يوميات وكتابات العزلة أدباء، فنانين، مثقفين -مختارات الموقع- متجدد يوميا -4-
يوميات وكتابات العزلة أدباء، فنانين، مثقفين -مختارات الموقع- متجدد يوميا -1–
يوميات وكتابات العزلة أدباء، فنانين، مثقفين -مختارات الموقع- متجدد يوميا -2–
يوميات وكتابات العزلة أدباء، فنانين، مثقفين -مختارات الموقع- متجدد يوميا -3–
تسمع ضربات قلب جارك العجوز وهو يصعد الدرج/ أكرم قطريب
فجأة ودون سابق إنذار، ستنتقل الحياة برمتها إلى داخل البيت الصغير. تسحرك كلمة “البيت” كثيراً، وتظنها على زخمها الشعري والنوستالجي منطقة غير مكتشفة بالشكل المجرّد والعاري. في المربعات الصغيرة ستبدأ الماراثون اليومي، بين الصالون وغرفة النوم والمطبخ. الإقامة الجبرية بين الصحون والكتب والتلفزيون وشرب القهوة والبيرة أكثر الأحيان، ستتعرف إلى عائلتك من جديد، وإلى نفسك أيضاً، تقف أمام المرآة طويلاً، وتنظر بالوجه الذي أمامك، بالأخاديد التي غيرها الزمن.
من الشباك ستحدق بالسنجاب الذي يقفز بلا هوادة من أعلى الشجرة، ولأول مرة ستكتشف الساقية التي تصبّ في البحيرة آخر الشارع، تغير إيقاع السيارات وأصبح أكثر بطءا، ستتعلم فن الإصغاء للطبيعة وأشيائها، قارة من المفردات الجديدة والصور والحركات التي لم تكن مألوفة، ثلاثة أفراد كان يذهب كل واحد فيهم باتجاه، ولن يروا وجوه بعضهم إلا لماماً وعلى عجل، والموبايل الذي كان ينقذنا من الحنين خف رنينه. بين الساعة الثامنة مساء والخامسة صباحاً، ستغط نيوجرسي في سكون يكاد ينكسر، قطعة جليدية صماء، تجعلك تسمع ضربات قلب جارك العجوز وهو يصعد الدرج.
مشاهد رأيتها سابقاً على شاشة السينما. المكان يتفتت ببطء، وهو بالتالي أقرب إلى كأس ماء يقع على بلاط صلب. الاكتشافات ليس لها مثيل، والابتسامات العذبة للبشر الذين لا تعرفهم من قبل ستتغلف بكآبة لا مثيل لها. كل العادات اليومية ستنتقل إلى حيز ضيق ، حيث لا قطارات تعبر ولا طيور تحط على مائدة الغداء ولا بحيرات نصطاد في مياهها. الرجل السمين الذي يجلس على المقعد أمام البيت ويذكّرني أغلب الأحيان بأعمال مونيه النحتية الضخمة، اختفى فجأة. فقط المرأة الستينية وتسكن إلى جواري، سيجارتها لا تنطفئ، تدخّن أمام باب البناية بشراهة لا تنتهي، لم يتغير فيها شيء سوى بعض الجزع والنظرات الحذرة. نزلنا من أبراجنا وأوهامنا، ومن المجرة التي يقول كارل ساغان إننا ننتمي إليها، والأرض، النقطة الزرقاء المعلقة في فجوة العدم، صورة في كتاب للأطفال.
أتصفح كتاب “تاريخ العالم في ستة كؤوس”، يقسم مؤلف الكتاب توم ستانداج كل هذا التاريخ إلى بيرة ونبيذ ومشروبات روحية وقهوة وشاي وكوكاكولا.
***
شعرية المنزل
أبو العلاء المعري وإميلي ديكنسون استخدما فكرة المنزل وسقالاته كمجاز للحياة والحكمة.
روبرت فروست في قصيدته “إصلاح الجدار” واحدة من أشهر قصائده تتعلق برغبة الجنس البشري بوضع حدود واضحة للمنازل والحدائق، هذه العلامات برأيه ارتداد إلى مرحلة سابقة في تطور البشرية. وكان يعتقد جاره أن “الأسوار الجيدة تصنع جيراناً جيدين”. بينما ربط ولاس ستيفنز بين الوقت المتأخر وفعل القراءة وهدوء المنزل وعزلة ساكنه.
قصيدة الشاعر اليوناني قسطنطين كافافيس أيضاً عن “المنزل” الذي يتحول ويتبدل بقوة الحب.
يصبح البيت في قصيدة دبليو إتش أودن المكان الأسطوري للمتع البسيطة والكدح وامتداداً للذات، تستكشف القصائد غرفة النوم والحمام والقبو والعليّة والجنس والخوف والأمان الذي تحمله الغرف داخله.
روث ستون تصف إقامتها في البيت الجديد الذي استأجرته أيضاً:
استأجرتِ شقة
أتيتِ إلى هذا المكان لأجل الراحة الجسدية.
جسدكِ الثقيل يصعد الدرج في الظلام.
لمبة حجرة الجلوس احترقت،
صاحب البيت يوناني الأصل وربما القاتل.
في الشقة يميل جسدكِ على الجدار.
لوحة ابنتكِ لملفوفة كبيرة ومزركشة
تواجه سماءً مظلمة مع نقاط للنجوم.
الخضار المتلهفة تتفتح وكأنها تأكل الهواء
أو تتكلم لغة المعاني.
بينما النجوم تخفي عنفاً هائلاً
في الظلام أعلى منتصف اللوحة.
يمكنكِ العيش مع كل هذا”.
***
بيت الأشباح
الآن لم يقتصر بناء السياج حول حدود المنزل، بل أنت على وشك بنائه حول نفسكَ أيضاً، والشيء الوحيد المسموح به الآن هو أن تكون لوحدكَ. يبدو الأمر مثل مقطع مأخوذ من فيلم أو رواية، متسمّراً أمام التلفزيون، وفجأة سيصلك صراخ من هناك، وجلبة وردهات ومشاف كأنها مبنية على سطح المريخ، وبشر في البراري لا سقف لهم ولا سياج، يلوّحون للمجهول الذي ينتظرونه. الأسرّة في المشافي مشغولة على آخرها، صور آتية من أمكنة الزحام في الشرق الأوسط أمام الأفران ومواقف الباصات. الأبخرة والدخان المتصاعد من الخيام المنتشرة على شواطئ الجزر اليونانية، والفناء الواسع للعدم حيث لا قاعات موسيقى أو رفوف كتب تلهو بها بروحك المعطوبة، والاكتفاء بالنظر إلى الشاشة لتفقد الأجزاء المتبقية لمدن الأرض التي أصبحت أقرب إلى خلاء مصنوع في أستوديوهات التصوير. سحر هوليوودي يهديكَ رفشاً كي تحفر داخل الممر الذي سيأخذك إلى عتبة الملهى.
نيوجرسي
مارس – آذار 2020
كاتب من سوريا مقيم في نيوجرسي/الولايات المتحدة
——————–
الخروج من الجنة/ خيري الذهبي
1
ستداهمك الطمأنينة وأنت تجد نفسك مستهدفاً، من قبل وسائل الإعلام والتلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي، والأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، وكل تهمتك أنك تجاوزت السبعين من عمرك، لا أعرف ما الذي يجب عليّ أن أفعله، كل شيء موجه ضدنا نحن الحكماء في السن، يقولون بأن مناعتنا ضعيفة، ههه سأقهر كورونا كما قهرت كل خصومي.. فلقد اعتدت المعارك مع المجهول، بل وأنا معصوب العينين.
أنا في الأصل لم أكن أغادر المنزل إلا للمشي الذي أعشقه، هو هوايتي التي لم تفارقني منذ تعلمت المشي، حيث انطلقت أشعل طرقات الشام القديمة بحثاً عن نفسي، هارباً من شيء لا أعرف ما هو، ولاهثاً نحو أفق يبدو قريباً، ولا زلت أمشي يومياً باحثاً عنها حتى ظهر لنا الرفيق الصيني كورونا، الذي منعني عن هذا، ومع الحجر الذي أعيشه في جميع المنازل التي سكنتها منذ خروجي من الرحم الدمشقي، وأنا أمشي وأقرأ، وأقرأ وأكتب، وكل ما عدا ذلك لا أتذكره، هي تفاصيل..
2
في الحقيقة، أعدت تقييم العلاقة مع الأسرة التي هي مدماك حياتي، مجدداً بعد (الخروج العظيم) وأقصد بالخروج العظيم، هو تهجيرنا ونحن قدماء سكان العالم من بيوتنا، أعدت اكتشاف العلاقة معهم، هنالك تعاضد ما يظهر في التفاصيل، هنالك حنان وقوة ورغبة في الاستمرار تملكها نساء العائلة، والنساء عادة أقوى من الرجال في مثل هذا النوع من المحن، الرجال يحتاجون عشاً كي يعودوا إليه، بينما النساء هن من يبنين ذلك العش، تعلمت ذلك من عشقي لتربية الطيور، بالمناسبة أنا أرغب في الهجرة إلى أوروبا فقط كي أنتسب لجمعيات مراقبة الطيور، ولعلها تكون هوايتي الجديدة..
إذن نحن عالقون في مركب تتلاطم به الأمواج، نتشاجر ونتصالح ونضحك ونأكل وأسمعهم يهاتفون بعضهم البعض، ويضحكون ويبكون من مرارة البعد، زوجتي سميرة، تشتاق لعائلتها ولأختها وجيرانها، وللحيّ الذي كنا فيه، وهي تدمع في الأسبوع مرة على الأقل، بينما ذلك يغضبني، لا أحب الحنين، أفكر دائماً في المضي قدماً..
3
كيف أمضي الوقت؟
في الحقيقة أنا رجل روتين بامتياز، ربما لم يتغير روتيني منذ أكثر من نصف قرن، أنهض باكراً جداً تقريباً في الخامسة صباحاً، وأشرب نسكافيه مخففة بالحليب، ومن ثم كنت أنطلق نحو المشي الصباحي، (الآن أمارس القليل من الرياضة، حسب نصائح الأطباء) ومنه أعود للفطور، ومن ثم القليل من الأخبار، وأبدأ بالعمل، الساعات الصباحية هي ساعات جوهرية بالنسبة إلى عملي، فيها أنجز الكثير، أحياناً كتابة وأحايين في القراءة، أخرج بعدها إلى حديقة البيت الصغيرة، وأتابع شؤون ومشاكل وقضايا الزهور والدوالي والشجيرات التي غرستها، (لقد فقدت منذ الخروج العظيم، جنتي، جنينتي) وأراقب ما تبقّى من طيور بلاد الشام، وربما أحمّلها السلام، لو قدّر لي أن أقبلها لفعلت، فهي غير معنية بالكورونا، بعدها أعود للروتين المتعلق بالغداء والراحة والهاتف اليومي من فارس، نتناقش عن الكتب وعن الأدب وعمّا أكتب، هو في فرنسا، وأنا في الأردن، لقد أشعرني كورونا بالحجز، أرجعني للأيام السورية، حينما كنت أشعر أن هناك شيئا ما خفيا، يعيق حريتي.
بمعنى أوسع كورونا أعاد الإنسان إلى الحجر، كي يسمح لباقي المخلوقات بالتنفس، والحياة.
4 – 5
الفايروس اللعين، أقعدنا، لم يشعرني بالضعف، بقدر ما أشعرني بأن البشرية ضعيفة، حيث لم أشعر بأنني مهدد لأن هذا الشعور ليس جديداً عليّ، طوال عمري وأنا أشعر أنني مهدد، من قبل جهات خفية، تتربص بي، لم يعنني هذا الأمر ولن يعنيني، ولن يؤثّر بي، فالأمر واضح بالنسبة إليّ والطريق واضح، والقدر محتوم.. وأنا مستمر حتى إنجاز ما أرغب في إنجازه.. كورونا يعيق من يعتمد على العولمة ومن يتكئ على النظام العالمي الجديد، أنا أعيش في عالمي، في فقاعتي الأدبية، لا حدود في مملكتي الخاصة، من يرغب بالدخول عليه إبراز أوراق اعتماد أخلاقية، وفكرية..
6
العزلة التي أعيشها هي من تحدد مراجعتي لنفسي، لقد بدأت مرحلة جديدة من حياتي من لحظة خروجي من الشام – سوريا، ومنذ ذلك اليوم وأنا في مراجعة مستمرة مع نفسي، ومع الآخر ومع الحياة، مع كتابتي ومع القراء، مع سوريا ومع المجهول، الفايروس كورونا جعل الأمور أوضح، وربما أسرع، هو يسرّع قصص الخيال العلمي، لم أتوقع أن تكون هذه نهاية البشرية، ربما لن تكون مع الكوفيد، ولكنها ستكون مع أبناء عمومته بعد فترة، من سيفنينا كبشر هو طمعنا وجشعنا، الكوكب سيرد كل إساءاتنا، ونحن من سندفع ثمن الجشع العالمي، من الصين إلى روسيا إلى أميركا. نحن المتفرجون، ودافعوا الضرائب، ووقود الأوبئة.
7
ذكّرني الوباء، بقصة “1984” لجورج أورويل، ربما كان الأخ الأكبر هو هذا الفايروس، الذي يحدد لنا ساعات مشينا وخروجنا وتبضعنا، يحدد لنا هل نصافح أم لا، هل نقبل بعضنا أم لا، ربما هذا الأمر سيكون صعباً على العشاق، وعلى المتهورين، الأخ الأكبر يتحكم بنا، ونحن نطيع، بلا حول ولا قوة، أنجرف في تلك اللحظة القطيعية مع البشرية، سمعت قصة عن فاشيين جدد يكحون أمام العجائز في أميركا وإيطاليا، وهم يضحكون، ربما لن تكون نهاية العالم مع كورونا، بل ستكون مع هؤلاء إن سيطروا على العالم..
ذاكرة مثقوبة
في زمان ما ومضى، لم أكن أتخيل نهاية العالم، كما كان يصورها لنا رجال الدين المسلمين والمسيحيين في دمشق الشام، بأننا سنحترق في الجحيم، والجيدون منّا سيذهبون إلى الجنة، بل كنت أتخيلها بشكل أجمل وأبسط، نهاية الحياة في مدينة مثل دمشق لا تعني شيئاً، لأننا نعيش فعلياً في الجنة، ومن يعش في الجنة لا بد أنه إنسان جيد، أن تعيش في الجنة يعني أن تختار نهايتك، وأن تختفي بنفس البساطة التي أتيت بها، ربما مثل أيمن، وسأحثكم عن أيمن بسرعة..
كان أيمن يهرب من جده، القاسي الذي لم يكن يرحمه مطلقاً حينما يغلط، كان يجلده على قدميه أمام الناس، دكان جد أيمن كان في منطقة الحميدية، في أحد تفرّعاتها المخفية، فيما يسمونه “سوق اتفضّلي”، ولكن أيمن كان يأبى الضرب من جده، رغم أنه كان يتلقاه، ولكن حساسيته كانت من أن الضرب قائم في السوق وأمام الناس، حيث لا احترام له، وبالفعل بعد كل مرة يغلط بها أيمن، كان يركض، ويركض، هارباً من السوق إلى الأحياء، نحو الغوطة، حيث يبقى سويعات ليعود بعدها وتعاد الكرة.
في إحدى المرات، كسر أيمن إبريق اللبن، وأيمن هذا كان أحمق قليلاً ولكنه حساس، فاستشعر غضب جده، فركض مجدداً، وركض وركض، وكانت الدنيا صيفاً قائظاً، بدأ أهل السوق يضحكون من هروب أيمن، ومن وعيد جده بصوته العالي إن عاد..
ركض أيمن، وركض، ودمعه يسيل مع الريح، حتى توقف في الغوطة، قرب فرع من فروع بردى، تمشى جيئة وذهاباً، وشعر بعدم جدوى عودته، فجده ينتظر، شعر بالحر، فخلع ثيابه، وقرر أن يسبح، ولربما قرر أن يختفي، عائداً من المكان الذي أتى منه.. إلى الجنة حيث الزهر والغوطة والعصافير، وسمك النهر، سبح عائداً إلى هناك، فهو لا يريد أن يعود أبداً إلى الجحيم مجدداً.
روائي من سوريا
—————————–
عزلتنا وهشاشتنا/ هيثم حسين
كيف يواصل الزمن انسلاله من بين يديّ
لا أكاد أبالغ إن قلت بأنّني أشعر بأنّي في سباق دائم متجدّد مع الوقت، أدور في دائرته، أشعر بانسلاله من بين يديّ كأنّه نقطة ماء تنسلّ هاربة وأنا أحاول محاصرتها والتحصّل على ما أمكنني منها. أحياناً أمازح من حولي بالقول لو أنّ بالإمكان شراء بعض الوقت من أولئك الذين يشعرون بأنّ لديهم فائضاً منه، أو مَن يشعرون بالملل وأنّه ليس لديهم ما يفعلون. أغبطهم نوعاً ما، وأشفق عليهم في الوقت نفسه.
الزمن؛ هذا الذي يشكّل سرّاً من أسرار الكون، لطالما شغلني، وأسرني، وجعلني في لهاث دائم أرنو إلى خيط بداية جديد، أو خطّ نهاية مرحليّ، كلّ مرة، يظلّ سيّداً وحده، مهما حاولت فهمه، أو التكيّف مع تقلباته وأطواره، أو تطويع نفسي وفق المتغيّرات التي أجد نفسها واقعاً، أو ملقيّاً في أتونها..
ولا أدري إن كنت سأبالغ بالقول إنّه بالكاد تغيّر شيء بسيط في دورة حياتي في العزلة والحجر، فبرنامجي اليوميّ مليء دوماً بالانشغالات، وأعمل على سرقة بعض الوقت من نفسي حين أسترق متعة الخروج مع صديق من دون أن أشعر بأنّي مضغوط، وأنّ كثيراً من الأمور تنتظر منّي أن أنجزها.
أشعر بأنّي محاصر بالوقت، وبأنّي ملاحَق بأمور معلّقة تنتظرني، ولا بدّ لي من الالتفات إليها، وإيلائها بعض الاهتمام، وبعض الوقت الذي يفترض أن أقتطعه من دورة الزمن المنسلّة الهاربة التي ألهث وراءها في سيناريو يومي يكرّر نفسه منذ أكثر من عقدين من الزمن.
أشعر بالتوتّر، ينتابني القلق، أستوحش في كثير من الأحيان حين أكون ضمن الجماعة أو في مجالس عامّة، وأعود للهدوء والتصالح مع الذات والزمن حين أنفرد بالكتاب، وأنغمس في عوالمه، تتبدّد الوحدة حينها، يتبدّد الاستيحاش، ويتحوّل إلى عالم مزدحم بالجماليات التي أحاول التقاطها والتنعّم بها..
العزلة نعمة بالنسبة إليّ، تعني مزيدا من الوقت للقراءة والكتابة، ومزيدا من الترفيه المفقود، بمتابعة أفلام سينمائية أو الاستماع إلى موسيقى أشتاق إليها وأفتقدها، ناهيك عن إيقاف تيّار الحياة الجارف، والاستمتاع بساعات هدوء بعيداً عن ضجيج المدينة الذي لا يخلو من جماليات بدوره حين تكون قادراً على ضبط علاقتك معه، من دون أن تكون مرغماً على الغرق فيه أو الانسياق وراء جنونه.
أقضي ساعات طويلة في العمل، وبعدها أحاول التواصل بشكل يوميّ مع بعض الأصدقاء، ولاسيما أنّني مسكون بشعور دائم بالتقصير تجاههم، ذلك أنّي مقلّ في التواصل، أكره محادثات الفيديو، أملّ سريعاً من المكالمات الطويلة، أضيق ذرعاً بالتفاصيل، وأكره أن أبدو كمن يحاول التهرّب من التواصل والمهاتفة والمحادثة والاستمتاع.
في السنوات العشر الأخيرة، أشعر بأنّي كائن أونلايني، معظم حياتي أقضيها في عالمي، المنفتح على العوالم والأصدقاء من خلال التواصل عن بعد، وقبل ذلك أيضاً، حين كنت في مدينتي وبين أهلي وأصدقاء الطفولة ومحيطي الاجتماعيّ، كنت أشعر بأنّ الوقت ينسلّ بطريقة مرعبة، لذلك غالباً ما كنت ألوذ بالعزلة لأتمكّن من إنجاز ما أخطّط له وما ينتظر منّي إتمامه.
تفرض العزلة المستجدّة، كونها مفروضة، وليست اختيارية كما تعوّدت عليها سابقاً، طقوساً جديدة بدورها، ذلك أنّ عليّ أن أراعي متطلّبات الأسرة، ولاسيما أنّ بنتيّ؛ هيفي وروز، توقّفتا كغيرهما عن الذهاب للمدرسة، ودخلتا معنا في عزلة إجبارية، ولا يمكن للأطفال تفهّم موجبات العزل كما يجب، وتكون طفولتهما أكثر غلبة ومطالبة بأخذ حقّها من الوقت المفترض.
أتمعّن في الهدوء الإجباريّ الذي فرضه الفايروس على هذا الكوكب، وكيف أن التوقيف المؤقّت يخدم البيئة، ويمنح المناخ رئات للتنفّس، عسى أن تداوي الطبيعة بعض جراحها الناجمة عن عبث البشر بها، وأذكر كم كان إقناع بعض العابثين بالبيئة بتهدئة جزء من عبثهم ضرباً من الاستحالة، لكنّ إذعانهم لاجتياح الفايروس وهجومه يبدو لي تحطيماً لذاك الغرور الممجوج، وإيقافاً لهم عند حدّ كان يجب عليهم تفهّمه قبل وقت طويل.
مسافة الأمان التي أكرّر لنفسي الحديث عنها، والتي تشكّل تفصيلاً من تفاصيل السلوك الحياتيّ، تلغى في واقع العزل، فلا مسافة ولا أمان، يكون الذعر جاثماً على الصدور، وطائفاً في الأجواء، يحوم من حولنا مرعباً إيّانا وفارضاً شبحيّته التي تطغى وتستبدّ وتمحو أيّ مشاعر بالأمان وسط لعبة الذعر اليومية التي تسيّرنا بطريقة أو أخرى..
أفكر كم كشف لنا هذا الفايروس المستجدّ هشاشة عالمنا، هشاشة التكنولوجيا، وكيف عرّى التجبّر البشريّ، وأظهر ضعف الإنسان، وصغره، أمام هول ما تحمله الطبيعة له، وما يمكن أن يدمّره من مجهول لا يعلم كنهه، وفضح مزاعم البشر بالتفوّق والعظمة، أعادة ترتيب الأولويات، ووحّد البشر في سبيل هدف واحد، لأنّهم وجدوا أنفسهم معرّضين لحرب ضدّ البشرية، وأمام فايروس لا مرئيّ يغلق العالم، ويتسبّب بكوارث إنسانية واقتصادية عليه.
يبدو أنّ البشرية تكون بحاجة لهزائم من هذا النوع بين وقت وآخر، كي تدرك حجمها الحقيقيّ، ولا تبالغ في تألّهها وزعمها الوصول إلى قمم العظمة. الفايروس جرح الجبروت البشريّ وفضح عريه، أظهر للعالم أنّه عارٍ أمام المحن والكوارث، وأنّ عليه التأدّب أكثر حين يقف أمام الطبيعة وقوّتها المخفية وأسرارها المخبوءة.
يشعر الإنسان بنفسه أنّه مركز الكون، ولكن في حالات كهذه، يكتشف خيبته وضعفه، وأنّه مهما ظنّ بنفسه بأنّه عالم كامل، وجرم متكامل عظيم، إلّا أنّه يمكن أن يقع صريعاً على هامش الزمن، وفي دورة من دورات الحياة، بكلّ بساطة، ومن دون أن يشكّل وجوده أو غيابه أيّ علامة فارقة في رحلة الوجود الأزلية الأبدية التي لا يصمد في وجهها أيّ فرد مهما بلغ من قوّة أو جبروت.
