السياسات التنازعية في سورية: المعارضة والتمثيل والمقاومة: ملف من ستة مقالات اعداد مركز كارينغي للشرق الأوسط
مهى يحيَ
تُغلق غريزة نظام الأسد للحفاظ على البقاء، مهما كان الثمن، الأبواب في وجه أي فرصة محتملة للتغيير، لكن السياسات التنازعية كانت ممكنة ولاتزال قائمة.
السياسات التنازعية في سورية
مهى يحيَ, مع عصام القيسي
مَسَارُ المعارضة السياسية السورية نحو مآل التهميش
عمرو السراج, فيليب هوفمان
كيف خَسِرَ المجتمع المدني السوري استقلاليته في حرب الأجندات المتصارعة
أسعد العشي
كيف ولماذا تحدّت إدلب أمراءها الجهاديين
منهل باريش
إعادة إعمار سورية بين التطبيق التمييزي والاعتراض المطوَّق
سوسن أبو زين الدين, هاني فاكهاني
حمص: انقسامات تعكس وتُجسّد الصورة الكلّية للنزاع السوري العالق
جمانة قدّور
يضمّ هذا الملف بين دفّتيه دراسات لخبراء من اختصاصات ومجالات متنوّعة، هدفها استشراف فرص تحقيق تغيير سياسي في سورية، وردود فعل النظام حيال آفاق التغيير، وإمكانيات إحداث تغيير في المستقبل المنظور. كما يتطرّق إلى التحديات التي تواجهها المعارضة السورية منذ سنوات نشأتها وصولاً إلى العام 2020، ويناقش العوائق التي اعترضتها حين زاد اعتمادها على التمويل الإقليمي والدولي. يتناول الملف أيضاً مسألة منظمات المجتمع المدني والدور الذي قد تلعبه في سُلّم الأولويات السورية اليوم، مسلّطاً الضوء على دور التنظيم المحلّي في منع المجموعات التابعة للنظام والمجموعات غير التابعة له (مثل هيئة تحرير الشام) على السواء من السيطرة على المجتمع.
إضافةً، يتطرّق الملف إلى الوسائل التي يستخدمها النظام لتوطيد حكمه السلطوي، مركّزاً على فكرة أن عملية إعادة الإعمار الراهنة مُصمّمة في الواقع لسحق المعارضة. والحال أن فكرة التطبيع في ظل سيطرة النظام أضحت موضع تساؤل، إذ إن الولاءات المتضاربة والانقسامات الطائفية في مدن كحمص تشير إلى أن تحقيق الاستقرار والسلام الدائم غير ممكن من دون تطبيق شكل يُعتدّ به من العدالة الانتقالية.
عموماً، تسلّط هذه المجموعة من المقالات الضوء على المساعي التي قام بها، ولا زال يقوم بها، آلاف السوريين، على الرغم من الصعاب التي لا تزال تعترض طريقهم، من أجل بناء مستقبل أكثر عدلاً.
————————-
السياسات التنازعية في سورية/ مهى يحيَ, مع عصام القيسي
مقدّمة
أسفرت الانتفاضة السورية، التي اندلعت شرارتها الأولى في آذار/مارس 2011، عن تسييس لا سابق له للشباب السوري. في أعقاب حملة الاعتقالات وعمليات التعذيب التي طالت الشباب في مدينة درعا الجنوبية، تدفق مئات آلاف السوريين إلى الشوارع للاحتجاج على عقود مديدة من القمع الذي تمارسه الدولة. أعرب هؤلاء عن سخطهم حيال الطريقة التي تُحكم بموجبها البلاد وطالبوا بالحريات الأساسية والكرامة.
شكّلت المعارضة مئات اللجان المحلية (التنسيقيات) وهيئات من المجتمع المدني، التي نظّمت بدورها مظاهرات في بلدات ومدن في أنحاء سورية، وعبّرت بوسائل خلاقة عن تظلماتها. وأصدرت مطبوعات إلكترونية ومواقع إعلامية بديلة، وأطلقت حوارات ونقاشات موسّعة حول سورية التي يعرفون، وتلك التي يرغبون في رؤيتها مستقبلاً. بيد أن الردود العنيفة للدولة على هذا الحراك، والتي كانت تزداد قسوة مع الأيام، مضافاً إليها دخول قوى إقليمية ودولية على الخط، سهّلت بدء نشوب التمرّد المسلّح.
ما هي السياسات التنازعية؟
يمكن تصنيف مختلف جوانب المقاومة للنظام السوري، ومعها تلاوين الانخراط في هذه المقاومة، بأنها عموماً شكل من أشكال السياسات التنازعية، أي التفاعل بين السياسات والتنازع والعمل الجماعي.1 وتكمن السمات الأساسية للسياسات التنازعية في الأعمال الجماعية التي تجري خارج إطار مؤسسات الدولة (أي الاحتجاجات، والعرائض، والعصيان المدني، والشغب، وأحياناً أعمال العنف وبالتالي النزاع). في أشكالها غير العُنفية، تُعتبر السياسات التنازعية عاملاً حاسماً في عملية المشاركة السياسية. أشكال الاحتجاج هذه كانت واسعة ومتنوّعة في بقاع العالم كافة، وتراوحت بين حركة “احتلّوا ]وول ستريت[” في الولايات المتحدة، والاحتجاجات الأخيرة في تشيلي، وثورة المظلات في هونغ كونغ. هذه الحركات غالباً ما تمحورت حول مسائل التفاوت واللامساواة، والحقوق المدنية والسياسية، خاصة بالنسبة إلى الأقليات الدينية والإثنية، وتغيُّر المناخ، وغيرها.
تحدُث السياسات التنازعية في كلٍّ من الأنظمة الديمقراطية والسلطوية على حد سواء، ويرتبط نجاحها أو فشلها مباشرةً بالفرص السياسية المُتوافرة. هذه الفرص، التي يُحدّدها مدى انفتاح النظام المُتنازع عليه على الأطراف الجديدة في المشهد السياسي، ووجود مراكز مستقلة متعدّدة للسلطة، لها تأثيرات كبرى على حصيلة الحركات المُتنازِعة.2 وسبق لباحثين أن لاحظوا فرصة نجاح لمثل هذه الحركات في الأنظمة الديمقراطية أكثر بكثير من الأنظمة السلطوية، حيث قد يؤدي القمع فيها إلى دفع عناصر تكون معتدلة في البداية إلى التطرف.
في العام 2011، نشب الاحتجاج السياسي في عدد كبير من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك البحرين، والعراق، والأردن، ولبنان، والمغرب، وعُمان، وسورية، وتونس، واليمن. وقد شارك مئات الآلآف، إن لم يكن الملايين، من المواطنين في المنطقة في احتجاجات متفاوتة الحجم، مطالبين بالتغيير. هؤلاء تحرّكوا بطريقة غير مسبوقة، حيث كان يلتئم شملهم كأفراد أو مجموعات، فينظّمون لقاءات على مستوى المجتمعات المحلية، ونقاشات عامة، وحملات توعية مدنية، ونشاطات على الإنترنت. علاوةً على ذلك، كان هناك أيضاً تفاعل ثقافي مميّز تمثّل في فن الجدرانيات والرسوم، ومسرح الشارع، والموسيقى ومقاربات وعوامل أخرى لعبت دوراً حاسماً في تحديد مسارات ومصائر مثل هذه الحركات، منها ما يتعلق بما إذا كانت النخبة السياسية تعتقد بأن الاحتجاجات تشكّل خطراً وجودياً على مصالحها الخاصة الراسخة؛ والأساليب التي تختارها هذه النخب (وأجهزتها العسكرية) للرد؛ والسياقات الاجتماعية- الاقتصادية وتجارب العنف السياسي السابقة؛ ووجود منظمات مجتمع مدني منظّمة، على غرار نقابات العمال، تكون قادرة على قيادة التغيير.
إضافةً إلى ذلك، ترك تورّط القوى الإقليمية والدولية في هذه النزاعات بصمته على المحصلات، خاصة حين أدّت إلى عسكرة ما كان في البداية معارضة سلمية لسياسات الدولة. بيد أن العنف الذي ابتُليت به بلدان كالعراق وسورية وليبيا واليمن بعد العام 2011، كان كذلك بمثابة نذير سيؤدي إلى تعزيز الطبيعة اللاعنفية لاحتجاجات الجزائر والعراق ولبنان والسودان وتونس.
السياسات التنازعية في سورية
حين انطلقت الاحتجاجات في سورية، لجأ النظام الرافض لمشاركة السلطة، إلى العنف. وفي غضون أشهر قليلة، تحوّلتانتفاضة سلمية، مدنية، لعبت فيها لجان التنسيق المحلية دوراً وازناً، إلى تمرد مسلّح.
وفيما كانت الجماعات المسلحة التي موّلت قوى خارجية معظمها، أكثر نشاطاً، شكّلت المعارضة السياسية هيئة تمثيلية في اسطنبول عُرفت باسم المجلس الوطني السوري في تشرين الأول/أوكتوبر 2011.3 ومع الوقت، توسّع الطيف الإيديولوجي للمعارضة في سورية. فالجماعات الإسلامية التي تلقّت فيضاً من التمويل والدعم الخارجيين، ومن ضمنهم آلاف المقاتلين الأجانب، بدأت تحظى بشعبية في أوساط المعارضة المسلحة والسياسية. لعب بعض هذه الجماعات لاحقاً دوراً نافذاً في مفاوضات السلام الرسمية. وفي هذه الأثناء، تعرّض الناشطون المدنيون، الذين كانوا في الصفوف الأمامية للاحتجاجات السلمية، إلى استهداف مقصود من طرف النظام السوري وجماعات معارضة. عدد كبير من هؤلاء النشطاء – ومن بينهم رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي )مخطوفي دوما الأربعة( وعضو اللجنة الدبلوماسية للهيئة الكردية العلياعيسى حسو – إما اختفوا قصراً، أو سُجنوا، أو قُذف بهم إلى المنافي. في غضون ذلك، كانت الجماعات المسلحة المعارضة تنجح تباعاً في السيطرة على نحو 60 في المئة من الأراضي السورية.4
اليوم، وبعد حوالى عقدٍ من هذه التطورات، استعاد النظام السوري، بمساعدة عسكرية حاسمة من روسيا وإيران، السيطرة على معظم أنحاء البلاد. وهو حقّق ذلك باستخدام عمليات الحصار، وتكتيكات التجويع، والمصالحات القسرية.5 وفي نهاية العام 2018، كان 6.7 ملايين سوري يبحثون عن مأوى في كل أرجاء المعمورة.6 وحتى آذار/مارس 2020، كان 5.4 ملايين سوري على الأقل يقيمون في بلدان مجاورة،7 فيما نزح 6.6 ملايين آخرين داخلياً.8
الدمار المادي في سورية كاسح، إذ قدّر مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا أكلاف إعادة البناء بنحو 250 مليار دولار.9 بالمثل، قدّر البنك الدولي أن سورية خسرت منذ العام 2010 ما يوازي 226 مليار دولار على الأقل من ناتجها المحلي الإجمالي.10 ومنذ النصف الأول من العام 2020، تواجه محافظة إدلب الشمالية، وهي آخر معقل في يد المعارضة، باستثناء مناطق سيطرة الأكراد، هجوم النظام السوري والقوات الروسية والإيرانية، وعلق بين فكي كماشة هذا القتال أكثر من 950 ألف شخص.11 وقد أصبحت إدلب ملاذاً داخلياً للنازحين السوريين الذين أُجبروا على مغادرة مناطق أخرى عبر ما يسمّى “اتفاقات المصالحة”.
لقد جعل الرئيس السوري بشار الأسد المعارضة السياسية داخل سورية أمراً بالغ الصعوبة. مع ذلك، لا تزال هذه المعارضة حيّة وتنبض بين ناشطين، وصحافيين، وأكاديميين، خاصة في الشتات السوري. يضم هذا الملف بين دفّتيه دراسات لستة ناشطين وباحثين وصحافيين وأكاديميين ومحللين انخرطوا بعمق في الانتفاضة طيلة العقد الماضي، وذلك بهدف التفكّر بمسار الانتفاضة السورية وتحرّي آفاقها المستقبلية. وتستطلع هذه الأقسام مختلف أشكال المعارضة السياسية ومدى تواصلها أو انقطاعها عن الأنماط السابقة من حركات الاحتجاج المدني، وتوفّر رؤىً حول فرص النشاط المدني الساعي لتحقيق التغيير، في خضم استعادة النظام السيطرة على الأراضي السورية.
يُجادل المؤلّفون أن السياسات التنازعية في سورية أظهرت سمات مشابهة لتلك التي حدثت في بلدان أخرى، وإن بشكل أكثر إسهاباً بكثير. وفي حين بدا أن الفرص السياسية للدفع باتجاه التغيير كانت مفتوحة على مصراعيها في المنطقة في العام 2011، إلا أن النظام السوري كان غير قادر أو غير مُستعد لاستيعاب اللاعبين السياسيين الجدد. وهكذا، وفي سياق قمع الدولة والمصالح الدولية والإقليمية قي مجال تمويل تغيير النظام، كان التحوّل نحو العنف السياسي قد أصبح أمراً لا مناص منه.
أسفر العنف عن عدد من التحديات التي ساعدت على تقويض معارضة النظام: الأول هو التشظي التنطيمي. وكما أبان عمر السراج وفيليب هوفمان في مقاربتهما، كان فقدان الاتساق التنظيمي والانقطاع بين المعارضة الداخلية والمعارضة السياسية خارج سورية هما عقب أخيل الجناح المدني الوطني المُعارض للأسد. وقد بقي هذا الجناح المدني الوطني في المنفى عاجزاً عن ممارسة نفوذ يُعتد به على شبكة مؤسسات الحوكمة المدنية المعقّدة وغير الشفافة التي برزت داخل سورية مع توالي النزاع فصولاً. كما بقي منفصلاً عملياً عن مروحة الفصائل التي ضمنت الأمن في المناطق خارج سيطرة الحكومة.
ثم جاء التحدي الثاني ليفاقم هذا التشظي، والمتمثّل في مسألة تمويل الثورة. فقد خاضت المعارضة السياسية نضالاتها لسنوات من دون الحاجة إلى أموال لبناء نفوذ وازن لها داخل سورية. بيد أن النزاع العسكري وتدهور الأوضاع الإنسانية أثبطا هذه المعارضة، خاصة فيما كانت القوى الدولية تخلق أقنية تمويل تقفز كلياً فوق هيئاتها.
الكيانات التي تكبّدت ثمناً فادحاً بسبب ذلك، شملت أطرافاً عسكرية ومدنية في آن، كما يوضح أسعد العشي في نصّه. في نهاية المطاف، استتبع لاعبون دوليون وإقليميون الهياكل المُعارضة الرئيسة الثلاث التي برزت العام 2011 – لجان التنسيق المحلية، والهيئة العامة للثورة السورية، والمجلس الأعلى للثورة السورية. حدث هذا الاستتباع على مرحلتين: الأولى، من خلال التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية الذي مكّن، مع الوقت، الممولين الأجانب من ممارسة نفوذ كبير على الأجندات السياسية والإنسانية الخاصة بمختلف المجموعات في سورية. وهذا طرح على منظمات المجتمع المدني مسألة دورها في تقديم الخدمات، ثم دَفَعَ العديد منها لاحقاً إلى التحوّل نحو العمل في مجال الخدمات الإنسانية فبدأت تلعب دور المُموّن لخدمات عامة أساسية كانت من مسؤولية الحكومة في فترة ما قبل الحرب. واليوم، تُواجه المعارضة المدنية وضعاً مماثلاً: إذ أن الإطار السياسي لإنهاء النزاع السوري يتحدّد في معظمه من جانب المُسلحين والقوى الدولية، وهذا ما يجعل كلاً من بقاء المعارضة المدنية على قيد الحياة وتوافر الرؤية الموحّدة لمستقبل سورية، أمرين فائقي الصعوبة.
هذان التحديان ترافقا مع آخر ثالث: حال تشتّت الحركات السورية المُتنازعة دون تشكّل مؤسسة واحدة تمثّل المعارضة السورية على الأرض، أو في المفاوضات. وأسفر ذلك أيضاً عن غياب أي ناطق باسم ملايين السوريين النازحين داخلياً أو في المنافي. وبالنسبة إلى الكثير من هؤلاء السوريين، كانت المعارضة السياسية ظاهرة قَصِيَة ومنقطعة عن بؤسهم اليومي، هذا في حين لم تكن كوكبة الجماعات العسكرية العاملة تحت يافطة المعارضة، سوى ممثلة لداعميها الدوليين ببساطة. ومع مرور الوقت، بدأ يشعر العديد من السوريين بأن هذه الجماعات خانتهم.12
في هذا السياق، بات إرث الماضي يحتل صدارة الأحداث. وكما يبيّن السراج وهوفمان، وكذلك منهل باريش في مداخلاتهم، فإن تاريخ السياسات التنازعية في سورية هو الذي صاغ سلوكيات قوى المعارصة والمقاومة المدنية. فقد تشكّل الجناح المدني- الوطني، كما ناقش السراج وهوفمان، أساساً من أفراد ومجموعات عارضت النظام في السابق، سواء منهم الذين وقّعوا إعلان دمشق للتغيير الوطني والديمقرطية في تشرين الأول/أكتوبر200، أو جماعة الإخوان المسلمين وناشطين آخرين في المنفى.13
هذا التاريخ من السياسات التنازعية لعب أيضاً دوراً مهماً في محافظة إدلب، وهي محط تركيز باريش. هناك، برزت حكومة شبه مستقلة تحت مظلة هيئة تحرير الشام، وهي ائتلاف لمجموعات طرفها الرئيس هو جبهة النصرة، فرع القاعدة في سورية. ويجادل باريش أنه على الرغم من استخدام النظام السوري والقوات الروسية وجود جبهة النصرة لوصم إدلب بأنها معقل للأرهاب لتُبرر هجومها على المحافظة، إلا أن الحقيقة مختلفة تماماً. فالمقاومة المحلية لحكم جبهة النصرة كانت وازنة، وتواصلت من خلال البُنى والشبكات الاجتماعية المعقّدة التي شملت أحزاباً سياسية لها تاريخ مديد من المعارضة للنظام السوري، والطبقات الوسطى في بعض البلدات، ورجال دين كاريزميين، وقبائل. ويوضح باريش أن مثل هذه الديناميكيات ربما تلعب أيضاً دوراً في مقاومة تدعيم سيطرة النظام على إدلب، إذا، أو حين، يستعيدها.
تطوّرت المعارضة بشكل مختلف في تلك المناطق من سورية القابعة تحت سيطرة النظام، الذي وظّف كل وسيلة في حوزته لتعزيز سلطته والحفاظ على البقاء. تستعرض سوسن أبو زين الدين وهاني فاكهاني كيف يجري استخدام إعادة البناء للتأثير على المصير النهائي في تلك المناطق.
هنا، يستخدم المؤلّفان أسلوب بناء حي جديد في دمشق يدعى “ماروتا سيتي” فوق المساكن العشوائية في حي بساتين الرازي، كحالة دراسية يحدّدان بموجبها كيف يستخدم النظام إعادة الإعمار لتوطيد حكمه السلطوي. فهو أصدر مراسيم تسهّل مصادرة المساكن غير الرسمية والملكيات الخاصة، فيما كانت متطلباته الإجرائية المُغالية تقذف بآلاف العائلات المطرودة إلى براثن كابوسٍ من الفساد البيروقراطي، وهي تحاول ضمان سكن بديل أو تطالب بحقوقها في الملكية. وعلى الرغم من إمكانيتهم المحدودة، كان السكان السابقون يقاومون المشروع من خلال إعلام الدولة ووسائل التواصل الاجتماعي، ويشكّلون مجموعات للتعبير عن مطالبهم المشتركة ويتشاطرون المعلومات. كما أن السوريين في الشتات يعبّئون صفوفهم لمواجهة استراتيجيات النظام، وهم تواصلوا مع المجتمع الدولي مثيرين مبدأ إعادة البناء العادل، ويُعدّون الخرائط والبيانات المكانية لتوثيق حقوق الملكية والخروقات التي تجري فيها، ويصوغون خيارات سكن بديلة.
