تحولات الأجندة التركية في المسألة السورية/ ماجد كيالي
ثمة عديد من الملاحظات أو الانتقادات، التي تتعلق بالسياسة التي انتهجتها تركيا إزاء الصراع السوري، الذي تفجر منذ تسعة أعوام، والتي اتسمت بالتدخل وبوضع الأجندات أو المصالح التركية، على رأس الأولويات والحسابات، على حساب مصالح الشعب السوري.
في هذا الشأن، قد يجدر التذكير بأن تركيا لعبت دورا أساسيا في إقامة الكيانات الأساسية السياسية الرسمية للمعارضة، وقد تمثل ذلك مثلا في تأسيس “المجلس الوطني السوري” في إسطنبول أواخر عام 2011، وفي ما بعد في تأسيس “الائتلاف الوطني السوري” (الدوحة، أواخر 2012)، علما أن الاثنين مقرهما في إسطنبول. وبالمثل فإن تركيا دعمت أو سهلت تشكيل فصائل معارضة عسكرية، ما جعل تلك الفصائل مدينة أو مرتهنة لها، وتعمل تبعا لأجنداتها وتوجيهاتها، أكثر مما عملت لصالح الشعب السوري.
وتبعا لما تقدم فقد كان لتركيا دور كبير في التحكم بالمسارين السياسي والعسكري للمعارضة السورية، وحتى بخطاباتها، التي غلب عليها طابع الخطاب الإسلامي، على حساب طابعها الوطني الديمقراطي.
وفي المحصلة فقد تمكنت تركيا من تعزيز مكانتها في الصراع السوري بسبب مجموعة من العوامل، يكمن أهمها في الآتي:
أولا، تمتعها بأطول حدود لدولة جوار مع سوريا في الشمال بطول 820 كيلومترا، في حين أن العراق هو الدولة الثانية مع حدود بطول 600 كيلومتر.
ثانيا، احتضانها للملايين من اللاجئين السوريين على أراضيها (الحديث يدور اليوم عن 3 أو 4 ملايين)، منذ تفجر الصراع السوري إلى الآن؛ على الرغم من مغادرة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى دول أخرى، لاسيما إلى أوروبا.
ثالثا، استنادها في ذلك إلى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية، لكن تلك القوة لوحدها لم تكن كافية، إذ أن الخطاب السياسي التركي، المشوب بمسحة إسلامية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، سهّل لفصائل المعارضة السورية أو غطى على توجهاتها المتساوقة مع السياسة التركية.
رابعا، بديهي أن دعم إيران اللامحدود للنظام السوري، ومشاركتها في معاداة وفي وأد إرادة السوريين للحرية والتغيير، ساعد في رفع أسهم تركيا وتعزيز دورها في الشأن السوري، لاسيما أنها أهم دولة جوار وأهم دولة إقليمية بالنسبة لسوريا.
خامسا، لا شك أن ضعف المعارضة السورية، سواء السياسية أو العسكرية أو المدنية، وافتقادها للبنى المؤسسية، والحال الكارثية التي نجمت عن الصراع الدامي والمدمر، أدت كلها إلى تعزيز ارتهان المعارضة للأطراف الخارجية ولاسيما منها تركيا.
عموما فقد شهدت السياسة التركية إزاء الصراع السوري، في السنوات التسع الماضية، تحولات عديدة ومختلفة، إذ انطلقت بداية من مساندة الشعب السوري في مطالبه المشروعة، لكنها انتهت إلى ما تعتبره الحفاظ على أمنها القومي، الذي يتمثل بالحؤول دون قيام كيان كردي في سوريا، وضمان أمن حدودها الجنوبية، وتعزيز نفوذها بين الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة بشأن تقرير مستقبل سوريا.