التهديدات تحاصرنا كذلك بشكل دائم، فكلّ ما حولنا يمكن أن يكون مصدر تهديد لنا، وإن كان يوحي بأنّه موقوف أو موجود لخدمتنا وراحتنا، لكنّنا نحمل تهديداتنا الوجودية معنا، ما يبدو عامل أمان قد ينقلب إلى تهديد، وذلك في سياق الوجود الهشّ الذي يفتقر لمقوّمات الصمود أمام الكوارث المجهولة والتي يمكن أن تجتاحنا في أيّ وقت لتقلب مسار حياتنا وتسجننا في مخاوفنا القاهرة.
أقول لنفسي أحياناً غنّني فقدت شعور الخوف من التهديد بالموت في وقت سابق، وقبل أكثر من عشرين سنة، حين مررت بتجربة قاتلة، تجربة حرق كادت تودي بي أثناء خدمتي الإلزامية، أجبرتني على المكوث في المشفى حوالي عامين، وما تزال تداعياتها وتأثيراتها الجسدية والنفسية حاضرة معي يومياً، وكأنّ الحرق كان بالأمس، وليس قبل عقدين من الزمن.
بعد تلك التجربة أشعر أنّ أيّ لحظة أعيشها هي هدية من الحياة إليّ، وأنّ عليّ أن أكون ممتنّاً لأنّي ما أزال أعيش، وأنّي عدت من الموت لأحيا وأسترق ما يمكن من جماليات ومتع، بعيداً عن تعكيرها بالخوف الذي يسمّم الحياة، لذا فأحاول أن أقنع نفسي أنّ الخوف يشوّه النفس وأنّي عليّ ألّا أستكين لسلطته المدمّرة.
الرعب من المجهول المتربّص بنا شبح دائم، الخوف يعيد الاعتبار للحياة نفسها، والكوابيس الواقعية تكشف فداحة الخيبة الطاغية، والخسارة المعمّمة، وعسى أن يكون تفشّي الخوف أداة لتجميل الحياة وليس إنذاراً لتلويثها بالكراهيات والعنصريات والأحقاد والجرائم، وأن يفرض الفايروس سلوكيات جديدة تمضي بالإنسان نحو مزيد من المحبة للآخر، لأنّ المصير المشترك يجبر على التسامي على الخلافات والأحقاد، ويملي توحيد الجهود للإنقاذ، فمركب الحياة يمكن أن يغرق لأيّ سبب، ولن تنفع الذرائع التي يسوقها البعض بتلافي الخسارة أو تخفيف وطأتها..
وحدة المصير الإنساني تحدّ تاريخيّ وجوديّ أمام البشرية التي تواجه حرباً ضروساً من فايروس لا مرئيّ يمرئي لها صورها وتاريخها وخيباتها وكوارثها، ويساعدها على بلورة مسار جديد مختلف، عسى أن يكون هناك اعتبار ما، وتقدير لقيمة الحياة التي تمّ الاستهتار بها كثيراً في الحروب والأزمات المفتعلة.
أسأل نفسي: مَن أنا في هذه المعمعة، وأين يجب أن أكون، ما هو دوري، وما الذي يمكن أن أقوم به!
أقنع نفسي بعدها أنّني في هذه الحرب ألعب دوري بالبقاء معتزلاً، مستكيناً في الحجْر، مترقّباً ما ستبدعه العقول العظيمة في هذه المواجهة للتغلّب على الوحش الذي يفتك بالبشرية.
روائي وناقد من سوريا مقيم في لندن
كاتب من سوريا
————————–
——————————–
لم يبق في الشوارع إلا جدران الغرافيتي/ عمار المأمون
لا أحد هنا ولا هناك
شوارع العالم الفارغة والحجر الصحيّ جعلانا جميعاً كبشر نعيد النظر في أولوياتنا، سواء على المستوى الشخصيّ والحميمي أو ذاك العلني والسياسيّ، الشوارع والفضاءات العامة التي كانت مساحات صراع، أًصبحت خالية بسبب الخوف من العدوى والإجراءات الاستثنائية التي فرضتها الحكومات على مواطنيها حفاظاً على حياتهم وصحتهم، وشكّل منع التجمّع والتلامس أزمة لا ندري إلى الآن درجة جديّتها وأثرها. المثير للاهتمام أن كل هذه القوانين والأزمات أيقظت فناني الشارع أولئك الذين في الأصل تناصبهم السلطة العداء وتسن قوانين لاحتواء “أثرهم” بوصفهم مُخربين. هؤلاء الفنانون المجاهيل في العديد من الأحيان وجدوا فرصة سانحة لجعل أصواتهم أشد مرئيّة ووضوحا، ليكونوا الأشد تماساً مع ما يشهده العالم، فحرفياً أًصبحت كل الشوارع الآن قماشاً بانتظار بخاخات فناني الشارع وريشهم، الذين حولوا الجدران إلى مساحات لإعادة النظر في الفضاء الخاص وطبيعة الإنسان و تاريخ الفن نفسه.
يعكس الغرافيتي أشد الهواجس الآنيّة بصورة ساخرة، مُتحرراً من ضرورة الصوابيّة السياسيّة ومنتقداً السلوك البشري في ظل فقدان الناس لملكيّة الفضاء العام، وتحول مساحات التجمع إلى ما يشبه مساحات القتال، وهذا ما نراه في الأعمال التي تصور “سميغل” الشخصية الشهيرة من سلسلة أفلام “Lord of the rings”، الذي عُرف بسعيه المُستميت لأجل الحصول على الخاتم، هذا السعي الذي أفقده عقله وأنهك جسده، كون الخاتم غرض فيتشي وموضع رغبة لا يمكن الاستغناء عنه مُعمياً الأبصار عن كل شيء آخر، لكن الاختلاف أننا نرى سميغل يحمل “ورق الحمام”، بوصفه حرفياً ذاك الغرض الذي تقاتل الناس عليه في أنحاء العالم، فالبعض يرى فيه جزءاً أساسياً من الفضاء الداخلي والحد الفاصل بين المتسخ والنظيف، والسعي في سبيله يعني في بعض الأحيان معركة مع “الآخرين”، الأعداء المحتملين الذين يريدون ذات “الغالي” حسب تعبير سميغل، وهذا ما يجعل فن الشارع مثيراً للاهتمام في ظل الحجر الصحي كونه استهدف مكونات الفضاء الداخلي ومحتويته وحولها إلى قضية عامة ومرئيّة، اختبرها الكثيرون ويختبرونها وذلك في سخرية ومباشرة مما شهدته المحلات التجاريّة، فورق الحمام، هذا الغرض الحميمي والساخر في ذات الوقت، يعكس هشاشة الفضاء الداخليّ وطبيعة علاقتنا مع المنتجات الاستهلاكيّة التي نظن أنها متوافرة دوماً، واختفاؤها قد يعني الوصول إلى العنف والأذى الجسدي.
عنف “الداخل” الخفي
أخطار الداخل التي تكشفت نتيجة الحظر المنزلي ظهرت أيضاً على الجدران، وهذا ما نراه في عمل يُمثّل امرأة معنّفة تضع إصبعها على فمها صامتة، فمشكلة العنف المنزلي تفاقمت في الفترة الأخيرة بسبب التواجد الدائم للأزواج في المنزل، وتطابق زمن الزوجين الاقتصادي والخاص، والمثير للاهتمام أن الجداريّة تصور الصمت، أي ذاك الاتفاق الاجتماعيّ على عدم الحديث عن هذا الموضوع مهما تفاقم، والاكتفاء فقط بالإشارة إليه دون حتى وضع كمّامة، فهذا العنف يضرب في عمق المنزل ويهدد مفهوم الاستقرار والأمان الذين يؤمنهما الفضاء الخاص، وكأن الحجر الصحي وما نتج عنه من تعطيل للزمن الاقتصاديّ، أعاد توزيع “العنف”، فعوضاً عن أن يمارسه الزوج أو الشريك مع الآخرين في الخارج ضمن صراع اقتصاديّ وسياسي وثقافيّ، أصبح هذا العنف في الداخل مباشراً يطبّق على جسد المرأة المحكومة ثقافياً بأنها أضعف، خالقاً عُطباً عميقاً في مفهوم الأسرة من جهة، وحق المرأة في الدفاع عن نفسها من جهة أخرى، فالصمت والسبابة المنتصبة بوجه الشفة هي نتاج ثقافة متكاملة، الصمت فيها عدو المرأة على مستويين، الأول عبر إقناعها بأن “طبيعة” الرجال عنيفة، والثاني يوظف فيه الصمت بوصفه وسيلة لحماية منزلها الذي قد تفقده إن هي تحدثت، وكأنه لا مشكلة في مرئية آثار العنف، المشكلة فقط في الحديث عنه.
ضد الانتقال
ربما تحقّق الآن حلم السلطات الأشد دكتاتوريّة، ألا وهي تكديس المواطنين في منازلهم و”استغلال” فقط أولئك الذين يشكلون طاقة العمل، صحيح أن الكثير من الدول تحاول تفادي الانهيار، لكن على مستوى مفاهيمي منحرف، هناك مفارقة توظفها السلطة، الجميع يحاول تفادي الانتقال وخائف، وكل من هم في الخارج “مقيّدون” وهذا ما نراه في واحد من أعمال الغرافيتي التي تشابه أسلوب بانكسي، إذ نرى فرداً مقيداً بسلسلة وعوض عن أن تكون نهاياتها كتلة حديدية كتلك التي تستعمل لمنع السجناء من الركض والهرب، هناك الفايروس ذاك الكائن المجهري الذي تحوّل إلى قيد شلّ حركة الناس، وإن هم خرجوا وقرروا مجابهته، فحركتهم بطيئة ومدروسة، فهناك التباعد اجتماعي والمحال المُغلقة والكل يحدّق بالآخر خوفاً من لمسة طائشة، خصوصاً ولمفارقة تراجيديّة، الأسلوب الـناجح لمجابهة الفايروس يعتمد “اللاحركة” (Demobilization) أي الاكتفاء بالوجود في المنزل والتحرر من كل قيود الخارج الخطر الممنوع عدو البشر.
جنود مجهولون
في المعركة التي تخوضها البشريّة ضد هذا الفايروس، ولو تبنينا مصطلحات الحرب السياسية، هناك جنود على الصفوف الأولى، أولئك الذين هم على تماس مباشر مع المرضى الذين لا فقط يحافظون على “الحياة” بل يشهدون أيضاً على الموت اليوميّ، هذه الكتلة البشريّة تتمثل بالممرضات والممرضين، الطبيبات والأطباء الذين تمتلئ الشاشات برسائل الشكر والامتنان لجهودهم، لكن هناك شكل طاغ لهؤلاء “الجنود” نراه في أحد الأعمال الذي يبدو للوهلة الأولى شديد الواقعية، ممرضة أو طبيبة ترتدي الكمامة، نرى عينيها فقط، إذ تكفي فقط إشارات إلى الزي الطبي لترسم أمامنا هالة “المُنقذ”، فلا فرادة هنا لأيّ أحد، نحن لسنا أمام مُخترع أو قائد عسكريّ، بل كتلة بشريّة متشابهة، صحيح أنها تواجه قراراً سياسياً يرتبط بالحياة والموت، لكن يجمعها هاجس واحد هو الحفاظ على الحياة بالشكل الأقصى، جهود الأطباء حولتهم إلى “أبطال” دون اختلاف أو تمييز بينهم، هم بشكلهم العادي وزيهم المهنيّ المسؤولون عن استمرار النوع البشريّ.
أين البطل الخارق؟
شكّل الوباء الحاليّ تحدياً للثقافة الشعبيّة والمتخيلات التي تقدمها عن البطولة، فالشخصيات التقليدية كسوبر مان وسبايدرمان وغيرهم من الأبطال الذين يواجهون الشرّ والأخطار التي تهدد مصير البشرية يبدون شاحبين، يشبهوننا، قدراتهم “الخارقة” لا تحمل أيّ جدوى، بل يكتفون مثلنا بوضع الكمامات، والتجول في الشوارع الفارغة، فالخطر هذه المرّة لا يحتاجُ قدرة على الطيران أو تسلق الأبنيّة، بل يتطلب هدوءا وتركيزا عاليا، وتجارب مخبرية طويلة كي ينجح تصنيع الترياق. فسيناريوهات نهاية العالم التي تصدى لها الأبطال الخارقون تبدو ساذجة أمام ما نشهده، فقدراتهم على الانتقال السريع وحل المشكلات الآنية لا قيمة لها، وكأن الوضع الاستثنائيّ الحاليّ لا يتطلب قرارات أو مهارات استثنائية وخارقة، بل يُنتجُ أبطاله الخاصين، أولئك الذين تحولت وظائفهم ومهماتهم العاديّة فجأة إلى أسلوب لضبط تدفق الموت والحياة، ولا يمكن إنكار أن هذا يحوي مُفارقةً ساخرة، كل ما قدمه القرن الحادي والعشرون من هيمنة رأسمالية وتقنيّة وتكنولوجيّة ومتخيلات عن البطل الخارق فشلت في التنبؤ بالحل في حال حصول وباء عالميّ، فلا جنديّ خارقا ولا درونات ولا سايبورغات، بل أطباء بمعاطفهم في مختبراتهم يعملون بصمت ولساعات طويلة، لا نعرف أوجههم ولا أسماءهم، وهذا ما نراه في أعمال الغرافيتي التي يختفي فيها وجه “الطبيب” ويتحول زي البطل الخارق إلى تنكر خارجيّ يحتفي وراءه زي الطبيب.
إعادة النظر في تاريخ الفنّ
تحولت الكمامة الآن إلى علامة فارقة في تاريخ البشريّة، هي ليست قناعاً بالمعنى المسرحيّ للكلمة ولا رمزاً دينياً، بل علامة سياسيّة – ثقافيّة تفصل بين الأصحّاء والمرضى، بين من يشكّلون الخطر وبين أولئك “الآمنين” لفترة مؤقتة، فنانو الشارع لم يفوّتوا فرصة تحويل الكمامة إلى عنصر بصري يزيّن لوحاتهم، وعبرها أعيد النظر إلى تاريخ الثقافة بوصفه ناقصاً، بلا كمامة، لتظهر في معظم الأعمال مزينة الأوجه كغرافيتي يمثّل لوحة المرأة ذات القرطين اللؤلؤيين. فكما استفاد فنان الشارع من علبة كهرباء ليستبدل قرطيها وضع على وجهها كمامة قماشية كبيرة وكأن ما نشهده الآن يتطلب منا إعادة النظر بكل المسلمات السابقة، حتى تلك الفنيّة والثقافيّة، ما نسميه “روائع” و”فناً جميلاً” أصبح بلا قيمة أمام الخطر الذي يواجه الظاهرة الإنسانيّة، هي مجرد علامات عن زمن نوستالجيّ أسير المتاحف المغلقة. أما التاريخ الذي قدم لنا رموزاً تواطأنا على الاعتراف بقيمتها فأًصبح هشاً خائفاً، بل ويضع كمامة، حتى قبلة الفنان البيلجيكي ماغريت، نراها أيضاً بصورة مختلفة، لا حجاب يلتحف به الحبيبان، بل كمامة تفصل الإنسان عن الطبيعة، نحن أمام ” باستيش”، أو محاكاة وتقدير للعمل الأصلي. صحيح أن عناصره أشد “إنسانيّة” لكن الكمامة هنا علامة على فشل عميق في المتخيلات البشريّة وقدرتها على توقّع ما يحصل وإنقاذ من تبقى، بل نرى أن الشيطان نفسه يقول لنا “مطهّر الأيدي لن ينقذنا”، في سخريّة من الشر الأشدّ “الشيطان” بجعله خائفاً بل ويقدم النصائح في سبيل نجاة البشريّة.
كاتب من سوريا مقيم في باريس
—————————————
غرفة تسكنها الجدران: أهي نهاية الشوط المرح في الماراثون الإنساني؟/ نوري الجراح
سؤال هو مظلة لأسئلة جمة تبادرت إلى الذهن بينما العالم يعبر أفواجاً عزلاء هذا البرزخ المسمّى كورونا، في محاولة للعثور على صيغة من نوع ما للجواب عن سؤال وجودي عابث: ما العمل؟ مصحوباً بصيغ شتى لقضاء الوقت بين أربعة جدران.
“غرفة بملايين الجدران”.. تستعيد ذاكرتي، الآن، هذا العنوان لشاعر عربي لم يعد بيننا، شاعر كتب يوميات حياته في النصف الثاني من القرن العشرين شعراً أقرب من الشفاهة، في لغة لم تطلب الإدهاش بمقدار ما أرادت إعادة تعريف البداهة، واستنكار غرابة الواقع عن طريق لعبة المفارقة، على الرغم من خروجه الكامل على التقاليد الفنية التي عرفها الشعر العربي حتى قيام ثورة الشعر الحر في أواسط القرن الماضي. لكن هل يمكن تطوير هذا العنوان، اليوم، ليحمل معنى مستجدا مع ما استجد في العالم من كوارث بعد عقد على رحيل هذا الشاعر.
والسؤال الآن، هل قصد محمد الماغوط أن العالم غرفة بملايين الجدران عندما أطلق على مجموعه الشعري هذا العنوان.
***
إنه هو إذن، العالم، بكل ما يصخب ويعتمل ويضجّ فيه، محض غرفة كبيرة تسكنها الجدران وفي ما بين الجدران بشر في حشر قيامي.
(اكتب يومياتك، أفكارك، تصوراتك، بصدد اللحظة وما سيليها). هذا ما طلبه محرر “الجديد” من كتابها المنتشرين على خارطة الآلام العربية مشرقا ومغرباً ومنفى انتشر على أربع جهات الأرض.
***
ماذا تفعل في البيت، حاجرا نفسك، ومحجورا عليك؟ كيف تقضي وقتك؟ في القراءة؟ في النوم؟ في سماع الموسيقى؟ في المشي في الغرفة؟ هل تشعر أنك سجين؟
هل تفكر بأنك مهدد، وأنك ضعيف ولا حول لك؟ أم أنك تشعر بأنك قويّ، وتدّخر قوتك لفصل آخر، في منازلة وجودية مع عدوّ لا قبل لك به ولا سابق له في تجاربك؟
ماذا تعنيه لك هذه التجربة، أن تكون مهدداً بالمعنى الوجودي للكلمة..؟
هل تقوم بجلسات مراجعة صامتة مع نفسك؟ مراجعة لحياتك؟ لمسيرتك الشخصية؟ لما فعلت وما لم تفعل؟ لما كنت تحلم به وما صرت إليه؟
هل أنت خائف من يوم غد؟
هل تشعر أنك في واقعة غريبة مدبرة من قوة كبرى؟ أم تشعر بأن ما يجري هو ضرب من تمرد الطبيعة ولحظة من لحظات معاقبتها للإنسان لسبب ما؟
هل حملت الجائحة الكونية مخيلتك على استدعاء أفكار وخواطر قيامية كنهاية العالم وما شابه؟ هل ذكّرتك بكتب ما من مؤلفات الخيال العلمي أو فيلم سينمائي أو لوحة تشكيلية أو فصل من فصول الكوارث في كتب التاريخ؟
كيف تتخيل نهاية هذا الكابوس الإنساني؟ هل تظن أن قوة الدول والعلم والتطور الطبي ستكون كافية لابتكار علاج ينجي البشر من هذا الفايروس القاتل. هل أنت متفائل؟ هل لديك توقّع لما يمكن أن يحدث للبشر حتى ذلك الوقت؟
هل تظن أن شيئاً أساسيا سيتغير فيك وفي من حولك، في حياتك وتفكيرك وفي حياة وتفكير الناس ومستقبل العلاقات في ما بينك وبين من حولك وبينهم وبين العالم، بفعل هذه التجربة؟
***
ما سلف أسئلة لها أجوبة، ولكن ماذا عن الأسئلة التي أرجأت أجوبتها؟ الأسئلة التي مكرت بها أجوبتها؟ الأسئلة التي حارت بها أجوبتها.. في عالم فقد مرحه فجأة، واكتشف أن الأرض ليست كروية وحسب، وأن أشكالها الأخرى ما تزال لم تجد أسماءها بعد.
أهي نهاية شوط مرح في الماراثون الإنساني، أم مجرد مرحلة في سفر عبثي؟
مرة في المتحف المصري، بعد رحلة شاقة في جوار هرم خوفو، وبعد ساعة في تأمل هذا الكائن الغريب المسمّى أبا الهول بجسمه الضخم ونظرته المتعالية. إذا بي مرة واحدة أمام لجام زجاجي وأبي الهول بحجم حبة الفاصولياء. أهي الإحاطة بكل شيء مهما كبر ومهما صغر، أم هو إدراك مبكر لقيمة المتناهي في الصغر، يبدو أن العبرة لم تبلغ مداها، ولم تستولِ على مخيلة الإنسان، ليكون أكثر احتراما للمتناهي في الصغر.
***
والآن، بات لزاما على الإنسان أن يحترم القدرة اللامحدودة لما صغر حتى بات لا يُرى بالعين المجردة.
**
ماذا تفعل أيها العالم في غرفتك المسكونة بملايين الجدران؟ وأنت أيها المقيم في الحقيقة وفي مجازها؟ هل تفتح النافذة لتستقبل الهواء، أم أن يدك ترتجف وتتردد؟ فلعل شعيرات الموت تطيش هي الأخرى قرب النوافذ، وقد حملت ذراتها اللامرئية رماد الأرض إلى رئات الهاربين من غموض الطبيعة إلى غموض الكلام، ومن التباس الفكرة إلى التباس اللغة.
ماذا تفعل أيها العالم بيديك اللتين صنعتا الجمال وأفسدتا هواء الرئتين؟
بماذا تفكر الآن
بماذا تفكر الآن
***
اكتب يومياتك، أفكارك، تصوراتك، بصدد اللحظة وما سيليها. ثم اكتب قصة متخيلة من 10 سطور أو أكثر أو أقل، عن أسوأ شيء ممكن أن تتخيله أو تتوقعه؟ أو أطرف شيء؟ أو أسعد شيء يتعلق بما أنت فيه الآن؟
***
هل يعقل أن يطلب شخص مثل هذا الطلب المترف من حملة أقلام ضجوا في غرف لم يتخيلوا أن يجدوا أنفسهم سجناء بين جدرانها، وقد حاروا ماذا يفعلون بأيديهم، في برهة من الزمن لم يتخيل أيّ منهم، لا في أطرف القصص ولا في أكثرها سوداوية أن يكونوا أبطال هذه الواقعة؟
إذا لم تشعر أن هذه النقاط هي ما يقبض على حالتك أو يفتح لها باباً وأنك في منطقة تفكير أخرى مختلفة، وأنك منشغل بشيء آخر. أرجو أن تمسح هذه السطور.
وتنسى أنك قرأت..
ولكن هاتِ سطرك أنت أيها الكاتب.
لندن- نيسان/أبريل 2020
————————–
كيف تجد معنًى لأيامك في العزل/ ناهد راحيل
1
إذا كنت تجلس مثلي لساعات طويلة في غرفتك تحت العزل الإجباري ولا تجد شيئا تفعله، ضع لنفسك خطة يكفي تنفيذها أسبوعا بشرط أن تحميك من الملل ومن الوسواس القهري.
كنت قد ترجمت لتوي قصيدة للشاعر ألموج بيهار بعنوان “كيف تختفي داخل جسد امرأة”؛ وهي قصيدة يحاكي فيها نص الكاتب المصري هيثم الورداني “كيف تختفي”، فكان أول ما فعلته هو معاودة قراءة النص العربي ومحاولة تتبع نصائح الورداني الإرشادية في كيفية الاختفاء حتى نهاية فترة الحجر، ثم تطبيق إرشادات معاودة الظهور مرة أخرى بعد مرور العاصفة.