علاوةً على ذلك، تبرز في حمص ديناميكيات موازية، هي محور مداخلة جمانة قدور. حمص هذه، التي هُلّلَ بها سابقاً كعاصمة الثورة ضد نظام الأسد، كانت المحافظة الأولى التي واجهت حملات القوات الحكومية، وسقطت في يد النظام في أيار/مايو 2018. المدينة اليوم منقسمة بعمق وفق ثلاثة خطوط متباينة- بين أنصار النظام وخصومه، وبين الطوائف، وبين الداعمين الدوليين الأساسيين لسورية، أي روسيا وإيران. وكما يفعل النظام في مقاربته لـ”ماروتا سيتي”، يقوم باستخدام إعادة البناء في حمص لمكافأة قواعده الشعبية وحرمان المناطق التي كانت في قبضة المعارضة سابقاً من التمويل، أو حرمان سكانها النازحين من حق العودة. ثم تأتي التوترات والمصالح المتنافسة بين روسية وإيران لتفاقم تشظي المدينة.
وهكذا، وفيما يتمحور جل اهتمام أهالي حمص حول الحفاظ على بقائهم، تبدو آفاق التسوية السلمية للسياسات التنازعية التي تستطيع بموجبها كل الفئات طرح مطالبها، محدودة للغاية. يُرجَّح، بدلاً من ذلك، كما تجادل قدور، أن تصبح حمص بؤرة صراع مستقبلي لا تشتمل على أي برنامج سليم للعدالة الانتقالية، ولا تعالج التصدعات الاجتماعية في المدينة، ولا تضمن شكلاً من أشكال المحاسبة.
خلاصة القول: تُظهر مختلف أقسام هذا البحث أن غريزة النظام للحفاظ على البقاء بأي ثمن، تُغلق الأبواب في وجه أي فرصة محتملة للتغيير. ومع ذلك، ليست المقاومة على مستويات عديدة بالأمر المستحيل، لا بل هي تحدث الآن. فعلى الرغم من كل التحديات، أدّت السياسات التنازعية منذ اندلاع الانتفاضة في البلاد إلى نشر الوعي لدى أجيال من السوريين حيال حقوقهم السياسية والاقتصادية- الاجتماعية والثقافية. وكما تدل تجارب بلدان أخرى، تشعل السياسات التنازعية فتيل تغيير بعيد المدى، وتؤثّر على الأنظمة السياسية وخيارات السياسة العامة.
وفي حين يبدو احتمال التوصّل إلى تسوية سياسية مستدامة في سورية باهتاً، يُواصل آلاف السوريين العمل من أجل وطن أكثر عدلاً. وهذا يأتي في وقت يضطّر فيه نظام مُتهالك إلى الاعتماد على مروحة واسعة من القوى العسكرية وغير العسكرية للحفاظ على سيطرته على الأراضي التي يستعيدها. ومع ذلك، وفي بعض المناطق مثل درعا، مسقط رأس الانتفاضة السورية، عاد المواطنون مجدّداً إلى الشارع للمطالبة بالتغيير. والحال أن سيل أنهار الاحتجاج في سورية اليوم لاتزال تتدفق بغزارة وعمق، وهذا سيستمر في المستقبل المنظور.
عن الكاتبين
مهى يحيَ مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تتركّز أبحاثها على التعددية والعنف السياسي والعدالة الاجتماعية وتحديات المواطنة والتأثيرات السياسية والاجتماعية-الاقتصادية الناجمة عن أزمة الهجرة واللجوء.
عصام القيسي باحث مساعد في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. يعمل على السياسات التنازعية والدول المتحوّلة والصراعات عبر الحدود، وقضايا أخرى تواجهها المنطقة. هو حائز على ماستر في دراسات الشرق الأوسط من مركز الدراسات العربية والشرق-أوسطية في الجامعة الأميركية في بيروت.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).
هوامش
1 Charles Tilly and Sidney Tarrow, Contentious Politics (New York: Oxford University Press, 2015), p. 7.
2 Stephen Orvis and Carol Ann Drogus, Introducing Comparative Politics: Concepts and Cases in Context (Washington, DC: CQ Press, 2017), p. 602.
3 مركز كارنيغي للشرق الأوسط، “المجلس الوطني السوري”، الأزمة السورية (مدوّنة)، 25 أيلول/سبتمبر 2013، https://carnegie-mec.org/syriaincrisis/?fa=48399
4 Ben Hubbard, “Momentum Shifts in Syria, Bolstering Assad’s Position,” New York Times, July 2013, https://www.nytimes.com/2013/07/18/world/middleeast/momentum-shifts-in-syria-bolstering-assads-position.html.
5 Emma Beals, “De-Escalation and Astana,” Atlantic Council, September 2017, https://www.atlanticcouncil.org/blogs/syriasource/de-escalation-and-astana/.
6 United Nations High Commissioner for Refugees, “Global Trends: Forced Displacement in 2018,” 2019, https://www.unhcr.org/statistics/unhcrstats/5d08d7ee7/unhcr-global-trends-2018.html.
7 United Nations High Commissioner for Refugees, “Situation Syria Regional Refugee Response,” Updated March 26, 2020, https://data2.unhcr.org/en/situations/syria.
8 United Nations High Commissioner for Refugees, “Syria Emergency,” Accessed April 3, 2020, https://www.unhcr.org/syria-emergency.html.
9 UN Department of Political Affairs, Security Council Briefing on the Situation in Syria, Special Envoy Staffan De Mistura, November 2017, https://www.un.org/undpa/en/speeches-statements/27112017/syria.
10 European Council on Foreign Relations, “The Geopolitics of Reconstruction: Who Will Rebuild Syria?,” September 2019, https://www.ecfr.eu/article/commentary_the_geopolitics_of_reconstruction_who_will_rebuild_syria.
11 UN Security Council, “Greater Cross-Border, Cross-Line Access Needed For Assistance To Syria, Emergency Relief Coordinator Tells Security Council,” February 2020, https://www.un.org/press/en/2020/sc14127.doc.htm.
12 مهى يحيَ، “أصوات مهمّشة: ما يحتاجه اللاجئون السوريون للعودة إلى الوطن”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، نيسان/أبريل 2018، https://carnegie-mec.org/2018/04/18/ar-pub-76065
13 مركز كارنيغي للشرق الأوسط، “إعلان دمشق”، آذار/نيسان 2012، https://carnegie-mec.org/syriaincrisis/?fa=48515
———————–
مَسَارُ المعارضة السياسية السورية نحو مآل التهميش/ عمرو السراج, فيليب هوفمان
مقدّمة
منذ غُرّة الانتفاضة السورية، واجهت المعارضة المدنية- الوطنية (أي أولئك الناشطون والسياسيون الذين حظوا معاً باعتراف دولي بهم كبديل عن نظام الرئيس بشار الأسد) عقبات كأداء أمام احتمال تحوّلها إلى طرف وازن داخل سورية. فهي كانت غير قادرة على ممارسة نفوذ ذي شأن على شبكة مؤسسات الحوكمة المدنية المعقّدة وغير الشفافة التي انبثقت مع تتابع النزاع فصولا، كما كانت منفصلة عملياً عن الفصائل المسلحة التي أمّسكت بزمام الأمن في المناطق السورية الخارجة عن سيطرة الحكومة.
وفي حين أن مروحة من الجماعات السياسية والعسكرية شهرت سيف المعارضة ضد نظام الأسد، إلا أن عناصر الجناح المدني- الوطني في المعارضة تشاطروا تاريخاً أكثر تمايزا. إذ تضرب هذه المعارضة جذورها في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في تشرين الأول/أكتوبر 2005 الذي وقّعه ناشطون من كل ألوان الطيف السياسي تحت شعار الإصلاح السياسي. وبعد أن نشبت الانتفاضة في العام 2011، انضم العديد من المُوقعين إلى جماعة الإخوان المسلمين وشخصيات سياسية منفية أخرى لتشكيل المجلس الوطني السوري. هذا المجلس، وغيره من المجموعات الأخرى، حوّل نفسه لاحقاً إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي اتّخذ من إسطنبول مقراً له وعُرِف أيضاً باسم الائتلاف الوطني السوري، وكانت أداة الحوكمة فيه الحكومة السورية المؤقتة. كما ضمّت المعارضة السورية أيضاً هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهي مظلة تنظيمية شُكّلت بحفز من السعودية لتوحيد المجموعات السياسية السورية تحضيراً لمفاوضات السلام التي رعتها الأمم المتحدة.
لسنوات عدة، كان كلٌ من الأطراف السورية والدولية يشيرون إلى الجناح الوطني- المدني على أنه “المعارضة السورية”، مُبرزين بذلك أهميته المُفترضة. ولأن هذه المعارضة شاركت في خطة سلام لسورية أشرفت عليها الأمم المتحدة، وكانت تعود بأصولها إلى الحملة المدنية المديدة ضد نظام الأسد ولصالح الإصلاح، فهي تمتّعت بشرعية ولم تُواجه شكوكاً جدّية بها في بداية الانتفاضة. بيد أن تصاعد حدة الصراع العسكري في البلاد، وما رافقه من أزمات إنسانية، وتفاقم السمات الطائفية، خلق ديناميكيات همّشت على نحو متزايد الأبعاد المدنية والوطنية، ما أدى في خاتمة المطاف إلى التهميش الكامل للمعارضة السورية.
التحديات التي واجهتها المعارضة السورية
طيلة مسار النزاع السوري، ساهم العديد من العوامل في الحد من قدرة المعارضة المدنية- الوطنية على لعب دور فعّال كقوة سياسية يُعتد بها. من بين هذه العوامل قضايا تتعلّق بالمعارضة نفسها وخياراتها ومناحي قصورها، إضافة إلى مسائل تتّصل بالبيئة السياسية التي تنشط في سياقها والتي لا كبير سيطرة لها عليها. على سبيل المثال، لم تُبلور المعارضة المدنية- الوطنية قط أهدافاً استراتيجية واضحة، وكانت غير قادرة على التصدي بنجاعة لتحديات المنفى. كذلك، تعيّن على المعارضة أن تُباري وتنافس العديد من اللاعبين السياسيين المُنخرطين في الصراع ضد نظام الأسد، بما في ذلك الجماعات الإسلامية، فيما كانت هي في الوقت عينه تعاني من الأجندات المتباينة لداعميها الخارجيين.
التحديات الداخلية: الأهداف غير الواضحة وبلايا المنفى
منذ بداية النزاع السوري، كانت المعارضة المدنية- الوطنية تُحبذ إطاحة الرئيس بشار الأسد من السلطة، بيد أنها افتقدت إلى رؤية مفصّلة لسوريا مابعد الأسد، وإلى خطة عملية لتحقيق التغيير. كان هذا قصوراً فادحاً أثار الشكوك حول ما إذا كانت المعارضة بالفعل بديلاً يُعتد به للنظام السوري لديه فكرة واضحة عن النظام الجديد الذي يسعى إلى استيلاده.
في البداية، ركّزت المعارضة جهودها على تنفيذ بيان جنيف الصادر في حزيران/يونيو 2012، والذي كان كناية عن خطة من ست نقاط وصفها مجلس الأمن الدولي بأنها إطار لحل سياسي في سورية. بيد أن الأهداف العامة للمعارضة بقيت غامضة، وهذا يعود جزئياً إلى الأهداف المعلنة التي حددها البيان. إذ أن الوثيقة دعت إلى” هيئة حكم مؤقتة لها صلاحيات تنفيذية كاملة تُشكّل بموافقة متبادلة”. وقد اعتبر أعضاء المعارضة السياسية أن هذا الشرط يضمن لهم ممارسة حق النقض (الفيتو) على ما إذا كان الأسد طرفاً أم لا في السلطة الانتقالية1، الأمر الذي عزز هدفهم الأقصى وهو تغيير النظام برمته.
لكن، كان ثمة بعدٌ سلبي في اتخاذ هذا الموقف المُطلق حيال نظام الأسد من دون تطوير خيارات أخرى تحظى بمصداقية. إذ أن هذا قلّص التأثيرات التي كان يمكن أن تمارسها المعارضة حين أوحت للنظام بأنه لن يحصد شيئاً سوى الريح من المفاوضات. وكان نيقولاوس فان دام، السفير الهولندي السابق في الشرق الأوسط ومؤلف كتاب مهم للغاية حول سورية، قد ألمع إلى هذا القصور قائلا: “لم يكن ثمة مجال للعمل مع النظام في معجم المعارضة.2 كانت المعارضة، بتركيزها على مطالب تغيير القيادة وتطبيق إصلاحات شاسعة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، تطلب عملياً من محاوريها في الحكومة السورية التسليم الطوعي لسلطة الدولة إليها. في المقابل، أدى رفض الدولة إسباغ الشرعية على المعارضة السياسية إلى توترات لاعلاج لها قوّضت أيضاً المفاوضات. كانت المعارضة مغرقة في التفاؤل بمدركاتها للدعم الدولي لها، وخلطت بين التبرير الأخلاقي لقضيتها وبين القوة السياسية الملموسة، وعجزت عن الإدراك الكامل “بأن كونك على حق شيء، وتحصيل هذا الحق شيء آخر مختلف تماما”.3
ترافق غياب الوضوح لدى المعارضة حيال أهداف سياسية قابلة للتحقيق مع مشكلة أخرى، هي أيضاً من قبيل الإيذاء الذاتي المُتعمد. فحين اختارت أن تعمل من خارج سورية، عزلت المجموعات المشكّلة للمعارضة المدنية- الوطنية نفسها عن الأطراف العسكرية داخل البلاد التي سيطرت بسرعة على الديناميكيات المتطورة للنزاع. علاوة على ذلك، ولأنها اعتُبرت بعيدة عن معاناة السوريين في الداخل، واجهت المعارضة بالتدريج مشكلة كبرى في حقل الشرعية. وكل ذلك جعل اليد العليا للقوى على الأرض في مجال تحديد المقاربة حيال النظام السوري، وكذلك حيال تلقّي المساعدات الخارجية.
وبالتالي، عجز ممثلو المعارضة المدنية- الوطنية، (سواء أكان مقرهم في إسطنبول كما المجلس الوطني السوري، ولاحقاً الائتلاف الوطني السوري، أو في الرياض كما الحال مع اللجنة العليا للتفاوض، أو في جنيف وجنيف وفيينا كما مع بعض مكاتب المعارضة)، عن إدخال تعديلات وازنة على مجرى النزاع أو على التسوية. والحال أن سلبيات المنفى أثّرت سلباً على أولئك الذين عارضوا في البداية نظام الأسد من داخل سورية، والذين استتبعتهم لاحقاً المعارضة المدنية- الوطنية خارج البلاد. كانت المعارضة السياسية غالباً ما تستوعب الناشطين من داخل سورية، وتوظّفهم للعمل في مؤسساتها وتبُعدهم عن السياق الذي كانوا ينشطون في إطاره. ونتيجة لذلك، وفي غضون أشهر قليلة، خسرت المعارضة كل اتصالاتها الداخلية على الأرض، ما جعل وجودها إلى حد كبير لزوم ما لا يلزم.4
ما كان أسوأ هو أن كل ذلك حدث في وقت كانت فيه الفصائل المسلحة والمجالس المحلية المؤقتة داخل سورية تباشر الاستيلاء على الإدارات الأمنية والمدنية في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة. وقد شكّلت هذه الهيئات أقنية تمويل منفصلة مع المانحين الدوليين، مُقلّصة بذلك هيمنة المعارضة المدنية- الوطنية على التطورات على الأرض. مثل هذه الدورة سرعان ما باتت تُغذي نفسها بنفسها: فالتمويل الذي حصلت عليه المعارضة الموجودة في الداخل السوري، والتي كانت تُشكك أصلاً بصدقية معارضة المنفى كهيئة تنسيق، أدى إلى تحويل الموارد بعيداً عن المنفيين، ما همّش أكثر نفوذ المعارضة السياسية ومعها قدراتها التنسيقية.
التحديات الخارجية: تعدُد اللاعبين والأجندات الأجنبية
قبيل العام 2011، اتّسمت المعارضة السياسية في سورية بالانقسامات، والانتفاضة لم تفعل شيئاً سوى تضخيم هذا المنحى. وفي حين كان المُوقعون على إعلان دمشق، الذين جاءوا من مشارب أيدولوجية وطائفية مختلفة، يأملون بالتطور كي يصبحوا حركة سياسية مستقلة، إلا ان العديد من الشخصيات الرئيسة في الإعلان اعتُقلوا غداة التوقيع عليه. وفي الفترة بين 2006 و2008، غادر موقّعون أساسيون سورية، بعد أن منعتهم نزاعات داخلية وضغوط الدولة من خلق كيان يجسِّد مبادئ الإعلان، ما أدى إلى انشقاقات وانقسامات داخل صفوف المعارضة.
بعد انطلاق انتفاضة 2011، استمرّ هذا المنحى، مع تبنّي جماعات المعارضة مقاربات متباينة حيال النزاع المتصاعد. ففي دمشق، أسّست في البداية شخصيات معارضة هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي. ميّزت هذه الهيئة نفسها عن باقي مجموعات المعارضة من خلال رفضها لنفوذ كلٍ من المنظمات السياسية خارج سورية والقوى الأجنبية، وتبنيها مواقف اعتبرها أعضاء هيئات أخرى غير مقبولة ومُجاملة للحكومة السورية. وقد جهد الزعيم المعارض المخضرم رياض الترك وهيئة التنسيق بقيادة شخصية معارضة أخرى هي حسن عبد العظيم للاتفاق على برنامج مشترك. لكن، وكما يقول برهان غليون، وهو باحث يقيم في باريس سيصبح لاحقاً رئيساً المجلس الوطني السوري، ثبّطت الخلافات على الأدوار القيادية محاولات التعاضد هذه.5 وعلى رغم أن الضغوط الدولية دفعت المجلس الوطني وهيئة التنسيق إلى توقيع “الميثاق الوطني لسورية الجديدة” في العام 2012، إلا أن المعارضة السياسية فشلت في رص الصفوف على نحو يُعتد به. والبون الشاسع في مطالب الأطراف المؤسسة، والتي تراوحت بين الانتقال بعيداً عن الأسد وبين الإصلاحات التدريجية، حجبت فرصة بروز موقف تفاوضي موحّد.
هذا الفراغ مكّن أطرافاً أخرى من التحرك لملء الفراغ. وبعدها سرعان ما عزّز التصعيد العسكري مواقع الفصائل الإسلامية المسلّحة المشكلّة حديثاً، والتي أظهرت أنها الأفضل تنظيماً والأكثر قدرة من نظرائها غير الإسلاميين على تحقيق تنسيق وتعبئة وتجنيد واسع النطاق. وفيما كانت المعارضة السياسية تنغمس في لجج المناقشات حول جهود التوحيد في المؤتمرات الدولية، كانت الفصائل الإسلامية تتولّى السيطرة على المراكز السكنية الرئيسة داخل سورية وتُوسّع نفوذها في الحكومات المحلية المدنية. وهكذا، استلمت كيانات إسلامية، على غرار “إدارة الخدمة المدنية” التي شكّلتها هيئة تحرير الشام، وهي فصيل إسلامي رئيس في محافظة إدلب، زمام الأدوار التنسيقية بين المجالس المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة. هذه التطورات وضعت المعارضة المدنية- الوطنية في حيص بيص. إذ فيما أطلّ المانحون الدوليون على الفصائل الإسلامية وهيئات التنسيق المدني بكونها كيانات خطرة وتحركوا لمعاقبة الأكثر ظهوراً بينها، كان العديد من شخصيات المعارضة يعتقدون أن التحالفات التكتيكية مع مثل هذه الجماعات هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة نظام الأسد على نحو فعّال.
