الثقافة ومازوخيا السياسة المقدّسة/ علي حسن الفواز
عزلة الثقافي عن السياسي واحدة من أكثر «الانطواءات» التي مارسها العقل الثقافي، وتلذذ بها، بوصفها عزلة خلّاقة، ونأيا بالنفس عن رذائل المصالح، أو ـ ربما ـ تعاليا رمزيا لفكرة الروح أو الجوهر أو السحر، وهي افتراضات ميتافيزيقية لا تدخل إلا في سياق إشباع الغرائز، والنوايا التي ظل المثقف والحكيم والفيلسوف والصوفي يحملها، ويُبشّر بها كنوع من التطهير الفائق، لكن جوهر الأمر المسكوت عنه يكمن في تبرير الخوف، والركون للصمت، أو العزل بعيدا عن الاصطدام بالسلطة، التي تملك شرعة صناعة الخطاب السياسي، التي تحولت إلى ممارسة لاواعية، ورث المثقف العربي كثيرا من عاداتها..
الحديث عن السياسي لا يعني التعتيم على الثقافي، ولا عن دور المثقف في صناعة الظاهرة السياسية، بقطع النظر عن ما تحمله السياسة من نوايا ومصالح، فإن الحاجة إليها صارت ضرورية وفاعلة، وذات تعالقات، قد يمثل الثقافي بمعناه الأشمل جزءا مطرودا منها، إذ يكمن فعلها في التنظيم والتمكين، وفي صياغة القوة، فضلا عن طبيعة علاقتها العميقة والفاعلة بمفاصل الحياة الأخرى، فهي الوجه الصياني للبرامج والاستراتيجيات والمشاريع الكبرى، مثلما هي الفضاء العملياتي للاقتصاد، وللممارسة التداولية في الاجتماع. تغويل السياسي، وتعطيب توصيفاته ليس بعيدا عن تغويل السلطة العربية، التي ظلت رهينة بأشكال الحكم الاستبدادي، في حين ظل المثقف العربي هو المطارد المقدّس لأجهزة مخابراتها، ولحرّاس بواباتها العقائدية والأمنية وحتى الإعلامية، ورغم أنّ الجميع يجد في الحديث عن العلاقات الملتبسة بين الثقافي والسياسي نوعا من الرومانسية، وتماهيا مع فكرة صناعة القوة المضادة، إلّا أنّ الثقافي العربي يظل أقل طموحا وشغفا بالاقتراب من السياسي، ربما خوفا، أو هروبا، أو خشية أنْ يفقد المثقف أوهامه الكبيرة وسردياته الأكبر لصالح واقعية السلطة التي يمثلها السياسي، بوصفه أداة القوة المفرطة والتفكير، بدون استعارات أو رموز أو علامات.
الربيع العربي وموت المثقف الحالم
ما جرى في دول الربيع العربي كان إعلانا فاضحا عن موت السياسي القديم، الذي جاء بعد مرحلة الكولونيالية، ومع أنماط عسكرتها وأدلجتها، فضلا عن كونه صدمة فارقة للمثقف العربي، الذي كان يعاني من أعراض المازوخيا الثقافية، بعد انهيار الحائط الماركسي، وفكرة « الرسالة الخالدة» للقوميين العرب، مثلما يعيش تشوهات متاهة المثقف الثوري والأيديولوجي، والباحث عن مسميات غير واضحة للهوية، لذا كان دوره في سياق التحوّل محدودا، وغامضا، وضعيفا إزاء الصعود الغرائبي للجماعات الأصولية، ولأحزابها، التي كشفت عن وقائع «المحذوف» الثقافي والعصابي العربي، والتي تبدت عبر تغوّل ظاهرة السلطة، وكأنها تجاهر بموت الحركات اليسارية، ورثاثة أحزابها، التي ملأت مرحلة الستينيات والسبعينيات، صخبا وضجيجا وأحلاما باذخة، مثلما كشفت عن انهيار المركزيات القومية وقضاياها الكبرى، وانتهاء مرحلة الملاذات المفاهيمية للأمة والملة والرسالة، مقابل تغوّل غير مُسيطَر عليه للعصبويات الطائفية، التي كانت واحدة من أسباب دخول المنطقة مرحلة العصر الأمريكي الترامبي، بكلّ ما يحمله من نزعات تدميرية، ومن عنصرية لا علاقة لها بالجندر واللون والعرق، بل بهيمنة فرضية مفاهيمية للقوة والمال والاغتيال، وهي هيمنة أكثر رعبا في التعبير السياسي، من تحولات العقل الكولونيالي، في نظرته للتابع، وللسلطة والثروة.
هذه التحولات العاصفة كشف أيضا عن تشوهات السياسي العربي الجديد، وعن أزمة عميقة في التفكير السياسي، وفي تحديد الأطر النقدية الواضحة لفهم السلطة وحاكميتها، ولفهم طبيعة خطابها في إنتاج سرديات حكم الجماعة، والأيديولوجيا، إذ تحولت هذه السلطة بالتراكم إلى غول داخل السيرك، مُدجّن، لكنه يملك رغبة العنف المخصي، وهو ما بدا واضحا في هوية السلطة المسلحة، التي تحارب جيرانها، أو مواطنيها، عبر معسكرات وجماعات تحكم بأسماء وأقنعة عدّة، الجنرالات والزعماء والفقهاء والتجار واللصوص، وربما باسم جماعات تُدير المصالح والثروات عن بعد، وهذا ما جعل أحداث الربيع العربي، مجالا غائما لتصفية الحسابات مع الغائب القديم، ومع التاريخ، وكذلك عبر تعويم مفهوم التغيير ذاته، ولوضع السلطة الجديدة في سياق ما أنتجته فضاءات السياسة من نتائج في الانتخابات، أو من اصطفافات مثيرة للجدل بين القوى والجماعات التي أفرزتها.