كانت تلك هي الصيغة الخيالية كي أتعامل مع أيّام العزل، أما الصيغة العملية فتمثلت في وضع خطة بديلة تمرر الوقت وتحميني من الملل – الذي أنا بارعة في ممارسته حقا -، وتجعلني أتغلّب على وسواس الإصابة المؤكدة.
احترت في ترتيب البنود؛ فكانت عاداتي الروتينية تقفز أمامي فارضة نفسها على الخطة وهو ما كنت أتجنبه؛ فالخطة هدفها الأساسي القضاء على الملل ولن تساعدني عاداتي في ذلك، خاصة بعد أن أجبرني العزل على تغييرها أو إضافة عادات يومية جديدة مربكة. فمع تنفيذ إجراءات السلامة الصحية للوقاية من الفايروس، وضعت قائمة بالكتب المؤجلة التي لم يسمح لي الوقت بقراءاتها سابقا، وأخرى بالكتب التي أرغب في إعادة قراءتها. وإذا كانت تساعدك العناوين فهي – إلى جانب “كيف تختفي” للورداني – كالتالي: ثلاثية أغوتا كريستوف “الدفتر الكبير – البرهان – الكذبة الثالثة”، الأعمال الشعرية الكاملة لبسام حجار، وكان الكتاب المناسب لتلك الفترة هو “فن اللامبالاة” لمارك مانسون.
2
تغلب على إحساسك بالملل وابتعد عن وسائل التواصل الاجتماعي وتحلّى بالجهل حتى تنعم بالراحة، ونم أطول عدد من الساعات.
ساعدتني تلك القائمة في الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها، وهنا أعترف بإصابتي بالذعر كلما سمعت أخبارا عن عدد الإصابات المتزايد وما يستجد على عدد الوفيات كذلك.
قمت بالالتزام بعدم التطلع إلى شاشة الفيسبوك، كإجراء يتماشى مع اجراءات السلامة الصحية والنفسية التي قررت تطبيقها، ورغم ذلك أصر الأصدقاء على دعوتي لصفحات التوعية بفايروس كورونا وعلى إضافتي في مجموعات الواتساب المهتمة بالأمر نفسه، فما كان مني إلا تفعيل خاصية “عدم الإزعاج” ولمدة عام.
اعتقدت أن الجهل بالمعلومات يناسبني، مطبقة مقولة “مارك توين” بأن كل ما أحتاجه للنجاح في الحياة هو الجهل والثقة؛ خاصة بعد اختباري لأعراض الإصابة بالمرض حتى لو كانت أعراض وهمية، فمشاعر الخوف كانت سريعا ما تنتقل إليّ في صورة من نوبات الهلع مع كل صوت من إشعارات الفيس بوك والواتساب، فأصبحت أتخيل الفايروس بتيجانه المميزة يهاجم حنجرتي وينغرس داخل رئتيّ.
ورغم أن الأزمة إنسانية عامة أصابت العديدين على سطح الكرة الأرضية؛ فإن مشاعر الخوف – أو لنقل مدى الإحساس به – هي مشاعر فردية، تماما مثل شعار التوعية “خليك بالبيت” (stay home) فاحتمالية تطبيقه فردية، فهناك العديدون ممّن لا يملكون بيتا – بمعناه الحقيقي أو المجازي – لذلك كان عليّ أن أجد الصيغة المناسبة لأتغلب على مشاعر الخوف أو على الأقل أحدّ من تأثيره، فكان النوم لأطول فترة ممكنة سبيلي في ذلك.
3
إذا كنت تحبّ الشعر مثلي، ردد لنفسك الأبيات الشعرية التي تحبها والتي تنمي داخلك المشاعر الحيادية تجاه الأمر؛ فلن تأمن عواقب الانحياز.
كانت جملة محمود درويش -الختامية بالذات- “في البيت أجلس، لا حزينا لا سعيدا، بين بين” هي الجملة التي سيطرت على تفكيري وبت أرددها لمرات. أنا، التي لا أقف من المشاعر إلا على طرفي نقيض، دربت نفسي على الحياد؛ فلا داعي للانحياز إلى الأمان الزائد الذي يجعلني أتنازل عن الحرص، أو إلى الوسواس المرضي الذي قد يحرمني من ممارسة الحياة.
4
قم بتغيير شعاراتك، فقد تغدو أنت استثناء القاعدة.
بدأت أشك في فاعلية بعض قناعاتي الخاصة، مثل قاعدة “يحدث للآخرين فقط” خاصة بعد إصابتي بالأنفلونزا، لم أكن أعرف حينها إن كانت الأنفلونزا أم كورونا؛ لذلك انتقل خوفي من إطار الذاتية إلى نطاق الغيرية.
ورغم التزامي بجانب الجهل؛ فإنني اطلعت على فيديوهات طرق حماية الآخرين من انتقال العدوى، وتعلمت حساب النقاط التي تفرق بين أعراض كلا الفيروسين والتي جاءت متساوية لتجعل الاحتمالين قائمين.
لم يكن الموت هو ما يقلقني، لكن ما قد يسبقه من آلام، وأكثر ما أرّقني هو خوفي على من يلازمني خاصة أمي؛ التي أقضي الليل برفقتها لمشاهدة حفل أم كلثوم ثم نتابع حلقتين من المسلسلات الأجنبية التي تحبها؛ وأختي نهلة التي أشاركها الغرفة نفسها ونقضي ساعات طويلة سويا في الدرس والمذاكرة، وفي اللهو والمشاكسة كذلك.
فارتيدت الماسكات والقفازات داخل البيت طالما كنت أشعر بأعراض المرض من سعال وارتفاع واضح في درجة حرارة جسدي. وبعد انحسار الأعراض تخليت عن الماسك والقفاز، لكن لم أتخلّ عن تطهير الأسطح والمقابض وشاشات التلفزيون واللاب توب والموبايلات.
5
طبق الطرح الفوكوي ومارس سلطتك على جسدك وانشغل بتحديد متطلباته الجديدة وتكيف مع مساحاته الملزمة.
يرى ميشل فوكو أن الجسد “هو أول موضوع تمارس عليه السلطة فعلها”، ويؤكد دافيد لوبروتون كذلك على أن “الشرط الإنساني جسدي في الأساس”. وقد مارستُ سلطتي المحدودة على جسدي، بعد أن مارستها عليّ السلطة الأكبر التي يمتلكها الفايروس المهدد لشرط وجودي الإنساني.
وعاودني من جديد كابوس التآكل من الداخل، والآلام التي قد تصاحبه حتى أتلاشى تماما، صحيح أن الألم دليل على أن جسدي يعمل بكامل كفاءته؛ لكنه مؤشر الانهيار كذلك؛ فما كان عليّ إلا أن أحارب هذا “التآكل الداخلي” بمحاولات ترميم خارجية. ليسجل جسدي هذه الفترة رقما قياسيا في امتصاص العقاقير المعززة للمناعة وفي استقبال الفيتامينات المقوية، وعرف الكحول طريقه إلى يدي، ورغم ما يسببه من جفاف فإنني وجدت حلا فعالا باستخدام الكحول نهارا ومرطبات الأيدي ليلا.
لم يكن تحديد المسافات صعبا؛ فأستطيع أن أحافظ على المسافات جيدا، لكن إلزام يدي بعدم ملامسة وجهي كان التحدي الأكثر صعوبة لعادتي الغريبة في الحك فوق أنفي أثناء التفكير أو في أوقات الانشغال، فلم يكن هناك حلّ سوى عدم التفكير – وهذا مستحيل – أو البقاء مكتوفة الأيدي أثناء وجودي خارج البيت – وهو ما وجدته مناسبا -.
6
لا تجعل خيباتك في بعض البشر تسطير عليك وتذكر أنك خيبة أخرى لغيرك، وأحط نفسك بمن يهتم بك وبوجودك.
علمت أنها الفترة الأمثل لتداعي الذكريات الخاصة بكل الخيبات التي تعرضت لها من البشر – أصدقاء أو أحباء -، وتذكرت كوني خيبة محتملة في حياة الآخرين أيضا، فساعدني الابتعاد عن “دور الضحية” على تخطي تلك الذكريات وعدم السماح لها بالسيطرة على أفكاري.
بل وجعلني أكثر تسامحا حيال غياب بعض الأشخاص، الذين لم أتوقع انشغالهم عني في تلك الفترة، والتمست لهم العذر؛ ولنفسي كذلك للوقوع في الخطأ نفسه. واكتفيت بهذا العدد القليل – لكن الحقيقي – ممن يحيطون بي.
7
إذا تجدّدت مدة العزل، ضع لنفسك خطة أخرى تحميك من الملل ومن الإصابة بالوسواس القهري.
مع تجديد فترة العزل مرة أخرى، بدأت في طرح أفكار عن نهاية العالم المحتملة، وتساؤلات عن عصر نهضة جديد قد نشهده بعد انحسار الوباء؛ إلا أنني مللت من هوس تطبيق كل القواعد السابقة – قد يكون هذا تصرفا خاطئا، لكن “القدرة” نفسها على تكرار الأشياء فقدتْ فاعليتها على العمل -؛ فقررت العودة لعاداتي القديمة والتوقف عن التعامل مع العزل بوصفه عزلا إجباريا، واستلمت لطبعي في حب الوحدة واستمتعت بأمان الانعزال الذي طالما اخترته نهجا للحياة ووسيلة للنجاة.
كاتبة مصرية
——————————
مصاباً بفايروس الكتب/ محمد الحجيري
قبل أن يطلّ كورونا بأشباحه وفخوخه ودكتاتوريته ولامرئيته، كنت في شبه حجرٍ، أذهب إلى العمل ساعات قليلة ومحدودة في الأسبوع، بحكم الظروف والطلب وإثبات الوجود، وأعود إلى الروتين المنزلي وإرسال المقالات أونلاين، ذلك أن الإنترنت بدّل كثيراً من معايير العمل وألغى المسافات واخترع اللامكان والعالم الافتراضي.
أميل إلى البقاء في البيت معظم الوقت، حاجراً نفسي مع فرانز كافكا وموراكامي وأبي حيان التوحيدي والرصافي وديستويفسكي وربيع جابر والأساطير اليونانية والعربية، يمكن أن أصف ذاتي بكائن المكتبة الهش، وأمضي يومياتي مصاباً بفايروس الكتب، حتى إذا ما أردت دخول الحمام، لا أدخله من دون كتاب، كأن تلك اللحظة لا ينبغي أن أضيعها، حتى في زحمة السير أفكر ما إذا بإمكاني قراءة جملة أو جملتين.
في زمن كورونا والحياة في ظل دكتاتورية مقنعة من نوع آخر، أروح أتخيّل لو أن الفايروس يخرج من كتابٍ من كتبي، أو أن الكتب مصابة بفايروسات وتقتل من يقرأ فيها. خيالات ركيكة وليست جديدة بالطبع، لكن رواية انبعاث كورونا من الوطواط، تحمل الكثير على التخمين.
في جوانب الكتب، تُحدثنا ألف ليلة وليلة عن كتاب قاتل، يموت كل القراء الذين يجازفون بقراءته، وقد مات أحد الملوك بعد تصفحه وكان ذلك بمثابة انتقام متأخر واستثنائي من طرف أحد الحكماء الذي تمت معاملته بشكل جائر.
الكتاب القاتل في ألف ليلة وليلة صار كتاباً مسموماً في رواية أمبرتو إيكو “اسم الوردة”، فأمين المكتبة الأعمى، وهو شخصية مستوحاة من بورخيس، سمّم كتاب أرسطو “الشعر” كي يموت كل من يقرأ فصول الضحك التي تتعارض مع قوانين الكنيسة الصارمة، ثم التهم الكتاب وأحرق المكتبة في النهاية.
المهم أني قبل كورونا وخلالها وربما بعدها، أعيش مع فايروس الكتب ومصاباً به، لكن مكتبتي تخلو من أيّ كتاب عن الفايروسات أو تستبعد أيّ كتاب عن الخيال العلمي، وإن كنت في مرات كثيرة أحبّ أدب الديستوبيا واليوتوبيا، لكن كورونا في مشهديته ويومياته وتفاصيله ووقائعه، جعل أدب الخيال العلمي نقطة في بحر، ربما لم يعد ضرورياً أن نقرأ الخيال العلمي أو أدب الأوبئة طالما أننا نعيشها.
وفي الوقت نفسه ذهنية المؤامرة وشبحية الفايروس ستخلق وتدفع إلى ولادة الكثير من النصوص والأفلام إلى الوجود. الوطاويط بحد ذاتها كانت عنوانا لعالم الليل والكهوف والخيال، وأن تصبح مصدر فايروسات فهي ستقلب المعايير في الكتابة، حتى طرق مكافحة الوباء ستكون مصدراً لتدوين أنماط روايات وتقديم أفلام سينمائية.
قبل أن يطل كورونا بأشباحه، لم تكن الجرذان التي غزت وهران الجزائرية تخرج من رأسي، صورة قرأتها في رواية “الطاعون” لألبير كامو، تلك الرواية مكتوبة بشكل موارب عن الأوبئة الأيديولوجية، النازية وما فعلته في أوروبا وفرنسا تحديداً.
وكورونا برغم الهول الذي أحدثه، أعتبره، أنا الجالس بين أربعة جدران، تفصيلاً مقارنة ببراميل بشار الأسد وسكاكين داعش وسيوف الميليشيات الإيرانية، تلك اللحى المسمومة أكثر خطورة من كورونا، بل تلك الأوبئة الأيديولوجية الدينية أو العقول المصابة بكورونا الغيب وكورونا الأقليات أكثر خطورة عليّ من الأوبئة الآتية من الطبيعة.
أن يعيش المرء ثوران بركان أو تداعيات إعصار أو شبحية فايروس فهذا من الأمور النافلة، وإن كان الفايروس يعيد ترتيب العلاقات من جديد، لكن مشكلة “الهويات القاتلة” تبقى الخطورة الدائمة التي ولدنا في قلبها في الشرق الأوسط ولم ننج من براكينها، وهي في كل مرة تأتي بأشكال مختلفة.
فايروس الكتاب الأحمر أيضا الذي اخترعه ماو تسي تونغ كان أكثر خطورة من كورونا، جعل ماو في ثورته الثقافية الصينيين حقل تجارب لأفكار مزاجية واستبدادية، يقال إن كورورنا أكثر ما يؤثّر على المتقدمين في السن، أما فايروس الكتاب الأحمر فقضى على كل معارض أو من يفكر أن يكون معارضا، صنع الاستبداد الشرقي أقصى تجلياته، والاستبداد الشرقي سيعود ليحضر في الحرب على كورونا.
وبغض النظر عن التنظير، يوم خبرنا بأول إصابة كورونا في بيروت، كان الأمر كافيا لأتوقف عن الذهاب إلى العمل، وأُمتنع عن جلب المزيد من الكتب إلى المكتبة المتخمة . لم تكن المسألة أني حجرت نفسي بين أربعة جدران بشكل إرادي، فهذا الأمر اعتدته، فقد سبق حجر كورونا أن المصارف اللبنانية حجرت على أموالنا، الاستيلاء على أموالنا جعلنا نقف كمتسولين على أبوابها بانتظار 100 دولار، بمعنى آخر كورونا الاقتصادي سبق كورونا يوهان. كنا نتوهم أننا نضع فلساً في متاهة المصارف اللبنانية، ظناً منا أن الفلس نحتاجه في لحظات الشدّة، “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، فإذا بالوباء المصرفي يسطو على قوت يومنا.
وباء المصارف اللبنانية سبق وباء كورونا، وإذ اتأمل الآن الأشهر أو السنوات القليلة الماضية في لبنان، فأحسب أنني أعيش بين موجات أوبئة، كأنها بروفا مصغرة ليوم القيامة، فخلال مدة قصيرة رأينا مشهد النفايات المتراكمة في الشارع، ولاحقا طوفان الطرق هنا وهناك، وحرائق مستعرة في كل المناطق الجبلية، وطرقات مقطوعة بسبب الثورة. وسط هذا عاش ابني عطلة مدرسية شبه مفتوحة، جعلته يشعر بالمقت بين أربعة جدران، وعلى هذا لم أكن أشعر بأني بين أربعة جدران، بقدر ما شعرت بشعور ابني الذي بات يقاتل نفسه ويقاتل كل شيء.
القضية، هل ألبّي طلبات الابن أم أكتب، طالما اشتكت عائلتي مني بسبب فايروس الكتب، ربما أحتاج حجراً نفسيا لأخفف من وطأتها ومتاهتها ورملها، والرمل هنا ما قصده بورخيس عن لانهاية الكتاب، في زمن كورزنا أحاول أن أسرق الوقت، للكتابة، أقاوم النوم مقاومة شديدة، فأنا أنتظر لحظات آخر الليل للاختلاء بنفسي مع بعض فايروسات الكتب، وأبقى قبالة شاشة اللابتوب إلى أن أنهك وأستسلم، الاستراحة النفسية القليلة التي تحصل في زمن كورونا حين أذهب إلى جلب النسكافيه، أو قد أطل على الشرفة لدقائق أستطلع شارع كورونا وناسه.
لا أشعر أني في سجن، ولكن مجرد أن اذكر تداعيات كورونا، أحسب أني في بروفا على نظام استبدادي جديد، وأفكر بأشباح يقولون إنها متوفرة على أي شيء، بل أتخيلها بحجم نيازك تضرب الأرض وننعم بعالم آخر.
أحسب أن كورونا يرشدنا إلى تفاهة الوجود، إذ أن فايروسا غير مرئي يقدر أن يجعل المرء جثة هامدة، من قبل كنا نسخر من الحياة نقول للآخر حقك رصاصة ثمنها دولار، اليوم أقل من فايروس، قدر هذه الشبح أن يلغي السينما والمطعم والمقهى والمونديال وكل أشكال التجمعات، بل قدر أن يهز العالم الأول قبل العالم الثالث، إيطاليا قبل اليمن، وإيران قبل غزة، وأميركا قبل غانا.
لا أستسيغ الكتابة ضمن موجة أدب الديستوبيا ولا أقدر على ذلك، فأنا ميال إلى جعل الواقع الذي أعيشه أقرب إلى الخيال والهذيان وليس الخيال أقرب إلى الواقع، أتخيل لو أنهم يتركون فايروس كورونا يتمدّد وينتشر من دون أيّ إجراءات وقائية وكمامات ومنظفات وأجهزة تنفس ومستشفيات ميدانية، وأسأل إلى أين سنصل وإلى أين سيصل؟ الطاعون الإسباني قتل من الأشخاص بعدد قتلى الحرب العالمية. هل الأرض بحاجة إلى أن يتقلص عدد سكانها؟
أتخيل تمدد كورونا من دون مقاومة هو مثل مشهد طوفان نوح بمعناه الأسطوري، كثيرا ما أتأمل الكون في ظل الاحتباس الحراري بأنه ذاهب نحو طوفان جديد، ثلوج تذوب في القطب الشمالي، غابات تحترق من الأمازون إلى أستراليا، ملايين الحيوانات تنفق، مدن تختنق بالتلوث، أنهار تجف، بحار تتلوث، ملايين الأطنان من البلاستيك هنا وهناك، بحر بلا سمك، سماء بلا طيور، وأنا أدوّن أتذكر رواية “العمى” لجوزيه ساراماغوا، أسأل في مخيلتي لو كان على قيد الحياة، ماذا كان سيكتب عن حجر مئات ملايين الأشخاص في البيوت.
لم أفكر يوما بالقيامة ومجيئها، أحسب أن الحياة نفسها هي القيامة وهي القيامة الدائمة، أتأمل كيف سينتهي الكابوس العالمي، لا أحسب أن القضية تحتاج الكثير من الجهد في زمن تطور الطب، فالحاجة أمّ الاختراع.
****
قصة متخيلة
كورونا: سأجعل الكتب مجرد صفحات بيضاء
رأيت في ما يرى النائم أن فايروس كورونا صار يتكلم ويعظ ويخبر قصصاً، وأخبرني فيما أنا نائم وغاطس في نومي، وكان يشبه في شكله أفلام كرتون ويجلس على حافة النافذة، تحت ضوء قمر بلون الأرجوان، أخبرني، أنه الآن يطارد البشر ويجعلهم يخسرون الاقتصاد والثقافة والرياضة والجلسات في المقاهي والحانات وإقامة حفلات الأعراس وحتى دفن الموتى، بل أثبت للبشر أن تطورهم ما زال هشاً، ثم أردف، قد أهزم الآن في مواجهة الجنس البشري، لكنهم لا يستطيعون سحقي، ستأتي اللحظة التي أطوّر معها نفسي وأكون أكثر شبحية، وأطير في الهواء. أعلمك الآن، أني في المرحلة المقبلة بعد سنوات، سأصيب ذاكرة الناس، سأجعل الحروف تختفي من الكتب وتصير مجرد صفحات بيضاء، بل سأجعل كل عقود التجارة والتأمين والمصارف تصير أوراقاً بيضاء، وتختفي كل صفحات الفايسبوك وغوغل، وتكون محنة البشر هي في كيف يعيشون إذا فقدوا الذاكرة.
كاتب من لبنان
————————-
غرق مركب من ورق/ ياسمين كنعان
رسائل الإقامة الجبرية
الرسالة الأولى
محتجزة بين جدران كثيرة، لم تكن عزلة اختيارية، كانت إقامة جبرية، أحاول أن أتعايش مع هذا الطارئ، أن أخلق لنفسي فضاء آخر، أحاول الهروب والتخفّي بين صفحات رواية، أغيب للحظات عن هذا الواقع البائس، أعجز عن إتمام ما بدأته، ثمة قلق يستحوذ على مشاعري ويربك تفكيري. القلم لا يطاوعني لإتمام فكرة، نشرات الأخبار تنشر الرعب وشاشات التلفاز مسكونة بالموت، حتى الحديث العابر تفوح منه رائحة الترقب المعجونة بالخوف. أطوي صفحات النهار الثقيلة، أحاول أن أستريح من تعبي، أدفن وجهي في الوسادة أعضّ على كل فكرة قلقة تطاردني، أتشبث بحلم متيقظ، أغمض جفوني على طيفك!
أنام لأحلم بغد أفضل، وإذ لا أرى سوى نفسي، أسترجع شريط نهاري، فأصحو على واقع مكرر .
10 آذار- مارس 2020
===========
الرسالة الثانية
منذ لحظات بزغ فجر يوم جديد، لا أعرف ما شكّل الحياة التي تدبّ الآن خارج هذه العزلة القلقة، فيما مضى ولن أقول في زمن غابر، فلم يمض على هذا الاحتجاز سوى أيام قليلة.
فيما مضى كنت ألتقي بالنهارات الوليدة في شوارع ضيقة وأرصفة مسكونة بالحياة، أمرّ ببائع القهوة أحتسي فنجان قهوتي المعتاد، أقرأ عناوين الكتب من خلف واجهة زجاجية، نصف ساعة أقضيها في متابعة المارّة، أكثر الوجوه مألوفة لديّ، وكلّهم يأتون في موعدهم المحدد، أستطيع أن أحدد بكل بساطة وقت مرور كل منهم، ونادراً ما أخطئ.
اليوم أنا هنا لا أفعل الكثير سوى تخيل الحياة خارج هذا الحصار، ومتابعة فايروس القلق الذي تبثه النشرات الإخبارية، لا أفعل الكثير سوى تخيل الحياة!
11 آذار – مارس 2020
===============
الرسالة الثالثة
كلّها لك، تتمحور حولك بشكل أو بآخر، وكلها محاولات أخيرة لإيقاف الزمن هنيهة والعبور إليك وإتمام الدورة الأخيرة حولك، فأنت المعني وأنت المخاطب وأنت من يدّعي أنه ذاك الأصم الأبكم الأعمى، أنت من يقيم السدود والحوائط العالية أو يوصد الباب ولا يتركه موارباً.