هذه المقاربة المُلتبسة للمعارضة السياسية إزاء الفصائل المسلحة الإسلامية والهيئات المدنية (حيث دافعت عنها في البداية في وجه الانتقادات الدولية فيما كانت تواصل سراً التشكيك بها) أثبتت أنها كانت وبالاً على طموحاتها العامة. فمع سيطرة الجماعات الإسلامية على مواقع مُدّرة للمال والغنائم، كنقاط الحواجز والمحاكم وأقنية توزيع المساعدات التي شكّلت أساس هيكلية السلطة غير الرسمية في مناطق سيطرة المعارضة، باتت المعارضة المدنية- الوطنية بلا حول ولا قوة وعاجزة عن إثبات نفسها كبديل إداري عن نظام الأسد كما خطّطت في البداية.
هذا الضعف تفاقم أكثر بفعل عدم اتساق المقاربة الدولية للنزاع، حيث خلق غياب الرد الموحّد والمتناغم للقوى الخارجية ارتباكاً واسعاً في صفوف المعارضة وعقّد جهودها للعمل على بلورة هدف مشترك. على سبيل المثال، على رغم أن روبرت فورد، السفير الأميركي لدى سورية في الفترة بين 2010 و2014 أوضح لشخصيات المعارضة بأن الولايات المتحدة لن تقوم بخطوات عسكرية، إلا أنه ومعه مبعوثون دوليون آخرون أبدوا دعمهم للاحتجاجات المتوسّعة في بداية الانتفاضة. وهم انضموا إلى المتظاهرين وشجّعوا الناس على المشاركة على رغم اشتداد عنف الحكومة السورية. مثل هذه التطورات ترافقت مع ما بدا أنه دعم دولي بالغ الأهمية. ففي آب/أغسطس 2011، التأم شمل ممثلي الحكومات في مجموعة أصدقاء سورية ودعوا إلى إطاحة الأسد، كما اعترفوا بالمجلس الوطني السوري على أنه “الممثل الشرعي لكل السوريين”.
لكن، وعلى رغم كل هذه الاستعراضات العاطفية الداعمة للمعارضة، بقيت الحكومات الغربية منقسمة حيال مدى نجاعة انتهاج هذا المسار. على سبيل المثال، فضّلت شخصيات وازنة في إدارة الرئيس باراك أوباما آنذاك، مثل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ديفيد بترايوس، التصعيد السريع لدعم الفصائل المسلّحة. وفي صيف 2012، حظيت خطتهم لتسليح المعارضة السورية بدعم البنتاغون وهيئة الأركان المشتركة. بيد أن أوباما رفض الخطة، ومال مسؤولون كبار في البيت الأبيض لصالح مقاربة أكثر تحفظاً، مُعربين عن شكوكهم بالمآل البعيد للمعارضة السورية.
أدّت مثل هذه المقاربات المتباينة إلى خلق توقعات زائفة في صفوف المعارضة. إذ تم تحميل بادرات رمزية أكثر مما تحتمل،6 كما أخطأت المعارضة حين سمحت للتفكير الرغائبي بتغشية فهمها لمُعطيات القوة الحقيقية.
علاوة على ذلك، فاقم الداعمون الإقليميون والدوليون للمعارضة السورية من مسألة غياب الوضوح هذه، من خلال طرح رؤى متباينة حول مايجب أن يكون عليه مستقبل المعارضة. فقد تصوّرت القوى الغربية عموماً هيئة سياسية ليبرالية عابرة للطوائف يُمكنها أن تبني وفاقاً حول الخطوط العامة لمرحلة الانتقال بعد الحرب. لكن الدبلوماسيين الغربيين بقوا عاجزين عن تحقيق ذلك، خاصة حين باتت المعارضة نفسها معزولة عن التطورات في داخل سورية وتتعرّض إلى ضغوط شديدة لتحديد موقف تفاوضي موحّد. على أن البلدان المؤيّدة للمعارضة في الشرق الأوسط، تبنّت أجندة أكثر تطرفاً وخلقت خيمة أوسع اعتقدت أنه يمكن للأطراف المعادية للأسد أن تلتئم تحت سقفها. بيد أن الجماعات ذات الانتماءات الطائفية والعنفية الواضحة التي دعمتها السعودية وقطر وتركيا في مراحل مختلفة، لم تفعل شيئاً سوى زيادة تحرّز الغرب من ربط نفسه بمراكز السلطة الريفية التابعة للمعارضة، ما فاقم أكثر التناقضات التي لطالما ابتُليت بها علاقات المعارضة السياسية مع داعميها الدوليين.
في خاتمة المطاف، كان في وسع المعارضة المدنية- الوطنية حصر ثلاث إخفاقات كبيرة منعتها من فرض نفسها كلاعب ذي قدرة وفعالية:
الإخفاق الأول هو تشظيها التنظيمي. فعدم قدرة المعارضة على طرح مطالب واضحة وموحّدة وقابلة للتطبيق، حدّ من قدرتها على ممارسة التأثير. وحتى حين كانت هيئاتها تصدر البيانات التي تشدّد على أهمية الوحدة، نادراً ما تجسّدت هذه البادرات في جهود ملموسة لدمج مكونات المعارضة إداريا. وهذا القصور عكس وعمّق الأهداف غير الواضحة، لا بل في الحقيقة المتضاربة، حول مستقبل سورية مابعد الحرب.
الإخفاق الثاني هو أن المعارضة المدنية- الوطنية بالغت في تقدير قدراتها، مفترضة أن بادرات الدعم اللفظي أو الرمزي من قبل اللاعبين الخارجيين تتساوى مع النفوذ داخل سورية، وبالطبع الأمر لم يكن على هذا النحو قط. فعلى رغم أن الدعوات الإقليمية والدولية لدعم المعارضة جاءت غالباً في السنوات الأولى للنزاع، إلا أن الفصائل المسلحة التي تُسيطر على الأراضي داخل سورية لم تلُقِ بالاً لا للوضعية الدولية للمعارضة ولا لمحاولاتها أن تكون لها كلمة في التطورات داخل البلاد. وحين بدأت حظوظ المعارضة المسلحة بالتهاوي في العام 2016، لم يكن لدى الهيئات المُعترف بسيادتها اسمياً على كل القوات المناوئة للحكومة، أي أدوات عملية عدا الخطابات للتصدي لتقدّم القوات الحكومية.
الإخفاق الثالث هو أنه منذ انطلاق النزاع، فشل كلٌ من المعارضة المدنية- الوطنية وداعموها الخارجيون في الاعتراف علناً بالنفوذ الواسع للفصائل المسلحة الإسلامية. فقد سمحت القدرات التنظيمية العالية لهذه الفصائل بالاستيلاء على أراضٍ سورية، لكن عدم الاستعداد شبه الكامل للمعارضة المدنية- الوطنية للاعتراف بالنفوذ الحقيقي لهذه الجماعات، جعلها مُفتقرة إلى الوسائل أو الهياكل لمواجهة القوات الإسلامية على نحو فعاّل حالما أصبحت هذه الأخيرة جزءاً من الصراع. كان لمثل هذا العجز مضاعفات بعيدة المدى، لأن عدم قدرة المعارضة على مواجهة هذه الجماعات، عدا أيضاً عن ممارسة أي نفوذ عليها، جعلها هي نفسها تخسر دعم القوى الخارجية التي امتعضت من سلوكيات الإسلاميين.
مآل المعارضة المدنية- الوطنية
تجد المعارضة المدنية- الوطنية نفسها الآن أسيرة إطار عتيق لإنهاء النزاع السوري. فالوسطاء الدوليون، الذين لا زالوا عالقين في ذهنية تعود إلى سنتي 2011 و2012، عجزوا عن طرح عملية تسوية تشمل اللاعبين العسكريين الأكثر مسؤولية عن الأحداث في سورية. وهذا التناقض (أي طرح إطار سياسي لحل نزاع يُحدّده مقاتلون مسلحون) يجد جذوره في التهميش المبكّر للمعارضة المدنية- الوطنية، لكنه لايزال يؤثّر على الجهود الآيلة إلى تسوية النزاع السوري.
على رغم أن الفصائل المسلحة المُعارضة للحكومة وهيئات الحوكمة التابعة للمعارضة داخل سورية، ما عدا هيئة تحرير الشام، اتخذت خطوات مهمة نحو التوحّد منذ العام 2017، إلا أنها فعلت ذلك بفعل دعم مالي تركي شبه حصري. فتركيا، التي انخرطت في عملية إنهاء النزاع مع روسيا وإيران، أجبرت المعارضة السياسية على تجميد هدفها الأصلي الخاص بتغيير النظام. لكن، ومع استمرار هجوم القوات الحكومية على ماتبقى من قوات المعارضة في محافظة إدلب، جهدت تركيا لفرض ولو خط لوقف إطلاق للنار، واندفعت لبناء مواقع عسكرية جديدة لردع القوات الحكومية، فيما كانت فصائل المعارضة المسلّحة تتقهقر من أراضٍ لم تنِ تتقلص بسرعة.
طيلة المرحلة الأخيرة من النزاع السوري، بقيت المعارضة المدنية- الوطنية غائبة إلى حد كبير عن السمع والبصر، ومقطوعة عن الجماعات المنخرطة في القتال، وغير قادرة على تنسيق الحجم الهائل من المساعدات الإنسانية الضرورية لنجدة السكان المدنيين العالقين في إدلب. وسواء بقيت إدلب محمية تركية كأمر واقع أو سقطت بسرعة في أيدي الحكومة، فإن المعارضة السياسية تواجه خيارين أحلاهما مرّ: فهي إما أن تبقى ملتزمة بإطار التسوية المتفاوض عليها التي تخلّى عنها حتى داعمو مثل هذه الحصيلة، أو يمكنها التراجع عن هدفها الأصلي الخاص بتغيير النظام والمطالبة بإصلاحات تدريجية. ويشي غياب أي خيارات عدا هذين السيناريوهين بمدى محدودية قدرة المعارضة السياسية على فرض نفسها كلاعب لا غنى عنه في النزاع السوري.
عن الكاتبين
عمر السراج باحث ومحلل متخصص بالشأن السوري والشرق الأوسط. سبق له أن شارك في إعداد وصياغة خطة التحول الديمقراطي في سورية، كما ساهم في التصميم الاستراتيجي لعدد من برامج الدعم الأميركي في سورية. شارك في مشاورات جنيف التي رعتها الأمم المتحدة وفي غرفة.
فيليب هوفمان، طالب دكتوراه في التاريخ في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس. عمل سابقاً في مشاريع مساعدات إنسانية في سورية وتركيا والأردن ولبنان والعراق.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).
هوامش
1 مقابلة هاتفية مع مسؤول في الأمم المتحدة، 22 أيار/مايو 2019.
2 مقابلة هاتفية مع نيقولاوس فان دام، 31 أيار/مايو 2019.
3 المصدر السابق.
4 مقابلة هاتفية مع مسؤول في الأمم المتحدة، 22 أيار/مايو 2019.
5 مقابلة عبر البريد الإلكتروني مع برهان غليون، 2 حزيران /يونيو 2019.
6 مقابلة هاتفية مع نيقولاوس فان دام، 31 أيار/مايو 2019.
—————————
كيف خَسِرَ المجتمع المدني السوري استقلاليته في حرب الأجندات المتصارعة/ أسعد العشي
أدّت انتفاضة العام 2011 ضد النظام السوري وما تلاها من انزلاق البلاد إلى أتون حرب أهلية، إلى بروز ظاهرة كانت غير معروفة نسبياً في سورية. إذ بعد نصف قرن تقريباً من الحكم السلطوي لآل الأسد ومعه مروحة من أجهزة الأمن، سُمِحَ للعديد من اللاعبين السوريين السياسيين والعسكريين والمدنيين بتحدّي الدولة.
وهكذا، لعبت مجموعات من المجتمع المدني السوري دوراً رئيساً في تغيير الأمر الواقع. ومن خلال تبنّيها لرؤية مختلفة لسورية وتقلّدها مسؤوليات في الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة التي كانت تخضع عادة إلى سلطة الدولة، كقطاع الخدمات، استطاعت هذه المجموعات طرح نفسها كبديل مُستقل عن الحكم الذي عاشته سورية في ظل حزب البعث.
لكن، وبعد أن أجبر النزاع المعارضة على السعي إلى الحصول على دعم خارجي ضد نظام الأسد للحفاظ على الأراضي التي يُسيطر عليها المتمردون، جرى استتباعها بالتدريج للقوى الإقليمية والدولية. برز هذا التطور أولاً لدى الأطراف السياسية والعسكرية في المعارضة، فيما بقي ناشطو المجتمع المدني مُستقلين لبرهة أطول. بيد أن هذا تبدّل حين بدأ الناشطون يصبحون بالتدريج مُزودين للخدمات عبر منظمات غير حكومية تموّلها بلدان أجنبية، وأضحوا أداة تنفيذ لأجندات هذه الدول، فخسروا استقلاليتهم. لذا، بات المجتمع المدني في موضع أكثر ضعفاً بكثير مما كان عليه في المرحلة المبكرّة من الانتفاضة. والأهم أنه لم يعد يُعتبر تجسيداً للهوية الوطنية السورية.
تدويل المعارضة العسكرية والسياسية
برزت الحركات الاجتماعية المُطالبة بالحريات المدنية كطليعة للانتفاضة في آذار/مارس 2011. وحين نضع في الاعتبار مدى القمع الذي تعرّض له المجتمع المدني قبل 2011، لن يكون مفاجئاً أن نجد العديد من المجموعات والناشطين يُقاربون الانتفاضة بكونها فرصة جُلّى لممارسة حقهم الذي لطالما انتظروه، وهو تشكيل مستقبل سورية. بيد أن الحملة الوحشية للحكومة السورية ضد الاحتجاجات خلال العام 2011، أسفرت عن تحويل حركة المعارضة التي كانت سلمية في غالبيتها إلى حركة مسلّحة. ومع انزلاق الانتفاضة إلى لجج الحرب، باتت هيئات المجتمع المدني في المقاعدالخلفية قياساً بالأوجه العسكرية والسياسية لحملة المعارضة التي سقطت سريعاً في حضن النفوذ الأجنبي.
حينها، ظهرت مئات الشبكات والروابط والمنظمات. بعضها كان ذا هياكل فضفاضة، في طول سورية وعرضها إبّان المرحلة الأولّية من الانتفاضة، فيما البعض الأخر كان بقيادة ناشطين معارضين مُخضرمين. إلا أن الغالبية منها تأسّست على أيدي ناشطين شبان غير حائزين على أي خبرة تنظيمية. قبل ذلك، كانت هذه المجموعات تركّز أساساً على تنظيم حركة الاحتجاج، ومحاولة جذب الاهتمام الدولي لما يحدث داخل سورية.
مع تعزّز مواقع هذه الحركة المعقّدة إبان الأشهر الأربعة الأولى من الانتفاضة، بدأت تتبلور أكثر فأكثر في ثلاث مجموعات رئيسة: لجان التنسيق المحلية في سورية بقيادة رزان زيتونة ومازن درويش؛ والهيئة العامة لقيادة الثورة، بقيادة سهير أتاسي ونضال درويش؛ والمجلس الأعلى لقيادة الثورة، بقيادة عماد الدين رشيد وواصل الشمالي. وقد انضمّ أعضاء هذه المجموعات، أو دعموا بشكل غير مباشر، الهيئة الجامعة للمعارضة السوريةوهي المجلس الوطني السوري.
توضح حالتا الهيئة العامة لقيادة الثورة والمجلس الأعلى لقيادة الثورة بالاستقلالية قصة الاستقلالية قصيرة العمر للمعارضة المسلحة في سورية. ففي العام 2011، دعمت الهيئة العامة الجماعة المسلّحة الأولى في سورية: كتائب الفاروق التي نشطت أساساً في مدينة حمص وضواحيها. ثم ألقت الهيئة بثقلها وراء فصائل أخرى مسلحة محلية كانت مهمتها في المراحل الأولى من النزاع حماية المناطق المرتبطة بالمعارضة ضد الجيش السوري. أما المجلس الأعلى لقيادة الثورة، فقد اعتمد أساساً على المُنشقّين عن الجيش السوري بهدف تشكيل مجالس عسكرية عبر سورية. كان مطيع البطين هو الذي يقوم بتنسيق الجهود العسكرية للمجلس الأعلى، وكان أهم هذه المجالس، المجلس العسكري في درعا، والمجلس العسكري لدمشق وريفها.
بيد أن الهيئة العامة والمجلس الأعلى أدركا العام 2012 أنهما في حاجة إلى رعاة لمواصلة جهودهما العسكرية.1 فقد بدأت الذخائر بالتناقص، وكانت الأسلحة إما قليلة أو فاسدة. كما تفاقمت الفواتير الطبية، ولم تكن التبرعات من المجتمعات المحلية كافية لتمويل المشتريات العسكرية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2012، انتقل نضال درويش، المنسّق العسكري في الهيئة العامة لقيادة الثورة إلى الدوحة لتمثيل الهيئة في تشكيل الائتلاف الوطني السوري المعارض ولحشد الدعم القطري لكتائب الفاروق والفصائل المحلية الأخرى العاملة في محافظتي إدلب وحماه. ونظراً إلى روابطه مع عناصر الجيش السوري السابقين الذين انشقّوا وأخذوا معهم الذخائر والأسلحة، تمتع المجلس الأعلى بوضعية أفضل قليلاً لمعالجة نقص الإمدادات. كان البطين قد انضم إلى المجلس الوطني السوري في كانون الأول/ديسمبر 2011 وأصبح عضواً في المكتب التنفيذي فيه. لكن في العام 2013، كان المجلس الأعلى يجهد لجمع مايكفي من الأموال عبر المجلس الوطني للحفاظ على نشاطاته العسكرية. وهذا دفعه إلى الاتصال برعاة أجانب، كانوا أساساً الشبكات السلفية في منطقة الخليج، لسد الثغرات في التمويل.
في هذه الأثناء، كان المجتمع الدولي (وخصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وبلدان الخليج) يحاول تنظيم الدعم العسكري للمتمردين، خاصة بعد أن استولوا على نصف مدينة حلب العام 2012. وقد أُقيمت غرفتا عمليات أساسيتان لتنسيق الجهود العسكرية هما: مركز العمليات العسكرية، ومقرّه في تركيا، وكان مسؤولاً عن شمال سورية، ومركز العمليات العسكرية في الأردن، الذي كان يركّز على جنوب سورية. أما المجلس العسكري في درعا فقد مضى قُدُماً ليكون عنصراً من عناصر الجبهة الجنوبية، وهي تحالف من الجماعات المتمردة التي تنشط في محافظات درعا والسويداء والقنيطرة.
على الرغم من دعم البلدان الغربية، بدأ توجّه الجماعات المسلحة نحو تبنّي الإيديولوجيات الإسلامية يتّضح للعيان على نحو مطّرد. ففي خضم تنافسها على التمويل، أعادت الجماعات ربط نفسها بمراجع إسلامية أكثر إيديولوجية، تماشياً مع النزعة الإسلامية المُتشددة في قطر والسعودية والإمارات. وهذا مكّن الفصائل الإسلامية الأكثر تطرّفاً في المعارضة من البروز أكثر على حساب نظرائها الأقل دوغماتية. على سبيل المثال، كانت الجماعات الإسلامية العاملة حول العاصمة، على غرار جيش الإسلام وحركة أحرار الشام، تستوعب ببطء وبالتدريج المجلس العسكري لمحافظة دمشق.
