جلبير الأشقر عن الدين والسياسة / الماركسية والإسلام
(١/٢)
أجريت هذه المقابلة في الأصل باللغة الفرنسية وصدرت في مجلة “أكتويل ماركس” (Actuel Marx) في عددها الثاني لعام 2018 (العدد 64، ص 101-111) في ملف خاص عن الدين، حرّره إتيان باليبار وميخائيل لووي.
هذا هو الجزء الأول…
لقد نشرتَ مقالات عديدة حول ماركس والتقاليد الماركسية إزاء موضوع الأديان، فما الذي بقي مفيداً في رأيك بين أدبيات “الماركسية الكلاسيكية” لفهم المسائل الدينية في عالمنا المعاصر؟ أم تعتقد أنّ قصور هذه الأدبيات يجعلها عاجزة عن قراءة واقعنا الحالي؟
يجب أن نتفق أولاً على ما نقصده بالحديث عن “ماركسية كلاسيكية”. من جهتي، أعني بهذا التعبير ماركسية المؤسّسييْن – ماركس، لكن أيضا إنجلز الذي غالباً ما يتم تجاهله أو لا يُذكر سوى لتفضيل ماركس عليه – منذ أن تبلورت نظريتهما المشتركة، وقد كان المنعطف في هذا الصدد صياغتهما لمخطوطة الأيدولوجيا الألمانية. فثمة مكوّنان من هذا الإرث يبدوان لي الأكثر جدارة للتفكير في المسألة الدينية: أولهما، النهج المادي في تحليل الوقائع والظواهر التاريخية، وثانيهما الموقف السياسي. أشهر هذين المكوّنين هو التفسير المادي للدين والظواهر الدينية، وهو يبقى أساسياً في نظري، لكن بشرطين.
الشرط الأوّل هو الإقرار بأنّ مساهمة الماركسية الكلاسيكية تتمثّل في جوهرها بمقاربة منهجية، تلك التي تُحيل الوقائع الأيدولوجية إلى أساسها المادي وتبحث في العلاقة الديالكتيكية بين المادي والأيديولوجي، وهي مقاربة أكثر تعقيداً بكثير من الاختزال الكاريكاتوري الذي نجده لدى الماركسية المبتذلة. هذه المقاربة شرطٌ لا غنى عنه من أجل نبذ حازم لكل أصناف الجوهرانية (essentialisme)، كالصنف الذي أشهره إدوارد سعيد تحت تسمية “الاستشراق”. وقد أساء سعيد نفسه فهم ماركس إلى حدّ الفهم المعكوس، إذ إنه أدرج ماركس بين “مستشرقي” القرن التاسع عشر، وذلك بالاستناد إلى مقال وحيد عن الهند كتبه ماركس عام 1853، وقد أساء سعيد تفسيره.
المشكلة في مقال ماركس المذكور، كما أوضحتُ في إحدى الدراسات المنشورة في كتابي الماركسية والدين والاستشراق، لم تكن قط في تنميطٍ للهنود من طراز الاستشراق الكلاسيكي، بل كمنت بالأحرى في فهم وضعيّ (positiviste) ساذج لدور الرأسمالية كما كان ماركس وإنجلز يتصوّرانه في تلك السنوات، وهو فهمٌ وجد أسطع تعبير عنه في البيان الشيوعي. فقول البيان إن الرأسمالية كانت تخلق “عالماً على صورتها” مثلما “خلق الله الإنسان على صورته” في سفر التكوين التوراتي، إنما كان مبنياً على خطأ فادح: كانت الرأسمالية تخلق بالأحرى عالميْن يسود أحدهما الآخر، عالماً ديناميكياً وسائداً في الحواضر الاستعمارية وآخراً معاقاً ومَسوداً في البلدان المستعمَرة. علاوة على ذلك، كانت معرفة ماركس عن الهند محصورة في مضمار التمركز الإثني (ethnocentrisme) الأوروبي الذي كان وحده متاحاً له من خلال قراءاته. أمّا الذي غفل سعيد عنه، فهو أنّ ماركس تنكّر لاحقاً لذلك التصوّر حِيال الهند، مثلما فعل إنجلز حِيال الجزائر، من خلال إدراكهما أنّ للسيطرة الاستعمارية دوراً تدميرياً أكثر منه “حضارياً” بكثير، وذلك بفضل دراستهما لحالة إيرلندا التي أمكنهما التعرّف عليها عن كثب بصورة أفضل بكثير.