هي رسائل من زمن كورونا يا سيدي لأن البغضاء تتفشى في عالمنا تماماً كهذا الفايروس اللعين.. البغضاء تقتل أكثر من كورونا يا سيدي، قلوبنا مصابة بالعمى، وعقولنا متحجرة.
هي رسائل من هذا الزمن اللعين الذي يحاسبك فيه الآخر على ذنب اقترفته أو لم تقترفه، هو زمن الإنصات للكلمات المشوهة، هو زمن الحقد الأسود، هو زمن يُصدّق فيه الكاذب ويُكذّب فيه الصادق.. هو هذا الزمان زماننا.
أن تصل هذه الرسائل إلى بريدك أو لا تصل ليس مهماً، كل ما في الأمر أنها كانت محاولة أخيرة لرسم وجه آخر لهذا الزمان القلق!
12 آذار- مارس 2020
=================
الرسالة الرابعة
هل تساءلت ما جدوى الكلام في عالم يأكله موت صامت؟ يلوكني الملل بلا توقف، أحصي على يدي أيام العزلة المريرة، يتفاقم الضجر فيدمي ويمتد الفراغ بلا نهاية.
المطر ينهمر في الخارج، أسمع نقراته التي تخفت أحياناً ثم تعاود الدّق بأكف قلقة، هل أشرَع النوافذ لصخب هذا المساء المبتل؟ هل أشرّع النوافذ لهذا المجهول الذي يتدثر بالليل؟ هل أُشرّع النوافذ لقادم غريب يطوف حول الغرفة الوحيدة المنسية في مهب ذكريات وريح وليل؟
نصف ساعة وينتصف الليل، سيدخل اليوم الجديد بلا جديد ولا جدوى، ولن أحتار كثيراً في تصنيفه ضمن أجندة الأسبوع، ليكن الأول أو الأخير ضمن أيام لا يتغير فيها سوى اليوم والتاريخ، ما المهم؟
ما جدوى الكلام حين يكون المستمع الوحيد حائط بارد باهت؟ ما جدوى الكلام حين يرتد لي صوتي وأختنق برجعه الخافت؟ ما جدوى الكتابة إن لم يكن في الكون كله قارئ واحد؟
12 آذار – مارس 2020
=================
الرسالة الخامسة: لها في يومها
لن أضع بين يديك باقة من الورد، لن أُقبّل جبينك ولن ألثم خدّيك، سأبقى رهينة وحدتي وعزلتي، ليس بسبب هذا الفايروس اللعين، بل بسبب فايروسات اجتماعية لا تعد ولا تحصى.
سأترك على شباكك المشرّع للشمس رسالة، وإن كنت أعلم مسبقاً أنك لا تجيدين القراءة ولا الكتابة. سأكتب لنفسي إذن، أُعزيها، أحاول أن أُخفي وراء الحرف جبني وهزائمي الكثيرة.
في الصباح سأكلمك كما الغرباء، كل عام وأنت بخير يا أمي، كيف حال يديك وملامح وجهك وصوتك الحزين؟ كيف حال حوض النعنع وشجيرة الياسمين؟ كيف حال الصباحات على التلة البعيدة؟ وكيف حال أشجار الليمون وزهر اللوز وباقة الحنون؟ كيف حالي أنا من بعدي؛ هل ما زلت طفلة على يديك؟ كيف حال ضفائري وعقد الأقحوان؟ وكيف حال جرح اللوز الذي تركته شقاوة الطفولة على وجهي؟
هل ما زال درب الرجوع إليك طويلا يا أمي؟ هل غيرت أشجار الزيتون وقفتها؟ هل مات أبي؟ وهل ماتت صورة الطفلة الصغيرة؟
قصّي عليّ أحاديثك الطويلة. حدثيني عن جاراتنا وعن حارتنا الصغيرة. سأهز رأسي وكأنّني أعرف هذا الذي تزوّج بأمس، أو تلك التي طلقها زوجها، أو ذاك الذي عاد لتوِّه من سفره الطويل، أو هذا الذي اشترى سيارة.
ذاكرتي متعبة يا أمي لم تعد تتسع لكل الوجوه القديمة، هل أطلب منك معروفاً صغيراً يا أمي؟ خذيني للمرة الأخيرة بين ذراعيك، ولا تلتفتي لهذا العمر الطويل الهش. دعيني فقط أستعيد طفولتي، دعيني أبكي طويلاً بين ذراعيك، ودعيني أستردّ نفسي من غيابها الطويل.
20 آذار – مارس 2020
===============
الرسالة السادسة: مَاذا لو؟
أحاول الخروج من هذه العزلة الثقيلة، فأتفقد جدران غرفتي الصماء وأُحاول فتْحَ كُوَّةٍ صغيرة في جدار الاحتجاز لتدخل منها خلالها نسمة واحدة من نسائم آذار فلا ألمح سوى هالة من الضوء المنعكس على الحائط الذي غاب لونه تحت كثافة هذه العتمةً القاتمة.
الغرفة كلها غارقة في ظلام وسكينة ثقيلة، ليل طويل يتغذى على قلقي، ومحاولات يائسة لغواية النعاس.
لا أستطيع كبح جماح أفكاري. أتلعثم بفكرة طارئة تحملها أسئلةٌ تتخبط في أعماقي وتختلط: ماذا لو…؟ ماذا لو توقفت الحياة عند هذه اللَّحظَة تماماً. ماذا لو انتهى كل شيء؟ ماذا لو ماتت كل الكلمات في صدري ودفنت معي؟ ماذا لو باغتني ملاك الموت فجأة؛ هل أتركه يخطف روحي، أم أطلب منه أن يتريث قليلاً ويمنحني بعضاً من وقتٍ لأُصافخ الحياة، كَفَّاً بِكَفٍّ، للمرة الأخيرة؟
ماذا لو كان هذا آخر ما سأكتبه؟ آه؛ سأكتبُ، إذن، وداعاً للحياة القاسية التي لم تكن عادلة معي.
سأكتبُ وداعاً لأول وجه حفظت ملامحه في قلبي، وداعاً لبحة صوت أمي ولحزنها الذي لا ينضب. سأكتبُ وداعاً لقريتي التي تبدلت معالمهامن بعدي، وداعاً لكل من ترك ندبة في قلبي، ولكل من مسح الحزن عنه.
سأكتبُ وداعاً لكل حلم ودّعته قبل أن أراه، لكل وردة سحقتها يد القدر، لكل ما كان يمكن أن يكون.
سأكتبُ وداعاً لمن أفلتوا أياديهم مِنْ يدي، ولمن يتشبثوا بها حتى الوداع الأخير.
سأكتبُ وداعاً لكل كتابٍ حَفَرَ في روحي، ولكل كلمة حَفَرْتُهَا على الورق، ولكل ورق كان في مهب الريح التي أغرقت مركباً كَانَ من ورق.
سأكتبُ وداعاً لكل فراشة حملت على جناحيها حلمي ولكل حلم احترق.
سأكتبُ وداعاً للطِّفْلَةِ الَّتِي كنتها، ولِطِفْلَةٍ أُخْرى لن أكونها.
سَأكتُبُ وداعاً لاسمك الذي ألفظه للمرة الأخيرة، ولملامحِ وجهك التي ستكون زادي في رحلة الرحيل إلى الأبد.
سأكتبُ وداعاً لآخر اسم سوف أتذكره قبل أن تتكاثر طحالب النسيان على الذاكرة، وداعاً يا……، وداعاً.
27 آذار 2020
كاتبة من فلسطين
———————————-
أنا الآن، منذ اليوم، غيري/ ميموزا العراوي
لم أكن يوما من البشر الذين يحبون الاختلاط بالآخرين الكثر. ولم يكن يوما سبب هذا الانكفاء شعور بالارتباك بوسط الجماعة بقدر ما هو إحساس بأن هناك لقاءات مختلفة تنتظرني لم أستطع حتى اليوم العثور عليها ولا حتى وصفها بكلمات واضحة. لكنها لقاءات سحرية باهرة وواقعية في آن واحد لن أتجرأ على تكذيب أيّ تجلّ خاطف أو مقتضب من تجلياتها.
لقاءات محلومة ستكون يوم ما أقل مللا بكثير مما أعيشه، وستوقد الشموع الداخلية وستثير فضولي ولهفتي وتكسر لعنة الرتابة. رتابة لشدة ما تأصلت في أيامي باتت أشبه بشخص مطاطي بليد ذي هيئة شفافة يتنفس بثقل ويرافقني أينما حللت ويصافح بكل بلاهة بابتسامته العريضة كل من اقترب مني للتحية، للحديث أو للحب، أم لمقتضيات العمل. شخص اعتدت مع الوقت على ترويض بياضه وخصلات شعره الدخانية إما بتجاهله بشكل بطولي، وإما بلكمه فتلطيخه بأفكار وتخيلات صارخة الألوان تُهينه وتهمش “الواقع” الذي يمليه عليّ.
قبل العزل اعتدت أن أفتعل حالات حبّ تنجيني من الملل الوجودي حتى تستحيل هي الأخرى إلى روتين سقيم فأعود بعدها إلى حالة البحث عن حالات حب أخرى تعيد إلى الحياة رونقها. ولكن هل سيبقى الحال على عهده وهل ستبقى نظرتي إلى الحب هي ذاتها بعد أن يفك حصارنا؟ هل سيعود الحب كما كان قبل فترة العزل حراً وطليقا كطائر ينبعث من الحنجرة؟ أم سيؤثر السكن إليَّ وتحريم المُغادرة؟
هكذا كان الوضع قبل أن ينكفئ البشر إلى بيوتهم في حضر صحي إجباري لمواجهة وباء عالمي وقاتل متمثل بفايروس “كوفيد – 19”.
اليوم في عزلتي الجبرية اكتشفت أن ما عشته قبل العزلة كان تحضيرا لما سأعيشه اليوم بعيدة جسديا عن الناس وقريبة منهم افتراضيا عبر الاتصالات الهاتفية وشبكات التواصل الاجتماعي. اليوم، أقضم قطع “العزل” الاجتماعي كحلوى مريرية الطعم ولكن لها مفعول آثر يبث سكره في شراييني. وما هذا السكر إلا توق إلى الاختلاط بأكبر عدد من الناس غرباء كانوا أم معارف علّني أقيم التوازن ما بين الداخلي المُحصّن بالغُربة والخارجي المزيَن بالورود وأنواع الأزهار المختلفة. أقول في نفسي “غدا سأمشي في أخاديد الملل أكثر قوة وأحصد الحب وبذوره في آن واحد.
سأصبح أشد حصانة وأكثر قدرة على اجتراع معجزاتي الشخصية التي تبقيني “ميموزا” الشبيهة بشجرة الميموزا بعناقيدها القطنية الهشة والصفراء المضيئة بأحلامها الربيعية الدائمة. لا صيف يحل ولا شتاء يأتي بل برزخ ربيعي هو حصانتي ضد الموت في قلب العيش، العيش كما نعرفه جميعا بضحالته وعنفه العنيد – العقائدي تجاه البشر. وربما سأمشي بعد هذه الأزمة إن كتب الله لي الحياة في ضوضاء مدينتي بيروت التي أعشقها، أقل مللا عمّا قبل وفي ذلك انتصار كبير، على الأقل بالنسبة إليّ. تأخذني خواطري الآن إلى ما كتب غابريال غارسيا ماركيز في كتابه الشيق الذي أقرأه اليوم مُحاطة بأسوار افتراضية متينة. يقول الكاتب “نحن مخترعو الخرافات الذين نؤمن بكل شيء، نؤمن بأنه لم يفت الأوان بعد لخلق قصة خيالية مختلفة، قصة خيالية جديدة ومهمة في الحياة، حيث لا أحد يقرر للآخرين كيف يموتون، وحيث يكون للأعراق التي حكم عليها بمئة عام من العزلة، أخيرا وإلى الأبد، فرصة ثانية على الأرض”.
من جهة اخرى أفكر الآن بالآخرين. يخطر ببالي اليوم بأن كثيرا من معارفي سيبصرونني بعد انتهاء هذه المرحلة، إن شاء الله، في عين أوضح وبسماحة أكبر لأنهم قد اختبروا وعن كثب ماذا يعني الملل الوجودي ولماذا يتعكر مزاجي لأدنى سبب، وأيضا لماذا تجتاحني أحيانا موجات من الحزن تجعل منهم مجرد ذبذبات عابرة تذكر بدورها تحفة العيش – المهزلة العابرة. هنا تعود إليَّ كلمات الشاعر اللبناني وديع سعادة بشيء من الورع والكثير من التبصر. يكتب الشاعر “العابرون سريعًا جميلون/لا يقيمون في مكان كي يتركوا فيه بشاعة/لا يبقون وقتًا يكفي لترك بقعة في ذاكرة المقيمين/العابرون لا ضحايا لهم/هل لذلك بات علينا، كي نمجّد الحياة، أن نمجد عبورها بسرعة، أن نمجد الانتحار؟وأيّ لحظة تكتشف الحياةَ أكثر من لحظة الغياب عنها؟
لنمضِ إذن، بخفَّة، قبل أن تلتهمنا الخناجر، قبل أن نصير طبَقَ الوليمة/كأن الاحتفاء بالذات لا يتم إلا بالعزلة. كأن الاحتفاء بالحياة لا يكون إلا بالصمت”.
كاتبة من لبنان
—————————————–
ماذا أفعل في البيت؟/ فاطمة بن محمود
وحدة نفسي
فرغتُ لتوي من نص أدبي وعاد إليّ هدوئي، قلتُ في نفسي: سأنتهي من بعض المقالات التي لم تكتمل إلى حين تطل فكرة جديدة لعلها الآن مازالت مجهرية، تحتاج أن تنمو قليلا لتدب في ذهني وأكتشفها. في تلك اللحظة كائن مجهري حقيقي لا يكاد يُرى يطل برأسه على العالم فيرتعب منه الجميع، يبدو الكائن المجهري مذهولا مما وصلت إليه البشرية، وأحدس أنّ الذهول أصابه خاصة من التكنولوجيا العظيمة التي تحيط به والتي طغت على العالم وحكمت العلاقات الإنسانية.
في مغطس الحمام
هدوء شديد في بيتي، دخلتُ المغطس وغمر الماء جسدي، فقط تركتُ عينيّ أطل منهما على رغوة الصابون التي أنتجت فقاقيع كثيرة مددت لها إصبع طفلة لا تحب أن تكبر. خارج غرفتي الرعب متبادل بين كائن مجهري لا يُرى يبدو ضئيلا جدّا حتى أنك لا تستطيع لمسه دون أن يُسحق تحت إصبع ناعم وبين عالم مدجج بكل ما وصلته البشرية من تكنولوجيا وعلوم.
أتمدد في المغطس وأختار أكبر فقاعة صابون، ألمسها بنعومة شديدة، أقرّبها مني وقبل أن تتلاشى أحاول أن أجعلها على رأس أنفي الذي يطل كجبل صغير. فجأة تتبخر فقاعة الصابون، أحاول مع أخرى، ما أكاد ألمسها حتى تتبخّر، زاد إصراري أحب أن أضع فقاعة صابون على الجبل الصغير ثم أنفخ عليها وأنا التي أجعلها تتلاشى، لكن في كل مرة تتبخر الفقاقيع بسرعة كأنها تسخر مني، في الحقيقة بدت لعبة تافهة لكن كيف تهزمني فقاعة ضئيلة وخاوية، سكبتُ المزيد من سائل الصابون وحركته بعنف ليصنع رغوة كثيفة وانتشرت الفقاقيع حول الجبل الصغير، بهدوء شديد مددت إصبعي لألامس فقاعة أحب أن أقرّبها من أنفي كادت تعلق بإصبعي حتى تبخرت، محاولات عديدة باءت بالفشل.. فقررت أن أختار أقرب فقاعة صابون ومرة أخرى ما أن تعلق بإصبعي حتى تتبخر.
خارج غرفتي المواجهة بدأت بين كائن مجهري لا يكاد يُرى بالمهجر الطبي وبين عالم متطور يستعمل كل وسائل التكنولوجيا وآخر ما تفتق عنه ذهنه في العلوم.. موازين القوى غير متكافئ فعلا. ما زلت في مغطس بيتي والمواجهة على أشدها بيني وبين فقاقيع الصابون، قلتُ ربما هذه الفقاقيع الخاوية لا تحب أن يتحكم بها أحد لذلك سأخاتلها، سأداعب أصغرها، آخذها بهدوء أقرّبها من فمي الذي يبدو تحت الجبل الصغير فوهة عميقة تؤدي إلى المجهول ثم بسرعة أضعها على أنفي وهكذا أفاجئها، نجحت حيلتي غير أنّها قبل أن أنفخ عليها.. تلاشت.
خارج غرفتي كانت المواجهة تشتد، العالم المدجج بالتكنولوجيا استنجد بأبرز العلماء وأشهر الأطباء وأمهر المهندسين لمحاصرة الكائن المجهري الضئيل جدا، يبدو أن أسلوبه في الحرب واضح وبسيط وفق قاعدة قديمة لم يبذل جهدا لابتكار غيرها “أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم” وكان يتقن الهجوم.. لم يفكر أنه ضئيل جدّا وخاو مثل فقاعة الصابون وقدره أن يخسر هذه الحرب الشرسة وغير المتكافئة، بل فكّر في أن يحوّل ضآلته الشديدة إلى نقطة قوة، لن يراه أحد وهو يتكاثر بمهارة فائقة، ينتشر مثلا من خلال قُبلة أو لمسة بريئة أو مصافحة عادية تصبح جميعها جرائم تؤدي إلى قتل عنيف، يمكن مثلا لشخص أن يُقتل برذاذ بصاق تطاير من صديق له وهو يحدّثه عن حبيبته.
في اللحظة التي بدأ يتسرب إليّ الملل من فقاعات الصابون الخاوية تركتها، بدا لي الأمر تافها جدا، حيث لم أصارح نفسي أنّني فعلا فشلت في السيطرة على تلك الفقاعات، فهي لا شيء في النهاية. لكن عندما غادرت المغطس شعرت بلذة وأنا أسحب سدّادة المياه التي انجرفت بسرعة إلى البالوعة وقد أخذت معها كل الفقاقيع. كانت لذة مشوبة بانتقام غريب..
دي سوسير والكورونا
خارج بيتي كانت الحرب قد أعلنت بين كائن مجهري وبين العالم المدجج بكل التكنولوجيا والمعارف والعلوم، كان الكائن المجهري الضئيل جدا والرخو الذي عشّش في مكان صغير من العالم ينتصر على الجميع ويتقدم حتى أنه لم يعد نكرة واضطر الإنسان أن يسميه. لكن حتى وهو يختار له اسما لم يشأ أن يصوغ له لفظا موحشا بحروف ذات وقع عنيف على الأذن، فترتجف له الأسماع، لم يختر أن يكون اسمه مثل الطاعون أو الكوليرا أو الجدري أو السل.
كل هذه الكلمات الموحشة تثير الرعب لسماعها كل حروفها لها إيقاع مدوّ يثير الخوف في النفوس، في “الطاعون” يبدو حرف “الطاء” وكأنه يأخذك عاليا إلى السماء ثم فجأة تأتي “عون” فتوقعك على الأرض، أما في “الكوليرا” يطل “الكو” فكأنه يرمي بك في نفق ثم تأتي “ليرا” فكأنها تلطمك ترفعك إلى الأعلى لتصطدم بوجه السماء فتتناثر شظاياك في كل مكان، أما لفظ “الجدري” فيبدو مثل لكمة تسدد مباشرة على العين فلا ترى بعدها شيئا، في حين أن لفظ “السل” يختصر الطريق ويرمي بك مباشرة داخل جب موحش وعميق.. هكذا كانت الدوال حادة وعنيفة تزلزل الإنسان وتخلف فزعا شديدا، الربط بين الوحدة الصوتية والحدة الدلالية أو لنقل بين الصورة المنطوقة والصورة العقلية عضوي وله مبرراته وليست اعتباطية وهو ما يؤكده العالم اللساني دي سوسير. لكن هذه المرة الإنسان المغرور جدا والهازئ من كل ما سواه اختار أن يسمي هذا الفايروس القاتل المتسلسل “كورونا”، تبدأ “كو” فتجعل الشفاه ممتدة كأنها تهمّ بقبلة تطبعها على خد من نحب وتأتي “رو” لتؤكد على فكرة القبلة ثم تأتي “نا” بفتحة ممتدة كأنها دعوة إلى رقصة التانغو، كأنه يسمي حركة في الموسيقى أو يسمي مطرا خفيفا على عاشقين مساء صيف. الطريف أن في الطريق إلى بيتي في أحواز العاصمة تونس وتحديدا عندما تصعد ربوة صغيرة يجلس عليها جامع الحي، في الجهة اليمني بناية فخمة اسمها “إقامة الكورونا” في الطابق الأرضي محل لبيع مرطبات الكورونا وفي الطابق العلوي قاعة رياضة الكورونا. (أشهد أنّ هذه حقيقة وليست مجازا).
الوباء المستبد العادل
الأدهى في اختيار اسم لهذا الكائن الضئيل جدا هو ما سأقوله الآن. كأن الانسان وهو يمنح اسما لهذا الفايروس كان يسخر من ذكورته (إنه فايروس) فحوّله إلى أنثى، الحلقة الأضعف في كل المجتمعات تقريبا، غير أن هذا الفايروس الذكر والذي يتحول إلى أنثى اسمها كورونا ستنتقم من الإنسان، استراتيجيتها سهلة وواضحة وهي “باقية وتتمدد” تماما على طريقة الدواعش ولعلها استراتيجية ثابتة عند كل الإرهابيين.
حتى تضمن نجاعة ذلك لم تكن تظهر للبشر، تظل في حالة كمون لمدة أسبوعين تجعل فريستها تلتقي بالكثير من البشر وتسلّم على الأصدقاء وتحضن الأحبة، ثم تطرح غريمها أرضا، وهكذا بمعادلة بسيطة، كانت كل يوم تفتك بالعشرات تحولت العشرات إلى مئات ثم إلى ألاف، وهكذا تحولت الكورونا إلى قاتل متسلسل تفرّخ الموت في كل مكان وتتنقل بسرعة قياسية، انتقل معها الإنسان من حالة توجس، ثم خوف، إلى فزع، وانتهى إلى حالة رعب شديد.
لذلك عندما كان ترامب يهزأ بالصين التي فتك بها الوباء ويسخر من إيران التي أثخنت جراحها كانت الكورونا مثل تلميذ نجيب منشغل بدروسه، مثل عامل مجد منهمك في عمله، كانت الكورونا تنتشر بسرعة تكثف من عدد ضحاياها. في الحقيقة كانت أعدل من كل الأنظمة العربية في نشر الموت. لم تفرّق بين نائب ووزير وبين ماسح أحذية وبين عارضة أزياء وبين خادمة وبين لاعب كرة وسيم تحلم به الصبايا وبين عجوز في أرذل العمر وبين رجل دين وبين مغتصب أطفال.
كان الوباء دكتاتورا في تسلطه وديمقراطيا في ضحاياه.. عندما كان ترامب يسخر من أعدائه ويتباهى بشعره الذهبي وكانت دول أوروبا منشغلة بحياتها الناعمة كان الوباء الذي اختير له اسم أنثوي ناعم يزحف بوحشية يقطع المسافات بسرعة كبيرة يصعد الطائرة مع المسافرين ويركب القطارات ويدخل البيوت ويندس بين العشاق.. يبدو أنه لم يكن يستريح ليستعيد قوّته ويهاجم من جديد، كأنه كان يستمد قوته من توسعه، ويزداد وحشية مع كل شخص يرديه قتيلا.. وهكذا خلّف في كل المناطق التي مر بها جثثا كثيرة وانتشر فزع الإنسان منه وهو يرى كل أسلحته تتهاوى أمام جبروته الذي يزداد كل يوم.