قاوم الجناح السياسي في حركة المعارضة الاصطفاف مباشرةً مع الداعمين الدوليين لفترة أطول قليلاً من المعارضة العسكرية، أساساً بسبب تنوّع مصادر تمويله وموازناته الصغيرة عموماً، لكنه أصبح في خاتمة المطاف متأثرّاً بنفوذ القوى الأجنبية. وهكذا، بدأ المجلس الوطني، الذي كان حامل شعلة المعارضة، يخسر نفوذه مع المجتمع الدولي، بعد أن تبنّى مواقف قصوى، رافضاً بيان جنيف الأول في حزيران/يونيو 2012 الذي كان مُحصّلة المؤتمر الذي رعته الأمم المتحدة لإطلاق عملية انتقالية في سورية. وهذا أدى إلى تناقص التمويل الذي كان متدفقاً من داعمي المعارضة السعودية والإمارات.2 لاحقاً، أدى صعود الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي أصبح يدعى الائتلاف الوطني السوري، إلى كسوف نجم المجلس الوطني.
سرعان ما اتضح لاحقاً أن الائتلاف الوطني خاضعٌ أيضاً للدعم، وبالتالي للنفوذ، الدولي. وقد اعترفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ومعظم دول الخليج وعشرات الدول الأخرى بالائتلاف بكونه الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري في كانون الاول/ديسمبر 2012 خلال المؤتمر الرابع لأصدقاء الشعب السوري في مراكش، وأسبغت بعض البلدان وضعية البعثة الأجنبية على المكاتب التمثيلية لهذه الهيئة. وعلى رغم أن تنوّع عضوية الائتلاف ضمنت شكلاً من أشكال الاستقلالية في البداية، إلا أنه تحوّل لاحقاً إلى أطراف متباينة بسبب ارتباط العديد من أعضائه بمختلف الدول الداعمة للمعارضة السياسية. هذه الأطراف أصبحت مُمثّلة للمصالح والاجندات المتضاربة للداعمين. ففي الجمعيات العامة للائتلاف، كان الموفدون الدوليون يتشاورون في الكواليس مع وكلائهم السوريين ويستخدمونهم للتأثير على نتائج الاجتماعات. وهكذا، تم التنازل للقوى الخارجية عن القرارات الكبرى المتعلّقة بحضور أو مقاطعة المفاوضات.
بعدها، تكرّس البعد الدولي في المعارضة السياسية السورية خلال مؤتمري الرياض 1 (كانون الأول/ديسمبر 2015) والرياض 2 (تشرين الأول/نوفمبر 2017). كانت هذه المداولات تسعى إلى توحيد المعارضة السورية وزيادة شموليتها للجميع، من خلال إضافة مُستقلين ومُمثلين للجماعات المسلّحة ومنصات معارضة مختلفة إلى الائتلاف. شهد مؤتمر الرياض 1 أيضاً تشكيل الهيئة العليا للمفاوضات السورية التي كان الهدف منها العمل كمفاوض رئيس مع النظام السوري خلال محادثات السلام. بيد أن القرار بضم مجموعات المعارضة التي تتخذ من القاهرة وموسكو مقراً لها (والتي شُكّلت لتمثيل أجندات داعميها المصريين والروس)، أدى إلى ضعضعة الاستقلالية السورية على نحو مطّرد.
تمثّلت حصيلة كل ذلك في تحوّل القوى العالمية والإقليمية إلى الصانعة النهائية للقرارات في سورية على حساب المعارضة السورية. إذ اجتذب النزاع تدخلات العديد من الدول والأطراف غير الدُولتية في مجالات التمويل والدعم المادي لكلٍ من الحكومة والمعارضة على حد سواء. كان التدخّل العسكري الروسي في البلاد لصالح نظام الأسد في أيلول/سبتمبر 2015 هو الذي كرّس هذا المنحى. ومع تقدّم روسيا الصفوف نحو تسنّم صنع القرار الرئيس على الصعيد الحكومي، تحرّكت الأطراف المنافسة للتفاوض باسم المعارضة السورية، وتُوّج هذا الاستتباع الدولي بما جرى في مؤتمري الأستانة (كانون الثاني/يناير 2017) وسوتشي (شباط/فبراير 2018) حيث أصبحت تركيا وإيران وروسيا ضامنة الاتفاقات المحلية “لوقف إطلاق النار”. كما عيّنت أو رفضت هذه البلدان، بمساعدة الأمم المتحدة، أعضاء اللجنة الدستورية السورية التي شُكِّلت في أيلول/سبتمبر 2019 وضمّت ممثلين عن كل من المعارضة والحكومة السورية والمجتمع المدني.
من الحراك الاجتماعي وتعبئة المجتمعات المحلية، إلى المنظمات غير الحكومية
ركّز المجتمع المدني في بداية الانتفاضة على ترقية الحقوق المدنية والإنسانية في المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، وكذلك الحلول مكان الدولة السورية الغائبة لضمان توفير الخدمات الضرورية. بيد أن الأحداث تطوّرت إلى صراع عسكري أساساً، وتجنّبت لجان التنسيق المحلية الانخراط في معمعة الصراع المسلح والسياسات العليا للمعارضة، وهذا على عكس ما فعلت الهيئة العامة لقيادة الثورة والمجلس الأعلى لقيادة الثورة. وهكذا، أظهر المجتمع المدني في البدء ممانعة أكثر ضد النفوذ والتدخلات الأجنبية. بيد أن استقلاليته أضحت بالتدريج موضع شك بعد أن تحوّل الناشطون والشبكات إلى دور مُوفّري خدمات، من خلال المنظمات غير الحكومية التي تمولّها بلدان خارجية. ومثل هذا الاعتماد جعلها تصبح في نهاية المطاف مجرد أداة تنفيذية لخدمة أجندات المُمولين.
في مطالع النزاع، وفيما كانت سورية تتشظى إلى أراضٍ تسيطر عليها الحكومة وأخرى تحت هيمنة المعارضة، أطلق المجتمع المدني مبادرات تستهدف ترقية حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، تراوحت بين توثيق الخروقات لهذه الحقوق وبين إدارة ورش لنشر مُثُلْ تحقيق السلام والعدالة الانتقالية. وفي وقت لاحق، ستصبح منظمات حقوق إنسان- على غرار الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومركز توثيق الانتهاكات في سورية والمركز السوري للعدالة والمساءلة- شريكة مع مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ولجنة التحقيق حول سورية، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة حول سورية، وذلك في مسعى لكشف الخروقات التي ارتكبت خلال النزاع ومساءلة مرتكبيها. وفي هذه الأثناء، أدى تركيز عمل المنظمات على تمكين المرأة إلى تكاثر المراكز النسوية في كل أنحاء سورية. وهذا سمح للنساء بأن يكنّ أكثر اطلاعاًوحصولاً على الخدمات، وأيضاً أكثر انخراطاً في المجتمع، وتسنّمت بعض النسوة في هذه المراكز أدواراً عامة في مختلف مستويات الحوكمة المحلية. على سبيل المثال، أصبحت رئيسة مركز المرأة في حاس، بمحافظة إدلب، عضواً في المجلس المحلي للبلدة.
علاوةً على ذلك، عملت منظمات المجتمع المحلي مع مجالس الإدارة المحلية وهيئات شبه حكومية أخرى على توفير الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. ومن خلال تعزيز صمود السكان، أصبحت لجان التنسيق المحلية لاعباً رئيساً في مشاريع الاستقرار والتعافي المبكّرة. فحتى أواسط 2012، كانت هذه اللجان إما مموّلة ذاتياً أو مدعومة مالياً من مواطنين في سورية. كما شملت مصادر أخرى لتمويل جهود الإغاثة هذه الجمعيات الخيرية الاسلامية المحلية التي كانت تجمع المال في المساجد خلال صلاة الجمعة.
بدأت معالم استتباع اللاعبين الدوليين للمجتمع المحلي بالظهور مع تدفق الأموال على جهود الإغاثة، جنباً إلى جنب مع الدعم الخارجي لجهود المعارضة العسكرية. ففي صيف 2012، جمعت الحكومة القطرية 350 مليون دولار في داخل بلادها في حملة “كلنا الشام”. وقد حاولت لجان التنسيق والهيئة العامة لقيادة الثورة والمجلس الأعلى لقيادة الثورة الحصول على جزء من هذه الكعكة، على رغم أن اللجان تراجعت في اللحظة الأخيرة لتجنّب تسييس المساعدات. خلال هذه الفترة، أصبحت الهيئة العامة لقيادة الثورة والمنتدى السوري (وهو صندوق أسسّه رجل الأعمال السوري مصطفى صباغ لدعم الانتفاضة) الطرف المحلي المولَج به توزيع المساعدات القطرية في داخل سورية.
في هذه الأثناء، أضافت عسكرة الانتفاضة عامل الإلحاح على قضايا الإغاثة والمسائل الإنسانية، ما شكّل تحدّياً للمهمة التأسيسية للمجتمع المدني المُتمثلّة بترقية الحرية والعدالة. فمع التشظي المتزايد للمعارضة العسكرية السورية وغرقها في لجج الفوضى وسيطرة التطرّف عليها، بات من الصعب على المجتمع المدني مواصلة العمل وفقاً لرؤية إقامة دولة ديمقراطية مستقبلية شاملة للجميع. ورداً على تقلّص فضاء العمل العام المُستقل، وكذلك تفاقم تدهور الأوضاع الإنسانية، تحوّلت اللجان على نحو متزايد نحو صب جهودها على قضايا الخدمات غير السياسية.
عزّز المانحون الدوليون توجّه الناشطين لتشكيل المنظمات غير الحكومية أو الانضمام إليها. فبعد أن فشلت الدول على نحو متزايد في توفير الدعم المؤسسي الدولي الموعود لائتلاف المعارضة السورية، قرر العديد من الحكومات بدلاً من ذلك التركيز على الإغاثة الإنسانية. في الغالب، كانت الحكومات تبحث عن شركاء محليين تنفيذيين، ووجدتهم في مبادرات ومنظمات المجتمع المدني. وعلى الرغم من أن هذه الجهود كانت بلا ريب مفيدة في العديد من المجالات خلال بعض المراحل الأصعب من النزاع، إلا أنها عزّزت التوجّه الخيري والإنساني لمنظمات المجتمع المدني بعيداً عن دورها الأوّلي كمعبّئ للمجتمع وكقائد لحركة المعارضة.
وبالتالي، أصبحت المنظمات غير الحكومية السورية مزوّد الخدمات العامة في كل ماكانت الحكومة تقدّمه في حقبة ماقبل الحرب. وهذا شمل الصحة، والتعليم، وتوزيع المواد الغذائية، وأيضاً الماء، والمرافق الصحية، والنظافة والملاذات للنازحين. وأسّست وأدارت منظمات طبية غير حكومية، مثل الجمعية الطبية السورية الأميركية، والاتحاد الفرنسي لمنظمات الإغاثة، مستشفيات ونظّمت النظام الصحي. وسعت منظمات أخرى، كمنظمة “القلب الكبير”، مقرها في الولايات المتحدة، أو المنظمة المدعومة قطرياً “احسان للإغاثة والتنمية”، إلى توفير المواد الغذائية عبر افتتاح المخابز وإدارتها. كما تطوّرت هياكل دعم واسعة للمنظمات غير الحكومية السورية والدولية في تركيا والأردن ولبنان لتعزيز عمليات الإغاثة، وأصبحت هذه المنظمات أرباب عمل رئيسة في مناطق خارج سيطرة النظام، وبالتالي ساهمت بشكل مباشر في توفير الأوضاع المعيشية المحلية.3
وفّر اعتماد المنظمات غير الحكومية السورية على المانحين الأجانب لتمويل عملياتها الفرصة للدول الخارجية لزيادة نفوذها في السياسات التي يتم تبنّيها. وقد حالت فوضى الأدوار واندفاعة مزودي الخدمات المحلية دون تمكّن المجالس المحلية من فرض سلطتها التامة على الحوكمة. وهذا أفرز تحدّياً لسلطة وشرعية السلطات المحلية السياسية والعسكرية، وأسفر عن نشوب صراع بينهما وبين المنظمات غير الحكومية. والواقع أن هذه الأخيرة كانت دوماً أفضل تمويلاً وأكثر استقرارا من المجالس المحلية. إضافة إلى ذلك، أصبحت المنظمات غير الحكومية، بوصفها المُتلقّية والموزّعة للمساعدات، قوى سياسية على الصعيد المحلي. ففي القطاع التعليمي، مثلاً، تعاطى المانحون مباشرة مع منظمات تستند إلى المجتمعات المحلية لإدارة المدارس، ما قوّض شرعية مديريات التعليم التي شكّلتها سلطات المعارضة وحدّت من قدرتها على فرض المعايير والتنظيمات التعليمية.
أصبحت المنظمات غير الحكومية السورية، بفعل فقدان المنظمات الدولية المداخل على الأرض، هي قنوات الأجندات المحلية المتنافسة. وقد أدى تشكيل مافيات المساعدات التي أفادت من تدفّق الأموال الإنسانية إلى تنفير بعض المجتمعات المحلية. إذ باتت المساعدات لهذه المجتمعات مرتبطة على نحو متزايد بمدى الولاء لأجندات مافيات المساعدات التي تشكّلت أساساً من عائلات محلية نافذة يحرّكها الجشع او السياسيات أو الإيديولوجيا. على سبيل المثال، كان للمجموعات التي تموّلها دول أو منظمات خليجية أجندات أكثر إسلامية، فيما المنظمات التي تحظى بتمويل بلدان او هيئات غربية تبنّت توجهاً أكثر علمانية. وقد بدأت المنظمات المدعومة خليجياً بوضع التعاليم والمراجع الإسلامية في سلال المواد الغذائية، فيما كانت المنظمات الأكثر علمانية تنشر أفكارها من خلال حملات المناصرة غير المباشرة أو عبر الرسوم والنقوش. وهكذا، شهدت المنظمات غير الحكومية السورية عملية تسييس واضحة لا جدال فيها انبثقت من مصادر وأجندات المُمولين.
خاتمة
يتعيّن أن يكون الهدف الرئيس للمجتمع المدني تبنّي ونصرة أعلى مراتب الالتزام بحقوق الإنسان. وهذه المهمة وازنة على وجه الخصوص خلال النزاع، لأن الالتزام بهذه المُثُل يمكن أن يساعد على منع تمزّق النسيج الاجتماعي. بيد أن تغيّر التركيز الذي طرأ على المساعدات الإنسانية وتوفير الخدمات أدى إلى تآكل قدرة المجتمع المدني على انتهاج توجّه له تأثيرات طويلة الأمد على المجتمعات المحلية. وهذا ربما لن يكون مفاجئاً حين نضع في الاعتبار صعوبة تعبئة الناس حول قضايا مثل الديمقراطية، والحوكمة الحميدة، وحقوق الإنسان، فيما يفتقد هؤلاء إلى الحاجيات الأساسية كالماء والمواد الغذائية والمأوى والأمن. وعلى أي حال، تقلّص الدعم المالي لهذه الجهود حين أصبحت الجماعات المسلحة في مساحات شاسعة من الأراضي السورية أكثر راديكالية.
بعد أن تحوّل الناشطون إلى موظفين لدى المنظمات غير الحكومية، باتوا لا يظهرون أو يتكلمون سوى لماما، وبالتالي خسرت المجتمعات المحلية نقاط مرجعيتها داخل حركة المجتمع المدني. كما أثّر صعود نجم قادة جدد سلباً على المجتمع المدني، بسبب الافتقاد إلى المُرشدين والناصحين الذين إما لم يعودوا داخل البلاد أو استسلموا لإغراء العمل المرُبح في المنظمات غير الحكومية. علاوة على ذلك، عملت أجندات المانحين على ترسيخ الانقسامات الطائفية والإثنية، في الوقت نفسه الذي كان تسييس المساعدات يساهم في بروز التظلمات المحلية ويولّد ثقافة الاتكالية. وفي هذه الأثناء، كانت القدرة السابقة للمجتمع المدني على بناء الجسور والروابط بين المجتمعات المحلية تتبدّد هباء منثورا.
والآن، فيما يُعزّز نظام الأسد سلطته وسيطرته على الأراضي، يحُتمل أن يتواصل تدهور نفوذ المجتمع المدني. لكن، يمكن عكس هذا المنحى من خلال جهود منسّقة ومؤسساتية ومتواصلة على مستوى القواعد، بهدف إعادة تعريف المجتمع المدني واستئناف التركيز على دوره في إطار أولويات يقودها سوريون.
عن الكاتب
أسعد العشي خبير اقتصادي سوري وناشط في المجتمع المدني. يعمل حالياً كمدير تنفيذي لمنظمة المجتمع المدني السورية “بيتنا سوريا”.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).
هوامش
1 نقاشات أجراها المؤلّف مع واصل الشمالي رئيس المجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية، الدوحة، تموز/يوليو 2012.
2 هذا ما لاحظه المؤلّف أثناء عمله كرئيس المحاسبة في المجلس الوطني السوري، كانون الأول/ديسمبر 2011 – تشرين الأول/أكتوبر 2012.
3 مقابلة أجراها المؤلّف عبر سكايب مع ناشط ميداني في المجتمع المدني، محافظة إدلب، آب/أغسطس 2019.
————————
كيف ولماذا تحدّت إدلب أمراءها الجهاديين/ منهل باريش
في الأعوام القليلة الماضية، باتت هيئة تحرير الشام، وهي تنظيم جهادي سلفي تقوده جبهة النصرة، أي فرع تنظيم القاعدة سابقاً في سورية، تحتل مكانة بارزة في محافظة إدلب شمال غرب البلاد. وإدلب هي آخر ماتبقّى من معاقل مهمة يسيطر عليها الثوّار في سورية، علماً بأن النظام السوري بدأ باستعادة مناطق شاسعة من المحافظة أواخر العام 2019. يبلغ عدد سكان إدلب نحو ثلاثة ملايين نسمة نصفهم من النازحين داخلياً، وهيئة تحرير الشام هي الفصيل الأقوى هناك. وحتى قبل أن يتمكّن النظام السوري وحلفاؤه من استعادة السيطرة على جزء كبير من إدلب في هجوم بري مؤخراً، لعبوا على الربط بين إدلب والإسلاميين المتشددين لتبرير شنّ حملة جوية عنيفة ضد المحافظة. وقد وافق العالم بمعظمه على هذا التقييم الذي وضعه النظام وقبِل بسلوكياته، والدليل على ذلك التلكؤ عن التحرك إزاء الهجمات الجوية الواسعة النطاق التي تشنّها القوات الجوية السورية والروسية على إدلب، ما أسفر عن سقوط العديد من الضحايا المدنيين. وقد مهّد ذلك الطريق أمام شنّ النظام هجمات برية ناجحة إلى حدّ كبير.
لكن، في ما يتعلق بتأثير الإسلاميين المتشددين، كانت الأوضاع على الأرض في إدلب وخارجها أشدّ تعقيداً بكثير مما بدت عليه. فقد أخفقت هيئة تحرير الشام، أولاً، في اختراق شرائح واسعة من المجتمع بسبب عملها في إطار مجموعات مغلقة. إضافةً إلى ذلك، ترجم السكان المحليون معارضتهم لهيئة تحرير الشام، ولا سيما ممارساتها الاقتصادية الاحتكارية وتجسيدها لاتجاهٍ متشدد في الإسلام، إلى خطوات ملموسة. ففي عامي 2017 و2018، أجرت بلدات سراقب ومعرة النعمان والأتارب انتخابات لاختيار المجالس المحلية في تحدٍّ علني لهيئة تحرير الشام التي تعتبر أن هذه الممارسات تتنافى مع الإسلام. كذلك نظّم سكان هذه البلدات وكذلك بلدات سرمدا وكفرتخاريم وأريحا، تظاهرات أدانوا فيها علناً هيئة تحرير الشام وطالبوا بالتخلص منها. وقد سعت هيئة تحرير الشام على نحوٍ مطّرد إلى تجنّب المواجهة المباشرة مع السكان المحليين، خشية تعرُّض مكانتها إلى مزيد من الإضعاف.