من جهة أخرى، كان ينبغي على سعيد أن يتساءل عن سبب كون جميع الأخصّائيين الذين استعار منهم نقد “الاستشراق” هم من الماركسيين، وأوّلهم أنور عبد المالك الذي اقتبس منه سعيد مطوّلاً، ثم مكسيم رودِنسون الذي مدحه وكذلك كلود كاهِن. فلم يكن هذا الأمر بالتأكيد من قبيل الصدفة، إذ إن المادية التاريخية هي النقيض الأكثر جذرية والنقيض العملي الوحيد لذلك الصنف من المثالية الفلسفية الذي يمثّله “الاستشراق” بالمعنى الذي أشهره سعيد. والحال أن إغفال سعيد لهذا الأمر هو ما جعله يقع هو ذاته في مطبّ الجوهرانية في رؤية “الغرب” الواردة في كتابه. فلا يتم الخروج من الجوهرانية بممارسة “استشراق معكوس” يقلب الدلالات السلبية والإيجابية المتعلّقة بمفهوميّ الشرق والغرب، بل يقتضي التحرّر من “الاستشراق” ومن كافة أشكال الجوهرانية الثقافوية انقلاباً جذرياً في المنظور التحليلي: يقتضي إدراك أن “الثقافات”، أياً كانت، ليست هي التي تحدّد التاريخ المادي، بل أن هذا الأخير هو الذي يَشرُط طبيعة الثقافات وتطوّرها. فبدل تفسير التاريخ بالدين، ينبغي تفسير الدين واستخداماته بالتاريخ للخروج من منطق الجوهرانيات الدائري، الذي يفترض بالأساس ما يسعى لإثباته.
هنا تكمن مساهمة الماركسية الكلاسيكية الكبرى في “علم التاريخ”، كما أسماه ألتوسير (وقبله ابن خلدون). ولا تزال لوظيفة التحليل الماركسي هذه فائدة عظيمة في تحليل الأديان، كما تشهد عليها المناقشات الدائرة بلا نهاية حول الإسلام. بيد أنّ ممارسة ماركس وإنجلز لمنهجهما في تفسير التاريخ في مجال دراسة الأديان، مجال علم اجتماع الأديان، بقيت بدائية جداً، بل تبسيطية كما في تحليل إنجلز الوارد في كتاب حرب الفلّاحين في ألمانيا الموسوم بمادية بدائية. فلم يرَ في المسيحية التي أشهرها زعيم ثورة الفلّاحين توماس مونتسِر [أعدِم سنة 1525] سوى “قناعٍ ديني” لتطلّعات شيوعية. وفي ذلك اختزالٌ للواقع وإغفالٌ لسؤال مهم: لماذا استطاعت المسيحية أن توفّر “قناعاً” لتطلّعات كهذه في العديد من الحالات التاريخية؟ لا تكمن الإجابة في “جوهر المسيحية” على طريقة فويرباخ، لكن في ذلك التوتّر الخاص بالمسيحية بين الآثار الباقية لأصولها المضطهَدة والمذهب الاضطهادي الذي صارت إليه لاحقاً.
والحال أن علم اجتماع الأديان هو أحد الحقول التي يتّسم فيها حضور الماركسية الكلاسيكية بالقصور، وهو قصور عوّض عنه ماكس فييبر بطريقته الخاصة مثلما عوّض عن قصور الماركسية الكلاسيكية في تصنيف الأنظمة السياسية. أمّا الماركسيون بعد ماركس وإنجلز، فقد حقّقوا بعض الإنجازات في مجال علم اجتماع الأديان، لكنّها إنجازات مقتصرة بصورة أساسية على تطبيقٍ منهجي لمبادئ المادية التاريخية، كما هي الحال في تحليلات كارل كاوتسكي، أو مساهمة إبراهام ليون المأساوية، وهي منسية غالب الأحيان، في كتابه المفهوم المادي للمسألة اليهودية. لقد اهتمّ الماركسيون والمقرّبون إلى الماركسية بعد ماركس وإنجلز – أمثال أركان مدرسة فرانكفورت والدائرون في فلَكها – اهتمّوا بمهمة “نقد الدين” على نمط مخطوطات ماركس الشاب الفلسفية أكثر مّما اهتمّوا بعلم اجتماع الأديان. نادرون هم الماركسيون، أمثال ميخائل لووي، الذين قاموا بتحليل اجتماعي لظواهر دينية، وليس من قبيل الصدفة بالأصل أن يقف لووي معرفياً في منطقة التماس بين ماركس وفيبر.
