ فيها الفقير الذي يتم حرقه بسبب ممارسة جنس مثلي، وآخر غني استطاع رشوة المحكمة. ليست الأفلام الثلاثة سياسية، وخاصة لما ينهي به تشوسر الفيلم: هنا تنتهي حكايات كانتربري، رُويت للمتعة في روايتها. إنما بكونها اجتماعية ناقدة وجريئة وجدالية، أمكن لها أن تشبه صاحبها الشاعر كما السينمائي، بازوليني.
الفيلم أقل بهجة من الفيلميْن الآخريْن، قد يعود ذلك لحضور الموت فيه أكثر من غيره، ما يمكن أن يضيق على الهزل أينما كنا، والفيلم ينتهي بمشهد في جهنم، تصوير بازوليني لها وللشياطين فيها، يعذبون الناس، أضاف إلى السوداوية في حكاياته التي، للتذكير، أتت هزلية، بمواقف كوميدية وسوداء.
في الحكاية الأولى يُصاب عجوز غني بالعمى، زوجته الشابة تخونه مع آخر، يراهما. في الثانية يحكم الشيطان على اثنيْن بالعقاب لممارستهما الجنس المثلي. في الثالثة يحاول شاب يذكر شكله وحركاته بتشارلي شابلن، أن يجد عملاً لكنه ينتهي محكوماً بالإعدام. في الرابعة يحاول شابان ممارسة الجنس مع زوجة نجار بخداعه بأن أحدهما متنبئ بفيضان، في الخامسة نرى امرأة تشتهي رجلاً، تتزوجه ولا يرضيها جنسياً، في السادسة ينام شابان في بيت أحدهم، يمارسان الجنس مع ابنته وزوجته وينكشف أمرهم، في السابعة ثلاثة شباب مشاغبون تكون لهم نهاية مأساوية، في الأخيرة راهب يرتكب معصية.
نال جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي
«ألف ليلة وليلة»
Il fiore delle Mille e una Notte
1974
الفيلم الثالث من «ثلاثية الحياة» لبازوليني، عنوانه بالإيطالية هو «وردة ألف ليلة وليلة»، ويُترجم أحياناً بـ«ليالٍ عربية». ليس للكتاب مؤلف واحد ولا منطقة جغرافية واحدة، لكن قصصه تراكمت وتطورت ضمن الخلافات الإسلامية. والفيلم مماثل في طبيعته للفيلميْن الآخريْن أعلاه، حيث فيها جميعها حكايات شعبية منفصلة بأمكنتها وشخصياتها وقصصها.
في أفلام الثلاثية، بدا بازوليني كأنه يقاوم الحداثة والمجتمع الاستهلاكي، ومابعد الرأسمالية، بدت الأفلام، ببساطة وسذاجة وطيبة شخصياتها، حتى الشريرة منها كانت ساذجة، بدت كأنها استعادة سينمائية للطبيعة البشرية وغرائزها، الجنس تحديداً، نائيةً عن تلوث المجتمع الحديث. وبازوليني، في الفيلم الثالث تحديداً، احتفى بالصبا، بالجمال الجسدي وبالعري وبالجنس البريء الضاحك، كأنه نقيض واحدة من أبرز تمثيلات الحداثة، وهي الموضة. والعري ليس في الجسد الفتي فقط، بل في الأمكنة، وقد صُور الفيلم في اليمن ونيبال وافريقيا، حيث الطبيعة ماتزال بعيدة عن باطون الحداثة ورمادية أبنيته. احتاج بازوليني إلى أمكنة كهذه لطبيعة الزمن الذي يصوره، لكنها آتية في سياق الحكايات حيث السذاجة في الأمكنة، كما هي في الشخصيات.
حافظ بازوليني على الأسلوب الحكائي لـ«ألف ليلة وليلة»، حيث تنبثق الحكايات عن بعضها، تتفرع واحدة عن أخرى وهكذا. بعدة رواة لكل منهم حكايته. وكان لا بد من السحر والأسطورة في الفيلم، كما هو في النص، بخلاف الفيلميْن السابقيْن حيث كان تصوير الأسطورة تهكماً على المعتقد الديني.
نور الدين يقع في حب عبدة اسمها زمرد، تطلب أن يشتريها هو، يتسبب بخطفها فيدور البلاد باحثاً عنها كالمجنون، لكنها تكون قد دبّرت هربها، تنكرت كرجل وصارت ملكاً، حكايات أخرى تتوالى، كآخر يقيم علاقة مع امرأة يوم زواجه، وآخر يسعى لإنقاذ فتاة من الشيطان، ثم نعود إلى نور الدين الذي يمكن بحثه عن عشيقته وعبدته، وكل ذلك في سياق إيروتيكي أو قريب (كالفيلميْن الآخريْن) من البورنوغرافيا، ودائماً الكوميديا.
إضافة إلى الأسماء العربية، هنالك غناء وكتابة عربيتان، وكان بازوليني حريصاً في أن يكون أي حضور عربي، كبيئة للحكاية والفيلم، دقيقاً وصحيحاً.
اختار بازوليني من الكتاب الحكايات الأكثر إيروتيكية وخرج لنا بفيلم بازوليني تماماً. نال الفيلم الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي.
٭ كاتب فلسطىني ـ سوريا
القدس العربي