كيف خسر الجهاديون في إدلب بصمتهم
مع اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011 وتحوّلها نزاعاً مسلحاً، أبدى عدد كبير من الأشخاص في شمال سورية تعاطفهم مع المجموعات الإسلامية المسلّحة التي تحارب النظام. وانضوى عددٌ من هذه المجموعات، مع مرور الوقت، تحت مظلة جبهة النصرة التي تولّت، منذ 2012 حتى منتصف 2013، تأمين الخدمات الأساسية التي تشكّل حاجة ماسّة للسكان، ورأت فيها وسيلةً لكسب ودّهم. وفي هذا الإطار، قامت جبهة النصرة بتشغيل أفران، وتوزيع وقود التدفئة، وإنشاء محاكم شرعية لتسوية النزاعات. وعمد كوادرها أيضاً إلى تأسيس شبكة من مراكز التلقين العقائدي لنشر عقيدة التنظيم.
لم يدم شهر العسل طويلاً. فإلى جانب الممارسات المتكررة من سرقة ونهب وخطف وقتل للمدنيين على أيدي جبهة النصرة، خاض التنظيم معارك – اعتُبِرت على نطاق واسع أنها جاءت بنتائج عكسية – مع فصائل الجيش السوري الحر المناهضة للنظام. وفي أواخر العام 2013، نصّبت جبهة النصرة نفسها فرعاً لتنظيم القاعدة في سورية. فأثار هذا نفور عدد كبير من المواطنين السوريين السنّة الذين أبدوا استياءهم من السلفية الجهادية التي تجسّدها جبهة النصرة ومجموعات مماثلة. وكان هذا المزاج ملموساً حتى عندما سيطر التنظيم المسمّى الدولة الإسلامية على إدلب (طُرِد من المحافظة في العام 2014)، وقبل ظهور هيئة تحرير الشام بوقت طويل.
في مطلع العام 2017، اندمجت جبهة النصرةمع أربعة تنظيمات ثورية إسلامية لإنشاء هيئة تحرير الشام. وفي بداية العام 2019، سيطرت هيئة تحرير الشام على إدلب والمناطق المحيطة بها إثر خوضها معارك مع تحالف من الفصائل الثورية المعروفة بالجبهة الوطنية للتحرير ومع حركة نور الدين الزنكي، وهي مجموعة إسلامية انضمت في الأصل إلى جبهة النصرة لإنشاء هيئة تحرير الشام لكنها انشقّت عنها لاحقاً. وبعدما فرضت هيئة تحرير الشام سيطرتها، أرست شكلاً قاسياً من أشكال الحكم في المناطق الخاضعة لها. وعمد التنظيم إلى التضييق على التجّار المستقلين لمصلحة التجار الذين كسب ولاءهم، وفرض ضرائب مرتفعة على المزارعين والتجار وغيرهم من المهنيين. وزاد أسعار الخدمات الرئيسية مثل الماء والكهرباء والاتصالات الهاتفية، وصادر أملاك المسيحيين الذين فرّوا من مدينة إدلب. لقد حاولت هيئة تحرير الشام، بحسب مختلف الروايات، السيطرة على جميع جوانب الحياة الاقتصادية في المنطقة والإفادة منها.
تسبّبت هذه التدابير، كما كان متوقَّعاً، بتأجيج الاستياء، ولاسيما على ضوء التجارب السلبية التي خبرها السكّان مع جبهة النصرة والدولة الإسلامية. وتجلّى هذا السخط في الانتخابات المحلية التي أُجريَت رغماً عن هيئة تحرير الشام في العامين 2017 و2018، وكذلك في التظاهرات التي اندلعت ضد التنظيم في نواحٍ مختلفة من محافظة إدلب. فعلى سبيل المثال، في أيلول/سبتمبر 2019، وبعد فترة من الهدوء النسبي، اندلعت تظاهرات في بلدات سراقب ومعرة النعمان والأتارب وسرمدا. وفي الآونة الأخيرة، نُظِّمت احتجاجات أيضاً في كفرتخاريم وأريحا. وكانت هيئة تحرير الشام تمارس سيطرة اسمية على جميع هذه البلدات، لكنها لم تفلح في ترويع الناس أو حتى منعهم من التنديد بها في العلن.
لم يحصر معارِضو هيئة تحرير الشام في هذه البلدات انتقادهم للتنظيم بالكلام عن ممارساته الاحتكارية، وفساده المالي، وقمعه للحريات، بل أثاروا أيضاً المسألة المتفجّرة المتمثلة بتعامله مع النظام. ففي ممارسةٍ أحدثت صدمة لدى عدد كبير من المراقبين الخارجيين للنزاع السوري كونها منافية للمنطق، جمعت روابط تجارية واضحة بين هيئة تحرير الشام والنظام من خلال الشبكات الاقتصادية التابعة لكل منهما. وفي إحدى المناسبات، وجّه المحتجّون حتى انتقادات علنية لزعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، متهمين إياه بتسليم محافظة حماه شمال البلاد فعلياً إلى قوات النظام من خلال عدم إظهار مقاومة كافية هناك.
بدأ السوريون الذين أمضوا سنوات يتحمّلون بصمت القمع على أيدي هيئة تحرير الشام، ولا سيما الذين رأوا فيها خط دفاع أساسي ضد النظام، يدركون أن الهيئة عاجزة عن وقف التعدي المستمر على إدلب من جانب قوات النظام. وما زاد الطين بلة أن الدور البارز الذي أدّاه التنظيم في إدارة المحافظة منح النظام (وروسيا الداعِمة له) ذريعة لشن حملات عسكرية في المستقبل، شملت هجوماً شاملاً ومثيراً للذعر من أجل استعادة السيطرة على المحافظة. والحال هو أن النظام عبّر تكراراً عن رغبته الشديدة في شن هجوم يستعيد من خلاله هذا الجيب المعارِض.
أما هيئة تحرير الشام فقد وجدت نفسها في مأزق. وبدا أن المعارضة المتنامية لحكمها تستوجب لجوءها إلى القمع. ولكن المحاولات التي بذلها النظام السوري لإخضاع بلدات إدلب وقراها التي احتضنت الانتفاضة منذ العام 2011، ارتدّت بنتائج عكسية لناحية أن المعارضة ازدادت حماسة. ونظراً إلى التشنجات التي تعتمل في المحافظة، كان الاحتمال كبيراً بأن تتكرر النتيجة نفسها في حال لجوء هيئة تحرير الشام إلى مجهود قمعي مماثل. لكن منح المعارضة هامشاً للتحرك، وهو ما بدأت هيئة تحرير الشام القيام به، كان من شأنه أن يزيدها جرأةً ويدفع بها إلى تعزيز نشاطها. كانت هيئة تحرير الشام تخشى أن يتكرر معها ما حدث مع تنظيم الدولة الإسلامية الذي طُرد من إدلب في العام 2014. وقد سلّطت هذه المعضلة التي تخبّطت فيها هيئة تحرير الشام الضوء على واقع أوسع نطاقاً في إدلب. لقد أثبت السكان، مراراً وتكراراً، قدرتهم على مقاومة التأثير الذي يمارسه الجهاديون. وهكذا، اضطُرَّت هيئة تحرير الشام، عند النظر في خياراتها، إلى أن تضع في اعتبارها قدرة المجتمع المحلي على ترجمة كرهه للتنظيم إلى معارضة ناشطة.
الأسباب وراء فاعلية معارضة هيئة تحرير الشام
في حين أظهر سكان إدلب شجاعة كبيرة في التصدّي لهيئة تحرير الشام، فإن الهيكليات والشبكات الاجتماعية المعقّدة في المحافظة هي التي مكّنتهم من قطع الطريق على التنظيم ومنعه من اختراق مجتمعهم على نطاق واسع. واشتملت هذه الهيكليات والشبكات التي تبيّن أنها على قدر كافٍ من التماسك الذي يتيح لها مقاومة الاختراق من التنظيم المتشدد، على أحزاب سياسية عُرِفت على مر تاريخها بمعارضتها للنظام السوري، وعلى التركيبة الاقتصادية والاجتماعية لبعض البلدات وقوة طبقتها الوسطى، والجاذبية التي يتمتع بها تيار مناطقي يرأسه زعيم ديني كاريزماتي، وحتى السياسة القبلية. وأدّت هذه العوامل مجتمعةً دوراً حاسماً في إحباط المحاولات التي بذلتها هيئة تحرير الشام كي تتوغّل عميقاً في إدلب.
كان الانخراط السياسي من العوائق البارزة أمام ممارسة هيئة تحرير الشام نفوذها. فالسكان المحليون الذين عُرِفوا على مر التاريخ بنشاطهم السياسي والذي كان نشاطاً سرّياً في الجزء الأكبر منه بسبب طبيعة حزب البعث في عهد الأسد الأب ثم الابن، أفادوا من خبرتهم في العمل في الخفاء وفي التقدّم خطوةً واحدة على مَن هم في السلطة. ومن الأمثلة على التأثير الذي يمارسه الانخراط السياسي الطويل الأمد بلدة سراقب المزدهرة نسبياً، والتي تشكّل معقلاً لمقاومة حكم هيئة تحرير الشام حيث انضم السكان إلى العديد من الأحزاب السياسية منذ خمسينيات القرن العشرين. وتنوّعت هذه الأحزاب بين منظمات شيوعية مختلفة – الحزب الشيوعي-المكتب السياسي، رابطة العمل الشيوعي، الحزب الشيوعي السوري-جناح يوسف فيصل – وصولاً إلى الإخوان المسلمين. وأظهر سكان سراقب أيضاً دعماً شديد الحماسة لإعلان دمشق، وهو ائتلاف معارض استوحي اسمه من الوثيقة التي وقّعتها شخصيات معارِضة في العام 2005 للمطالبة بالإصلاح في سورية.
وليس مفاجئاً أن الناشطين السياسيين الذين أثاروا غضب السلطات، تعلّموا أيضاً كيف ينشئون شبكات معلومات سرّية، وينظّمون حملات عصيان مدني في الظل، ويحبطون الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية لجمع معلومات استخبارية. وقد استعان أبناء سراقب بهذه المهارات نفسها في تصدّيهم للجهاديين. وعندما سنحت لهم الظروف، أخرجوا أيضاً معارضتهم إلى العلن، من خلال إنشاء مجلس محلي حال، طوال سنوات، دون تمكُّن جبهة النصرة من الحصول على موطئ قدم في البلدة. ولاحقاً، نجح المجلس في التصدّي للمحاولات التي بذلتها هيئة تحرير الشام لوضع يدها على إدلب إلى أن تمكّن التنظيم من السيطرة بالقوة العسكرية على المحافظة والمناطق المحيطة بها.
من الحواجز الأخرى التي اعترضت تقدّم هيئة تحرير الشام في إدلب الهوية والتضامن الطبقيان. فالطبقة الوسطى في المحافظة أبدت ممانعتها لسيطرة هيئة تحرير الشام التي كانت صفوفها مليئة بالشباب الفقراء والمحافظين من الطبقة العاملة. وعلى الرغم من أن معظم عائلات الطبقة الوسطى في إدلب أظهرت دعماً شديد الحماسة للانتفاضة السورية منذ انطلاقتها تقريباً، إلا أنها أحجمت عن الإلقاء بثقلها خلف هيئة تحرير الشام وما شابهها من تنظيمات. وبعدما اقتطعت هيئة تحرير الشام لنفسها منطقة سيطرة في المحافظة، حاولت إقناع شخصيات مرموقة من الطبقة الوسطى في إدلب بالانضمام إلى حكومة الإنقاذ التي شكّلتها. فجوبِه العرض برفض واسع. ثم انتقلت عائلات معروفة كثيرة في المحافظة من مقاطعة المبادرات التي ترعاها هيئة تحرير الشام إلى التحريض مباشرة ضد التنظيم. وبرزت هذه النزعة بوجهٍ خاص في بلدات الأتارب وسرمدا وحزانو. وقد تولّت عائلات عكوش وعبيد والفج زمام المبادرة في تنظيم مقاومة شعبية ضد هيئة تحرير الشام في الأتارب. كما أدّى آل الشيخ دوراً مماثلاً في سرمدا، في حين أن عائلات الزين والصالح وزكور وحبلص والخطيب كانت في طليعة النضال في بلدة حزانو.1
حاولت هيئة تحرير الشام عموماً تجنّب إثارة عداء الطبقة الوسطى في إدلب. وكان السبب وراء هذه المراعاة مرتبطاً، على وجه الخصوص، بإقرار التنظيم بالدور الاقتصادي الذي تؤدّيه هذه الطبقة. فقد تمتعت الطبقة الوسطى في إدلب بدرجة عالية من الاكتفاء الذاتي، ولا سيما بفضل دورها طويل المدى في تشغيل اقتصاد السوق السوداء في موازاة الاقتصاد الذي تديره الدولة. ونتيجةً لذلك، كانت أقل عرضةً للتطويع بواسطة المكافآت المالية التي كانت هيئة تحرير الشام تقدّمها للفقراء والمحرومين مقابل الحصول على ولائهم. وكانت هيئة تحرير الشام، من جهتها، مهتمة باختراق هذه الطبقة أكثر منه بمحاربتها. فالمواجهة كان يمكن أن تؤدّي إلى هروب الطبقة الوسطى، وبالتالي إلى انهيار الاقتصاد المحلي.
وكان التضامن داخل المجموعات، مع اختلاف طبيعته، ظاهراً في المشهد القبلي، وقد تصدّى أيضاً للمحاولات التي قامت بها هيئة تحرير الشام بغية إحكام قبضتها على إدلب. وعلى الرغم من أن الانتماءات القبلية ضعيفة نسبياً في إدلب وشمال غرب سورية عموماً، لا سيما لدى مقارنتها بالروابط القبلية في شمال شرق البلاد، إلا أنها لا تزال تشمل شريحة من السكان. فقبيلة الموالي مثلاً هي الأكثر تماسكاً بين القبائل في المنطقة. وقد حاولت هيئة تحرير الشام كسب ود قيادتها2 التي تنتمي إلى عائلة واحدة وتقيم في قرية قطرة، لكنها لم تفلح في ذلك. ثم سعى التنظيم إلى تقسيم قبيلة الموالي من خلال دعم العشائر المنتمية إليها التي لطالما حلمت بالإطاحة بالقيادة التقليدية وترهيب العشائر الأضعف بهدف إخضاعها. لاقت هذه الاستراتيجية نجاحاً محدوداً في المناطق الواقعة خارج قطرة التي تُعتبَر معقلاً للقبيلة. ولكن هيئة تحرير الشام لم تتمكن من عزل السواد الأعظم من قبيلة الموالي، ولا من تفكيك قيادتها. فقد امتنعت الهيئة عن شنّ هجوم عسكري ضد قطرة على الرغم من لجوئها إلى العنف ضد بعض عشائر الموالي – بما في ذلك ارتكاب مذبحة جماعية في أبو دالي على إثر خلاف مع زعيم قبلي كانت الهيئة متحالفة معه سابقاً، بالإضافة إلى تنفيذ عملية قتل وخطف استهدفت عضويَن في فرع الصياد التابع للقبيلة في باريسة. وفي مختلف الأحوال، كان السبب في ذلك أن هيئة تحرير الشام تعلّمت درساً من تجربة جبهة النصرة التي تعاطت في البداية بأسلوب عنفي مع الموالي، ما دفع بالقبيلة إلى الرد عبر توجيه تحذير اتخذ شكل عرض شبه عسكري في العام 2014، من جملة ردود أخرى.
ظهرت المعارضة لهيئة تحرير الشام أيضاً في صفوف الأعضاء السابقين في حلف الفضول أو المتعاطفين معه. والحلف كناية عن ائتلاف محلي المنشأ لم يُعمّر طويلاً وكان يتألف من فصائل إسلامية التوجّه قامت بطرد الدولة الإسلامية من إدلب في العام 2014. كان حلف الفضول بقيادة الشيخ صلاح حبلص، وهو شخصية دينية مسلمة جذابة كانت تمارس نفوذاً واسعاً في شمال إدلب والمنطقة المحاذية الواقعة غرب محافظة حلب. لطالما عارضت عائلة حبلص نظام الأسد. وقد توفّي شقيق الشيخ صلاح في سجن تدمر السيئ السمعة، في حين أخلي سبيل شقيقه الثاني بعدما أمضى أكثر من عشرين عاماً في السجن. وأدّى حبلص دوراً أساسياً في تنظيم تظاهرات ومظاهر عصيان مدني ضد النظام بعيد اندلاع الانتفاضة في العام 2011. وتبعاً لذلك، كان مناسباً تماماً لقيادة تيار يركّز على محاربة المجموعات الجهادية.
بعد قيام حبلص بإنشاء حلف الفضول وشنّه حراكاً مستمراً ضد الدولة الإسلامية، حاول هذا التنظيم اغتياله في أواخر العام 2013. وقد تعرّض حبلص لإصابات بالغة وانسحب من السياسة لتمضية فترة نقاهة. وأطلق حلف الفضول حملة عسكرية شاملة ضد الدولة الإسلامية في مطلع العام 2014 ونجح في طردها من إدلب في وقت لاحق من العام نفسه. ومع خروج الدولة الإسلامية من المشهد وفيما كان حبلص لا يزال يتعافى من الإصابات التي تعرّض لها، انهار حلف الفضول بعد بضعة أشهر.
ولكن عندما نظّم السكان المحليون تظاهرات في مطلع العام الجاري للتنديد بالهجمات التي شنّتها هيئة تحرير الشام ضد تنظيمات معارِضة مسلّحة أخرى، عاد حبلص إلى المشهد السياسي. وبثّت عودته الثقة لدى المواطنين.3 يعتبر كثرٌ في إدلب أن الإرث الذي تركه حلف الفضول يتمثل في ترسيخ الاقتناع بأنه يمكن إلحاق الهزيمة بالمتطفلين، على غرار الدولة الإسلامية وهيئة تحرير الشام، مهما بلغت درجة عسكرتهم وهمجيتهم. وقد شجّعهم ذلك على اعتماد مقاربة ناشطة في معارضتهم لهيئة تحرير الشام، أي مقاربة تتّسم بالتظاهرات والعصيان المدني وأعمال التخريب المتفرّقة. إضافةً إلى ذلك، سرت شائعات في أوساط السكان المحليين مفادها أن حبلص سيعمد، إضافةً إلى تنظيم التظاهرات، إما إلى إعادة إحياء حلف الفضول وإما إلى إنشاء تحالف عسكري جديد.4 ومن شأن ذلك أن يتيح له شن هجوم ضد هيئة تحرير الشام، مثلما فعل ضد الدولة الإسلامية.
وضع عسير
وجدت هيئة تحرير الشام نفسها، منذ لحظة استيلائها على إدلب في مطلع العام 2019، في موقف صعب. فمن الواضح أنها أرادت ترسيخ سيطرتها على المحافظة لكنها كانت تخشى التسبب بمزيد من النفور لدى السكان الذين يعانون أصلاً من التململ. وفي الوقت نفسه، لم تكن المعارضة جاهزة لطرد التنظيم من إدلب. فدخلت المحافظة في حالة من التوازن الحذر، الأمر الذي منح هيئة تحرير الشام والمعارضة متنفّساً. لكن النظام السوري مدعوماً من روسيا اعتبر أن الوضع الذي آلت إليه الأمور هو أقل من مرضٍ، فقد أراد استعادة السيطرة على البلاد بكاملها.
وقد سعت المعارضة إلى تلافي هجوم يشنّه النظام، وذلك من أجل الحفاظ على وجودها، إنما أيضاً تجنّب وقوع كارثة إنسانية. وهكذا، كان لطرد هيئة تحرير الشام أهمية مضاعَفة في نظر المعارضة. فهذه الخطوة لم تكن لتؤدّي إلى التخلص من تنظيم يعتبره معظم السكان المحليين قمعياً واستغلالياً وحسب، بل كانت لتحرم النظام أيضاً من ذريعته الأساسية لشن هجوم عسكري شامل على المحافظة. فضلاً عن ذلك، لم يعد السكان ينظرون إلى هيئة تحرير الشام على أنها تشكّل رادعاً لهذه الهجمات بعدما فقدوا ثقتهم برغبتها الحقيقية في محاربة النظام.