أما الشرط الثاني لحسن استخدام التفسير المادي للدين، فهو الاعتراف بأنّه لا يقدّم سوى توضيح جزئي للظاهرة الدينية. ذلك أن الدين هو بكل تأكيد أكثر الأشكال الأيدولوجية تعقيداً، وهذا مرتبطٌ بقِدَم الأيدولوجيات الدينية ومرونة تأقلمها الاستثنائيين. فيتطلّب الوصول إلى فهم مُرضٍ لظاهرة الأديان استخدامَ ترسانة العلوم الإنسانية كاملة، ولاسيما علم النفس الاجتماعي والتحليل النفسي. أما إرجاع الدين إلى مجرد “انعكاس” لشروط الحياة المادية فهو إفراطٌ في الاختزال، يتعدّى ما نجده في شتّى الحقول الأيديولوجية الأخرى. وكلّما تقدّمت العلوم الإنسانية الجامعة، كلّما أصبحنا في وضعية تخوّلنا الإحاطة بشكل أفضل بالظاهرة الدينية. فبفضل مساهمات باحثين معاصرين أمثال فوكو أو بورديو، نحن اليوم مخوّلون أكثر من ماركسيي العهود السابقة، لكن جُلّ هذا العمل مازال في الانتظار.
من المفارقة أنّ يكون الموقف السياسي من الدين هو المجال الذي تبقى فيه مساهمة “الماركسية الكلاسيكية” صالحة تماماً في رأيي. وهذه المساهمة مجهولة أو مشوّهة لدى أغلب الناس. فبعكس ما يظنّ العديدون، لم يكن ماركس وإنجلز من دعاة “الإلحاد المناضل” على غرار لينين. بوصفهما مفكّريْن مادييْن، كانا بلا شكّ مُلحديْن بشكل قطعيّ. لكن ما أن تحرّرا من الهيغلية اليسارية، أكّدا على أنّ الإلحاد – بمعنى إنكار وجود الإله – لم يكن ذات فائدة كبيرة. وقد سخروا من الذين أرادوا أن يجعلوا من الإلحاد “إيماناً إلزامياً” وأن يحرّموا الدين “بمرسوم”، على شاكلة أتباع بلانكي أو باكونين. ومع تأكيدهما على ضرورة قيام حزب العمّال بمحاربة استخدامات الدين الرجعية والمُشعوذة، دافعا عن حرية ممارسة الشعائر الدينية دون تدخّل الدولة. هذا الدفاع العنيد عن العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة – أي رفض تدخّل الدين في الدولة، لكن أيضاً رفض تدخّل الدولة في الدين، وهو الوجه الآخر للعلمانية الذي غالباً ما يُغفل – يبدو لي أكثر راهنية الآن مما في أي وقت مضى.
هناك حديث تكرّر كثيراً حول “عودة الأديان”. هل تعتقد أنّها فكرة صحيحة؟ وكيف تحلّل هذه الظاهرة بوصفك ماركسياً، خاصة في منطقتيّ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اللتين تعرفهما أكثر من غيرهما؟
لا شكّ في أنّنا شهدنا طفرة للأديان منذ الربع الأخير من القرن المنصرم، وصفها بعض المحلّلين بأنها “ثأر الله”. وقد أصابت هذه الظاهرة كافة الأديان، لاسيما الأديان التوحيدية. وهذا مثال جيّد على قصور “الماركسية الكلاسيكية”، إذ إن الانتشار الجديد للعقائد وللممارسات الدينية – وبالأخص انتشار الأصوليات الدينية التي تصبو جميعاً إلى إعادة تركيب المجتمع والدولة بما يتطابق مع قراءتها الحرفية والمتشدّدة للنصوص الدينية – ذلك الانتشار لا يمكن تفسيره بطريقة مقبولة ومقنعة بالحد الأدنى بالقول إنه “انعكاس” لتوسّع الرأسمالية وتحوّلها النيوليبرالي.