وفي التفاصيل فقد انتهجت تركيا سياسة قوامها دعم اتجاهات معينة، عسكرية – إسلامية، في المعارضة السورية على حساب أخرى، بحيث أن تلك السمة أثرت على الثورة السورية وتحكمت بمساراتها طوال المرحلة الماضية، إلى درجة أن معظم الفصائل العسكرية في الشمال باتت تبدو بمثابة امتدادا للسياسة التركية أو كذراع لها في الشأن السوري، وهو ما تبين في عمليات درع الفرات عام 2015، وغصن الزيتون عام 2018، ونبع السلام عام 2019، وما يتبين اليوم في التطورات المتعلقة بإدلب وما حولها.
ويتضح من كل تلك الحملات العسكرية ذات الطابع التدخلي في سوريا، أن تركيا تشتغل على خلق منطقة نفوذ لها في الشمال السوري بموازاة حدودها الجنوبية، وعلى قطع أي تواصل بين مناطق التواجد الكردي، وإنهاء وجود قوات بي.واي.دي، أو قوات قسد، والتي تعتبرها امتدادا لحزب بي.كي.كي (حزب العمال الكردستاني – التركي)، باعتبار أن مثل ذلك الوجود قد يهدد وحدة الأراضي التركية، علما أن ذلك النهج أدى إلى خلق مسألة كردية في سوريا، لم تكن موجودة سابقا على تلك الدرجة، وهو ما أضر بإجماعات السوريين، الذين وجدوا أنفسهم وجها لوجه، لاسيما بعد مشاركة فصائل عسكرية للمعارضة السورية في الحملات العسكرية التركية ضد المناطق الكردية.
وباعتبار أن الشيء بالشيء يذكر، فإن إصرار تركيا على محاربة الإرهاب المتمثل في حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي – السوري) وقواته “قسد”، باعتبارهما امتدادا لحزب العمال الكردستاني، لم يشمل محاربة جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام، المصنفة دوليا على أنها جزء من تنظيم القاعدة، وهو ما يثير الشكوك بشأن السياسة التركية، التي تفيد بالتسهيل لهذا التنظيم الإرهابي أو السكوت عنه في منطقة إدلب، تحت ناظريها وفي ظل وجود قواتها العسكرية، مع التذكير بأن تلك الجبهة لعبت دورا تخريبيا في الثورة السورية.
أيضا، فقد استخدمت تركيا قضية اللاجئين السوريين لابتزاز البلدان الأوروبية بتهديدها بسياسة الإغراق باللاجئين، سواء لاستدرار المساعدات المالية منها أو لتعزيز شروطها في مواجهة اشتراطاتهم على السياسة التركية، الداخلية والإقليمية.
بيد أن الخطوة الأهم في تحولات السياسة التركية كانت تمثلت بقيام تحالف أستانة الثلاثي عام 2017، الذي جمع تركيا (حليفة المعارضة) مع شريكي النظام في قتل وتشريد السوريين وتدمير عمرانهم، أي إيران وروسيا، لاسيما أن ذلك التحالف نشأ بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في الصراع السوري انطلاقا من سبتمبر 2015.
وفي الواقع فإن هذا التطور كشف ظهر الشعب السوري، وقصم ظهر المعارضة، التي باتت في حيرة من أمرها، أو مضطرة لمسايرة الخطوة التركية أو تغطيتها، وهو ما تبدى واضحا في موقفها المضطرب إزاء مفاوضات أستانة، التي أريد لها أن تكون بديلا لمفاوضات جنيف، وإزاء خطة المناطق منخفضة التصعيد التي أفضت إلى سقوط “المناطق المحررة”، وانحسار نفوذ المعارضة.
هكذا، فإن السياسة التي انتهجتها تركيا في الشأن السوري تبقى مثار جدل وخلاف، كما يفترض أن تظل في موقع النقد والمساءلة، إذ أن تركيا تتحمل المسؤولية عن كل ما جرى ويجري بقدر تلك المكانة أو ذلك النفوذ، أيضا، الذي تحتله أو تمتلكه في هذا الشأن.
كاتب سياسي فلسطيني
العرب