كانت المشكلة في نظر معارضي هيئة تحرير الشام أن الشبكات الاجتماعية في إدلب تفتقر إلى القدرة على طرد التنظيم من المنطقة. وكان هذا الأمر بغاية الأهمية نظراً إلى أنه لم تكن ثمة مؤشرات في الأفق عن إعادة تكوين حلف الفضول أو إنشاء ائتلاف مماثل. وعلى الرغم من أن بعض الشبكات، على غرار الموالي، كانت مسلّحة، لكن قدرتها على الهجوم بقيت محدودة؛ ولذلك ظلّت في موقع دفاعي. وأقصى ما استطاعت المكوّنات المختلفة في مجتمع إدلب تحقيقه من تلقاء نفسها كان إحباط المحاولات التي بذلتها هيئة تحرير الشام للاندماج في البيئة المحلية.
أسقط النظام السوري التوازن الحذر بين هيئة تحرير الشام والمعارضة – ولم يحدث ذلك لمصلحة فريق دون الآخر، بل حدث على حسابهما معاً. فعندما شنّ النظام، المدعوم من روسيا، هجومه البري أواخر العام 2019، تغلّب باطّراد على المقاومة المسلّحة، وتسبب بنزوح حوالى مليون مدني، وقضى على المعادلة المحلية التي كانت قائمة بين هيئة تحرير الشام والمعارضة. ولم يعد الصراع بين هيئة تحرير الشام والمجتمع المدني مسألة ذات أهمية إلى حدّ كبير. وعلى الرغم من تدخّل الثوار السوريين المدعومين من تركيا والجيش التركي بحدّ ذاته لوضع حدّ لتقدّم النظام، تمكّن هذا الأخير بحلول آذار/مارس 2020 من السيطرة على نصف المحافظة على الأقل، وقد ينجح في استعادة السيطرة على المزيد من الأراضي في حال فشل وقف إطلاق النار الأخير في الشهر المذكور. مع ذلك، لا تزال الصورة ضبابية جداً في ما يتعلق بالتداعيات السياسية التي يمكن أن تترتب على الوضع. الوقت وحده كفيلٌ بأن يكشف ما إذا كانت الهيكليات والشبكات الاجتماعية المختلفة التي تطرقنا إليها في هذا المقال سوف تنجح في صدّ المحاولات التي يبذلها النظام ليس فقط من أجل إخضاع إدلب، إنما أيضاً لاختراق نسيجها الاجتماعي.
عن الكاتب
منهل باريش صحافي وباحث سوري في “مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سورية” ضمن برنامج مسارات الشرق الأوسط في مركز روبرت شومان للدراسات العليا في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا. يركّز على الديناميكيات المحلية والإقليمية في الأزمة السورية، ويتمحور عمله، في جزء كبير منه، حول الخرائط العسكرية، والمجموعات المسلّحة، والمجالس المحلية، والإدارة المدنية في شمال غرب سورية.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).
هوامش
1 ملاحظة المؤلّف استناداً إلى مقابلات مع ناشطين في الأتارب وسرمدا وحزانو.
2 ملاحظة المؤلّف استناداً إلى أحاديث مع مسؤولين في قبيلة الموالي.
3 ملاحظة المؤلّف استناداً إلى أحاديث مع أشخاص مقيمين في حزانو وسرمدا والأتارب التي تشكّل معاقل لدعم حلف الفضول.
4 المصدر السابق.
—————————
إعادة إعمار سورية بين التطبيق التمييزي والاعتراض المطوَّق/ سوسن أبو زين الدين, هاني فاكهاني
مقدّمة
على الرغم من القتال المتواصل في سورية، يقول نظام الأسد إنه بدأ عملية إعادة الإعمار. ففي العام 2012، أصدرت الحكومة المرسوم التشريعي 66 الذي يُرسي الأساس القانوني لتطوير مناطق المخالفات والعشوائيات، أي المناطق حيث العقارات غير مرخصة رغم تناقلها لأجيال. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2018، أقرّت الحكومة القانون الرقم 10 الذي وسّع نطاق تطبيق المرسوم التشريعي 66 إلى خارج مناطق السكن العشوائي، وأجاز للبلدات والمدن تحديد مناطق معيّنة لتطويرها وإعادة إعمارها. ويعد مشروع “ماروتا سيتي” في دمشق والذي أُطلِق بموجب المرسوم 66، نموذجاً أوّلياً للمشاريع التي ستُنفَّذ مستقبلاً عملاً بالقانون رقم 10، ونقطة الانطلاق لعملية إعادة الإعمار التي يقودها النظام.
“ماروتا سيتي” هو مشروع للتنظيم العمراني يجري العمل على بنائه فوق منطقة السكن العشوائي المسمّاة بساتين الرازي في غرب دمشق. وقد خسر نحو 50000 شخص من سكّان بساتين الرازي منازلهم بسببه. لكن تنفيذ المشروع دونه عثرات. فقد فرضت المؤسسات الحكومية شروطاً شديدة تتسبّب بعرقلة مُضيه قدماً. في حين وجدت آلاف العائلات نفسها بلا مأوى، عالقة وسط مستنقع بيروقراطي يستحكم فيه الفساد، في محاولة لتأمين سقف يأويها والمطالبة بحقوقها في الملكية.
يُقدّم مشروع ماروتا سيتي مثالاً عن المشكلات التي يُرجَّح أن تحيط بعملية إعادة الإعمار بموجب المرسوم التشريعي 66 والقانون رقم 10. كما يُسلّط المشروع الضوء على حقيقة أوسع نطاقاً بشأن إطار العمل المتّصل بإعادة الإعمار في سورية، وهي أن هذا الإطار لن يساهم في إعادة بناء سورية أو تعافيها. لا بل هو بصورة أساسية عملية استطباق (جنتريفيكشن) ذات دوافع سياسية تهدف، من خلال تحويل المشهد الاقتصادي والاجتماعي عبر إعادة تشكيل المساحات العمرانية، إلى ترسيخ قبضة النظام السلطوية.
إطار عمل تمييزي وتنفيذ متعثّر
يواجه مشروع ماروتا سيتي تعقيدات كثيرة منها القيود المفروضة على مطالبة السكّان بحقوق ملكياتهم، والتأخير في دفع التعويضات، وتخمينات العقارات التي لم تراعِ مصالح مالكي الأسهم. هذا إضافةً إلى أن المقاربة المعتمدة في عملية إعادة الإعمار تعطي الأفضلية للرأسماليين الذين تربطهم صلاتٌ بالنظام. ولم تتِح الدولة سوى بعض الطرق المحدودة للنظر في هذه التعقيدات، رغم أن المعارضة للمشروع واضحة للعيان.
القيود المفروضة على المطالبة بحقوق الملكية
فرضت السلطات، في إطار التحضيرات لإنشاء ماروتا سيتي، شروطاً تخلق صعوبات شديدة أمام قدرة أبناء بساتين الرازي على المطالبة بحقوقهم في الملكية.فقد منحَ المرسوم التشريعي 66 والقانون الرقم 10 السكان مهلة ثلاثين يوماً فقط لإثبات حقوقهم في الملكية. وبما أن البلاد في حالة حرب، تُعتبَر هذه المهلة الزمنية قصيرة، مايُفسح في المجال أمام حدوث انتهاكات. وقد عولِجت هذه المشكلة في تعديل للقانون الرقم 10 أُقِرّ في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 ونصّ على تمديد المهلة إلى عامٍ واحد في المشاريع المستقبلية. لكن بقيت مسائل عدّة من دون حل. ففي بساتين الرازي، ونظراً إلى قصر المهلة، لم يتمكّن المختفون قسراً من المطالبة بحقوقهم أو تعيين وكلاء قانونيين للتوكّل باسمهم. وواجهت عائلاتهم قيوداً بالتبعية على شكل مضايقات ومراقبة وملاحقة أمنية. كما واجه السكّان الذين فرّوا من سورية أو نزحوا داخلياً تحديات في إثبات حقوق ملكيتهم عن بُعد. ومازاد الوضع سوءاً أن كثراً منهم لم يكونوا يمتلكون الأوراق الثبوتية اللازمة للمطالبة بحقٍّ ما أو تعيين وكيل عنهم. وقد تعرّض الأشخاص الذين نزحوا إلى مناطق المعارضة للتمييز ولمزيد من المخاطر والعراقيل.
أولئك الذين تمكّنوا من إثبات حقوقهم في الملكية، وقعوا في معضلة العشوائيات في سورية. فإحدى مساوئ المرسوم التشريعي 66 أنه في حين تم وضعه لمعالجة مناطق السكن العشوائي، إلا أنه يراعي حقوق ذوي الملكية النظامية فقط من دون الاعتراف بحقوق ملكية العقارات المخالفة. وحدهم الأشخاص الذين يمتلكون صكوك ملكية قانونية حصلوا على أسهم في ماروتا سيتي. ورغم أنه قد أُتيح للسكان تقديم إثباتات على حيازتهم عقارات غير مسجّلة، إلا أن ذلك خوّلهم الحصول على مساعدات لتسديد بدل الإيجار فقط، وفي بعض الحالات الحصول على مساكن بديلة. وبالتالي، لم يحصل الكثير من سكان بساتين الرازي سوى على النذر اليسير، نظراً إلى أن آلاف العقارات كانت غير مرخصة. والحال أن نحو 50 في المئة من الأراضي في سورية لم تكن مسجَّلة قبل العام 2011. وقد تفاقم هذا الوضع خلال الحرب بسبب تدمير معظم دوائر السجل العقاري أو تعليق عملها. وفي كل الأحوال، يمكن القول إن سبب تفاقم أزمة العشوائيات في سورية بشكل رئيس هو تقصير الدولة في وضع إجراءات تنظيمية فعالة للاستجابة لعمليات التمدن السريع.
بعد التقدّم لإثبات حقوق الملكية، تم تقدير قيمة العقارات في المنطقة من قبل لجنة مختصة من أجل دفع التعويضات، ثم استُصدرت إشعارات بالطرد بحق السكان. بين عامَي 2015 و2017، طُرِد جميع سكّان بساتين الرازي، وهُدِمت عقاراتهم التي يفوق عددها 6700 بحسب التقديرات. إلا أن عدم اعتماد قواعد واضحة في عملية التخمين أدت إلى اعتبار بعض العقارات غير مؤهَّلة للحصول على تعويضات. ولم يتمكّن المتضررون منالطعن بالقرار.
تعويضات غير ملائمة
من المشاكل الأخرى في ماروتا سيتي أن تعويضات سكان المنطقة لم تكن ملائمة وتأخّرَ صرفها. فالمبالغ التي مُنِحت على سبيل مساعدات لتسديد بدل الإيجار للمالكين السابقين، وسكّان مباني المخالفات في الأراضي العامة أو الخاصة، والمستأجِرين اقتصرت على نسبة خمسة في المئة من قيمة العقار. وهذه نسبة زهيدة في سوق الإيجارات المتضخّم في دمشق. ففي العام 2016، سجّلت بدلات الإيجار مستوى أعلى بـ300 في المئة من قيمتها في العام 2010. وعندما عبّر السكان عن امتعاضهم، كان جواب السلطات “استأجروا في مساكن عشوائية أخرى”.
أما الأشخاص المخوَّلون الحصول على مساكن بديلة، بما في ذلك مالكو العقارات السابقون والمستأجرون الذين كانوا يقيمون في بساتين الرازي قبل الإخلاء، فلم يحصلوا بعد على هذه المساكن، علماً بأنهم كانوا قد وُعِدوا بتأمينها لهم في العام 2016. وعلى الرغم من عدم وضع أي خطط لطمأنة هؤلاء، طُلِب منهم تسديد 15 في المئة بمثابة دفعة أولى عن منازلهم البديلة في تموز/يوليو 2018. وقد تم الإبلاغ عن اقتطاع مبالغ من مخصصات بدلات الإيجار حينها لتغطية هذه الدفعات. اليوم، وفي ظل عدم تحقيق أي تقدّم على هذا الصعيد، تُلقي إدارة محافظة دمشق باللائمة في التأخير على الالتباس في اختيار موقع المساكن البديلة والصعوبات في توقيع عقود مع المطوِّرين. وفي حين تجاهلت السلطات واقع الحرب عند تحديد مهل زمنية للسكّان كي يثبتوا حقوقهم في الملكية ويباشروا تنفيذ خطوات أخرى، استخدمت ذريعة الحرب مراراً وتكراراً لتبرير تأخّرها في تقديم التعويضات.
فضلاً عن ذلك، اعترض السكان على الشروط التي فُرِضت لتحديد الأهلية للحصول على مساكن بديلة. ووفقاً للمسؤول عن تنفيذ المرسوم التشريعي 66، كان 15 في المئة ممن تم إخلاؤهم في بساتين الرازي غير مؤهّلين للحصول على مساكن، وتقدّم 5 في المئة منهم بشكاوى بسبب حرمانهم من الأهلية. وفي كانون الثاني/يناير 2019، صرّح المسؤولون في محافظة دمشق أنهم سيعيدون النظر في 500 طلب رُفِض سابقاً للحصول على مساكن بديلة. وقد أثار ذلك انزعاج السكان الذين كانت أهليتهم قد ثُبِّتت، إذ تخوّفوا من حدوث مزيد من التأخير.
مساهمون يعانون
الأشخاص الذين كانوا يملكون عقاراً بصورة قانونية في بساتين الرازي حصلوا على تعويضات من خلال منحهم أسهماً في مشروع ماروتا سيتي. لكن عقاراتهم خُمِّنَت جميعها بقيمةٍ أقل من أسعار السوق، في حين أن التكاليف الإدارية تسببت بخفض إضافي للتعويضات التي حصل عليها السكان. وقد استند تحديد القيمة إلى أوضاع العقارات ومحيطها عند التخمين، لا إلى قيمتها المتوقّعة بعد التطوير، ماأفضى إلى تدنّي سعرها وبالتالي انخفاض قيمة الأسهم التي مُنِحت للأشخاص من باب التعويض. تُقدَّر قيمة الأرض الفعلية التي تبقّت للسكان الذين حصلوا على أسهم، وذلك بعد التقييم واقتطاع جميع التكاليف – بما فيها التكاليف الإدارية، وتكاليف الترخيص والمتعاقدين والمساحات الخضراء – بـ17 في المئة على الأكثر من مجموع قيمة الأرض.
منح مالكو الأسهم مهلة عامٍ واحد فقط لتداول ملكية الأسهم في ما بينهم أو للغير، يتم بعدها توزيع مقاسم ماروتا سيتي عليهم وفق ثلاثة خيارات: تجميع الأسهم للتخصص بمقسم ما؛ تجميع الأسهم لتأسيس شركة مساهمة لبناء وبيع واستثمار المقاسم؛ أو بيع الأسهم في مزاد علني من خلال محافظة دمشق، وتقاضي ثمنها عن طريق المصرف المركزي.
ليس هناك معلومات متوافرة عن أعداد المساهمين الذين اعتمدوا هذا الخيار أو ذاك. لكن عشرات التعليقات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تُشير إلى أن كثراً باعوا أسهمهم لأنهم لم يتمكّنوا من تحمّل كلفة الخيارَين الآخرين. بالنسبة للذين اختاروا بيع أسهمهم، قامت المحافظة بتخصيص مقاسم محددة لأسهمهم ليتم بيعها في مزادات علنية بحيث يمكن للمحافظة شراء بعض هذه المقاسم. ثم أودِعت القيمة الموازية لأسهم السكان في المصرف المركزي السوري وصرفت لهم على دفعات كل ستة أشهر.
أولئك الذين اختاروا تجميع أسهمهم للتخصص بمقسم ما، كان عليهم أن يتعاونوا سوياً للحصول على رخصة البناء. تسبّب هذا الأمر بصعوبات كثيرة، بدءاً من محاولة المساهمين تحديد شركائهم في المقاسم والتعرف عليهم واتخاذ قرارات مشتركة، وصولاً إلى تحديد قيمة الأسهم في المقاسم في كل مرحلة من مراحل تطوير المشروع، بما يُتيح لهم القيام بخيارات مستنيرة. لكن التحدي الأكبر كان الحصول على التمويل الكافي لتطوير مقاسمهم.
أخضعت محافظة دمشق مدينة ماروتا سيتي للمرسوم التشريعي 82 لعام 2010 الذي فرض حصول المساهمين على رخصة بناء في غضون عامٍ واحد اعتباراً من آذار/مارس 2018، وإلا توجّب عليهم تسديد رسم سنوي قدره 10 في المئة من قيمة أرضهم لمدّة أربع سنوات، تُباع الأرض بعدها في المزاد العلني. والحصول على ترخيص يستوجب موافقة اللجنة الفنية المعنية على تصميم معماري أولي، يتم بعده إنجاز الدراسة الفنية الكاملة من أجل الحصول على ترخيص نقابة المهندسين. في آذار/مارس 2019، وبعد الإقرار بتأخر السلطات المعنية في تيسير الإجراءات،أجازت المحافظة تمديد المهلة عاماً واحداً قبل فرض الرسوم. بحلول حزيران/يونيو 2019، كان 60 في المئة من المالكين قد حصلوا على الموافقة على تصاميمهم الأولية، لكن مقسماً واحداً فقط حصل على رخصة بناء. وهكذا لم يتبقَّ سوى أشهر قليلة أمام مالكي المقاسم الأخرى للحصول على التراخيص قبل البدء باقتطاع رسوم كبيرة من أسهمهم.
مطوّرون انتهازيون
ليس هناك الكثير من المعلومات حول عدد سكّان بساتين الرازي القادرين مادياً على تطوير مقاسمهم في ماروتا سيتي. ولاتتوافر أيضاً بيانات كافية عن قدرة من تم إخلاؤهم على تحمل نفقة السكن في إحدى مبانيها في المستقبل. غير أن الشكاوى على مواقع التواصل الاجتماعي تُشير إلى أنهم في الغالب لن يتمكّنوا من ذلك، ولاسيما أن متوسط سعر المتر المربع في الوحدات السكنية يُقدَّر بـ6000 دولار أميركي. لكن المؤكَّد هو أن شركات خاصة ذات علاقات مع النظام استحوذت على عقود كبرى للتطوير في المنطقة.
وفقاً للمخطط التنظيمي، من المقرر تطوير 270 مقسماً في ماروتا سيتي، منها 166 مقسماً مملوكاً من قبل مواطنين، و62 مقسماً مملوكاً لشركة دمشق الشام القابضة، والباقي هو في عهدة المحافظة. يُشار إلى أن محافظة دمشق أنشأت شركة دمشق الشام القابضة في العام 2016 برأسمال قدره 133 مليون دولار لإدارة بعض الأملاك التابعة للمحافظة. وبين تموز/يوليو 2017 وآذار/مارس 2018، وقّعت الشركة ستة عقود مع رجال أعمال مقرّبين من النظام كي تستثمر شركاتهم في ماروتا سيتي في مقابل حصولهم على أراضٍ. وقد أُبرِم العقد الأول مع سامر فوز وبلغت قيمته 333 مليون دولار. ووُقِّع العقد الثاني مع مازن الترزي بقيمة 250 مليون دولار. والعقد الأحدث عهداً كان مع رامي مخلوف بقيمة 48.3 مليون دولار. في هذه الشركات، يملك رجال الأعمال حصصاً تفوق تلك المملوكة من شركة دمشق الشام القابضة، مايمنحهم نفوذاً أكبر في عملية التنفيذ. وقد وُقِّعت ثلاثة عقود أخرى في العام 2018، ومن المرجّح إبرام مزيد من العقود. لكن لم تُخصّص أي من هذه الاستثمارات لتقديم مساكن بديلة للمتضررين أو مساعدة المواطنين على تطوير مقاسمهم. في الواقع، يبدو أن مصالح السوريين هي آخر مايُفكّر فيه النظام.