هناك بكل تأكيد تزامنٌ بين “عودة الأديان” تلك وبين التّحول النيوليبرالي للرأسمالية، المعاصر لانهيار منظومة الدول ما بعد الستالينية. لكن، وكما نوّهتُ في كتابي صدام الهمجيات الصادر عام 2002، لا غنى عن مساهمة إميل دوركايم لفهم العلاقة بين تصاعد التديّن وانتشار الأصوليات الدينية، من جهة، والتغيّرات التاريخية التي أشرتُ إليها من جهة أخرى. فمفهوم “فقدان النظم” أو الـ”لامعيارية” (anomie) الذي صاغه – وهو يشير إلى اختلال شروط الحياة وفقدان المعايير – مفهومٌ في غاية الأهمية لفهم ما أحدثه رفع الضوابط الاقتصادية من قِبَل النيوليبرالية، متضافراً مع انهيار الإمبراطورية ما بعد الستالينية. وقد فسّر دوركايم بوضوح كيف أنّ اللامعيارية الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية-الأيدولوجية تقودان إلى انطواء هويّاتي على روابط اجتماعية مثل “الدين والعائلة والوطن”.
هذا وينبغي الجمع بين هذا المفتاح التحليلي ومفتاح آخر – أو حدسٍ بالأحرى – نجده في البيان الشيوعي لماركس وإنجلز، حيث شرحا كيف أنّ قسماً من الشرائح المتوسّطة، أي قسماً من البرجوازيين الصغار وأمثالهم، عندما يواجهون محدلة التطوّر الرأسمالي، يسعون إلى “جعل عَجَلة التاريخ ترجع القهقرى”. إن فكرة “العودة” إلى هيمنة “مدينة الله” و”استرداد” ماضٍ انقضى منذ التاريخ القديم أو العصور الوسطى – وقد جرى بالطبع تحويله إلى حدّ بعيد إلى أسطورة – تلك الفكرة تشكّل بالفعل بعداً أساسياً من أبعاد الأصوليات الدينية. هذا الهروب الماضوي والوهمي إلى الوراء هو ردّ فعل مفهومٌ تماماً أمام أهوال الزمن الحاضر ومصائبه، لاسيما حين يقود إلى الانتساب إلى مجتمع مضاد، سواء كان بحجم عشيرة صغيرة أو قبيلة كبيرة.
ينبغي وضع الطفرة المدهشة للأصولية الإسلامية منذ الربع الأخير من القرن المنصرم في هذا السياق بالتحديد. فبالإضافة إلى ظروف اللامعيارية العامّة التي ذكرتُها، ساهمتْ عناصر كثيرة في تلك الطفرة: توظيف الحكومات، في كل البلدان تقريبا، للأصولية الإسلامية كترياقٍ للتجذّر اليساري في الستّينات؛ والدور الخاص في هذا الصدد لوجود دولة أصولية قائمة في مهد الإسلام، هي المملكة السعودية، وهي دولة تابعة للإمبريالية الأمريكية؛ وظهور دولة أصولية ثانية في إيران في عام 1979 ، مناوئة بشكل عنيف للدولة السابقة ولسيّدها الأمريكي؛ والحروب المتعاقبة التي خاضتها الإمبراطوريتان الكبريتان في بلدان إسلامية: الإتحاد السوفييتي في أفغانستان، ثم الولايات المتّحدة في أفغانستان وفي العراق؛ والدور بالغ الضرر الذي قامت به دولة إسرائيل، وقد أعلنت عن نفسها “دولة يهودية”.