خلت أني نسيت أمر فقاقيع الصابون وما كان لي معها في المغطس، صحيح أني لم أنجح في ترويضها لكن أدري لماذا تذكرتها، في الحقيقة فقاقيع كثيرة نواجهها كل يوم. من ذلك جاري الذي يفتح صوت التلفزيون عاليا فأضطر مكرهة أن أتابع معه مباريات كرة القدم. وأدعو من قلبي وبصدق شديد أن يخسر فريقه كل المباريات، التلميذ المشاغب الذي تبدو مهارته فقط في التنمّر على ولدي فيضطر أن لا يأخذ معه أقلامه الجميلة ولمجته حتى لا يفتكّها منه، الكاتب التونسي المغرور الذي يعتقد أنه رب المشهد الأدبي، وقد وفر له عمله الوزاري فرصة أن يعتقد أنه رضوان في جنة الرحمن، يمنح صكوك الإبداع لهذا ويمنعها عن ذلك. لم يخطر لأبي العلاء المعري أن مثله سيتطفل على الإبداع وإلا لجعله يمشي في الأرض زقفونة..
في الخارج الحرب أصبحت شديدة بين العالم وفايروس ضئيل جدّا ورخو جدّا لا يُرى أصلا. بدأ الناس حولي يتململون. وأوحى الجهل إلى بعضهم فاعتقدوا أن لهم باعا وذراعا في علم الفايروسات. يعتقدون أنهم أمام كائن أرسله إله الإسلام ليفتك بالصين لأنّ أهلها يأكلون الحشرات والضفادع ولا يبسملون. وليفتك بالإيرانيين لأنهم شيعة لا يؤمنون بمحمد.. وعندما دخلت الكورونا بلادنا عندها يكون الله قد أرسلها نكاية فينا لكثرة الانحراف وابتعاد الناس عن دينه وانتشار المقاهي المختلطة ومحلات بيع الخمور ولا تنسى سفور النساء وصوتهن المرتفع أمام الرجال..
لذلك في المرحلة التي دخل فيها العلماء إلى المخابر العلمية يتبادلون المعلومات والتجارب للوصول إلى دواء يضع حدا للكورونا كان رجال الدين في العالم يعودون إلى بيوتهم وقد أغلقوا المساجد والكنائس والمعابد حتى لا تتفشى الكورونا بينهم، لأول مرة يرى المؤمنون بعين العقل أن لا شيء يمكن أن يضمن لهم الحياة والصحة غير العلم، فالإله لن يضمن لهم شيء وإيمانهم ليس سوى وهم جميل يخفف عن الإنسان عبء الحياة..
الكورونا صديقتي
عندما أعلنت وزارة التربية والتعليم في تونس عن عطلة مفتوحة لكل التلاميذ والأساتذة، كدت أصرخ من شدة الفرح. الآن سأنشغل بمقالاتي المعلقة.. وسأستغل وقتي لروايات كثيرا ما أجلتها وأفلام لم يتيسّر لي الوقت لأستمتع بها بل عزمت أن أنهي مخطوطين لي في النقد. لذلك كانت جارتي الأرملة التي تعاني بدورها من جارنا الفقاعة الذي يحب أن يتابع مباريات كرة القدم من التلفزيون بصوت مرتفع فتلعنه أمامي ويصلني نشيجها خافتا من غرفة نومها الباردة، كانت جارتي تلك منهمكة بتكديس مشتريات كثيرة في مطبخها لأن الحكومة ستعلن حالة حجر صحي تلزم فيه المواطنين بالبقاء في بيوتهم حتى لا تنتشر الكورونا، في ذلك الوقت كنتُ أرتب الأفلام التي سأتابعها حتى أني نزّلت طلبا في صفحتي على الفايسبوك لأصدقائي بأن يقدموا لي اقتراحات لأفلام جيدة و روايات رائعة، لستُ مستعدة أن أهدر وقتا ثمينا في متابعة فيلم لا يشدني إلى نهايته ولا في رواية لا تأسرني في توهجها وصدقا وردتني عناوين مذهلة..
أن تتقهقر الشعوب وتعود إلى بيوتها خوفا من كائن فايروسي ضئيل جدا ولا يُرى ثم اسمه كورونا كان هذا أفضل هدية بالنسبة إليّ.
من الطريف أن تجتاح الكورونا العالم فيتوفر لي الوقت لأفعل أشياء أحبها.. ملأت خزانة المطبخ والثلاجة بما استطعت أن أوفره من أجل أن لا أغادر البيت، قد تفعل النساء ذلك من أجل أن يتفرغن للتلفزيون والفايسبوك. أما أنا فلي انشغالات كثيرة، أخيرا توفر لي وقتا مهما سأكتب فيه قصائد وقصصا وأقرأ روايات وأشاهد أفلاما وأنام كثيرا وهذه فرصتي.
مثل امرأة تحب بيتها خصصت اليوم الأول من الحجر الذاتي لتنظيف كل الغرف، يجب أن أعد نفسي جيدا للكتابة حتى لا يشغلني شيئا، أحب أن يأتيني إلهام الكتابة فيجد كل شيء مرتبا، أحذية أطفالي في خزانة الأحذية حتى أن خطر للإلهام في لحظة ضجر أن يدفعني لتفقدها وجدتها مرتبة كل فردة حذاء ملاصقة لأختها، الصالون يبدو مريحا مستعدا لاستقبال شيطان الشعر، آنية الزهر في مكانها وإن خلت من الأزهار، سلسلة المفاتيح معلقة بجانب الباب يتأرجح منها قلب رُسم عليه علم تونس. هدوء تام في الشقة. أطفالي جعلوا ليلهم نهارا يسهرون بين هواتفهم وحواسيبهم، وجعلوا نهارهم ليلا يغطون في نوم عميق. كل هذا في صالحي، كل ما فاتني سأعوضه الآن وهذه فرصتي فعلا.
شيء في قلبي – يخصني وحدي – يقول إنّ هذه الكورونا يمكن أن تكون صديقتي، فهي وفرت لي ما لم يوفره لي زوجي، الذي لا يكلف نفسه القليل من أعباء الحياة، لأنشغل قليلا بالكتابة. ولم توفره لي الدولة التي لم تمنحني امتيازا صغيرا يجعلني أتفرغ قليلا للكتابة، ولم يوفره لي أطفالي الذين لا تنتهي طلباتهم التي تعوقني كثيرا عن الكتابة. كل الوقت الذي كنتُ أختلسه للأدب كان يجعلني ألهث خلف فكرة حتى لا تضيع وكثيرا ما ضاعت مني أفكار وألهث خلف اللغة حتى لا تتلاشى مني ويحدث فعلا أن تخذلني. أعتبر الكتابة معجزة حقيقية بالنسبة إلى امرأة تجدّ في عملها، وملتزمة بأعباء العائلة وفواتير الحياة وبارّة بأبنائها ولا تستطيع توفير ثمن خدمات معينة منزلية.
تطل الكورونا بوجهها البشع تحمل الموت للعالم وتمنح حياة أخرى لامرأة مثلي تتنفس الكتابة. كنت دائما أغبط الرجال الذين يجدون وقتا غزيرا ينفقونه في الجلوس على المقاهي. وأمقت النّساء اللاّتي يهدرن الكثير من الوقت أمام المسلسلات التركية وبرامج الشو وهن يقزقزن اللب ويرتشفن الشاي.. الآن الكورونا تمنحني هدية لا تقدر، كل الوقت أصبح ملكي، لن أخرج للشارع وسألتزم بالحجر الصحي كمواطنة صالحة في دولة فاسدة.
من أجل أن أستثمر وقتي جيدا كان يجب أن أنظم يومي سأخصص الصباح للكتابة ثم هدنة تكون مع فيلم وفي المساء أقرأ رواية، حتى أنّني حافظت على منبه الساعة يوقظني باكرا كالعادة لكن هذه المرة لن أستيقظ مثل شخصية كسولة في رواية فاشلة فأهرع إلى شؤون البيت الصباحية وألهث في اتجاه العمل حتى لا أتأخر، الآن أستيقظ باكرا وأفتح عيني على نصوصي ألتقط أفكاري بهدوء وأعيش حياتي التي أحبها.
مرت الأيام الأولى من الحجر الصحي على أحسن ما يرام، أتابع ما يحصل خارج بيتي من التلفزيون فكأني أنظر إلى كوكب آخر أراه يتداعى والناس في العالم في هلع من أعداد الموتى والمصابين وأنا في كوكب آخر منغمسة في مقالة ومنشغلة برواية ومستمتعة بأفلام اخترت جميعها بدقة.. تعمدت أن لا أتواصل مع الأهل والأصدقاء، لم أكن أحب من يشوّش عليّ هذا النسق الذي اخترته وصالحني مع ذاتي.
في الأيام الأولى للحجر الصحي نجحت في قراءة روايتين ومشاهدة خمسة أفلام وبدأت في كتابة مقالة نقدية، كانت الحصيلة جيدة رغم أني لاحظت أن الأفلام كان لها نصيب أوفر من وقتي بما يعني أنّني كنت أميل إلى تقبّل النشاط الذي يتطلب مني جهدا أقل، ربما جئت الحجر الصحي مُنهكة من نسق حياة لا يرحم، ربما هناك جزء مني لم يطمئن فعلا للكورونا التي بدأت مسعورة وكأنها في مهمة انتقامية من كل البشر.
كنت منشغلة بحياتي الجديدة ثم فعلتُ بنفسي ما لا يفعله العدو بعدوّه.. لا أدري لماذا تهديني الكورونا وقتا ثمينا ورغم ذلك أجلب النكد لنفسي؟
جلست أمام التلفزيون وتابعت الأخبار بتركيز ما فعلته الكورونا هذا الكائن الضئيل جدا والخاوي مثل فقاعة وصُعقت، هالني عدد ضحاياها الكثير جدا، منهم من جعلته جثة متعفنة لا يليق بها سوى الحرق والرمي في قبر جماعي ومنهم من جعلته جثة يتنفس خلف الأبواب المغلقة يتابع زحفها بقلب واجف وعينين زائغتين.
هل يمكن لكائن مجهري أن يفعل كل هذا بالعالم؟
كانت أعداد ضحاياها في تزايد مريع والعالم يتراجع في كل مرة أمام زحفها الكاسح ويقف عاجزا عن مواجهتها. يبدو أنّ الكورونا صديقة قاتلة توفّر لي الوقت لأكتب لكنها أيضا توفر الموت للجميع وهي لا تميز في ذلك بين الناس ولا بين الدول. كانت الكورونا التي غيّرت نسق الحياة في بلادي وفرضت قوانينها على الناس من حولي، تهددني أيضا فهي يمكن أن تدخل بيتي من خلال جلسة نميمة مع جارتي أو مصافحة لصديق قديم أو قبلة على خد ابن الجيران، يمكن أن تُزرع في جسدي وأنا أطل من شرفتي على السماء لأتأكد أنها لم تستبدل لونها بتأثير من هذا الوباء القاتل كما يمكن أن تقتحم بيتي من ثقب الباب..
الوقت الذي أهدته إليّ واعتَبرتُه غنيمة كانت قد بثت فيه من سمها، لم يكن لهذه القاتلة المتسلسلة والغادرة أن تكون صديقتي..
منذ أن تأكدت أنّ هذا الوباء الفتاك لا يأتي منه إلاّ الشر وأنه عدو للإنسان تلاشت سعادتي مثل فقاعة الصابون وتسرب لي الضجر، لم أستطع أن أنهي رواية “إحدى عشرة دقيقة” لباولو كويلو توقفت في وسط الرواية وتركت ماريا في تجربة حب غامضة مع رالف تشتهيه ولا تهمّ به ويتوق أن يدخل فيها ولا يفعل، كانت الأحداث في أوجها تجعل كل قارئ يتوق إلى معرفة كيف ستكون نهاية هذا الحب الذي يجمع بين رجل ومومس، هذه تجربة حب لا تشبه غيرها هل يمكن لمومس أن تحب رجلا ولا تمنحه جسدها وهل يمكن لرجل أن يعشق مومسا ولا يمد لها شهوته؟
كنتُ أقرأ بلهفة شديدة وفي ذهني نهايات مختلفة لرحلة ماريا في عالم الجنس ثم فجأة وقفت الكورونا بيني و بين باولو كويلو..
كنت مصرة أن ألتزم بجدول مطالعاتي ولن يتمكن مني الضجر، ذهبتُ إلى رواية علاء الأسواني “جمهورية كأن” ووصلت إلى منتصفها، بدت الرواية تضج بالحياة مشوقة كثيرا وممتعة جدا. ولا أدري لماذا لم أستطع أيضا أن أنهيها، كنتُ أحب أن أعرف ماذا سيحصل لأشرف ويصا الذي غيّرت الثورة تفكيره وبدّلت حياته كليا فترك الرتابة التي كان يعيشها واندفع بجموح إلى جسد خادمته إكرام التي أصبحت حبيبته كما اندفع إلى شباب الثورة الذين كان يراهم مجموعة من الفاشلين فأصبحوا بالنسبة إليه صناّع الحرية، كان كل شيء يتغير في حياة أشرف ويصا وكنت أحب أن أقرأ النهاية التي اختارها له الروائي، ثم أصابني فتور.. مرة أخرى وقفت الكورونا بيني وبين علاء الأسواني.
قلتُ لا بأس لن أتراجع عن جدول مشاغلي الأدبية. في ذلك الوقت، أرسل إليّ الشاعر المصري سمير درويش ديوانه الجديد “يكيّف جرائمه على نحو رومنطيقي” أعجبني العنوان وشدتني قصائده التي قُدّت بمهارة وشعرية عالية وتقدمت في مقالتي قليلا، انتهيت من العتبات الأولى وكنت قد انطلقت في تحليل المشهدية السينمائية التي كتب بها الشاعر قصائده عندما أصابني الفتور الشديد، وتأكدت أن الكورونا تقف بيني وبين سمير درويش.
تسرب الضجر أيضا إلى الأفلام فلم يعد يروقني أيّ منها، لم تعد تشدني أفلام بصيتها العالمي فذهبت إلى أفلام لممثلين أحبهم أستمتع بأدوارهم اللافتة وبملامحهم التي تغريني لكن لا دينزل واشنطن ولا ليونادو دي كابريو ولا ريشارد غير استطاعوا أن يشدوني كعادتهم، وجدت نفسي أتأمل ملامح وجوههم التي أحبها ولم يعد يصلني سحرهم الذي يأسرني، يبدو أن الكورونا تقف بيني وبين الرجال الذين أحبهم أيضا.
قلت لا بأس قد يكون الضجر عاديا، لأغيّر وجهتي نحو الأفلام الوثائقية التي أحبها خاصة التي تتعلق بعالم الحيوان والشعوب البعيدة التي اختارت أن تكون في أماكن قصية تعيش حياتها بهدوء بعيدا عن ضجيج العالم.. لم أوفق إلى نتيجة أفضل، ووجدت وقتي تلتهمه قنوات الأخبار وهي تأتي في كل مرة بأرقام جديدة مفزعة عن ضحايا الكورونا القاتلة..
كل الوقت الذي أصبح ملكي واعتبرته غنيمة حرب نفثت فيه الكورونا سمومها فأصبح ملطخا بدماء ضحاياها في كل مكان، تسرب الضجر في حياتي ولم أعد أستمتع بشيء. أصبحت الكورونا تقف بيني وبين الحياة.
لم تعد كورونا صديقتي، أسقطتُ عنها ثوب الصداقة ورأيتها وحشا قاتلا لا يرحم، وهالني الأمر تقول لي ابنتي “لقد عدّوا في تونس منطقتي البحيرة والمرسى من الأمكنة الموبوءة” وضربت على صدري “يا إلهي هل زحفت الكورونا على تلك الضواحي التي أحبها؟ هل تراها جلست في مقهاي المعتاد في البحيرة؟ هل ولغت في فنجان القهوة التي أصر على النادلة أن تقدمه لي؟ هل أعجبها التمشي على كورنيش المرسى بهدوء وهي تمتع نظرها بالبحر الهادئ وبالعشاق المنتشرين في كل مكان؟ هل تراها ربتت على خد بائع الورد الطفل الذي يتخلل الحشود وفي قبضته الصغيرة حزمة من الورود الجميلة؟ يا إلهي عندما تتجول الكورونا في البحيرة يعني أنها اقتحمت عوالمي ودنست أماكني المفضلة، يعني أنها تترك أظافرها في كل مكان أحبه ثم إنها تقترب من بيتي.. واشتد فزعي.
الكورونا وتنين هوبز
كان الضجر قد تسلل لحياتي غير أن عقلي لا يريد أن يصمت، عندما كانت حكومات الغرب الكافر تقدم لشعوبها امتيازات جبائيه ومساعدات اقتصادية لتغريهم بالبقاء في البيت ريثما تتكفل هي بمحاربة الكورونا يدا بيد مع العلماء في مخابرهم، كانت تونس تفتح نشاطها الأول لمواجهة هذا الوباء بحفل تليتون لتقديم مساعدات مالية للدولة، في الغرب الكافر الدول تساعد الشعوب، في بلادي التي قامت بثورة تسلقها تجار الدين الشعب هو الذي يساعد الدولة.
كان التيليتون يعرض في بث موحد عبر كل القنوات التونسية لم أشأ أن أتابع هذه المهزلة، التي أجدها فرصة من نظام دكتاتوري يدعي الثورة وصنع له لحية ومسبحة لتكون قناعا يخفي وجها مخيفا لمصاص الدماء لشعب مسكين استنزفته أوهام الحرية والعدالة الاجتماعية، لا أعتقد أني أغالي وأنا أعتبر كل هذه الحكومات الفاشلة في تونس التي تداولت على الشعب أشد دكتاتورية من نظام بن علي المستبد، تقدم نفسها حَمَلا وديعا لشعب جاهل في أغلبه يصدق تجار الدين ويصفق لمن يدفع له حتى ينتخبه ويبرر لمغتصبه إن كان يحمل كدمة صلاة على جبينه.
كانت الكورونا قد بدأت تعمل أنيابها في البلاد وأنا أرى الوضع مأساويا لشعب أعزل بلا دولة تحميه وبلا رب يرأف به، بدا لي أن الأمر كثير جدا على شعب يواجه فايروسا ضئيلا جدا اسمه الكورونا وفايروسا ضخما جدا اسمه الدولة، وتذكرت توماس هوبز كم بدا دقيقا في وصف “التنين”.
خارج بيتي الحرب محتدمة والصراع شديد بين العالم مدججا بكل أسلحته العلمية وبين كائن ضئيل جدا لا يكاد يُرى خاو مثل فقاعة صابون، تم إقفال كل المساجد والكنائس والمعابد التي لم يكن فيها إله يحمي مؤمنيه من الكورونا ولأول مرة يشاهد الجميع أماكن مقدسة كانت محتشدة بالمصلين أصبحت فارغة وموحشة وبلا معنى، في المقابل كانت الحركة على قدم وساق في مخابر العلماء والتعاون شديد فيما بينهم من ينقذ البشرية ويحرر شعوب العالم التي سجنت في بيوتها ويدخل التاريخ من باب العلم ويعيد الحياة على هذه الأرض.
الكورونا والكلب الأسود
الضجر الذي تسلل لي يتمدد في بيتي ويستحوذ تدرجيا على كل الأماكن الصغيرة التي أتحرك فيها، ينتابني الضجر في كل فكرة أعالجها ولا أجدها صالحة لأي شيء لذلك كان سهل علي أن أرميها في سلة المهملات التي امتلأت بهواجسي وقلقي وفاضت بلا معنى.. تدريجيا تناقصت الأفكار التي تردني.. وجدت نفسي أدور في بيتي، تضيق بي غرفتي فأذهب إلى الصالون، ويضيق بي الصالون فألتجئ إلى غرف أطفالي النيام. أهرع إلى المطبخ الذي أصبح ملاذي، أطبخ أكلات وأجرب وصفات أخرى، وأشغل نفسي بغسل المواعين وتنضيدها بل قمتُ بتغيير ديكور المطبخ واستبدال ستائره.. تحول المطبخ الذي كان أحد أهم قيودي إلى مكاني المفضل وما يتبقى من الوقت أهدره أمام التلفزيون أبحث عن برامج تسلية تافهة وأهدر ما تبقى من الوقت في الفايسبوك أقتفي أثر الإشاعات التي تكاثرت والخرافات التي تمددت وكثرت الرسائل التي تصلني والتي تختم عادة بعبارة “أرسلها إلى عشرة أشخاص تنال أجرا عظيما”.
الضجر الذي تسرب إليّ جعل حياتي بلا معنى أتى معه بقلق شديد يسيطر عليّ، لم يكن قلق إبداعي يمكن أن يتحول إلى نصوص متوهّجة بل قلق عبثي يشعرني بلا معنى للحياة، لذلك الوقت الذي كنتُ لا أكاد أظفر به واعتبرته هدية الكورونا وغنيمتي التي لا تقدر بثمن الآن يتحول إلى عدوي..
الكورونا خارج بيتي تهددني في كل حين والفراغ يملأ عالمي الصغير، ويعيدني إلى مربع الاكتئاب ذلك الكلب الأسود الذي يتربّص بي في ركن مهمل من حياتي ومستعد أن ينقض عليّ وقد اعتاد لحمي كثيرا.
صمت ثقيل يخيم على بيتي، أطل من خلف ستار النافذة التي لم أعد أفتحها على الشارع الكبير الذي فقد حيويته واستسلم للخوف يسري بين الناس ويفيض من البيوت وينتشر في الشوارع، أدور في بيتي وحيدة.. غيّرت الكورونا نسق حياتي، أصبح البيت جزيرة معزولة عن العالم وتحول كل فرد فيه إلى كائن وحيد.. ثمة شيء بصدد التغير في بيتي وفي العالم، الكائن المجهري استطاع أن ينازل الإنسان وهو في كامل جبروته وبكل غروره ويصرعه وتذكرت فقاعات الصابون في المغطس، فرضت الكورونا قوانينها في الحياة وألزمت كل البشر بتغيير أفكارهم وعاداتهم وبعثرت أيامهم، ولأول مرة أخرى في التاريخ تجعل الكورونا كل البشر لهم حلم واحد: الحرية.
الكورونا والسجن
ثمة شيء يحدث في بيتي وفي العالم؟
قطعت عليّ جارتي توجسي وهي تطل من نافذتها وتهتف بي “بخري البيت بالملح، لن تدخل الكورونا كليا إن شاء الله” وتضيف بصوت واثق “هذه مجرّبة” وعندما لا أرد عليها تترك النافذة وهي تتمتم لعلها تدعو الله أن يخلصها من جارة لا تصدق أن الملح يمنع الكورونا. في تلك اللحظة، كنت ألعن حظي الذي اختار لي من اثني عشر مليونا من البشر في تونس جارة تؤمن أن الملح يمنع الكورونا وأعود للدوران في بيتي، سجني الصغير.
كنتُ قبل الكورونا ألعن البلاد وأشبهها دائما بالسجن الكبير الذي نتحرك فيه وفق تعليمات الحكومات الدكتاتورية التي تداولت علينا والتي تخضع بدورها لسيستام منغلق لا يعترف بالإنسان ولا يهتم بالثقافة الا عند الحملات الانتخابية، كنت ألعن هذه البلاد ولا أجد مساحة حرية إلا داخل نصوصي فيها أحلم وأرقص وأنشج وأضحك وأنتشي..