مشروع مجحف لتعزيز نفوذ النظام
منذ صدور المرسوم التشريعي 66، اعتبر النشطاء في بساتين الرازي ماروتا سيتي مشروع تطوير ذو دوافع سياسية. وهو ادعاء سديد نظراً إلى أن معظم السكان هم من فئات المحرومين اقتصادياً واجتماعياً، وقد شارك كثرٌ منهم في الأيام الأولى للانتفاضة. وكان قادة المجتمع المحلي قد طلبوا اجتماعاً مع الرئيس بشار الأسد للتعبير عن هواجسهم، إنما لم تتم الاستجابة لطلبهم. ونظراً إلى العوائق التي تعترض تنظيم رد جماعي، لم يكن أمام السكان من خيار سوى الرضوخ والقبول بالمشروع.
والأسوأ أن إطار المشروع يحدّ من قدرة السكان على الاعتراض عليه. فالسبيل الوحيد المتاح أمامهم للمطالبة بحقوقهم هو من خلال قنوات الاعتراض الرسميةبموجب المرسوم التشريعي 66. وقد أنشأت محافظة دمشق لجنة لحل الخلافات، إلا أن تنفيذ المشروع لايتوقف خلال النظر في الاعتراضات والنزاعات. وتُحقّق اللجنة بصورة أساسية في ادعاءات الملكية أو النزاعات العينية على العقارات. وهي معفيّة من التقيد بالأصول والمهل المقررة في قانون أصول المحاكمات، ولها سلطة التحكيم في النزاعات وإصدار قرارات ملزمة استناداً إلى “مبادئ العدالة”، لا إلى القانون الفعلي. لم تُنشَر أي تقارير عن أعداد النزاعات التي أثيرَت على خلفية إنشاء ماروتا سيتي، ولكن التعليقات على صفحات المجموعات المحلية على مواقع التواصل الاجتماعي تحدّثت عن مئات الاعتراضات.
المناصرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المسجَّلة لدى الدولة كانت المساحة الوحيدة المتبقّية للسكان للتعبير عن مخاوفهم خارج الإطار الرسمي المقيَّد للاعتراض. وقد أُنشئت مجموعات عديدة، ولاسيما عبر موقع فايسبوك، ليتبادل الأشخاص عبرها آخر التطورات، ويساعدوا بعضهم البعض في فهم العملية، ويعبّروا عن استيائهم. تُشير المنشورات والتعليقات في هذه المجموعات إلى أن الناس يُحمّلون محافظة دمشق مسؤولية عدم تنظيم التملّك، ويطالبون بمحاسبتها على خلفية تقويضها لحقوق الأشخاص المقيمين في مساكن عشوائية. وقد طالب السكان باعتبارهم شركاء في تطوير ماروتا سيتي، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتسهيل ذلك من خلال وضع قوائم بالمموِّلين والمطوِّرين المحتملين، ومنح حوافز للمصارف كي تدعم المواطنين في تطوير مقاسمهم، وتطبيق إعفاءات من بعض الضرائب والرسوم. كما توقّف كثرٌ أيضاً عند التكاليف الاجتماعية التي تكبدوها جراء طردهم.
تنامى الاعتراض على المشروع ضمن أوساط المغتربين السوريين في الخارج أيضاً. لكن نظراً إلى تأثيرهم المحدود على التطورات داخل سورية، ركّزوا على العمل مع المجتمع الدولي والمستثمرين والمموّلين المحتملين للتأثير في عملية إعادة الإعمار التي يقودها النظام. ويتمحور حراك هذه الفئة حول حجّتَين اثنتين. تستند الحجّة الأولى إلى مبدأ أن المساهمة في عملية إعادة الإعمار التي يتولاها بصورة أساسية النظام ورجال الأعمال الموالون له، تعني التوّرط في انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية.
وتتعلّق الحجّة الثانية، الواردة ضمناً في الحجة الأولى، بالأطر التشريعية والإجرائية التي وضعها النظام لتوجيه عملية إعادة الإعمار. تؤكّد هذه الحجة أن الهدف من المشاريع النيوليبرالية التي يعمل النظام على تنفيذها هو تثبيت سلطته الاستبدادية، ومعاقبة المجتمعات المعارِضة له. وفي غضون ذلك، يبذل السوريون مزيداً من الجهود لتطوير بدائل للمقاربة التي يعتمدها النظام في إعادة الإعمار. وتشمل هذه الجهود وضع مبادئ من أجل إعادة إعمار منصفة، وتنظيم حملات توعية لتوضيح التشريعات والمشاريع المثيرة للجدل، ووضع خرائط مكانية لتوثيق حقوق الملكية والانتهاكات، وإيجاد حلول سكنية بديلة من جملة مبادرات أخرى.
أطلقت الحملة الهادفة إلى التأثير في عملية إعادة الإعمار سجالاً على خلفية أن الغاية منها هي التأثير في النتائج السياسية في سورية. يمكن اعتبار القيود التي فرضها كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على تمويل إعادة الإعمار، وكذلك العقوبات الاقتصادية جزءاً من نتائج هذه الحملة. فالاتحاد الأوروبي عمد إلى توسيع قائمة عقوباته لتشمل رجال أعمال سوريين وشركات سورية يستثمرون في ماروتا سيتي. إلا أن النظام رفض هذه الادعائات زاعماً أن جهوده موجَّهة نحو إعادة إعمار البلاد والنهوض باقتصادها. فقد نظّمت الحكومة معارض لإعادة الإعمار، معلنةً أن سورية منفتحة على الأعمال وأن المشاركة في إعادة الإعمار متاحة حصراً أمام “أصدقاء سورية” أو حلفائها. كما وصف النظام أيضاً الدول التي تفرض عقوبات على بلاده بأنها “دول عدوّة” لامكان لها في إعادة الإعمار. واستغلّ النظام الدعوات الدولية لعودة النازحين إلى بلادهم للتأكيد أن البلدان التي تحجب التمويل عن عملية إعادة الإعمار هي التي تتسبّب بتأخير هذه العودة. وقد أبدى حلفاء النظام، وعلى رأسهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دعمهم لهذا الموقف حيث قال بوتين أمام الاتحاد الأوروبي إن الاستقرار الذي يثبّت النظام دعائمه، والذي من شأن تمويل إعادة الإعمار أن يساهم في تعزيزه، هو السبيل الوحيد لعودة 6 ملايين لاجئ سوري إلى ديارهم.
إعادة الإعمار لن تساهم فعلاً في نهوض سورية
مزاعم النظام بأن إعادة الإعمار ستساهم في بناء سورية من جديد، والنهوض باقتصادها، وتسهيل عودة النازحين، هي مزاعم مشروعة. لكن الشكوك تحيط بقدرة أطر العمل التي يفرضها النظام في عملية إعادة الإعمار على تحقيق هذه الأهداف. لقد فشلت المشاريع في اعتماد مقاربة قائمة على الحقوق وقادرة على المساهمة في المعافاة. ولم تتمكّن من إطلاق آلية فعلية لمعالجة مشكلة الأملاك غير المسجّلة، والتي هي من نتائج الفشل المؤسسي. لقد فرضت القوانين قيوداً على الهامش المتاح أمام المهجرين لإثبات حقوقهم التملّكية، ماأفضى إلى نزوح إضافي لعشرات آلاف الأشخاص. إضافة إلى أنها حدّت من قدرة الكثير من الفئات المحرومة اقتصادياً على الاحتفاظ بمساكنهم في مناطقهم الأصلية، فيما سهّلت استحواذ النخبة الثريّة على هذه المساكن.
إلى جانب طابعها التمييزي، لايمكن النظر إلى عملية إعادة الإعمار بمعزل عن السياق السياسي في سورية. فالدمار الذي لحق بالبلاد خلال النزاع لم يكن مجرد أضرار جانبية، بل إن حجمه وطبيعته ونتائجه تُشير إلى أنه استُخدِم بمثابة سلاح عسكري للقضاء على السكّان في مناطق المعارضة. وقد نمت هذه المعارضة بصورة أساسية في الأحياء العشوائية والمحرومة التي تحمّلت الوطأة الأكبر من الدمار. فضلاً عن ذلك، يعتقد كثرٌ أن الأضرار توزّعت حول خطوط مذهبية، مع الإشارة إلى أن حجم الدمار الأكبر كان من نصيب المناطق السنّية.
تفضي المقتضيات الإجرائية الصارمة لعملية إعادة الإعمار إلى استنتاج أن الأشخاص الذين هجروا قسراً من المناطق المدمَّرة لن يتمكنوا من العودة إليها. أما أولئك الذين ظلوا فيها فغالباً لن يتمكّنوا من تحمّل تكاليف البقاء أكثر، نظراً إلى مايعانونه من فقر نسبي وإلى الطابع النيوليبرالي الذي تتّصف به المشاريع. وبالتالي، يمكن النظر إلى إطار إعادة الإعمار بأنه استكمال لعملية التدمير التي أحدثت تغييراً كبيراً في الطابع الديموغرافي للبلاد، حيث يسعى النظام، من خلال تمكين الرأسماليين المحسوبين عليه عبر عملية إعادة الإعمار لإحداث تحوّل في التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما يساهم في ترسيخ قبضته السلطوية على البلاد.
خاتمة
ماروتا سيتي هو المشروع الشامل الوحيد الذي يضع، حتى تاريخه، إعادة الإعمار التي يقودها النظام على محك الاختبار. ولكن العبث بالعمليات العمرانية لترسيخ الحكم السلطوي اتخذ أشكالاً مختلفة. فقد لجأ النظام إلى التدمير المنهجي للعديد من الأحياء التي استعاد السيطرة عليها، بما في ذلك مبانٍ سليمة وصالحة للسكن، ومنعَ وصول سكّانها إليها. ومنذ العام 2011، أقرّت الحكومة أيضاً عشرات القوانين التي تطعن بحقوق السكن والأرض والملكية. فضلاً عن ذلك، تلاعبت الحكومة بالمساعدات الدولية في البرامج الإنسانية ومشاريع التعافي بما يخدم مصالح النظام السياسية والاقتصادية عن طريق فرض الشروط التي تُحدّد آلية عمل وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لإعادة تأهيل البنى التحتية والمساكن، حيث لم تعد هذه الجهود، حتى تاريخه، بالفائدة سوى على المناطق التي تحظى بمباركة النظام.
في غضون ذلك، لم تنجح القيود الدولية المفروضة على إعادة إعمار سورية في التأثير في التطورات على الأرض. فقد حصل حلفاء النظام السياسيون والعسكريون على وصول حصري إلى قطاعات اقتصادية أساسية، بما في ذلك الموارد الطبيعية والموانئ، بمايمنحهم اليد الطولى في إعادة الإعمار في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، يتواصل النظام مع مانحين من خارج القائمة التقليدية، مثل الهند والبرازيل، ويعمل على تمكين الرأسماليين المحسوبين عليه للاستثمار في إعادة الإعمار.
في المدى الطويل، من غير المرجّح أن يتمكّن النظام من التخلي عن الدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نظراً إلى وزنهما الاقتصادي والسياسي في المنطقة والتكلفة الهائلة لإعادة إعمار سورية. لكن عملية إعادة الإعمار التي أطلقها النظام حتى الآن تتيح له التلاعب بالجهود لمصلحته الخاصة. فماروتا سيتي توضح أن حقوق السوريين تتعرُّض لمزيد من الانتهاك في الداخل، فيما تخضع إعادة الإعمار للنقاش على المستوى الدولي. وحتى الآن، اقتصرت مقاربة المجتمع الدولي على الإحجام عن المشاركة في إعادة الإعمار بانتظار حدوث انتقال سياسي، مع الإبقاء على العقوبات التي يتحمّل وزرها، على نحوٍ مجحف، المواطنون السوريون العاديون. وهذا ليس بحل. ثمة حاجة إلى وضع مبادئ توجيهية جديدة لأي دورٍ قد يضطلع به المجتمع الدولي في إعادة إعمار سورية. على هذه المبادئ أن تُسهّل اتخاذ خطوات فورية من أجل تمكين السوريين من النهوض من جديد، ووضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكَب باسم إعادة الإعمار، والحرص على عدم اتخاذ أي إجراءات من شأنها تمكين النظام.
ن الكاتبين
سوسن أبو زين الدين وهاني فاكهاني مهندسان معماريان سوريان يعملان في مجال التنظيم العمراني. يركّز عملهما على السكن، والتنمية العمرانية، وإعادة الإعمار في سورية من خلال الأبحاث والممارسات. وقد أسّست أبو زين الدين وفاكهاني مؤخراً مبادرة “سكن للمجتمعات الإسكانية”، وهي مبادرة اجتماعية تهدف إلى تطوير برامج سكنية شاملة وعادلة اجتماعياً للمساعدة على تحقيق المعافاة الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية في سورية.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).
——————–
حمص: انقسامات تعكس وتُجسّد الصورة الكلّية للنزاع السوري العالق/ جمانة قدّور
سعت الحكومة السورية طيلة السنوات الثماني لنزاع من أكثر النزاعات وحشية في العالم العربي، إلى إشاعة الاعتقاد بأنها ستستعيد سيطرتها قريباً على كل أنحاء سورية. صحيح أن حمص، التي أحتُفي بها سابقاً على أنها “عاصمة الثورة”، سقطت في أيدي القوات الموالية للرئيس بشار الأسد في أيار/مايو 2018، إلا أن الانقسامات المتواصلة تؤكد أن الوضع أبعد مايكون عن العودة إلى الحالة الطبيعية.
في حزيران/يونيو الماضي، أُعيدَ تذكير السوريين بالوحدة التي تميّزت بها حمص في المراحل الأولى من الانتفاضة. فعبد الباسط الساروت، وهو قائد في حركة الاحتجاج وأصبح لاحقاً مقاتلاً معارضا، قُتِل خلال اشتباكات مع قوات النظام في حماه. كان الساروت، حارس مرمى فريق الكرامة لكرة القدم، وقد قاد الاحتجاجات في العام 2011 جنباً إلى جنب مع الممثلة العلوية فدوى سليمان. صورة هذا السنّي وتلك العلوية معاً ساعد على نبذ الاتهامات بأن الانتفاضة طائفية. بيد أن مصرع الساروت أعاد فتح جرحٍ تجنّب العديد من سكان حمص الاعتراف به. فهو ذكّرهم بأن وفاق الأمس بات أشلاءً اليوم، وأن حمص تُواجه طبقات فوق طبقات من التوترات العالقة التي لم تلق حلا. فهناك مئات الآلاف من النازحين غير القادرين على العودة. وهناك مجتمع متشظِ إلى درجة أن ناسه لم يعودوا يتعرّفون عليه. وهكذا، وعلى رغم أن المرحلة العسكرية ربما تشهد انحسارا، إلا أن التطورات في حمص تشي بأننا في الواقع ندخل مرحلة جديدة من النزاع.
ثلاث طبقات من الانقسامات
على رغم أن محافظة حمص عادت إلى كنف السيطرة الحكومية، إلا أن كوكبة من اللاعبين السياسيين تُسيطر على أشطار مختلفة من الأراضي. هنا، ثمة ثلاثة أنواع من الانقسامات، على رغم أنها لا تُقصي بعضها البعض، تُميّز هذه المحافظة اليوم: انقسامات بين أنصار النظام وبين خصومه؛ وانقسامات بين طوائف حمص؛ وانقسامات بين داعمَي النظام الدوليين، أي روسيا وإيران. كل هذه الديناميكيات عمّقت تفكك حمص، وجعلت من الصعب على أي كيان تسنّم السيطرة وفرض سلام واستقرار دائمين. هذا ناهيك عن أن هذا لن يكون مُمكناً من دون عدالة انتقالية ذات صدقية.
أنصار النظام وخصومه
الانقسام بين أنصار النظام السوري وخصومه هو أوضح صدع جلي في حمص هذه الأيام. وتأتي سياسات النظام الخاصة بإعادة البناء وإعادة التأهيل لتوسّع شرخ هذا الصدع. ففي مدينة حمص، يواصل النظام حرمان المناطق التي كانت سابقاً تحت سيطرة المعارضة، بما في ذلك البيّاضة والوعر وكرم الزيتون، من مشاريع البنى التحتية الأساسية، وتمويل التنمية، والخدمات. كما يزرع النظام العقبات في وجه عودة النازحين، هذا في حين يُطلب من العدد الصغير نسبياً من الذين سُمح له بالعودة “إيضاحات” أمنية وأذونات تستغرق ردحاً طويلاً لإعادة بناء منازلهم، من دون أي ضمانة في الواقع بإصدار مثل الأذونات. وبدءاً من العام 2015، كان نحو مليون ونصف مليون سوري على الأقل مطلوبون من قبل الأجهزة الأمنية ولازالوا غير قادرين على العودة إلى البلاد. وفي الحالات التي يستطيع فيها البعض العودة، غالباً ما يُجبرون على إشغال أماكن غير تلك التي كانوا فيها. هكذا ظواهر أثّرت، على سبيل المثال، على السكان السابقين لمدينة القصير.
علاوة على ذلك، سنّت الحكومة أيضاً قانوناً يسمح لها بمصادرة المُلكية. فمن خلال القانون الرقم 10 في 2018، الذي يسمح للحكومة بتحديد مناطق التنمية في كل أنحاء سورية، استولت الحكومة على المُلكيات في المعاقل السابقة للمعارضة بذريعة إعادة التنمية. مثلا، في أيلول/سبتمبر 2018، أعادت الحكومة تحديد ثلاث مناطق سيطرت عليها المعارضة سابقاً في مدينة حمص (جورة الشيّاح، والقصور، والقرابيص) وخصصتها لبناء بنايات شاهقة ومراكز تسوّق. وتضمنت هذه الخطة تعويض أصحاب الملكية الذين يُظهرون مستندات تُثبت هذه الملكية، بمتوسط يبلغ 17 في المئة فقط من قيمة هذه الأخيرة.
وفي تموز/يوليو 2019، أعلنت الحكومة أنها وصلت إلى المراحل الأخيرة من إعادة النظر بمشروع “حلم حمص” (السكان المحليون أسموه “كابوس حمص”). يهدف هذا المشروع إلى تطوير مناطق أخرى من المدينة عبر تشييد مبانٍ عديدة الطوابق ومراكز تجارية. وكانت الحكومة حاولت تنفيذ هذه الخطة قبل الانتفاضة، لكنها توقفت عن ذلك بسبب الاعتراضات المحلية على عملية طرد سكان من بابا عمرو وجوبَر، وهما حيّان من أفقر أحياء حمص وسقطا لاحقاً في أيدي المعارضة. بيد أن المشروع بات جاهزاً الآن للتنفيذ في ظل القانون الرقم 10.
