سؤدد كعدان: “أنقل حكايتي كسورية بسيطة إلى فيلم”
أجراه: أشرف الحساني
تنتمي المخرجة السورية سؤدد كعدان إلى التجارب السينمائية الجديدة، المحمومة بالواقع وعوالمه الأليمة. فمنذ فيلمها الروائي الطويل الأول، “يوم أضعت ظلّي” (2018)، استطاعت أنْ تصنع مكانة لها في الفيلموغرافيا العربية الجديدة. في فيلمها القصير”عزيزة” (2019)، غاصت في الذاكرة وأعطابها ومزالقها، لحرصها على إعادة تدوير المأساة السورية وتراجيديتها، جمالياً وسينمائياً، بأسلوبٍ يعتمد على النوستالجيا وجماليّات الرمز والإيحاء، بحثاً عن مُتَعٍ فنيّة، تُسعفها على تخليص الذاكرة من الشوائب العالقة بها، من صُوَر ولحظات حميمة، تأبى أنْ تتلاشى وسط حمأة اليومي المُبتذل. لذلك، تُصبح السيارة (عزيزة) فضاءً لتأجيج هذه الذاكرة وحمايتها من عنف الواقعي والاستلاب اليومي، اللذين يطالان هذه الذاكرة المحمّلة بالروائح واللحظات الجميلة، النازلة من شغاف الشام وتاريخها.
رغم رفض علياء التشبّث بهذه الذاكرة/ السيارة وماضيها، يتعلّق زوجها أيمن بها إلى حدّ الهوس، فهي ما تبقى له من رائحة الوطن والأصدقاء، الذين غادروا إلى أصقاع مختلفة من العالم. تُشبه شخصية أيمن من يحرس الغيم، أو من يحظى بهبة الفراغ. من هنا، حرصه على حماية عزيزة فهي جزء صغير من وطن متخيّل، وحلم جميل وشاسع يقيم معه في لبنان.
عن “عزيزة” وحيثياته المعرفية وعناصره الفنيّة والجمالية، حاورت “العربي الجديد” سؤدد كعدان:
هناك “فولكلور” سينمائيّ دأب عليه مخرجون عرب عديدون: تحقيق الفيلم الروائي الطويل بعد تجربة الفيلم القصير. الأمر مختلف في تجربتك، التي بدأت بفيلم طويل، “يوم أضعت ظلّي”، واليوم فيلم قصير، “عزيزة”. كيف يمكن تفسير هذين التغيير والتحوّل في تجربتك؟
بالنسبة إليّ، طالما أن هناك حكاية أرغب في قولها، لا تهمّني مدّة الفيلم بالدقائق. رغم أنّي الآن في طور تحضير فيلمي الدرامي الطويل، ربما أنجز أفلاماً قصيرة أخرى. الحكاية تفرض الشكل والمدّة. الفيلم القصير ليس أقلّ أهمية من الطويل فنياً. كلّ شيء مرتبط بالتمويل أيضاً، فعندما انتهيت من “يوم أضعت ظلي”، وأنتظر في أيّ مهرجان سيُعرض، توفّرت لي فرصة تمويل هذا الفيلم القصير، فقرّرت إنتاجه وإخراجه. كنتُ قد بدأتُ أيضاً بمُشاهدة مقاطع من فيلمي الطويل “نزوح”، وفكّرت حينها بأنّه سيكون ممتعاً البدء بالتجربة مع الممثلين، لأرى إذا كنا نستطيع إنجاز شيء مشابه على صعيد المزاج الفني. لذلك، كان نجاح الفيلم مفاجأة سعيدة لي.