ويزيد الهروب إلى الوراء إغراءً في الحالة الإسلامية كون سمات الماضي الذي يرغب الهاربون إعادة بنائه تبدو مألوفة بخصوص هذا الدين الذي نشأ متأخّراً عن معظم الأديان الأخرى: خلافاً لمحاولة تقليد المسيح، فإن محاولة تقليد النبي محمّد – بالاعتماد على قصّة حياته مثلما روتها السير النبوية، بالإضافة إلى الأحاديث، فضلاً عن القرآن بالطبع – محاولةٌ تستوحي مثالاً سياسياً ومقاتلاً ونموذجاً من الحكم. وهذا ما يمنح قوّة خاصة لفكرة “الدولة الإسلامية” التي صاغها منظّرو الأصولية الإسلامية المعاصرون قبل قرنٍ.
(٢/٢)
في هذا العدد من مجلة “أكتويل ماركس”، جرى مراراً الحديث عن “لاهوت التحرير” والتحالف بين قسم من الكاثوليكيين والحركة العمّالية (بالمعنى العريض للكلمة). لم تحدث حركة مشابهة في الإسلام. كيف تفسّر ذلك، وما هي النتائج التي تستخلصها لمستقبل سياسي محتمل في البلدان ذات أغلبية مسلمة؟
هذا ما أردتُ تفسيره في كتابي عن الدين الذي سبق ذكره، وذلك من خلال استخدام فكرة فيبر عن “التجاذبات الاختيارية”، وهو مصطلح استعاره فيبر من غوته. فكما توجد مثل هذه التجاذبات بين أسطورة، أو حقيقة، أصول المسيحية وبين الشيوعية – أنظر كيف سعتْ روزا لوكسمبورغ للمعادلة بين المسيحية الأصلية والشيوعية في دراستها عام 1905 عن “الكنيسة والاشتراكية” – توجد كذلك تجاذبات بين أسطورة، أو حقيقة، صدر الإسلام وبين الأصولية الإسلامية المعاصرة. وثمة فرق هام بين الحالتين هو أنّ الديانة المحافظة الرسمية في الحالة المسيحية تعارض بشدّة القراءة الشيوعية، بينما الديانة المحافظة الرسمية في حالة الإسلام، بانتمائها إلى قطعية نصّية، تشجّع القراءة الأصولية. ومما يزيد في الأمر أنّ الإسلام المحافظ غدا خاضعاً لسيطرة إسلام متشدّد روّجت له دولتان أصوليتان: المملكة السعودية في الإسلام السنّي والجمهورية الخمينية في الإسلام الشيعي، دولتان تتمتّعان بريع نفطي كبير.
سمحت الشروط آنفة الذكر لقسم كبير من الاحتجاج السياسي والاجتماعي في المجتمعات المسيحية، لاسيما في بلدان أمريكا الجنوبية الخاضعة لسيطرة إمبريالية الشمال، أن يندرج منذ الستينات في القراءة الشيوعية للمسيحية التي استند إليها “لاهوت التحرير”، في أغلب الأحيان ضد كنيسة رسمية حليفة للدكتاتوريات وللإمبريالية. أما في المجتمعات الإسلامية، فقد لعبت القراءة الأصولية دوراً معاكساً بسيرها على نهج غارق في الرجعية. وإنه لأمرٌ بالغ الدلالة أن العام 1979 ذاته شهد في نيكاراكوا ثورة بمنحى اشتراكي بمشاركة مسيحية يسارية مهمة، وفي إيران ثورة بمنحى أصولي رجعي بقيادة رجال الدين.
إن مناضلات ومناضلي اليسار الذين أخطأوا فهم معنى الثورة الإيرانية دفعوا ثمناً غالياً: سحقتهم بعنف السلطة الجديدة ذاتها التي ساهموا في ولادتها. هذا يشمل اليسار الإسلامي الذي مثّلته أكبر الحركات الإسلامية التي يجوز تشبيهها بـلاهوت التحرير المسيحي: “منظمة مجاهدي الشعب الإيراني” التي استوحت من الفكر الشيعي اليساري الذي بلوره عليّ شريعتي. كانوا من الأوائل الذين تمّ سحقهم، وقد استهدفهم على الفور رأس حربة الرجعية الخمينية، “حزب الله” الإيراني. بيد أن “منظمة مجاهدي الشعب” انحطّت لاحقاً في المنفى.