ألعن البلاد سجني الكبير، وأتجول بسيارتي هنا وهناك، أجلس في مقهى صغير على الشاطئ، أرتشف قهوتي بهدوء وألهي نفسي بسرب النوارس تحلق عاليا، بعاشقين متلاصقين يتهامسان في ركن من المقهى، وأفكر هل يمكن أن أدخلهما إلى قصيدتي فأجعله يحضنها وتقبله وربما أتمادى قليلا فأكسوه ثياب الجرأة وأنزع عنها ثياب الخجل وأجعلهما يرتعشان من اللذة ويصلني فحيح الرغبة وهي تبحث عن منفذ في القصيدة لتستعيد أنفاسها؟
ألعن البلاد سجني الكبير، وأمرّ على أشهر محل للمرطبات في سيدي رزيق، أضرب عرض الحائط بقوانين الريجيم وأشتري للطفلة التي تسكنني كعكا محلى أقضمه بتأن وأرتشف قهوتي بهدوء وأفكر كيف استطاع هيمنغواي أن يجعل رحلة صيد واحدة رواية مذهلة دون أن يحتاج لامرأة تتزين من أجل حبيبها وتنتظره كل ليلة في زوايا الرواية؟ كيف استطاع أن يجعل رجلا عجوزا بطلا يأسر القراء دون أن يشير إلى ماضيه الحافل بالنساء ودون أن يجعله يشرب كأس نبيذ أو يغني لصبية تمرّ به؟
ألعن البلاد سجني الكبير، وأعدو في الملعب الرياضي أحمي جسمي من الكوليستيرول وأحوله إلى جسد يضج بالحياة، يكفي أن أقوم بأربع دورات حول الملعب الرياضي حتى أحقق ما هو مطلوب مني، أذكر أني عندما بدأت عادة التريّض في الملعب أحصي عدد الدورات بأصابعي ولأني أنسى كثيرا وتختلط عليّ الأصابع فقد عوضتها بحصى، في كل دورة أضع حصاة عند مدخل الملعب ولأنه يحدث كثيرا أن تدوسها أرجل الرياضيين فقد استبدلتها بعاشقين أختارهما في كل مرة، يمتعني أن أحصي الدورات التي أقوم بها وفق وضعية الجلوس التي يكونان عليها.
أذكر في زيارتي الأخيرة للمعلب في الدورة الأولى ركضا حول الملعب أن كان العاشقان يجلسان بهدوء يتحدثان بصوت بدا لي مرتفعا حتى أنه يمكن لمن يجلس على المقعد المجاور لهما أن يعرف أنه يحدثها عن اهتمامه بنظافة غرفته وتقديره الزائد لأخواته البنات و سيلاحظ أنّ العاشق يتعمد في كل مرة أن يقارن نفسه بغيره من الشباب الطائش فيكون دائما أفضلهم، في الدورة الثانية لي ركضا حول الملعب كان قد مال عليها قليلا وأراحت رأسها على صدره وبسهولة يمكن أن ألاحظ أن حديثهما قد تحول إلى همس، في الدورة الثالثة كانا قد التصقا أكثر ببعضهما بحيث يبدوان عن بعد وكأنهما جسد واحد وهذا ما يجعلك تغض البصر عنهما، في الدورة الرابعة لم أجدهما يبدو أنّهما اختارا ركنا منزويا لقبلات محمومة..
ألعن البلاد سجني الكبير، وأستمتع كثيرا بعزلتي التي اخترتها، بعيدا عن المشهد الأدبي التونسي الذي يعج بالضجيج، بعيدا عن الشللية القاتلة التي يتحكّم فيها كهنة من الكتبة يعتقدون أنهم آلهة ولا يعلمون أنهم من ورق، بعيدا عن مهاتراتهم ومدائح يكيلونها لبعضهم، بعيدا عن كل ما يوجع الرأس.. هذه العزلة التي اخترتها وأحبها وأشتاق إليها الآن.
ألعن البلاد سجني الكبير، ألعنها وأنا أرتشف قهوتي صباحا، ألعنها وأنا أهم بالنوم ليلا، ألعنها في قصائدي وأشتمها في نصوصي وأحلم بيوم أغادرها فيه إلى الأبد.
ألعن البلاد سجني الكبير، وأدور في بيتي.. السجن الجديد.
أدور في بيتي سجني الصغير، ولا أدري كيف أواجه الضجر الذي تملّكني فجعلني أضيق بالوقت الكثير الذي خلت أني أملكه وأفقدني معنى الأشياء، لم يعد للروايات التي أقرأها معنى ولا للدواوين التي أتصفحها معنى ولا للأفلام التي اختارها معنى..
أدور في بيتي سجني الصغير، ولا أدري ماذا أفعل بنفسي وبالخوف الذي تسلل إليّ من ثقب الباب، الكورونا في الخارج تترصدني وأنا داخل البيت أرتجف في يدي قارورة المعقّم أمسح على كل الأماكن التي قد تتسلل إليها الكورونا التي أحدس أنها تسخر مني وتتربص بعائلتي.
أدور في بيتي سجني الصغير، ولا أدري ماذا أفعل بالكلب الأسود الذي بدأ يتململ ويستغل الوحدة القاسية التي أصبحت عليها ليطل برأسه كأنه يطمئن لوجودي وعلى يقين أني وليمته القادمة التي عليه أن يزدردها بهدوء، ينقبض قلبي ولا أفهم لماذا اختار علماء النفس أن يصفوا الاكتئاب بالكلب الأسود حتى أني صرت أكره الكلاب بكل أنواعها.. وألعن الكورونا التي قوّضت حياتي البائسة فجعلتها أكثر بؤسا أخذت مني عزلتي التي اخترتها بوعي تام وفرضت عليّ وحدة قاتلة وحوّلت بيتي إلى سجن صغير داخل سجن كبير.
الكورونا بين العزلة والوحدة
في الخارج ترتفع أرقام مخيفة عن ضحايا الكورونا، يوميا أكثر من ست مائة قتيل في إيطاليا ومثلها في إسبانيا وينقبض قلبي، في تونس بدأوا يفصحون عن أرقام مفزعة تتصاعد ومعها تنتشر فضائح عن تهاون الدولة في مواجهة الوباء القاتل، يستبدّ بي الخوف وأشعر أنى وحيدة في بيتي، يغط أطفالي في نوم عميق وينشغل زوجي بشتم الكفار وتتمعّش الدولة من الكورونا، من جهة تطلب المزيد من التبرع لمواجهة الوباء ومن جهة أخرى يرفعون في أسعار مواد ضرورية للحياة.. أشعر أنى وحيدة في العالم..
يشتد بي الضجر وتتناسل الأسئلة في داخلي لماذا يحدث كل هذا؟ هل تعبت الأرض من غطرسة الإنسان الذي تمادى في غروره وأرادت أن تضع لجنونه حدا؟ هل تعبت السماء من صراخ المظلومين والمنسيين والمهمّشين في الأرض وتهيئ نفسها لتسقط فتسحق الجميع؟
كيف خطر ببال هذا الكائن المجهري الذي لا يُرى أن يضع حدا لهذه الحروب المنتشرة في العالم تحت مسمّيات عديدة وأعلن حربه ضد الإنسان وانتصر عليه؟
هل فهمت الكورونا أنه يجب فعلا أن تضع حدا للعولمة والفوضى ودكتاتورية الدول الديمقراطية في استغلالها البشع للشعوب المنسية؟
هل التاريخ تعب من الزيف والعنف فأراد أن يتوقف قليلا ويمنح الأرض فرصة خلق توازن جديد تكون فيه الكورونا نقطة تمفصل فنتحدث في التاريخ القادم عما قبل زمن الكورونا وما بعده..
أعلم أني في سجني الصغير ستشتد وحدتي ويقتاتني الضجر وابتلعني الفراغ وسينفرد بي الكلب الأسود، وأعلم أنّي في السجن الكبير الذي اسمه الوطن ستكثر الخرافة وتزدهر تجارة الدين وسيفرّخ الجهل أكثر، أما في الدول العظمى فليس من عادة الإنسان هناك أن يرتدع سينسى ما فعلت به الكورونا ويواصل في مجتمع الرفاهة رعونته وتسلطه وتدميره للأرض واستخفافه بغيره من البشر.
لا أحب أن أتحدث عن سبل الخلاص، لا يروقني رجال الدين ولا أحب أن أكون مثلهم أقدم النصائح الجوفاء لكن كامرأة تتنفس الحبر سأراهن دائما على أنّ نجاتي من شراسة الكلب الأسود لا تكون إلاّ بالمزيد من الإيمان بالفن والاعتقاد في الحياة والثقة بالإنسان الذي يسكن نصوصي. وبما أني رهينة السجن الكبير الذي اسمه الوطن لكن هل ستُمنح قيمة للتربية والتعليم والثقافة وترفع من ميزانياتها لدعم الحياة في مقابل الكف عن نهب خيرات البلاد حتى تندثر الكلاب السوداء من حياة الكتّاب وتحلّق العصافير والفراشات والأحلام الجميلة؟
لا أعتقد ذلك، في الحقيقة يهمّني طرح مثل هذه الأسئلة لكن لا تعنيني إجابتها، فقط أنا مطالبة أن أنهي هذا النص وبعدها سأعد فنجان قهوة قليلة السكر، ليذهب العالم إلى الجحيم عليّ أن أفكر بجدية وأجيب عن السؤال الوحيد الذي يعنيني مباشرة كيف أخفف قليلا من عزلتي القاتلة وأحولها إلى وحدة ممكنة؟
عليّ أن أعترف الآن أنّني عندما كنت في المغطس، فقاعات الصابون الهشة والخاوية انتصرت عليّ فعلا، رغم ذلك أفكر أن أملأ المغطس بالماء وأجعل أنفي يبرز مثل جبل صغير ولن أعبأ مستقبلا بالفقاعات الخاوية تتلاشى لوحدها، قبل ذلك عليّ أن أتوقف عن الكتابة الآن، ما معنى أن يفرض كائن مجهري ضئيل جدا لا يكاد يُرى سلطته عليّ فأكتب عنه؟ لم يعد يعنيني هذا النص لذلك عليّ أن أنهيه الآن وريثما يمتلئ المغطس بالماء أمسك بزجاجة المعقم أمسح مقابض الأبواب وظهر الكراسي وسطح الطاولات حتى لا تدخل الكورونا سجني الصغير.
كاتبة تونسية
—————————————–
سيد العزلة/ أمال بشيري
جعل زمن الأوبئة البشر يركضون بهلع نحو ذواتهم دون أن يدركوا ذلك أو على الأقل دون وعي منهم إلا فيما ندر، في الحقيقة فإن العزلة مهنة العقلاء.
يمارس البشر غريزة الخوف من الفناء بشراسة، بعنف، فحجروا على أنفسهم، وحجر عليهم لكي تشل عقولهم في منطقة غامضة، وقلقة، منطقة بين العزلة الإجبارية التي لا يعرفونها عادة، ومنطقة خصوصية الأخر المصاحب لهم في عزلتهم المضطربة.
لكنهم لو عرفوا فقط بأن لا أحد منا سيخرج حيّا من الحياة، لا أحدا منا سيفلت من الفناء حتى لو بعد حين! سيصبح للعزلة معنى آخر، معنى الزهد والاكتفاء.
“كورونا” هذا الفايروس الذي قلب موازين القوى، وشل حركة العالم، أتى ليكشف ضعف البشر رغم كل تلك القوة العنيفة التي استخدموها ضد بعضهم البعض، على شكل حروب وغزوات واستعمار وإبادة، وضد الطبيعة، وضد الحيوانات.
فتك البشر بجميع الكائنات الحية الأقل قوة، ومقاومة منهم حتى ظهر هذا الفايروس الذي سيفتك بهم وينتقم لهذه الكائنات الضعيفة، ويعيد للحياة أصلها الأول، حقيقتها الأولى، حقيقة الكائن المتوحد مع نفسه، المحاكي للطبيعة العظيمة، المضطرب أمام معجزات السماء.
فايروس كورونا “سيد العزلة” ضغط بمحض الصدفة ربما على زر الحقيقة معلنا نهاية عصر “الهمجية المتحضرة” وبداية عصر الكائن البشري الضعيف الذي عليه أن يحترم باقي الكائنات الحية دونه، بشريّ جديد يحمل بداخله مفاهيم أخلاقية مرسخة، يتعامل مع الحياة بمنطق القلب وبلغة الإنسانية، بشريّ خال من الخطايا، مشبع بالبراءة وباحترام الحياة.
أمام كل ما يحدث في العالم، أعيش عزلتي بهدوء وسلام، سلام داخلي نحتته الوحدة الاختيارية التي أعيشها منذ السنوات الأخيرة، تلك العزلة التي تحررك من أيّ ارتباط، من أيّ اصطدام، من أيّ خذلان، عزلة تعزز مكانة نفسك في قلبك، وتنشر البهجة حولك وبداخلك، هي تلك العزلة التي علمتني كيف أعد الأيام على أنها جواهر ثمينة على أن أستمتع ببريقها.
لعزلتي مكانان، مكان في الروح والثاني في بيتي، عالمي الذي يحرص على تشذيب ذوقي، أين تنتشر تفاصيل حياتي بين كتبي وبين النباتات التي لازلت أدللها فقط لكي تبقى على قيد الحياة، بين تفاصيل الطبخ الممتعة وسماع الموسيقى، بين الرقص لوحدي، بحذاء الفلامينكو الذي اشتريته ذات زمن من ممر الأحزان بغرناطة، وبين الأفلام السينمائية التي تتعبني حتى تمنحني فليما أقع في عشقه لمجرد ألوانه وحجم إضاءته البديعة التي تبهرني.
أراقب الوقت يمرّ على وقع شراسة فايروس ليس لديه شفيع سوى التعقيم والعزلة والخوف، استيقظت ذات صباح على أخبار تنزع بطانة القلب من شدة هولها، اجتاح فايروس كورونا العالم بعد ما كان مجرد مزحة صينية من المفروض أن يطويها النسيان دون خسائر تذكر، لينقلب الوضع إلى مشاهد بشر يتساقطون في الشوارع مثل الذباب، إلى أروقة مستشفيات العالم المكتظة بالمرضي، بالمشرفين على الموت، لم يعد هناك مجال للاستخفاف وعلى العالم أن يستنفر، أن يشذب، أن يخاف، أن ينعزل!
وعليّ أنا أيضا أن أعيد النظر في التعامل مع الأكياس البلاستيكية، مع محلول الكحول، إعادة النظر في نوعية الهواء الذي ينفثه المكيف، ومع نظافة مقبض الباب وكعب حذائي، بعدما كان كل ما يهمني في السابق هو البحث عن سبب الحب، والتأمل في لون الورد، ومجادلة فلسفة الأديان، وتاريخ الحروب والفن، وصناعة السينما، والكتابة الروائية، وخطط السفر، ورائحة سكك الحديد، تحولت يومياتي إلى الإسراع في تعقيم البيت وإلى جرد المؤون وإلى الاطمئنان بأن الحياة ستستمر كما كانت من قبل لا غير!
تشعرني يوميات الحجر المفروض بأن الرزنامة لم تعد ذات قيمة، وبأن الحقيقة المطلقة التي لا بد من التشبث بها هي البقاء على قيد الحياة بأقل أضرار ممكنة وبأن رفيقي في البيت هو المرآة التي أرى فيها نفسي، وهكذا ندخل في لعبة السلطة والتسلط، فالأكثر خوفا هو الأكثر حذرا وبالتالي هو الأكثر تطلبا للحماية من أيّ احتمال للعدوى، هو الأكثر تسلطا لمراقبة إجراءات التعقيم، ومتابعة التنظيف، ومسح آثار لكل حذاء أو كيس، أو علبة تأتي من الخارج!
يوم بأكمله يبدد في الدفاع عن النفس ضد الفايروس غير المرئي، ضد شبح صامت، لكن مع استمرار الحجر، و حراسة زوجي على التعقيم التام والمستمر للبيت، مع برودة أعصابي التي تخجلني أمام هذه المأساة التي تهدد البشرية، لحظت فجأة بأنني لست معنية بخوف البشر من هذا الفايروس الفتاك، لأنني من قبل أعتبر نفسي سيدة العزلة، والمحبة للخلوة، وصاحبة فلسفة الترك والاستغناء، لهذا تساءلت ماذا يوجد في الخارج لكي يشعر البشر بكل هذا الغبن بسبب الحجر المفروض عليهم؟ لماذا لا يستطيعون البقاء في بيوتهم التي من المفروض أن تكون جنانهم الخلابة؟ لماذا يخاف هؤلاء من العزلة؟ وحاولت أن أفهم لماذا مبدأ القطيع هو الأصح لديهم؟
يكمن الرعب من العزلة في الخوف من مواجهة الذات، في التعرف عليها، في مساءلتها، في الحفر في الذاكرة، في تأنيب الضمير، في الاعترافات القاسية لو تحلّى الواحد منا بالشجاعة الكافية لذلك، لهذا أسمي ” كورونا” بفايروس الحقيقة، ومطهّرها الذي يجعلك مرغما على مواجهة نفسك واكتشاف من حولك ومعرفة مدى تشبثهم بالحياة ومدى حقيقة غرائزهم ومدى أنانيتهم.
في هذا الجو الموبوء، أغلقت حجر القلب، وعقمت الذاكرة من أي ألم، تركت الفصل الثاني من الرواية التي أكتب منذ أشهر على حافة الوقت لأن بطلها غير معنيّ بما يحدث الآن، غير معني بالفايروس ولا بغرائز البشر ولا بالحجر الصحي، تركته عمدا معلقا بين اليقين وبين كل الاحتمالات إلى “حين ميسرة”.
لكن ثمة شيء بداخلي أغرقني في العزلة الملونة، في الأصباغ البهية، واللوحات التي تجرأت على تلطيخ بياضها كما اتفق باللون الأسود الذي يشبه ذاك الشخص الذي يشعرك بالهيبة لكن دواخله هشة، وباللون الذهبي الذي يشبه نصف غمزة لامرأة لعوب تخاف من عقوبة السماء، رسمت دوائر على أنها أفكار ترحل عبر المجرات، ومدن غارقة في ضوئها، رسمت بعشوائية طعم الخوخ والمشمش كما أتخيله خارج المواسم، وبسذاجة الأطفال صورت ورودا باهتة تقاوم الظلام لتهرب نحو الضوء.
اعتمدت خطة أعتقد فيها ولو قليل من الذكاء، تعتمد على الترك والاكتساب:
الرسم مقابل عصيان شخصيات الرواية قيد الإنجاز، التعقيم مقابل الخوف من المرض، مديح الصمت مقابل ثرثرة القلب، الهدوء مقابل أنانية الآخر، الاستغناء مقابل الرغبة الملحة بأن تخلع الماسك الواقي من على وجهك لكي لا تشبه أحدا في خوفه، أن تشرع أبواب قلبك مقابل غلق أبواب بيتك أمام عابري السبيل، أن تراقب الوقت يمر برضا مقابل أن تفكر في الفناء، أن تتأمل كل التفاصيل حولك آمرا أناك بالاسترخاء، لتنصت لنبضات قلبك وسط هذا الفراغ الهائل، لتشعر بسرعة جريان دمك في عروقك.
على أن أستمر في البقاء كما أشتهي رغم هذه العزلة التي لم تعد اختيار الحكماء لأكتب أكثر وأتكلم أقل، من أجل أن أرسم بسذاجة لتزيّن اللوحات الملونة جدران الروح، لكي أحلم أكثر رغم فزع كورونا الذي اغتال في لحظة فارقة وهم قوة المتجبر، ووهم ثراء الأغنياء، فايروس الحكمة الذي أنصف الفقراء في الموت وليس في الحياة، علّم الأطفال كيف يرقصون رغم الحمى التي تلهب أجسادهم الصغيرة، هذا الفايروس الذي أفرغ أيّ سلطة من محتواها، وأعاد التبجيل لأيادي القدر، فايروس أعطي للبشرية الدرس الأول والأخير فلا أحد منا أقوى من الحياة!
أمال
كاتبة جزائرية
——————————–
حين يصبح الحجْر عملاً مسلّياً/ بهاء إيعالي
أمام هذا الحجر المنزلي الذي نعيشه اليوم لا يأتي على بالي سوى مذكرات آن فرانك التي دوّنتها في المهجع حيث كانت لاجئة هي وعائلتها، لما كانت تقضي وقت عمل عمال معمل التوابل في قراءة الكتب لئلا يشعر أحد بوجود أشخاصٍ في المخبأ.
ما يحصل اليوم معي هو اختباءٌ شبيه باختباء آن، لن نأتي على ذكر الظروف المختلفة للحالتين بقدر ما سأجد في اختبائي القسري هذا ما يمكن أن نعتبره استغلالاً كافياً للوقت، ففي البيت، لأقل في الغرفة التي أعيش فيها، أقوم بالعديد من الأعمال التي بإمكانها أن تريحني من ثقل مضيّ الوقت، فغرفتي وإن بدت هندسياً تتمةً لمنزل العائلة، غير أنّني قمت عبر السنوات الماضية بإضفاء بصمتي عليها وسلخ أجوائها عن أجواء البيت العامة، فباتت أقرب إلى بيت مستقلّ لي، لا أغادرها إلا حين أريد تعبئة زجاجة المياه أو جلب بعض الطعام.
هذه العزلة التي رسمتها لنفسي في غرفتي لم تمنعني أن أقيم علاقات جميلة مع باقي أفراد العائلة، أمّي وشقيقاتي الثلاث، هذه العلاقة الفطرية التي تنبع كوني كبير العائلة والرجل الراشد في المنزل، غير أنّه لا يمكن لهنّ أن يتمكنّ من اختراق خصوصياتي، واليوم ومع هذه الحالة الطارئة التي أجبرتني على وضع مسافةٍ بيني وبينهنّ كتدابير احترازية فقد اتسعت دائرة عزلتي عنهنّ وبات من الممكن أن يطلق عليّ اسم “المستأجر الذي لا مغادرة له”.
هذا الوقت لا بد أنّه سيمضي، لا خلاف هنا، لكن لكل شخصٍ في هذا العالم أساليبه الخاصة في تمضية هذا الوقت، أما عن نفسي فلديّ العدة الكافية لتطبّق عليّ عبارة خليل حاوي الشهيرة “يا معاد الثلج لن أخشاك/لي خمرٌ وزادٌ للمعاد”. لديّ مكتبتان، واحدة ورقية وأخرى إلكترونية، وتحوي الكثير من الكتب التي جمعتها على مدار ستّ سنواتٍ من هنا وهناك وباللغتين العربية والفرنسية. هذه المكتبة التي تملأ وقتي وتجعله ذا قيمة، غير أنّها ليست زادي الوحيد لهذه العزلة، فأنا رجلٌ يكتشف السينما مؤخراً، ومع توفّر خدمة “Netflix” وبرنامج “EgyBest” باتت لديّ قاعدة مميزة لمشاهدة أفلامٍ أقوم باختيارها عبر القرعة، مجموعة أوراقٍ تحمل أسماء أفلامٍ مختلفةٍ أضعها في مرطبانٍ كان لمخلّل اللفت، فلا أستغرب أن تأتي أفلامي مالحةً بعض الشيء. كما أنّني أحبّ سماع الموسيقى واختيارها بنفس الطريقة التي أختار بها الأفلام وأداعب بين حينٍ وآخر غيتاري حسب قدرتي في العزف.