يتميّز “عزيزة” بنبرة نوستالجية تحنّ إلى سورية، وما آلت إليه قضيتها عربياً. كيف يستطيع المخرج أن يعالج قضية بحجم القضية السورية سينمائياً، في مدّة لا تتجاوز 13 دقيقة؟
عندما أكتب فيلماً أو أخرجه، لا أفكّر بأنّي أريد أنْ أعالج القضية السورية بكاملها، لأنّها أكبر وأعقد من أن تلخَّص بفيلمٍ واحد، أو بوجهة نظر واحدة. في الواقع، لو أنني حاولتُ البدء بالتفكير كيف أضع الوضع التراجيدي الذي وصلنا إليه في فيلم، لما استطعتُ أنْ أنجز فيلماً، لضخامة ما جرى في سورية خلال هذه الأعوام كلّها، ولهوله وشناعته. لذلك، ما أفكّر به أبسط بكثير: أحاول أنْ أبدأ بسؤال أبسط: كيف أنقل حكايتي البسيطة كإنسان سوري بسيط إلى فيلم، وكيف أنقل معاناتي ومشاعري إلى تجربة الحرب والمنفى، متمنيةً في كلّ مرة أن تكون آلامي وحكايتي وأحلامي والنوستالجيا التي أعيشها، والتي أرويها بكلّ صراحة وحبّ، تمسّ الجمهور السوري أولاً، والعالمي ثانياً.
السيناريو مُحكم ومُكثّف، يضمر أكثر ممّا يقول، فهو يوحي برموز ودلالات قيّمة، تتّصل بالغربة والأصدقاء والحنين إلى الماضي. كيف يأتي التفكير سينمائياً في مثل هذه المواضيع؟عندما انتقلتُ إلى لبنان، حاولتُ أنْ أتعلّم قيادة السيارة، ولم أستطع. اكتشفتُ أنّ رغبة قيادة السيارة في بلد جديد محاولة للاندماج في آلية سير البلد وتفكيره ومنطقه. لم أشعر عندها أنّي قادرة على ذلك. بينما شقيقتي، التي حاولت أن تقود سيارتها في شوارع لبنان بلوحة سورية، واجهت مصاعب كثيرة. علاقة الشارع اللبناني بالسيارات ذات اللوحة السورية تعكس دائماً حالة توتّر بين البلدين. اسم سيارة شقيقتي “عزيزة”. من هنا جاءت فكرة الفيلم.
ماذا عن الصعوبات التي اعترضت طريقك لحظة الكتابة، ثم التصوير؟
الصعوبة الأكبر التي واجهتني أثناء التصوير هي السيارة (عزيزة) نفسها. استأجرنا سيارة قديمة من نوع “فولكسفاغن” حمراء، لم نجرّبها من قبل. ما أن انتهينا من اليوم الأول للتصوير، حتى قرّرت السيارة ألا تسير، وأنْ تتوقّف عن العمل في اليوم الثاني. هكذا كان التصوير متحكّم بمزاج السيارة. أحياناً تعمل، وأحياناً أخرى لا. مهما جرّب الميكانيكي، ما أن يترك موقع التصوير حتى تتوقّف السيارة عن العمل مرة أخرى. من أجمل لحظات التصوير، بالنسبة إليّ، عندما توقّفَتْ في اليوم الأخير، ولم يعد هناك شيء نستطيع القيام به. عندها، أخبرتُ فريق العمل بأنّه لا يمكننا أن نقوم بأيّ شيء: “يبدو أنّنا لن نُنهي الفيلم. انتهى التصوير”. عندها، قرّر شبان فريق العمل وشاباته أنْ يُكملوا التصوير، وألّا يتركوا الفيلم غير مُنجز، فاقترحوا جميعاً أنْ يدفعوا السيارة فتبدو كأنّها تسير، كي نُنجز اللقطة الأخيرة. حاولتُ إخبارهم بأنّ ذلك جنون، فهناك ممثلان في السيارة، بالإضافة إليّ في المقعد الخلفي وراء الكاميرا. لكنّهم أصرّوا على ذلك. هكذا كانت اللقطة الأخيرة: تبدو السيارة كأنّها تتحرّك في حلم، وما لا يراه المتفرّج أنّ وراء الكاميرا كان كلّ فريق العمل اللبناني، شابات وشبان، يدفعون السيارة بحبّ على طول الشارع، لإنجاز الفيلم الذي آمنّا به معاً.