تُظهر التجربة الإيرانية، من جهة، أنّ مُرادفاً تقريبياً لظاهرة “لاهوت التحرّر” ممكنٌ في الإسلام، بل إنّه ظهر في الحالة التي ذكرتها تواً. ويمكن أن نضيف إليها تجارب أقل شأناً في دائرة الإسلام السنّي، أحدثها تجربة “المسلمين المناهضين للرأسمالية” في تركيا، الذين جذبوا الانتباه إليهم عندما شاركوا في حراك “منتزه غيزي” ضد حكومة أردوغان الإسلامية المحافظة في عام 2013. وتُظهر التجربة الإيرانية، من جهة أخرى، أنّه لمن الوهم أن نتوقّع أنّ تبلغ حركات من هذا النوع أحجاماً جماهيرية كالتي بلغتها بسرعة “جماعة الإخوان المسلمين” الأصولية في مصر على سبيل المثال. هذا من الوهم لأنّ تلك الحركات تسبح ضد تيار الإسلام المحافظ القوي، وتقترح تفسيراً للإسلام ليس بينه وبين عصر الإسلام الأول سوى تجاذبات قليلة، ويفتقر بالتالي إلى المصداقية في محاولته إعادة تفسير هذا التراث.
في الحقيقة، يجب ألّا يراهن اليسار كثيراً على ظهور مرادف إسلامي للاهوت التحرير بإسقاط الحالة المسيحية على الإسلام. فلن يكون اليسار في السياق الإسلامي “لاهوتياً” سوى بصورة هامشية جداً، وذلك للسبب الذي شرحتُه. سيكون اليسار علمانياً بصورة أساسية، بمعنى أنه لن يكون لرجال الدين دورٌ أساسي في صفوفه. نجد بكلام آخر أن اليسار في البلاد ذات غالبية مسلمة، عوضاً عن تيارات دينية يسارية، ضمّ تيارات يسارية علمانية شهرت إيمانها وارتباطها بالإسلام كجزء هام من هويتها، حتى أنّها كانت مهيمنة إلى حدّ بعيد ضمن هذا اليسار. أهمّ مثال هو الناصرية، وقد جسّد جمال عبد الناصر التجذّر اليساري في المجالين العربي والإسلامي خلال الستّينات أكثر من أي زعيم آخر. جسّد ذلك التجذّر على نمط دكتاتوري، بالتأكيد، لكنّه نمط استلهم نموذج “الاشتراكية القائمة بالفعل” الذي مثّله الاتحاد السوفييتي في الستّينات عندما كان خروتشوف يستطيع أن يعد بالقضاء على الرأسمالية العالمية دون أن يكون كلامه مدعاة للسخرية.
هذا وقد رأينا في عام 2012، في سياق “الربيع العربي”، أهمية الجاذبية التي يحوز عليها في مصر اليوم الحنين إلى ما يمكن تسميته “ناصرية ذات وجه إنساني”، ناصرية ديمقراطية، كما مثّلها في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المرشّح الناصري اليساري حمدين صبّاحي. كان هو المفاجأة الكبرى في تلك الجولة، بما يشبه نوعاً ما صعود بيرني ساندرز في معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016. حصل صبّاحي على أكبر عدد من الأصوات في أكبر تركّزين مدينيين في مصر، القاهرة والإسكندرية، وعلى أكثر من 20 بالمائة من مجموع الأصوات في عموم مصر بفارق بسيط عن مرشحيّ النظام السابق والإخوان المسلمين. إنّ تيارات علمانية من هذا الطراز هي التي ستتمكّن من جذب جماهير غفيرة من المؤمنين إلى اليسار عوضاً عن تيارات دينية.