سأقول إن غرفتي اليوم باتت سجناً، سجنٌ يتلاعب بي في مشهدٍ فانتازيّ مثير، تراه يضيق تارةً ويتّسع طوراً حسب انعكاس الذات داخلي، هذا العالم الذي كان مفتوحاً لي ذات يومٍ إذ بي أراه محدوداً ضمن مساحةٍ لا تتجاوز العشرة أمتار مربعة خلق لي علاقةً جديدةً مع الأصوات المنبعثة من الخارج والداخل، بل تخيّلت أحياناً لو أنّني أفهم بالتأليف الموسيقي لكانت هذه الأصوات اليوم كونشيرتو موسيقي جديد، ولكن…
أسمع بين الحين والآخر عن شعور الفرد بالتهديد جراء ما يحصل اليوم من انتشار هذا الفايروس المستجد، أحاول أن أعود قليلاً لفلسفة التهديد بتذكري لفيلم “The Great Train Robbery” لإدوين بورتر، أتذكّر شخصية المهدِد قاطع الطريق جاستن بارنز وقسمات وجهه. هذا الفايروس اليوم قد تراه الأغلبية العظمى تهديداً حقيقياً للبشرية، قد أجد نفسي أشاركهم هذا الشعور لكنّني لا أحس بضعفٍ أمام قوّة بيولوجيّة لا سابق لي في مواجهتها، ولا بقوّة لركوني في المنزل واستراحتي من أعباء كثيرةٍ متفرغاً لأشياء أحبها، ما أشعر به فقط هو شعور كافة السجناء في هذا العالم، عدميّة مفروضة عليّ.
أفتح درج مكتبي حيث أضع بعض ألبومات الصور القديمة لي، أقلّبها وأعاود تذكّر تفاصيل من حياتي الفائتة، فأجد تعريفاً واضحاً لي بأنّني رجلُ الأحلام الميّتة، فكلّما كنت أكبر كانت أحلامي وطموحاتي تنزلق عن جسدي بدل أن تتسلق عمري الطويل، لأجد نفسي اليوم أحلم حلماً تافهاً، ألا وهو أن أغادر هذه الغرفة نحو عالم مدينتي الواسع، وأن أواعد صديقتي بلقاءٍ على فنجانٍ من الشاي ونزهة على الكورنيش في المينا، وزيارة جديدة لمكتبةٍ قديمة وسرقة ما تيسّر من الكتب. فقط هكذا.
سيتحدّثون باستفاضة عن أنّ هذا الوباء المرعب ما هو إلا مكيدة ومؤامرة عالميّة لها أغراضها وأهدافها الاقتصادية والسياسيّة.. الخ، وسيأتي الهجوم المضاد من آخرين سيقولون إنّ هذا ما هو إلا ضربٌ من ضروب غضب الأرض علينا جراء تفشّي وباء التلوّث فيها. وستأتي الآراء الدينية القائلة كغضبٍ إلهي على البشر لإلحادهم والآراء الإلحاديّة التي ستثبت عدم وجود الإله لأنه لو وجد فعلاً لكان قد جنّب الأبرياء هذا الخطر.. هذا الكلام لا يعنيني إطلاقاً ولست ممن يصطفّون ضمن طابور رأي محدد، ما يعنيني فقط هو سلامة أهلي وأصدقائي، أكان هذا الأمر حقيقةً أم فبركة.
لطالما كان للبشر مع الأوبئة تاريخ طويل، بحكم تخصّصي في التاريخ والميثولوجيا فقد درست عن تاريخ الأوبئة وأثرها على العالم، فيعود إلى ذاكرتي طاعون أثينا في اليونان، طاعون عمواس في فلسطين وسوريا، الموت الأسود الذي اجتاح العالم القديم بين 1338 و1351، التيفوس الغرناطي عام 1489، الملاريا الأميركية بين 1600 و1650، الحصبة البوسطنية عام 1657، حمى برشلونة الصفراء عام 1821 وغيرها الكثير من الأوبئة التي ذكرها التاريخ بقديمه ووسيطه وحديثه. بيد أنّ كلّ ما يعود إلى ذاكرتي في هذا الوقت هو بعض الأفلام التي وضعتها كقائمة خاصة لمشاهدتها ومنها ما شاهدته ومنها ما لم أشاهده بعد، أذكر منها “the Happening, Warm Bodies”، “the Day after Tomorrow”، “World War Z”، “the Andromida Strain”، “the Seventh Seal”، “Death in Venice”، “Outbreak”، “28 Days Later”، “the Last Man of Earth”، “Mimic”.
ولربّما ما أفعله بمشاهدتي لهذه الأفلام هو محاولة منّي لتخيّل نهاية لهذا الكابوس، لا أعلم مدى قدرات العلم على الإسراع في إنهاء هذه الظاهرة وأشكك في فعالية هذا الحجر الذي يعيشه العالم، لكنني متفائل دائماً منذ سمعت جوليا تقول “بكرا بيخلص هالكابوس وبدل الشمس بتضوي شموس”.
شاعر ومترجم من لبنان
——————————————
الحياة يا لها من كلمة عزيزة/ فاروق يوسف
“يوما ما سيختفي”. أما أن يُهزم أو يُقتل فذلك ما لا يجرؤ أحد على توقع حدوثه. فذلك الكائن اللامرئي لا بطولة في قتله لأنه ميت. قيامته هي فكرة تشير إلى أن المعادلة البشرية لا تزال في جزء عظيم منها تخضع لقوى خفية. ما حدث كشف عن أن ضعفنا لا يزال قابلا للفتك بنا في أي لحظة. كان صادما أن نتعرف على أنفسنا باعتبارنا كائنات على درجة عظيمة من الهشاشة.
“ليست الحرب متكافئة” بالرغم من أن خصمنا ضعيف. فهو لا يملك ما نملك من أسلحة في العلم والثقافة والتقنية والاقتصاد والاحتيال والاتصالات. كائن لا يمشي ولا يطير ولا يرى ولا يسمع هزمنا بيسر أسطوري فجعلنا سجناء بيوتنا التي صارت بمثابة القلعة الأخيرة التي صرنا نخشى أن يكون الخصم قد تسلل إليها.
من وراء زجاج النوافذ نتأمّل الفراغ الكوني في محاولة للنظر إلى هواء زفيره ونحن نعرف أنه لا يتنفس. تلك ملهاة تزخرفها المراثي. ولكن العدو أقوى منا. ذلك ما يؤسس لمسار مختلف للأحداث. سيكون عليّ أن أفكر باعتباري أحد الناجين من الكارثة في ما سيكون عليّ أن أفعله في انتظار النهاية. ستُكتب يوميات مَن نجا. ولكن لا أحد يعرف الشخص الذي سيكتبها.
أنا سجين الكتابة. ذلك خبر غير سار لكورونا. لم ينتصر عليّ. منذ أكثر من ثلاثين سنة وأنا أعيش في عزلة الكتابة. ذلك ما توافقت روحي مع جسدي عليه. الكتابة هي اسم آخر للعزلة. ولكن عزلة كورونا هي الهام أيضا. أسئلة المصير تدفع بنا إلى أن نتخطى ذواتنا. البشرية كلها تقيم في كتاب واحد. ذلك كتاب يخطّ كل واحد منا سطره الخاص فيه.
ربما سيشعر مَن نجوا بأنهم كانوا محظوظين بالتجربة.
ذلك ما يدفعني إلى التفاؤل. ستضع البشرية يدها على أخطائها ومواقع ضعفها وأسباب خيانتها وتخاذلها وتجليات كذبها وستكون أقوى وأكثر طهرا وأشد نزاهة. كم نحتاج إلى أن نكون نزيهين ونحن نكتب. ذلك ما كانوا يسمونه في عصر مضى بـ”الصدق الفني”. وهو ما كنا نفسره على أساس ما يتضمنه من حيل لغوية تضفي على العادي صفات خارقة.
في عزلة كورونا تعيد الكتابة النظر في تقنياتها التي لن تخطئ هذه المرة طريقها إلى الإنسان لتنقّب في بشرة جلده بحثا عن تلك اللحظة التي ينطبق فيها منقار عصفور ضائع على صرخة ألم تطلقها نجمة عابرة. لقد تغيرت المفاهيم كلها. ما من شيء في مكانه. لا شيء انتصر على كل شيء. ولا أحد هزم جموعا. كثرة الإنتاج لم تعد نافعة والاستهلاك كشف عن دونيته فيما استعاد المجتمع ثقته بعبقرية أبنائه المتعلمين.
أكتب اليوم بروح جديدة وأنا على يقين من أن البشرية تقف على أعتاب عصر جديد. عصر تُنبذ فيه الحروب وتُركن فيه العقائد بخرافاتها جانبا. إنه العصر الذي يعيد إلى الكتابة مجدها. وإذ أتذكر نوفاليس، الشاعر والفيلسوف الألماني من خلال سطرين هما “إلى أين نحن ذاهبون؟/دائما إلى البيت” فأنا أدرك أن البيت ليس سريرا ولا مطبخا ولا حماما ولا خزانة ملابس ولا غرفة استقبال.
البيت الذي عادت إليه البشرية منعاً لانتشار فايروس كورونا هو ورشة عمل مستقبلية. لقد اهتدت البشرية إلى أجمل ما في تقنياتها على المستوى الاجتماعي. الفرد المسلح بقوة الحلم الجماعي الذي لا يمكن التعبير عنه إلا من خلال العمل. لقد صار على البشرية أن تختبر المبادئ باعتبارها دافعا للعمل.
لذلك فقد استعاد الموت صفته باعتباره كذبة. في عزلة كورونا صارت الحياة في حد ذاتها هدفا.
شاعر من العراق مقيم في لندن
——————————————
بداية النهاية: يوميات الهجرة إلى الداخل/ ممدوح فراج النابي
في الأصل أنا كائن يعشق الوحدة، انعزاليّ بالمعنى الحرفي للكلمة. أهوى المكوث وحيدًا لفترات طويلة، ربما لا أخرج من البيت إلا اضطرارًا في بعض الأحيان. وفي البيت لا أتجوّل في المساحات المفتوحة، أكاد أحصر نفسي في موقع ضيق للغاية، حيث أعزل نفسي في غرفة مُستقلة داخل الشقة، وأغلق على نفسي باب الغرفة التي أمارس فيها عملي، هكذا أصير معزولاً خلف أبواب موصدة، تبدأ بالباب الخارجي للعمارة، مرورًا بباب الشقة الرئيسي، وصولاً إلى باب الغرفة الخاصة بي. فكما تقول أوليفيا لاينغ في المدينة الوحيدة “بإمكانك أن تكون وحيدًا في أيّ مدينة، ولكن هنالك نكهة خاصة للوحدة التي تعيشها في مدينة وأنت محاط بالملايين من البشر”، وحدتي هنا بإرادتي. فأنا موقن أن بالخارج بشر يحيطون بي. هكذا كنتُ أصنع شكلاً لعزلتي، شكلاً يُغنيني عن العالم:
حين تكونين معي أنتِ
أصبح وحدي..
في بيتي! (أمل دنقل).
******
الثلاثاء الـ17 من مارس 2020
(فايروس كورونا: حالتا وفاة و30 إصابة جديدة في مصر وإصابات في الكويت والعراق والأردن وتونس – موقع BBC العربية).
مع انتشار جائحة فايروس كورونا المستجد “كوفيد – 19″، صارت العُزلة أمرًا إجباريًّا، بفعل قرارات حكومية، تنظر لصالحنا العام لأوّل مرة. وبذلك لم أعد معزولاً بإرادتي، بل صرت مجبرًا على الإقامة الجبرية في العزلة، وهذا فارق كبير. لم أختر عزلتي وأنا وسط البشر كما كنتُ من قبل، بل صرت وأنا والبشر في عزلة إجبارية، وضعتنا جائحة الفايروس في قوقعة واحدة، أنا الذي أهرب من المجموع صرت مع المجموع نعيش العزلة، مثلي مثل البطل براين في فيلم “حياة براين”، فبراين دائمًا يمثل المفرد في مقابل المجموع، إلا أنه فشل في إقناعهم بهذا بصيحته: “أنتم أفراد!” كانوا يقابلون صوته بأصوات جماعية “نحن أفراد جميعنا!”
يجدّد صراخه “عليكم أن تكونوا مختلفين” لكن يهتفون “نحن مختلفون جميعًا” الآن الصوت النشاز الذي كان يخرج ويقول أنا لست فردًا تارة، أنا لست مختلفًا، كخروج عن المجموع ذَابَ، وصار الجميع يهتفون “نحن أفراد جميعنا محاصرون ومعزولون”، بعد أن صار براح العالم كله ينحسر داخل المنزل، بل يتقلّص داخل المنزل إلى مساحات ضيقة جدًّا، حالة من التقوقع داخليًّا، بل زاد الأمر سوءًا بالنسبة إليّ كمغترب بعيد عن أهله ووطنه، أنني صرت منعزلا عن عالمين عالمي المعيشي، وعالم الوطن، فبدت فكرة العودة إلى العائلة بعد انتهاء الامتحانات مهددة، وفي عالم الغيب. هنا وقعت في حصارين، الحصار لم يعد حصارًا عن الشارع تفاديا للعدوى، بل صار حصارًا عن الوطن، أشبه بعالق بعدما توقفت حركة الطيران والعبور والمرور من هنا إلى هناك. فلم يعد يُجدي قول محمود درويش وهو يصرخ “حاصر حصارك” أيّ حصار أحاصر الآن، وكيف أحاصره؟ وإن كان لم يبقَ لي سوى الجنون فالشعور بأنّ الذين تحبُّهم بمنأى عنك، بل هناك حواجز تحول دون الوصول إليهم، يقترب من معنى “أنهم ذهبوا”.
الخميس الـ19 من مارس 2020
في لحظة واحدة توقّف العالم تجمّد كل جزء متحرك فيه، وهو ما يعني تأكيدا لمعنى الحياة السائلة التي اعتبرها البولندي زيجمونت باومان تماثل “تمامًا المجتمع الحديث السائل”، فهي لا يمكن أن تحتفظ بشكلها ولا تظلّ على حالها وقتًا طويلاً. كما أنه يشير إلى أن الحياة السائلة “هي حياة محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في حالة من اللايقين الدائم”. كانت نبوءته التي مثلت أشدّ هاجس ساوره في تلك الحياة هو الخوف من أن تأخذه على حين غرّة، وهو ما حدث، غزانا كورونا على حين غفلة، أُصِيبتْ حياتنا الصاخبة بلحظة سكون وصمت وترقُّب رهيبة في إشارة مرور، ظلت الإشارة حمراء، لا تسمح بالعبور، الكل عالق، لا يجتاز الخط الأبيض، صار عالمه مُحدّدًا، ومرتبطًا بتغيّر اللون الأحمر إلى اللون الأخضر، لحظة العبور، لكن مع الأسف، تجمدت الإشارة عند اللون الأحمر، وأعلنت أنها لن تتغير، وعلى الجميع أن يتعامل مع الواقع الجديد، وفق هذه المستجدات.
الجمعة الـ20 من مارس 2020
التحوّل من حالة الحركة والمرح إلى السكون والصمت، لم يكن بالأمر السهل، كثيرون لم يتقبّلوا فكرة الانعزال الذاتي، والهجرة إلى الداخل، حتى حدث الانعزال الإجباري، بعد فرض قوانين حظر التجوال الصارمة بالتزام البقاء في المنزل. شركات المحمول أرادت أن تبث رسائل طمأنة، على نحو ما فعلت وسائل الإعلام المختلفة التي اتخذت إجراءات مكثفة؛ للتوعية بمخاطر النزول والتكدُّس في الأماكن العامة كوسائل المواصلات أو الأسواق والمتنزهات. حالات من الرعب اكتست ملامح الناس في الشوارع، ظهر من أسفل الكمامات، رعب محفوف بصمت الترقب عما بعد.
شركات الاتصالات سعت إلى بثِّ رسائل طمأنة، ومؤازرة، فوحدت شعارها وغيرته إلى جملة بقدر ما كان غرضها الطمأنة إلا أن المعنى جاء نقيضا تمامًا. تغيّر شعار شركة “Turksell” إلى شعار جديد هكذا:”Evde Hayat Var” الشعار يشير إلى أن “في البيت حياة، أو الحياة في البيت”. المعنى الإيجابي يخفى معنىً سلبيًّا مضمرًا ومستترًا يُوحي بالرعب، وهو ما وصلني وسط المعنى الإيجابي، الحياة يقابلها الموت والهلاك، الحياة في داخل البيت، إذن الموت والهلاك في الخارج. إلى هذا الحد صار الخطر قريبًا. أيّ رسائل طمأنة هذه التي تقول لي لا تخرج لأن في خروجك موتك.
4:30 مساء الجمعة الـ20 من مارس 2020
رسالة من رئاسة الجامعة، بتحويل الدروس لطلاب الجامعة إلى دروس إلكترونية، عن طريق التعليم عن بُعد.
السبت الـ21 من مارس 2020: بداية عطلة الأسبوع
(إجراءات حازمة: شراء مستلزمات الأسبوع من الماركت/عدم الخروج من البيت/مشاهدة إعادة المسلسل التركي BARAJ السد)
الـ21 من مارس 2020
“من الذي يجب أن يخضع لفحوصات الفايروسات التاجية” (فخر الدين كوجا وزير الصحة التركي).
عجوز تركية من مدينة أسكي شهير، تدعو قوات الدعم التركية، لأكل العنب الذي ينمو في حديقتها. (عن موقع com).
انتقلنا من موقع المشاهدين، إلى موقع المفعول فيهم، من قبل كنّا مجرد متفرجين ومشاهدين لما يحدث في العالم من كوارث طبيعية مثل الفيضانات، والسيول، أو حتى الحروب الدائرة بجوارنا بفعل البشر والدكتاتوريات، كما في سوريا واليمن وليبيا، كنا نشاهد مناظر الخراب والدمار التي خلفتها الحروب، بلامبالاة. أحيانًا بعد السأم الذي تذيعه القنوات الإخبارية، نغيّر القناة وننتقل إلى البرامج الترفيهية، لحظة واحدة فاصلة بين حالتين؛ حالة رعب ممّا نشاهد، قد يقابلها تعاطف على نحو ما، لكن لن تتجاوزه إلى ردة فعل، أو عمل حقيقي. ثم لحظة استرخاء ولامبالاة وانغماس في الترفيه. فالشيء المطمئن أن الكارثة بعيدة عنّا.
اختلف الأمر هذه المرة تمامًا، الكارثة صارت تلاحق الجميع، تساوت الدول الرأسماليّة مع ضحايا الرأسماليّة، الأثرياء مع الفقراء، الرؤساء مع المرؤوسين. المعنى الإيجابي الوحيد لهذه الأزمة، أنّنا جميعا في مركب نوح (مع الفارق) فالسفينة “تيتانيك” كان ركابها من الصفوة فقط. حالة الهلع التي أفرزتها العولمة، صارت تؤكد ما أعلنه كارل بوبر عن “المجتمع المفتوح”، لكن انفتاح العالم هذه المرة كان على الخوف والرعب. هنا يتحقق الانفتاح الفاسد للمجتمعات بفعل العولمة السلبيّة. فلأول مرة يصير معنى الوحدة البشرية التي جلبتها العولمة كما يقول ميلان كونديرا في أنه “لم يعد هناك مكان للهروب”. ولم يعد بمقدورنا إلا أن نردّد ما كان يقوله سارتر “أيّا كان ما نفعله، فإننا نتحمل المسؤولية عن شيء، لكننا لا نعلم ماذا يكون هذا الشيء”، فلا صوت براين مُجديًا هذه المرة، ولا الصوت النشاز الذي أراد أن يعلن عن استقلاليته!
انكماش
الأحد الـ22 من مارس 2020
فنانو المغرب يغنون النشيد الوطني، ويطلقون حملة #معاك_يا_بلادي لمحاربة فايروس كورونا
فتاة أردنية، تخرق حظر التجوال بالرقص في الشارع.
حقيقة لم نكن مُستعدّين لهذا الواقع، لأوّل مرّة نفشل مع التعامل مع الواقع الأرضي لا الواقع الافتراضي، الواقع الجديد الذي صار افتراضيًّا، بدخولنا جميعًا غرفة محكمة، مراقبة وكأننا في دولة الأخ الكبير عند جورج أورويل. يكفي أنك ترى كل شيء أمامك، لكنك محروم منه، لا تستطيع أن تلمسه، ممنوع أن تقبِّلَ أحبتك، أو حتى تشاركهم فرحتهم بالأحضان. مثل العالم الافتراضي، مع دخولنا عصر الثورة الرابعة، وهيمنة وسائل التكنولوجيا على حياتنا، كم من الأصدقاء لدينا على صفحاتنا الشخصيّة، على فيسبوك أو إنستغرام وغيرها، لكن أصدقاء عن بعد، وظائف الافتراضي – مع الأسف – انتقلت إلى الواقع، فصارت سياسة التعامُّل عن بُعْد، هي السائدة، الأهل والأبناء والأصدقاء حولك، وبجوارك، لكن ثمة شرائطَ جديدة في التعامل، ثمة مسافة فاصلة أثناء الجلوس، ممنوع الاقتراب، ممنوع إظهار الإعجاب، والحبّ، صرنا نتعامل بالرموز، التي كانت محورَ علاقتنا بالآخر الافتراضي، صارت الإيماءة دليلاً على المشاركة الوجدانية، والتربيت باليد على الكتف بديل عن المصافحة، وضم قبضتي اليد، دليل على المؤازرة، وإرسال قبلة هوائية تعبير عن مشاعر الحبّ الفياضة.
في تلك اللحظات صار لكلمات أمل دنقل، معاني أخرى غير تلك التي وردت في سياقها:
“أترك كل شيء في مكانه:
الكتاب، والقنبلة الموقوتة
وقدح القهوة ساخنا،
وصيدلية المنزل،
وأسطوانة الغناء
والباب.. وعين القطة الياقوتة
أترك كل شيء في مكانه،
وأعبر الشوارع الضوضاء
مخلفا خلفي: زحام السوق..
والنافورة الحمراء
والهياكل الصخرية المنحوتة
أخرج للصحراء!“.
مساء الأحد الـ22 من مارس 2020
الأوبزرفر: كيف وقف الغرب “مرتجفا” أمام أزمة فايروس كورونا مقارنة ببعض دول آسيا؟
في الفترة القليلة الماضية، ولكن المهمة جدًّا، فما قبل ليس كما بعد، تغيّرت الوظائف، وعلاقاتنا بالأشياء فلم تعد كما قبل، فعلاقتنا بأجهزتنا وبأدواتنا الشخصية الحميمية، تحولت إلى ارتياب في الاقتراب منها بعد أن كانت الأُلفة هي قوامها، مجرد لمسها الآن يتمُّ عبر حاجز كقفازات نرتديها في أيدينا. تقلص كل شيء إلى حدّ الانكماش، العالم الكبير صار في حجم غرفة في بيت، أو بحجم “راحة اليد” كما صوّر أمجد ناصر اختزال الأوطان، والسماوات ضاقت بالطائرات، فلم تعد تحلق بعد. همينة الفايروس أشبه بفكرة الغزو، الفايروس صار يغزو بلدانًا، ويجرد عواصم من سكانها، ويصيبها بالفراغ. في لحظة فارقة وفاصلة انتقلنا من العوالم الافتراضية التي كنا نعيش فيها، إلى العالم الأرضي، صرنا أكثر اقترابنا بمن هجرناهم بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، لكن عودتنا جاءت بمحاذير، ممنوع الاقتراب، ممنوع اللمس، ممنوع الأحضان. كل شيء كما هو لكن مفتقد لروحه، حتى الأيام لم يعد ما يميزها.
الإثنين 23 مارس 2020
(الخشت: 25 عالمًا من جامعة القاهرة يشاركون في اكتشاف علاج لـ”كورونا” – موقع مصراوي).
حالة الغزو التي صار عليها فايروس كورونا لواقعنا، وتغلغله فيه حتى أصابنا الشلل، تشبه أحداث مسرحية “حالة طوارئ” لألبير كامي، التي تدور في مينا قادش في الأندلس، الميناء ليس له وجود الآن، انقلاب يقوده رجل يهبط على المدينة وهي في حالة تأهُّب لحدوث نيزك، الرجل يُدعى الطاعون، يأتي دخوله إلى المدينة بشكل مباغت، ويجبر الحاكم على التنازل عن الحكم، تصاحبه في اقتحامه سكرتيرته وتدعى الموت، وهي لا تقل عنه قوة وقسوة. بكل سهولة تخضع لهما المدينة، وعندئذ يأمران بإغلاق أبواب المدينة، ومنع الدخول إليها، والخروج منها.