إلى ذلك، لم تفعل الحكومة شيئاً يُذكر لتوفير الخدمات للأحياء التي كانت سابقاً تحت سيطرة المعارضة، والتي وقّعت معها اتفاقات مُصالحة. وعلى رغم أن الاتفاقات، التي حظيت بضمانات روسية، نصّت على وقف مؤقت لتجنيد الشبان، إلا أن الدولة ربطت عملياً إصدار كل أنواع الأوراق الرسمية بشرط هو الحصول أولاً على موافقة دائرة التجنيد. وهذا أجبر الشبان على الانضمام إلى الجيش وترك عائلاتهم وليس في حوزتها سوى وسائل عيش محدودة. وثمة آخرون، حتى في صفوف أنصار النظام، أركنوا إلى الفرار من سورية بدلاً من الالتحاق بالتجنيد وفق قوانين العفو العام في البلاد، لأن هذه القوانين تنطوي على ثغرات تُجبر الرجال على الانضمام إلى الجيش في حالات الطوارئ وإلا يواجهون اتهامات جنائية. ويوضح مازن غريبة، وهو باحث وناشط من الوعر مضاعفات هذه المشكلة كالتالي: “حتى لو توافر الإسمنت ومواد البناء، ليس هناك أيدٍ عاملة فتية لأعادة بناء المنازل ومواقع الأعمال المدّمرة. حتى الشبان الموالون الذين لم يقاتلوا النظام يهربون بحثاً عن مستقبل”.1
بدءاً من أيار/مايو 2019، تم اعتقال 460 من سكان حمص الذين تصالحوا مع النظام، بما في ذلك قادة المجالس المحلية المدنية من الحولة في ريف محافظة حمص. وتجري ملاحقة آخرين من جانب أفراد بتهم جرائم يزعمون أنها ارتُكبت خلال الانتفاضة. وتهدف هذه الخطوة إلى إبقاء المعارضين السابقين الذين يريدون العيش في حمص تحت رحمة دعاوي قانونية، وربما السجن. ثم أن بعض الرجال يُعتقلون على رغم الضمانات الروسية التي نصّت على أن توقيع “تسوية الوضعية الخاصة” مع النظام ستوفّر لهم فترة سماح لمدة ستة أشهر على الأقل قبل التجنيد. وهكذا، في الصيف الماضي، قُذِفَ بالبعض إلى خطوط الجبهات في شمال حماه ليكونوا مُضغة للمدافع.
تصاعد في التوترات الطائفية
يُظهر تاريخ سورية الحديث أنه لعقود عدة كان نظام الأسدين يسعى إلى تعميق الاختلافات الطائفية لصالحه. والآن، ومع انحسار النزاع العسكري اليوم، باتت خطوط الصدع الطائفية أكثر وضوحاً وصراحة. كانت حمص، كما يُقال، أكثر المحافظات السورية تعددية، حيث يعيش العلويون والشيعة والسنّة والمسيحيون جنباً إلى جنب. لكن من الصعب الأن تخيّلهم ثانية في لحظة عيش مشترك. فالهجمات الدموية على الحولة وتلكلخ وبابا عمرو محفورة في ذاكرة السنّة، خاصة ما يتعلّق بمشاركة الميليشيات العلوية والمسيحية فيها. يقول طبيب من الوعر، مستعيداً الصدمة التي تلقاها مرضاه على أيدي الجُند العلويين: “لايستطيع هؤلاء أن يُخرجوا من عقولهم اللهجة الساحلية الثقيلة (المرتبطة بالعلويين) التي سمعوها خلال عمليات تعذيبهم”.2 والآن، دَرُج الناس على تحديد الطائفة من خلال ما إذا كان الفرد موالياً للأسد أم لا.
يتذكّر أبو علاء، وهو عضو في مجلس محلي سابق من حي الشمّاس في مدينة حمص، كيف سُمِحَ لجيرانه المسيحيين والعلويين بالبقاء في منازلهم، فيما عائلته وباقي العائلات السنّية طُردت.3 وتحدث مالك، العضو السابق الآخر في مجلس محلي من حي الحمرا عن السخط الشعبي العميق مما يُسمى ” سوق السُّنة” في منطقتي النّزهة والزهرا في المدينة، وهو سوق شائن السمعة لأنه يبيع بضاعة سنّية منهوبة من القصير وأماكن أخرى.4 مثل هذه الأسواق منتشرة في أماكن مختلفة من المناطق التي يُسيطر عليها النظام.
في كل أنحاء حمص، يجري الآن ترميم الكنائس، ويكيل الكهنة الأورثوذكسيون المديح في عظاتهم للأسد لأنه أنقذ واحدة من أقدم الجاليات المسيحية في العالم. الأسواق في الأحياء المسيحية يُعاد فتحها، والحكومة السورية أقرّت تمويل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وصندوق الأمم المتحدة للسكان لمشاريع في مناطق تقطنها أقليات في مدينة حمص، مثل الحميدية والخالدية. كما يعاد بناء حي جورة الشياح، التي كانت في السابق ذات أغلبية سنّية، بمساعدة الأمم المتحدة، لكن من دون الأخذ في الاعتبار أصحاب الأملاك الأصليين الذين لايستطيعون العودة. وبدلاً من أن تعود العائلات المسيحية من حي الوعر المختلط إلى بيوتها الأصلية، يُعاد توطينها مع الأقليات الأخرى، ما يعزز التغيّرات الديموغرافية. وعلى رغم أن مؤسسة قاديروف الشيشانية رمّمت مسجد خالد بن الوليد بمباركية روسية، لم يُعتبر ذلك جزءا من جهد أوسع لتشجيع عودة السنّة.
لاتقتصر التوترات على العلاقات بين السنّة وغير السنّة. فالسخط العميق منتشر أيضاً بين العلويين في المناطق المهمّشة من حمص. إذ هؤلاء لم يلحظوا أي تغيير في مستوى حصولهم على الخدمات الأساسية، على رغم أن هذا الأمر نادراً ما يًناقش علنا. فجمعية البستان الخيرية، التي كان يُسيطر عليها سابقاً رامي مخلوف ابن خال الأسد، كافأت أعلى مراتب القيادة العسكرية والسياسية السورية، لكن ليس العائلات العلوية العادية التي أرسلت أولادها للموت دفاعاً عن النظام.5
علاقات الإيرانيين والروس في حمص
بعد أن أنزل النظام السوري وحليفاه الرئيسيان، روسيا وإيران، الهزيمة بقوات المعارضة في محافظة حمص، استولى على مساحات شاسعة من الأراضي. وقد مارست قوات مدعومة من الروس والإيرانيين السلطة بطريقة خاصة بها واقتطع كلٌ منها أراضٍ من دون عداوات كبيرة بينها. لكن، في حين أن محافظة حمص عادت إلى سلطة النظام، إلا أن هذا لم يعنِ الكثير على أرض الواقع، خاصة في المناطق الريفية الجنوبية والشمالية من المحافظة، لأنه بالكاد يمكن لحظ وجود النظام هناك. ففي العديد من المناطق، يقتصر دور هذا الأخير على جمع المعلومات الاستخبارية بدلاً من تسنّم مسؤولية تحقيق مصالح المواطنين. كما أن أجهزة المخابرات تتنافس في ما بينها على السيطرة وتفشل في تنسيق نشاطاتها.6
توسّطت روسيا لإبرام العديد من اتفاقات المصالحة بين مقاتلي المعارضة وبين النظام في العديد من المناطق، بما في ذلك في حمص. ويقوم المركز الروسي لمصالحة الأطراف المتنازعة، الذي يتخذ من قاعدة حميميم مقراً له، بتنسيق عمليات المصالحة ونشاطات الشرطة العسكرية الروسية. على سبيل المثال، كانت فروع أجهزة مخابرات النظام في البداية مسؤولة عن المفاوضات حول انسحاب المتمردين من حي الوعر، لكن في نهاية العام 2016، أمسك الجنرالات الروس بزمام الأمور، وعرضوا على المتمردين تنازلات في مقابل إلقائهم السلاح أو الانتقال إلى إدلب. ويقول مفاوضون سابقون أنه في إحدى المراحل، لم يكن هناك سوى العلم الروسي خلال المفاوضات.7
أسبغ الروس على أنفسهم صورة صانعي السلام، عبر إدارتهم لمفاوضات المصالحة، هذا في حين كان قادة النظام والقوات الإيرانية يفضّلون السيطرة على الأراضي بالقوة. وفي أعقاب عمليات المصالحة، كان الشرطة العسكرية الروسية عموماً هي أول ما يظهر على الساح، فتدير حواجز التفتيش وتتدبر أمر عدد محدود من اللاجئين العائدين والنازحين في الداخل. كان العائدون بالإجمال من المرتبطين بالنظام، أو أفراد غير مُسيسين، أو طاعنين بالسن. وقد خلق مشهد عمليات المصالحة المنظّمة التي ضمنها الروس الثقة بأن بنود الاتفاقات ستُحترم. كما عزّز الروس التصوّر بأنه يمكن الاعتماد عليهم لإقناع المعارضين السابقين بالانضمام إلى الفيلق الخامس، وهي وحدة تدرّبها وتسلّحها وتديرها موسكو. وقد سمح الروس لمتمردين سابقين الاحتفاظ بأسلحتم ومواصلة السيطرة على مناطقهم، في مقابل التعهّد بالولاء لهذه الوحدة. لا بل هم اقنعوا البعض بالقتال في إدلب حيث يتركّز المقاتلون اليوم.
بيد أن الشرطة العسكرية الروسية انسحبت من حمص في أواخر العام 2018، وحلّت مكانها وحدات مؤيدة للنظام، على غرار قوة الدفاع الوطني، التي خلقت مناخاً من الذعر حين اعتقلت الآلاف، خانثة بذلك الوعود بعدم توقيف الأشخاص الذين شاركوا بالمصالحة.
في هذه الأثناء، كانت إيران أيضاً مُنهمكة في تركيز نفوذها في كل أنحاء حمص. وقد سيطر حزب الله الموالي لإيران عملياً على المناطق الريفية الجنوبية الغربية من سورية التي ترتبط بالقرى اللبنانية في البقاع. بلدة القصير، التي كان عدد سكانها نحو 30 ألفاً قبل العام 2011، فقدت نصف هذا العدد في 2011 خلال هجوم حزب الله.8 وفي أواسط تموز/يوليو 2019، وللمرة الأولى ومع موافقة حزب الله، سمح النظام لـ300 عائلة بالعودة. وفي تشرين الأول/أكتوبر، سُمح بعودة 750 نازحاً، بشرط ألا يقوموا بإعادة تأهيل منازلهم أو عمليات إعادة بناء.9 كان هؤلاء في معظمهم من الموظفين المدنيين ومن العناصر التي تعاونت مع مسؤولي النظام، ومعهم عائلاتهم.10 وقد أمر حزب الله، الذي قام بنفسه بإسكان عائلات في القصير، العائدين بإفساح المجال للسكان الأصليين الذين يملكون مستندات ملكية.11 ومثلهم مثل الروس، تقوم الميليشيات الموالية لإيران بتجنيد الرجال المتصالحين مع النظام، وتزوّدهم بالسلاح وتسمح لهم بمواصلة إدارة مناطقهم إذا ما انضموا إلى الميليشيات التي يديرها الحرس الثوري الإيراني.
أثّر النفوذ الإيراني كذلك على النسيج الاجتماعي لحمص. ففي أيلول/سبتمبر 2017، وخلال مباراة كرة قدم بين سوريا وإيران، هتف السوريون الذين يعيشون في حي المزرعة الذي يسيطر عليه الإيرانيون لصالح الفريق الإيراني ضد فريقهم الوطني. وهذا أثار حنق السنّة المحليين الذين باتوا يعتبرون على نحو متزايد السوريين الذين يعيشون تحت سلطة إيرانية بمثابة عملاء للأجانب. والحال أن تكتيكات إيران لجذب الأنصار عبر الدعوة الدينية فاقم احتمال نشوب صدامات مسلّحة بين السنّة، من جهة، والشيعة والعلويين الذين يُصنَّفون كحلفاء للأسد، من جهة أخرى.
لم ترد تقارير مباشرة عن حدوث مجابهات روسية – إيرانية، إلا أن التوترات بين الطرفين ربما تتصاعد في حمص وأجزاء أخرى من سورية.12 فكلاً من موسكو وطهران تسعيان إلى ضمان المداخل إلى المرافئ والموارد الطبيعية ومشاريع البنى التحتية السورية. كما أن الروس لزموا الصمت نسبياً إزاء الهجمات الإسرائيلية ضد الإيرانيين والقوات الموالية لهم في سورية، ما أثار حفيظة طهران. علاوة على ذلك، كلا الطرفين يسعيان إلى حصد أوسع نفوذ في سورية، لكنهما لايستثمران سوى القليل، كما يتبيّن من كل شيء أنفقاه حتى الآن. وربما لهذا السبب يُعتبر استتباع المقاتلين المحليين هو الخيار الأنسب والأرخص لهما، فهو يعرض على المتمردين السابقين الحماية الروسية أو الإيرانية ويقيهم التجنيد أو الاعتقال على يد نظام “لا يلتزم قط بكلمته”، على حد تعبير عضو سابق في مجلس تلبيسة.13
لقد وردت تقارير غير مؤكدة تتحدث عن احتكاكات بين وحدات سورية يدعمها الروس وأخرى يدعمها الإيرانيون. على سبيل المثال، اعتقل وعذّب حزب الله في تلبيسة في أواخر 2018 منهل الضحيك العضو في جيش التوحيد بعد أن قاد غارة على قرى شيعية. وكان الضحيك تعهد بالولاء للفيلق الخامس. وحين أُبلغ الروس بالأمر، تحركوا وأطلقوا سراحه.14 لكن حزب الله اعتقله ثانية في تموز/يوليو الماضي وهو لايزال قيد الاعتقال.15
الحاجة إلى العدالة الانتقالية
محافظة حمص هي مجرد جزء من لوحة أكبر بكثير هي سورية المحطّمة. وتُظهر الانقسامات في البلاد أن عوامل النزاع لاتزال قائمة ويبدو النظام عاجزاً عن تسويتها بسهولة. ومع ذلك، ومع انتقال سورية إلى مرحلة جديدة، يتعيّن معالجة هذه الانقسامات إذا ما أُريد لحمص أن تنعم بسلام دائم.
لايركّز السوريون في داخل محافظة حمص الذين انهكتهم الحرب سوى على مسألة الحفاظ على البقاء. أما أولئك الذين يعيشون في معاقل المعارضة السابقة فعليهم مواجهة حملات الاعتقال الدورية والمضايقات من جانب النظام وأنصاره الذين ينحون باللائمة عليهم لدمار سورية. لكن حتى الموالين للنظام ليسوا بمنأى من المضايقات. فالقيادة السورية تكافئ النخبة السياسية والأقليات التي تحتاج إليها لتعزيز قبضتها على السلطة، وتُنحّي جانباً العديد من الناس في حمص، بما في ذلك حتى فقراء العلويين الذين قاتلوا لصالحها. كما يواصل النظام التعاطي مع سورية وكأنها ملكية خاصة لآل الأسد وحاشيتهم المقربّة، لا بكونها لكل السوريين.
كل ذلك يجعل من العدالة الانتقالية الحقيقية، كمسار موازٍ للعملية السياسية، حاجة ماسّة وشرطاً لازباً كي تتحرّك سورية إلى الأمام. وهذا يتطلّب مقاضاة أولئك في القيادة السورية الذين أجازوا الاعتقالات الجماعية، والقتل، والتعذيب، والاغتصاب. كما أن ذلك يعني أيضاً ضرورة توضيح مصير المُختفين. وفي أحاديث مع العديد من السوريين، أوضح هؤلاء أنهم يريدون إجراءات ضد رجال الأعمال الذين تربّحوا من قوانين الإسكان، والأراضي، والتنمية، لأنهم يعتبرونهم متواطئين في جرائم الحرب الخاصة بالنزوح الإجباري. ومن المهم للغاية أيضاً معاقبة الشركات والمنظمات الدولية التي شاركت في مشاريع تخرق المبادئ الإنسانية، وذلك بهدف تجنّب حدوث خروقات مماثلة مستقبلا.
العدالة الانتقالية تعني كذلك عكس الكثير من القوانين التي سُنَّت منذ العام 2011 والمتعلّقة بالتجنيد، والإسكان، والإرهاب، والتي شلّت المجتمع. مثل هذه العملية يجب أن تتم من خلال هيئات قضائية دولية وسورية، ما يسمح للسوريين السعي إلى العدالة عبر وسائل قانونية وتصالحية لا عبر العنف. لكن المشكلة في كل هذا هو أن النظام لن يشرف على عملية يقاضي فيها نفسه وحلفاءه. ولذا، الاعتقاد بأن النظام قد يريد، أو يستطيع، قيادة سورية نحو رحاب الاستقرار، محض خيال.
أسس وقواعد نزاع مستقبلي
سيبقى مستقبل حمص بائساً ومحزناً طالما هي لاتزال متشظية ولم تجر معالجة الأسباب العميقة لدمارها. فتجميد الأوضاع الراهنة والافتراض بأن التوترات ستحل نفسها بنفسها ليسا توجهين واقعيين. ما هو موجود الآن مُهلك ومُدمِّر، لكن المستقبل قد يجلب معه مضاعفات حتى أكثر خطورة، بسبب غياب سلطة تمثيلية موحَّدة يمكنها معالجة العوامل التي تسبّبت بمآسي وبلايا حمص في الماضي القريب.
والحال أن الشقاق بين من يدعم النظام ومن يرفضه، وبين الطوائف الدينية، وبين روسيا وإيران، كلها قضايا قابلة للاستغلال. والنظام قد يسعى إلى الإفادة من هذه الانقسامات للحفاظ على البقاء، وكذا الأمر مع اللاعبين الدوليين الذين يتحرّكون على إيقاع مصالحهم في مجالي الاقتصاد والسياسة الخارجية. وبالتالي، القلاقل التي قد تنجم عن ذلك لن تفعل شيئاً سوى رفع منسوب السخط، مُمهّدة بذلك لانفجار نزاعات لاحقة. هناك الآن جيل كامل من الأطفال لم يعرف سوى العنف، وليس لديه أدنى تصوّر عما كانته حمص كحضن لعدد لا يحصى من الأديان والطوائف والمذاهب. وفي غياب العدالة الانتقالية، سيكون هذا هو الخطر الذي سنُواجه. وحقيقة أن النظام السوري خرج ظافراً وبحصانة كاملة من أتون انتفاضة أسفرت عن عدد مرعب من الضحايا وشرّدت نصف سكان البلاد، لن تضع سورية أبداً على المسار السليم نحو مستقبل مسالم. فهذا سيتطلّب محاسبة حقيقية وعدالة حقّة.
عن الكاتبة
جمانة قدّور محامية سورية أميركية، وطالبة دكتوراه في مركز القانون في جامعة جورجتاون، وتركّز على الدستور السوري وتقاسم السلطة على أساس إثني وطائفي.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية).
هوامش
1 محادثة هاتفية مع المؤلّفة، 11 تموز/يوليو 2019.
2 محادثة مع المؤلّفة، عمان، الأردن، حزيران/يونيو 2013.
3 محادثة مع المؤلّفة، غازي عنتاب، تركيا، 18 تموز/يوليو 2019. طلب أبو علاء عدم ذكر اسمه الكامل.
4 محادثة مع المؤلّفة، غازي عنتاب، تركيا، 18 تموز/يوليو 2019. طلب مالك عدم ذكر اسمه الكامل.
5 محادثة بين المؤلّفة ومسؤول سابق في مجلس محلي من طريق دمشق التي هي جزء من مدينة حمص، غازي عنتاب، تركيا، 18 تموز/يوليو 2019.
6 محادثة هاتفية مع أحد مؤسسي لجنة التنسيق في منطقة تلبيسة الريفية، 10 تموز/يوليو 2019.
7 محادثة هاتفية مع مازن غريبة، 11 تموز/يوليو 2019.
8 محادثة مع مسؤول سابق في مجلس محلي كان عاش في القصير، 13 تموز/يوليو 2019.
9 محادثة مع مسؤول سابق في مجلس محلي كان عاش في القصير، 4 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
10 محادثة مع مسؤول سابق في مجلس محلي كان عاش في القصير، 13 تموز/يوليو 2019.
11 المصدر السابق.
12 تستند أيضاً على محادثات مع نوار شعبان، محلل عسكري في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، واشنطن العاصمة، 24 أيلول/سبتمبر 2019.
13 محادثة هاتفية مع أحد مؤسسي لجنة التنسيق في منطقة تلبيسة الريفية، 10 تموز/يوليو 2019.
14 محادثة مع مالك، مسؤول سابق في مجلس محلي من حي الحمرا في حمص، غازي عنتاب، تركيا، 18 تموز/يوليو 2019.
15 محادثة مع نوار شعبان، واشنطن العاصمة، 24 أيلول/سبتمبر 2019.
مركز كارينغي للشرق الأوسط