هذه التيارات العلمانية اليسارية ترفض إلحاد الماركسيين، لكنّها تستلهم تحليلاتهم، بما يشبه شيئاً ما أنصار “لاهوت التحرير”: قادتها مؤمنون يمارسون الشعائر الدينية، بل يتعمّدون أحياناً لفت النظر إلى ممارستهم، لكنّ علاقتهم بالله لا تمرّ عبر زعامة دينية (وهذا أسهل في الإسلام السنّي منه في الإسلام الشيعي، لأنّ هذا الأخير أكثر كهنوتية، أشبه بالكاثوليكية منه بالبروتستانتية). ويضعون الله إلى جانبهم بوصفهم أولئك الذين يتحجّجون بالله لأغراض رجعية بالمنافقين. في ذروة شعبية الناصرية التي رافقت قمّة تجذّرها، بدا “الإخوان المسلمون” على حقيقتهم آنذاك كأعوان للمملكة السعودية ولوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وكانوا مهمّشين فاقدي الاعتبار في عموم المنطقة. ولم يتردّد عبد الناصر في وصف الحكام السعوديين بأنّهم يخونون الإسلام، لاسيما باتّهامهم بأنهم أعداء الفقراء. وقد ناصرته الأكثريات الشعبية دون أن يحتاج للدخول في محاجات فقهية للحصول على تأييدها: إنه مثالٌ جيّد عن المقولة اللاتينية القائلة إن “صوت الشعب هو صوت الله”.
ليتك تقول المزيد عن الوضع المصري: هل يستشهد الناصريون اليساريون بماركس؟ وفضلاً عن ورثة الناصرية اليساريين في الحالة المصرية، ليتك تحدثنا عن أمثلة أخرى لقوى يسارية منحدرة عن حركات ماركسية في المنطقة ذاتها. في بالي بشكل خاص الحزب الشيوعي العراقي الذي يحوز على قاعدة واسعة إلى حدٍ ما، والذي فاز مؤخراً بالانتخابات التشريعية في إطار ائتلاف.
اليوم كما بالأمس، ليست الناصرية اليسارية مضادة للماركسية ولو لم تستشهد بماركس مرجعاً من مراجعها. عندما تجذّر النظام الناصري في الستّينات، أدخل إلى حزبه الحاكم، بل حتى إلى “التنظيم الطليعي” داخل ذلك الحزب، العديد من الماركسيين المنحدرين من الحركة الشيوعية المصرية. فقد بلغ تأثّر الناصرية الأيديولوجي بالماركسية حدّاً جعل جماعات بأكملها من الحركة الناصرية في المنطقة العربية تتحوّل إلى “الماركسية اللينينية” بدءاً من منتصف الستّينات، وبالأخص بعد الهزيمة التي ألحقتها إسرائيل بمصر الناصرية في حرب الأيام الستة في حزيران 1967. تلك كانت بوجه خاص حال المنظّمات التي كانت تمارس الكفاح المسلّح، مثل “الجبهة القومية للتحرير” في جنوب اليمن أو “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”. وهذا التأثير حصل أيضاً داخل “جبهة التحرير الوطني” الجزائرية، خاصة في الفترة التي سبقت إسقاط أحمد بن بلّة في عام 1965 من قِبَل الجناح العسكري الذي قاده هواري بو مدين.
في المقابل، رأينا أحزاباً شيوعية في بلدان ناطقة بالعربية، كالمغرب أو السودان، تقوم بمساومات مع الدين الإسلامي إلى حدّ أن الحزب الشيوعي السوداني لم يتردّد في استهلال مهرجاناته الجماهيرية بتلاوة القرآن. إنها ممارسة محفوفة بالخطر، لكن عندما يتعلق الأمر بحزب جماهيري كبير مثلما كان الحزب السوداني، أحد أكبر حزبين شيوعيين في المنطقة مع نظيره العراقي، يمكن أن نرى في مجازفته سعياً وراء تحقيق مقولة “صوت الشعب هو صوت الله”. لكن في نهاية المطاف، الشيوعيون هم دائماً الطرف الخاسر في هذه اللعبة: بجمعهم بين الدين والسياسة، يلعبون في ملعب أعدائهم الدينيين والأصوليين الذين يبدون أكثر شرعية منهم في ذلك المجال.
