أمريكا وسياسة الانخراط من الخلف في سوريا/ د. بشار نرش
مع زيارة المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا “جيمس جيفري” مع وفد أمريكي وأممي رفيع إلى مخيم في مدينة إدلب ولقائه مع بعض عناصر “الخوذ البيضاء” السورية، تهادى إلى ذاكرتي مباشرةً مقال للسفير الأمريكي السابق في سوريا “روبرت فورد” كان قد نشر خلال الشهر الماضي في صحيفة “الشرق الأوسط” وحمل عنوان “أمريكا لن تحل بالآمال الأزمة السورية”.
في ذاك المقال تحدث “فورد” عن بعض الأخطاء التي وقعت بها إدارتي الرئيسين الأمريكيين “باراك أوباما” و”دونالد ترامب” في تعاملهما مع الملف السوري، موضحاً أن الخطأ الأكبر لإدارة الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” كان عدم توجيه ضربة عسكرية لقوات النظام السوري بعد الهجوم بالأسلحة الكيماوية على الغوطة في ريف دمشق في آب 2013، والذي أسفر عن قتل مئات المدنيين، وبدلاً من توجيه الضربة العسكرية لقوات النظام قررت إدارة الرئيس “أوباما” التفاوض مع الروس حول اتفاق لإنهاء برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا، مؤكداً أنّ هذا التصرف من الرئيس “أوباما” أفقد الولايات المتحدة الأمريكية أفضل فرصة لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية.
في حين أنّ إدارة الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” حسب “فورد” لم يكن لديها أي استراتيجية أو رؤية واقعية للحل في سوريا، ما عدا فكرة العقوبات الاقتصادية ضد النظام السوري كورقة ضغط تمارس ضده لهدف دفعه نحو القبول بالحل السياسي بدلاً من الحل العسكري. وفي ذاك المقال ختم “فورد” كلامه باعتراف واضح وصريح بقوله “من جانبي، يجب أن أكون أميناً وأعترف بأنه ليس لدي لا أمل ولا استراتيجية، إنّ الحكومات والأشخاص الراغبين في تقديم العون لأبناء إدلب ينبغي لهم إرسال مساعداتهم إلى المنظمات الإنسانية العاملة على الأرض داخل معسكرات النازحين واللاجئين، هذه المنظمات الإنسانية، وليس الدبلوماسيين، هي الأبطال الحقيقيون”.
الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالقضية السورية بشكلٍ عام وبقضية إدلب بشكلٍ خاص تعتمد على بعض التكتيكات التي لا تصب في استراتيجية واقعية وواضحة المعالم وهو ما يجعل من هذه التكتيكات مجرد أفعال آنية تتعامل مع الموقف بمبدأ الفعل ورد الفعل
طبعاً كلام “فورد” هذا يجب أن يضعنا نحن كسوريين أولاً أمام حقيقة واحدة واضحة حتى الآن، وهي أنّ التعويل على الإدارة الأمريكية في حل الأزمة السورية هو كمن يعوّل على خيوط سراب تراءت لعطشان في نهاية الطريق. فالولايات المتحدة الأمريكية ليس لديها استراتيجية واقعية أو واضحة لإنقاذ الشعب السوري لا عسكرياً ولا سياسياً، والكلام الكثير الذي أثير عن الدور الأمريكي القادم في سوريا بعد زيارة “جيفري” لأنقرة وإدلب وحديثه عن دعم لتركيا في عمليتها في إدلب هو مجرد كلام لا يمكن التعويل عليه، خاصةً في ظل الخلافات القائمة داخل الإدارة الأميركية بين البنتاغون من جهة و”جيمس جيفري” من جهة ثانية حول طريقة التعاطي مع الدور التركي في هذه المرحلة الحساسة ونوعية الدعم الذي سيقدم لها أو للمعارضة السورية.
وبالتالي، فإن الموقف الأمريكي من الأحداث في سوريا واضح ولا يحتاج إلى الكثير من التفسير والتأويل، فالولايات المتحدة الأمريكية ابتعدت عن الانخراط المباشر في الصراع في سوريا باعتماد سياسة “الانخراط من الخلف”، ولو رجعنا إلى مسار الزيارة الأخيرة لـ “جيفري” للمسنا كثيراً من طبيعة هذه السياسة وهذا الموقف، فمن العاصمة أنقرة التي التقى فيها ممثلي الأمم المتحدة والمنظمات المدنية التي تعمل في حقل مساعدة النازحين واللاجئين السوريين، إلى مركز تنسيق الدعم الإنساني التابع للأمم المتحدة على الحدود السورية- التركية، مروراً بلقاء بعض متطوعي ومتطوعات الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، وانتهاءً بزيارة مخيم من مخيمات إدلب، كلها تعطي دلالة واضحة أن أبعاد الزيادة إنسانية وليست عسكرية، وأن مسار هذه الزيارة يحمل في طياته تهرّباً امريكياً واضحاً من التزامات سياسية وعسكرية واضحة تجاه القضية السورية، إلا اللهم تقديم بعض المساعدات الإنسانية أو المساعدات المالية المخصصة للاجئين، وهو ما تم الإعلان عنه بعد الزيارة على طريق مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، “كيلي كرافت” التي أعلنت عن تخصيص مبلغ 108 مليون دولار لأغراض الدعم الإنساني والإغاثي في سوريا.
وعليه، يمكن وضع هذه الزيارة في إطار النصيحة التي قدمتها “فورد” للحكومات والأشخاص في مقاله آنف الذكر، والذي ذكر فيه أيضاً أن “جيفري” ليست لديه حلول للأزمة الإنسانية في إدلب فيما عدا فكرة أن العقوبات الاقتصادية ربما تؤدي يوماً ما إلى إقناع النظام السوري بقبول وقف إطلاق النار وهو بذلك يقدم لنا أملاً، تماماً مثل آمالنا المحبطة التي أضاعتها إدارة “أوباما”. لذا لا يمكن لهذه الزيارة أن تلمّع صورة الولايات المتحدة الأمريكية، كونها تكشف مجدداً حقيقة تخاذلها أمام جرائم الحرب التي ترتكبها روسيا ضد المدنيين السوريين في سياق دعمها للنظام السوري، الذي ما كان له أن يستمر دون هذا الدعم الروسي والتخاذل الأمريكي.
فالولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بالقضية السورية بشكلٍ عام وبقضية إدلب بشكلٍ خاص تعتمد على بعض التكتيكات التي لا تصب في استراتيجية واقعية وواضحة المعالم وهو ما يجعل من هذه التكتيكات مجرد أفعال آنية تتعامل مع الموقف بمبدأ الفعل ورد الفعل، وهو ما يذكرني بالقول المأثور والذي غالباً ما يتم ترديده في الأوساط العسكرية والذي يقول “استراتيجية بلا تكتيكات هي أبطأ طريق إلى النصر، لكن الاعتماد على تكتيكات دون وجود استراتيجية يعد بمثابة صخب ما قبل الهزيمة”. نعم هو مجرد صخب أمريكي لا يتجاوز حدود التصريحات في شأن طبيعة التموضع الأمريكي في الأزمة الإنسانية والعسكرية السورية المتنامية.