في الفيلم، يبدو أيمن نقيضاً لعلياء، فهو يعيش في الماضي، ويجعل من “عزيزة” أداة لتأجيج الذاكرة. أما علياء، فتريد التخلّص منها، فهي تبدو كأنّها تسلبها زوجها. إلى أيّ حدّ يُشكِّل هذا طباقاً سينمائياً بين صورتين لسورية، الأمس واليوم؟
أعتقد أنّ الصراع بين أيمن وعلياء صراع داخلي يعيشه كلّ واحد منّا: بين التمسّك بالماضي والتحرّر منه، أو كيفية العيش معه في مكان جديد.
يُصوّر الفيلم حالة لاجِئَين يعملان على اللجوء إلى متخيّلهما لإدانة الواقع المفروض عليهما، بوجودهما في لبنان. اتصالاً بالفيلم، ما الصورة أو الملامح التي ترسمينها كمخرجة للسوريين في لبنان وخارجه؟
في هذا الفيلم، أتحدّث عن حالة السوريّ في لبنان، لأنّي أعيش هنا. الحكاية تتحدّث عن هذا بشكلٍ طبيعي. في حال انتقلت إلى بلد آخر، تنتقل الحكاية أيضاً إلى مكان آخر. حكاياتي نابعة من تجربة حياتية شخصية.
تُشكّل السيارة الفضاء الرئيسي للأحداث. بحكم قِدمها ولونها الأحمر، تحمل دلالات وعلامات أكثر تعبيراً عن الغربة ووضع الأفراد وهم يحنّون إلى ماضيهم. كيف جاءت فكرة السيارة كإطار فنيّ وفضاء سينمائي، يحتضنان قضية مركزية كبرى، كسورية؟
معظم العائلات في دمشق كانت تملك سيارات “فولكسفاغن ـ بيتلز” قديمة. لديّ ذكريات جميلة كثيرة وأنا طفلة في واحدة منها. أتذكّر أنها كانت تتّسع لعشرة أشخاص رغم صغرها، ونذهب معاً في رحلة عائلية. في الفيلم، كنتُ أحاول بشكل ما أنْ أعبّر عن كيفية خروج معظمنا كسوريين إلى المنفى، من دون أن نحمل أيّ شيء معنا آخر غير ذكرياتنا وذاكرتنا. لم نكن مهيّأين للمنفى، فتركنا خلفنا معظم ما بنيناه وعشناه، ولم يتبقّ غير أحلام ونوستالجيا لزمن ربما يكون غير واقعي أصلاً. ورغم أنّ الذكريات غير ملموسة، لكنّها تبدو أحياناً حملاً ثقيلاً، ربما تمنعك من الاندماج في البلد الذي اخترته، أو لم تختره. سيارة الـ”فولكسفاغن” الحمراء مركبة تحمل هذه الذكريات كلّها، والحالة الغريبة التي نغلق أنفسنا فيها أحياناً، في مجال محصور ضيق، بحجم السيارة القديمة نفسها، لعلّها تحمينا من حالة الإحساس بالغربة.
بماذا تفسرين غياب الموسيقى التصويرية في الفيلم، أو بالأحرى شحّها، مقارنة مع عناصر بصرية أخرى، أضاءت معالمه الفنية؟
أنا لا أستخدم موسيقى تصويرية كثيرة في أفلامي. عادة، الموسيقى فيها مركّزة في أماكن محدّدة، ولها وظيفة درامية معينة. بالنسبة إليّ، الموسيقى تأخذ المتفرّج من حالة الفيلم إلى حالة شعورية محدّدة. بينما الشريط الصوتي للفيلم، المُكوّن من العناصر الطبيعية للحكاية، يترك للمتفرّج حرية كاملة في قراءة المشهد على المستوى العاطفي، كما قرأه وشعر به في تلك اللحظة.
العربي الجديد