شكّل الأصوليون المسلمون السند الأيديولوجي الرئيسي لسحق الشيوعيين السودانيين إثر الانقلاب الذي قاده عمر البشير عام 1989. وقد تمّ سابقاً توظيف الأصولية الإسلامية خلال الثمانينات كمصدر تشريع أيديولوجي من قِبَل دكتاتورية النميري التي سحقت الشيوعيين السودانيين مرةً أولى سنة 1971. وقد قام الأصوليون وغيرهم من الحركات الإسلامية بدور حاسم عامي 1965 و1966 في حملة التصفية الرهيبة التي تعرّض لها الحزب الشيوعي الإندونيسي، أكبر حزب شيوعي في العالم في ذلك الوقت بعد حزبيّ الإتحاد السوفييتي والصين، الذي كان هو أيضاً يجمع بين الدين والسياسة. أما الحكمة من كل ذلك فهي أنه من غير المجدي للماركسيين الدخول في منافسة مع الأصوليين وسواهم من الرجعيين الإسلاميين في مجال الفقه الديني. بل ينبغي أن يدافعوا بقوة عن فصل الدين عن الدولة مع فضحهم لأي شكل من أشكال استغلال المعتقدات الدينية لأغراض رجعية، ويدَعوا حلفاءهم من المسلمين التقدّميين يتولّون مكافحة الرجعية الدينية في مناظرات أيدولوجية لهم فيها مصداقية أكبر.
أما بخصوص الحزب الشيوعي العراقي، فلم يَعُد سوى شبح ما كان عليه في ذروة نفوذه في نهاية الخمسينات. فبعد أن تعاون مع الدكتاتورية البعثية في السبعينات، اضطرّ أعضاؤه الذين فلتوا من الاعتقال والقتل إلى ترك العراق طلباً للجوء سياسي في الخارج بدءاً من نهاية العقد. وقد عادوا إلى العراق بعد إطاحة الولايات المتّحدة بصدّام حسين، لكنّ الحزب تعاون مع سلطات الاحتلال هذه المرّة. في السنوات الأخيرة، استعاد الشيوعيون العراقيون بعض الحيوية من خلال خوضهم في المعارك الاجتماعية. وفي هذا السياق، تحالفوا مع تيّار مقتدى الصدر، وهو زعيم ديني بالوراثة، عادة ما تُطلق عليه صفة “الشعبوي” وقد تميّز عن سائر التيارات الشيعية العراقية برفضه للنفوذ الإيراني. فقد شارك الشيوعيون العراقيون في الانتخابات من خلال الائتلاف الذي سيطر عليه الصدريون. لكن يجب تفادي المبالغة: لم يفز الائتلاف بالانتخابات، بل فاز بأكبر عدد من المقاعد، أي 54 مقعداً من أصل 329، توزّعت بين أكثر من 35 قائمة ممثلة في برلمان مشتّت جداً. وقد شهدت هذه الانتخابات، من جهة أخرى، ارتفاعاً كبيراً في الامتناع عن التصويت الذي شمل أكثر من نصف الناخبين المسجلين. لقد كانت أكثر نتائج الحزب الشيوعي إثارةً انتخاب امرأة عضوة في قيادته في مدينة النجف المقدّسة لدى الشيعة. لكننا هنا أيضا أمام ممارسة محفوفة بالخطر يقوم بها حزب شيوعي، حتى ولو لم يعد هناك الكثير مما يربط الحزب العراقي بماضيه، وكم بالأحرى بالماركسية.
بالنسبة للماركسيين الحقيقيين في هذا الجزء من العالم، كما في أي مكان آخر عندما يتطلب الأمر عقد تحالفات مع قوى ذات توجّهات أيديولوجية وبرامج مُناقِضَة لتوجّهاتهم وبرامجهم على أكثر من صعيد، فإنّ المبادئ الذهبية الخمسة التي صاغها المناضل الثوري الروسي ألكسندر بارفوس سنة 1905 والتي استشهدتُ بها مراراً عديدة، تبقى أساسية: “1) عدم خلط المنظمات، السير على حدة والضرب معًا؛ 2) عدم التخلّي عن مطالبنا السياسية الخاصة بنا؛ 3) عدم إخفاء اختلاف المصالح؛ 4) مراقبة الحليف كما يُراقَب العدو؛ 5) الاهتمام بالاستفادة من الوضع الناتج من النضال أكثر من الاهتمام بالحفاظ على الحليف”.
أجرى المقابلة جان دوما دوكانج، نقلها من الفرنسية إلى العربية أنس العيلة، وقد راجع الترجمة جلبير الأشقر ونقّحها.
ويمكن قراءة المقابلة كاملة بصيغة PDF.
مجلة رمان