السياسي بوصفه تداولا غامضا للثقافي
غياب توصيف حقيقي للثقافي عن حاكمية السياسي، يجعل الحديث عن علاقة السياسة بالثقافة ملتبسة دائما، وباعثة على الشك والارتياب، بوصف السياسة ممارسة للمركزية، والهيمنة، وبوصف الثقافة ممارسة أكثر شغفا بالحرية، وبهوية الإنسان الفرد، وهذا ما يجعل التقاطع بينهما قائما وحادا، لكن خطورة التحولات الحادثة في الوقائع السياسية وضعت اللعبة السياسية في مواجهات ثقافية، ليس لتطهير الخطاب السياسي أو إعادة تأهيله، بل لأن طبيعة جمهور ما بعد «الربيع العربي» أكثر حساسية لمفاهيم ثقافية تتعلق بالدين والسلطة والحرية والدولة، على مستوى صناعة الخطاب التداولي، أو على مستوى تحريك العمل المؤسسي، أو تحريك الجمهور، تحت يافطات جديدة، أو عبر منظومات رقمية لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا خطيرا فيها، وهو ما بدا أكثر انعكاسا على ما يتعالق وتنظيم سياقات عمل الاستهلاك السياسي للثقافة، أو الاستهلاك الثقافي للسياسة، لاسيما وأنّ أغلب صنّاع الخطاب الثقافي المعاصر من الفلاسفة والباحثين، خرجوا من معطف المركزيات الأيديولوجية والعقائدية، مثل سلافوي جيجك وألن باديو والتوسير وغيرهم، لكنهم لم يتحرروا من عقدة المركزية الثقافية.
وحين يكون الحديث عن السياسة العربية واضحا وصريحا، تتبدى مظاهر الرثاثة، بوصف هذه السياسة غير قادرة على التحرر من مهيمنات العصاب، أو الأدلجة والعسكرة، وهو ما يجعلها بلا أغطية ثقافية حقيقية، وأن ليس للمثقف من دور واقعي فيها سوى أن يكون معارضا وخصما، أو ربما ضحية لها، بوصفه رافضا لفكرة الهيمنة التي تصنعها السلطة التي تحكم وتُدير وتفرض تداولية قامعة للخطاب السياسي.
السياسة العربية في هذا السياق لم تعد تملك مركزا أخلاقيا، ولم تعد قوة بعيدة عن المراقبة، إذ يمارس المثقف المطرود وظيفة رمزية للمراقب، وهو ما يجعلها تعيش نوعا من الفوبيا الثقافية، والرهاب الاتصالي، ليس لأنها مراقبة من جماعات السوشيال ميديا، بقدر ما أنّ سحرها القديم فقد بريقه وجدواه، ولم يعد ينفع معه أي ترياق إنقاذي، ما يعني حاجتها لمحو الذاكرة، بما فيها ذاكرة الجنرال القديم، والزعيم الأيديولوجي والروحي والثوري، لأن كل هذه العناوين» الرئاسية» أضحت خارج الاستعمال، وتحت المراقبة، ومشكوكا في قدرتها على مواجهة أسئلة العالم الجديد. كما أن السياسة العربية لم تعد مجالا للمتعة، ولفرض وصايا وحكايات التاريخ، ولا حتى القبول بهيمنة «العائلة المقدسة» التي تؤلّه الابن والبنت والعم والصهر، بوصفهم كائنات خارج الحساب والرقابة، إذ ظل كثير من منصاتها خاضعا للتداول الأصولي للأفكار، وللمفاهيم العتيقة للحاكمية بوصفها سلطة، لكن أخطر ما في هذه السياسة هو تمترسها في الخنادق الحمائية لمواجهة اليسار الجديد والليبرالية الجديدة، وحتى للنزعات القومية التي تريد التعكّز على فشل الثورات والأصوليات، ولبعض تيارات الإسلام السياسي التي لا تتوافق مع نمطية العقل السياسي الحاكم..
مشكلة السياسة الأزلية إنها خالية من رائحة الأخلاق، وهذا التوصيف يجعلها أكثر تسويغا للسيطرة ولفرض سلطة المصالح، فضلا عن ما يجعلها دائمة العوق في التعبير عن حاجات الدول والمجتمعات والأفراد للتغيير، وربمــــا ستكون أكثر استعادة لإعادة إنتاج الديكتاتور الذي لا يعرف من السياسة سوى إخضاع الآخرين، ووضعهم تحت بلدوزر الحكم، أو المقامرة بهم في حروب عشوائية وعبثية، أو ترويضهم لتقبل فكرة الجوع الوطني بنوع من المازوخيا المقدسة.
٭ كاتب عراقي
القدس العربي