تهيمن على المدينة حالة من الرّعب، فخلت شوارعها وحلّ الصمت محل الكلام. تأخذ وتيرة الأحداث في المسرحية شكلاً آخر، حيث المسرحية في جملتها رمزية ضدّ السلطات الفاشيّة، ومن ثم كانت رمزية الشاب دييجو الذي يرفض هذه الإجراءات، ومع خروجه تبدأ ثورة ضد هؤلاء الحكام الطواغيت… إلخ. التشابه هنا أن مع انتشار الفايروس الذي صار أشبه بالطاعون الشخصية المستبدة في المسرحية، قام بتغيير هوية الأماكن، وعزل الناس، هو أشبه بدكتاتور فرض سطوته على الجميع. وصار الجميع في انتظار المخلّص، على نحو ما حدث مع الشاب دييجو، الذي اندفع من نواح وطنية لأن يتصدى للدكتاتور، فـأطلق شرارة المقاومة ضدّ الطغاة.
إعلامي مصري يحاور فايروس كورونا ويثير سخرية!
في قصة بعنوان “انكماش” للكاتبة المصرية ابتهال الشايب ضمن مجموعتها “نصف حالة” القصة تُحكى بلسان فايروس عن كيفية اقتحامه للجسد، التي هي أشبه بالغزو، عبر رذاذة حملته إلى داخل الجسد وتكاثره داخله، وصولاً إلى اقتحامه المناطق التي لا يشعر بوجوده فيها داخل الجسد. لا تكتفي القصة بوصف لحظات الاقتحام، والتوغل في الجسد، بل ترصد لنا الجزء المهم وهو عجز الجسد عن المقاومة واستسلامه لزحف الفايروس داخل الجسد، ومحاولته السيطرة الكاملة من أجل الوصول إلى المخ. يتغلغل في كل ثنايا الجسد، ويفتش في ذاكرته، بل يقول “بعثرت أفكاره، ومزقتها ووضعت بعض الأشياء، وحذفت منها البعض”.
الثلاثاء الـ24 من مارس 2020
تقرير.. “كورونا” يضاهي الحرب العالمية ويضرب تسلسل الدورات الأولمبية.
القصة تصوُّر لضعف الإنسان إزاء ما يواجهه من أزمات، وأبسطها هذا الفايروس الذي سيطر على جسده. هنا في حالة كورونا لم تكن الأزمة بسيطة بل على العكس تمامًا، أشبه بجائحة. فالفايروس تجاوز الجسد للسيطرة على العالم أجمع، سلبنا حريتنا، وإرادتنا، صرنا أسرى له، كبّلنا في غرفنا المعزولة، حجّم أفعالنا، فهذه المرة هو الغازي (الطاعون في مسرحية كامي) أو العدوّ غير المرئي، نتحايل عليه بالمقاومة، ولكن نخشى من غدره، لذا صار حالنا ونحن نتتبع تعليمات الأطباء من أجل الالتزام بسبل الوقاية، أشبه ببطل قصة «سخرية» لابتهال الشايب، وهذه المرة ويا للعجب البطل طبيب مريض بهاجس النظافة والتلوُّث والخوف منه، لدرجة أنه يرتدي القفازات لحماية نفسه من الأمراض.
حالة الهوس بالنظافة جعلته أشبه بقائد في مهمة انتحارية لإنقاذ هذا الكوكب من مخاطر التلوث، فيبدأ مهمته في المحاربة بتنظيف ماء النيل إلى قطع أسلاك السيارات حتى لا تنتشر العوادم، ينتهي به الحال «في غرفة منعزلة لإحدى مستشفيات الأمراض العصبية» دون أن يتناسى دوره، فيصرخ أين أدوات التعقيم في محاولة منه للتنظيف؟ القصّة بأبعادها ترمز إلى صراع ضد الفساد الذي هو أشبه بمحاربة طواحين الهواء في صورة التلوث. نهاية القصة مؤسفة لأنها في واقع الأمر تدعو إلى الإحباط حيث تشير إلى مآل كل مَن يقاوم القبح والفساد أو ما يخالف نواميس الكون يكون مصيره هكذا، إلا أنها مع الأسف هي الحقيقة في أبسط صورها، قديما كان فقط يحارب طواحين الهواء. الآن صار الجميع مثل هذا الطبيب، ولكن لن يحال الجميع إلى «غرفة منعزلة لإحدى مستشفيات الأمراض العصبية» الجميع يشارك في حمالات التنظيف، داخل بيته، وفي خارجه، الهوس بالنظافة لم يعد مرضًا، كما كان يشار إلى الشخص الموسوس بالنظافة. تلبدتنا حالة واحدة من الهوس بالنظافة، بل بابتكار طرق نظافة وحماية، قد تكون قاتلة، ومن ثم جاءت التحذيرات، بعدم الإفراط في الكلور والمواد الكحولية في التنظيف. لكن الخوف يدفعنا إلى فعل كل شيء، حتى لو كنا نجهل ضرره. ثقافة جديدة انتشرت، هي ثقافة الخوف، وهي تعكس رغبة وحبّ في الحياة، فالصور والفيديوهات التي نقلت عن إيطاليا وإسبانيا ولبنان، بخروج الجموع في الليل في البلكونات للرقص والعزف، ما يؤكد أننا نحب الحياة، ومن الموت نبحث عن الحياة، فنحن شعوب أشبه بالعنقاء، تموت لتولد من جديد.
الأربعاء الـ25 من مارس 2020
فرض حظر تجوال بمصر وتطبيق قانون الطوارئ على المخالفين.. قرارات جديدة لمواجهة كورونا.
المدن المعزولة
حالة التقوقع التي صرنا عليها لم تقتصر علينا كبشر، بل شملت جميع المدن، فقد صارت خالية من الحركة وزخم البشر، والأسواق خلت من مرتاديها، وشاغليها. لكن كان على الجميع أن يخلق حياة جديدة تكون بديلاً أو متنفسًا عن تلك الحياة التي سُلبت منه على غير إرادته. المسجون في غرفة يعرف مسبقًا متي سيخرج، لذا يتعامل مع تاريخ معلوم، يوظِّف حياته من أجل هذا اليوم. فبعده ستتغير حياته كليةً. لكن في حالتنا صار الوضع غير معلوم، والقادم مجهول، فالتوتر هو رهين الموقف، بل يزداد مع ازدياد حالات الإصابات في العالم، التي تزداد في بعض الأماكن بشكل هيستيري، كما في إيطاليا وإيران وألمانيا وأميركا.
الارتكان للمجهول، وانتظار القادم، صارت من المفردات الجديدة، التي أضحى الجميع يتحدثون عنها وهم في الانعزال الذاتي. كلنا صرنا متعلقين بالعلم والأمل في إيجاد حل لهذه الغمة، التي أسدلت ستارة سوداء كبيرة على الحياة التي كنا نعيشها قبل تفشي الفايروس، وبتوقيف الحياة، صرنا نجلس في طريق مقفر، تحت شجرة جرداء مثل بطلي مسرحية بيكيت “في انتظار غودو”، “استراجون” المهرج، الذي يقع دائمًا ضحية عدوان في الليل، لا يشغله شيء سوى الطعام والشراب ونومه، و”فلاديمير” الرجل المفكّر ذو عقل مشغول بمناقشة الآراء والمقترحات. بطلا بيكيت مرتبطان ببعضهما، مثلنا الآن في ارتباطنا بمصير واحد، وإن كان من قبل كانا يفكّران في الانفصال، يجلسان مثلنا في حالة انتظار شخص ما في يده خلاصهما مما يعانيان من ألوان الشقاء، هما في انتظار وعده وأمله بالمجيء، لكن دون أن يحدد وقتًا، ومن ثم فهما متأهبان لانتظاره في أيّ لحظة.
مشكلتهما الحقيقية، وهي توازي مشكلتنا الآن؟ كيف يقضيان الوقت حتى مجيء المخلّص، ونحن الآن نجلس في البيت، ونفكّر كيف نقضي الوقت، حتى تنزاح الغمة. الخوف الحقيقي من أن هذه العزلة الإجبارية تسبب لنا حالة من الجنون والتمرّد على نحو ما حدث مع بطل رواية “خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء” للنمساوي بيتر هاندكه، يوزف بلوخ عامل التركيبات، الذي كان حارسَ مرمى فيما مضى، ولكن عندما فُصل من عمله فجأة، انتابته حالة من الذعر، فبدأ بالتنقل من مكان إلى آخر تارة، وتارة أخرى راح يُدير حوارات مع آخرين تشبه حديث الطرشان، كما أخذ يقوم بأفعال عبثية. تأمّل ما ينشر من مقاطع فيديو لممارسات البعض داخل البيوت، تعكس حالة من الذعر، وصلت إلى العبث في ردة الفعل. مقاطع هزلية، أسرة جماعية ترقص في هيستيريا، لاعب كرة قدم يلعب مباراة داخل المنزل، صراخ الزوجات من بقاء الأزواج داخل المنزل.
الخميس الـ26 من مارس 2020
الصين تعلن عدم تسجيل أي حالات جديدة بكورونا وتستأنف بناء مطار دولي.
بسبب كورونا… شاب يمني يلغي عرسه ويكتفي بالاحتفال عبر البث المباشر.
في اختياراتي للشقق محل الإقامة، كنت أختار تلك التي لها نافذة أو شرفة تطل على الشارع، لا حبًّا في الوقوف في النافذة لمراقبة الشارع، وإنما توسُّلاً بالآخر في عزلتي داخل الغرفة وليست الأقبية المقبضة كما كان يصفها عبدالحكيم قاسم في رواية “قدر الغرف المقبضة”، على العكس تمامًا لم تكن ريحها كابسة على النفس أو مقبضة، بل كانت تعج بالحياة. السبب الثاني من وراء اختياري للشقق التي تطل نوافذها على الشارع هو تأثّري بحكاية الصيني الذي قررت المرأة التي يُحبّها اختبار جَلَدِهِ وصبره، بأن اهتدت إلى ألاّ تمنحه حبّها إن لم يقضِ الليل، مدة ثلاث سنوات، تحت نافذتها. ما هذا الشرط المُجحف، دون مراعاة لصعوبة الطقوس واختلافها من موسم إلى آخر؟ المحبّ لم يجزع أو يجادل أو حتى ساومها على شيء، بل امتثل للأمر، وكان يحضر في المساء، يجلس على مقعده، وهي ترقبه من خلف نافذتها، ولا يتحرك من مكانه إلا عند الفجر. في حين كانت الحبيبة الجميلة أثناء سهره، تنام وراء نافذتها المغلقة. لم يدر المُحبّ الوله بأمر هذه الخيانة. ومع انقضاء السنة الثالثة، كانت المفاجأة أنه لم ينتظر المكافأة، وإنما حَمَلَ مقعده، وذهب دون نظرة واحدة إلى الوراء. أسباب كثيرة جعلته يفعل فعلته ولا ينتظر المكافأة. لكن السؤال الذي كان يراودني بعد قراءة هذه الحكاية: هل هناك فعلاً شخصيّة تفعل هذا، وفي النهاية تُغادر دون أن تحظى بالمكافأة؟ لو اعتبرنا أنه فعل إرضاءً لذاته هو كما برر البعض وليس لها، لربما اقتنعنا بفعله. في الأيام العادية قبل الحظر، والانعزال الذاتي، خاصة في المساءات الممطرة، المصحوبة بالرعد والبرق، كنت أتطلع وأسترق النظر إلى الشارع خلسة من وراء النافذة، متقمصًّا دور الحبيبة المعاقبة، علّي أجد أحدًا يجلس في الانتظار.
بعد حالة العُزلة، صارت من عاداتي المسائية، أن أنظرَ من النافذة ولكن ليس بحثًا عن شخصية الصيني الطيّع (فلقد مات الفضول منذ زمن طويل) علّه عاد في مكان وزمان غير اللذين عاش فيهما، ولكن كنت أنظر في الحقيقة إلى خواء الشارع في المساء، الشارع الصاخب الذي كان لا يهمد صار ميتًا، أصاب طرقاته الخرس، لم تعد تطرقه أرجل السابلة، بل لم يعد أهله يجلسون في رحابه كما كان من قبل. أنظر من النافذة، كل مساء المدينة تحتي، بعض نوافذ بناياتها مظلمة والبعض الآخر مضاء، ولكن لا صمت، وكأن المدينة صارت معزولة.
ماذا تفعل في البيت؟ هذا سؤال الجديد!
الجواب كنت أتابع نشرات الأخبار والمواقع الإلكترونية، ومنصات التواصل الاجتماعي؛ للاطلاع على كل جديد من أخبار متعلقة بكورونا. وفي نفس الوقت كنت أقرأ كثيرًا وأكتب، وأواصل دروسي للطلاب عن بُعد. ما هو أعلى صياغتي ليومياتي كما كانت تحدث، وإن كانت بشيء من التفصيل.
كانت حركتي محدودة لا تتجاوز نطاق الغرفة إلا نادرًا، كانت الطرود تأتي عليها بمجرد ما يلمح البوسطجي اسمي الأجنبي، لا يخطئ فيّ أبدًا، وفي كثيرٍ من الأحيان عندما لا يعثر على صاحب الطرد، يأتي إلي لأتسلّمه نيابة عن صاحبه، أوقّع له بالاستلام، ويغادر وعلى وجهه ابتسامه لم تفارقه مطلقًا. في مرة كشف لي أنني صاحب أكثر التوقيعات في دفتر استلامه، كان هذا الكشف محاولة إغراء لسؤال أجهضته من على طرف لسانه.
كان البترون في المطعم بمجرد ما أنطق بلغتي الركيكة التي كُلمّا تصنّعْتُ إجادتها أسقطُ في فخاخ صوائت حرفيّ (Ü/ Ö) فيعرف أن الطلب لهذه الغرفة. مَلّت عاملة النظافة من بقايا الطعام والأوراق التي أعبئ بها سلة القمامة أسفل المكتب، لم تشتكِ، ولكن نظرتها كلما بدلت الأكياس تقول ما عَجَزَ لسانها عليه، رشوتها كثيرًا بعبوات الشّاي الأخضر التي يحضرها الطلاب كهدايا بعد عودتهم من إجازاتهم، وبقليل من البندق والجوز، ولكن لم تستطع أن تمنع نظرات الضيق، ولكن دون أن تجأر بالشكوى، كان ثمة تواطؤ بيننا وهي التي وشت من قبل بصديقي الذي دخّن في الغرفة، فما أن شمّت الرائحة عند التنظيف، حتى بحثت عن أثر فعثرت على مطفأة السجائر التي صنعها صديقي من فوارغ علبة كنز.
كانت الأصوات غائبة، وكذلك الحديث مفتقد… ثم ظلال تطل لا تقول سوى كلمة أو كلمتين وترحل، كل أضواء البناء تغلق بالتدريج إلا ضوء غرفتي التي تستمر إضاءتها حتى بعد منتصف الليل. ثم صدر القرار بإخلاء المكان. كان عزائي في أصوات ما يأتيني من طرود الصامتين على أرفف المكتبة وفي الصوت الداخلي الذي يأتي دائمًا: أكتب كي لا تكون وحيدًا… أصغي إليه لكن الكلمات كانت تهرب هي الأخرى، في لحظات معينة كانت فريحة تطل دون توقع أو موعد سابق، لكنها كانت تبدّد الوحشة التي سرت في روحي، لكنها كانت أيضًا تذهب فجأة، دون أن أتحقق من حضورها حدث أم كان توهّمات، ويوم أن جاءت في المرة الأخيرة وقبلتني قبلة خاطفة على غير عادتها، ثمّ ودعتني، وقالت وهي تبعد بخطواتها سأفتقدكَ، لم أنتبه لِمَا تردّد في أذني من بقايا كلامها سوى كلمة “تعبت” أؤكّد عليها أنا أيضًا.
وكان أيضًا توهّمات…
– لقد تعبت!
ثمة أصوات كانت تتردد بين الحين والآخر، كنت أجيبها، دائمًا بأفندم.
إلا صوت واحد كان يتردد في لحظات صمتي ولم أستطع أن أجيبه مطلقًا، كنت أقول أفندم؟ وما أن أهمّ بالذهاب إليه يكون اختفى.
صارت المدينة صامتة والبناء قبرًا.
كاتب من مصر
———————————————–
الوجود قاعة انتظار!/ حميد زناز
اهتزت الأرض من تحت قدميّ وأنا ألتقي مع ابنتي الصغرى في محطة القطار حيث ذهبت لانتظارها. مرّ أكثر من شهر دون أن أسعد برؤيتها ولمّا عادت من جامعتها كان محرّما عليّ احتضانها وتقبيلها كما كنت أفعل عادة بحرارة.. وقف فايروس كورونا بيننا سدا منيعا. ما أصعب أن تكون مجبرا على ترك مسافة بينك وبين من تحب. ومع ذلك سعدت كثيرا لما أخبرتني في السيارة بأنها ستبقى معنا في البيت طيلة الحجر الذي سنبدأ في احترامه في اليوم الموالي.. بقاء عزيزتي كاميليا في البيت سيعوضني فرحة الاقتراب منها ورسم قبلاتي على جبينها.
منذ حصولها على شهادة البكالوريا وهي في سن السابعة عشرة، لم يسبق أن عاشت في البيت أكثر من أسبوع وها نحن في الأسبوع الثالث معا.. نقرأ معا، نشاهد الأفلام معا، ونمزح في كل الأوقات. اذكرها دائما بمقولتها وهي طفلة صغيرة لا تتجاوز العاشرة. كنا نتحدث عن فكرة مزج الإنسان بالآلة ونتائجه وغيرها من القضايا التي كان يبشر بها العبر-إنسانيون وكانت تلك الأفكار تبدو غريبة ومجنونة آنذاك. أين يمضي هذا العالم؟ قالت. وهو سؤال مطروح بحدة اليوم مع ظهور هذا الفايروس اللعين.
في الحجر تذكرت تلك الجملة الشهيرة التي كانت تكتب في مطلع كل موضوع إنشاء حينما كنا في المرحلة الابتدائية “نهضت باكرا غسلت وجهي بالماء الساخن والصابون وتناولت فطور الصباح…” ويكمل التلميذ حكاية بقية اليوم خارج البيت. أما أنا فقد أصبحت رجلا ماكثا في البيت لا أبرحه إلا لأسباب محددة مرسومة على ورقة عنوانها “تصريح بالخروج”.
ربما اقتناعي الكبير بفكرة العزل كوسيلة وحيدة لمكافحة الفايروس اللعين هو ما بعث في روحي الطاقة التي أواجه بها تلك الرغبة الجامحة في الخروج، أنا العاشق لركوب الدراجة الهوائية والتجول في الغابات. هذا الخطر المحدق بنا أعادني إلى الأساسيات، وكأنني اكتشفت فجأة أن ابنتي المولودة هنا بفرنسا لا تتحدث الدارجة الجزائرية وكل أحاديثنا كانت دائما منذ البداية باللغة الفرنسية وتأسّفت فجأة أنني لم أفلح في جعلها تتكلم العربية رغم أنني لم أكلمها هي وأختها الكبرى سارة وأخوهما رفيق إلا بالجزائرية حينما كانوا صغارا. ولكن لغة المولد تتغلب دائما في النهاية على لغة الأم والأب.
سألتني كاميليا في اليوم الثاني من الحجر وابتسامة ساخرة تعلو محيّاها: نحن نعرف بأنك تفضّل تحريق الجثث على الدفن الكلاسيكي. و لكن أنت شخصيا ما وصيتك؟ ضحكت وسألتها هل أنت خائفة على حياتي من الفايروس يا عزيزتي؟ إن متّ هنا في الغرب أوصيكم بحرق جثتي وإن غادرت الحياة في الجزائر لن يكون لي خيار آخر غير أن أدفن ككل الجزائريين بجانب أبي وأمي بمقبرة بلدتي. على الرغم من حياة الحجر وتهديد الفايروس وبعد ابنتي سارة التي تعيش بأميركا اللاتينية ورفيق الساكن في مدينة بعيدة عن مقر سكناي، فأنا مطمئن ومرتاح البال لكونهم أكثر مقاومة لهذا الداء بحكم سنهم. وتلك من حسنات هذا الفايروس الخبيث المطمئنة لقلبي.
ومع كل ما يترتب من تغييرات في برنامجي اليومي ومحدودية المكان الذي أتحرك فيه وحدود حريتي جراء هذا الحجر الضروري، أشعر بأنني في إقامة جبرية ناعمة مقارنة بكل الذين أمضوا جل حياتهم في السجون والمعتقلات العربية الرهيبة. لقد قرأت معظم الشهادات التي نشرها من مرّوا بتلك التجارب الفظيعة والتي ذاقوا فيها ما لا يطاق من التعذيب والتنكيل والإهانة. اطّلاعي مبكرا على ذلك التحمل المقاوم للطغيان كان له الاثر الكبير على نفسيتي وأشعر بأن ذلك ساهم في جعلي قليل التشكي وأكثر تحملا لمصاعب الوجود بل وأعتبر نفسي محظوظا.
لست مكترثا بتهديد هذا الفايروس ولا أشعر بأيّ قلق لأنني مؤمن بالعلم ولي ثقة عمياء في العلماء ومتيقن بأنهم سيجدون الدواء المناسب لإنقاذ البشرية. كنت خائفا من حدوث عطل إلكتروني عالمي عظيم قد يهزّ حركة الحياة في العالم بشكل عنيف ومفاجئ ويخلف ملايين الضحايا أرضا وجوا وبحرا، فجاء الخطب من فايروس ووهان الصينية ليخلط الأوراق ويحدث كارثة صحية.
من حسن حظنا أننا لا نعيش في عزلة رغم الحجر بفضل الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي.. أتجاذب أطراف الحديث كل يوم مع سارة ورفيق صوتا وصورة عبر الفايبر والواتساب..نقضي أحيانا السهرة معا رغم أنف المسافات، نسرد على مسامع بعضنا تجاربنا في الحجر وحيل كل واحد منا في مكافحته اليومية للضجر والكسل البدني المفروض. نتبادل النكت حول كورونا ونعلّق على قراءاتنا. تحدثنا في سهرة كاملة عن تفاصيل رواية الطاعون.. كأننا اليوم من شخصيات ألبير كامو التي تتصارع مع عدوّ غير مرئي في مدينة وهران. أصبحنا كلنا نسكن وهران مع كورونا الذي جاءنا من ووهان كما تقول ضاحكة سارة من المكسيك.
حينما أنظر من النافذة وأرى الدنيا مضربة في سكون رهيب ينتابني شعور عميق بالعبث واللاجدوى أحيانا. صمت العالم اللامعقول كما يقول كامو لم يعد في كتب الفلسفة وإنما في متناولي وعبر نافذتي. أصبح الوجود مجرد قاعة انتظار.
كاتب من الجزائر مقيم في باريس
———————————————-
فسحةُ تأمّلٍ في ضيافة الحَجْر/ محمد برادة
مع تقدّم العمر ومرور السنين، يُخيّل إليّ أنني أعيش منذ أمدٍ طويل في ضيافة الحَجر، أيْ في فضاء الغرفة المحدود، وأنا أقرأ أو أكتب، مُعرضا عن ضوضاء العالم، ناشدا ذلك الانطواء الإرادي الذي يجعلني أطلّ على الدنيا من مسافةٍ أحسبها كافية لأن تُسعفني على تقليب التّربة وإعادة النظر في علائقي بالحياة والآخرين، بما عشتُه وبما أتطلع إلي مُعانقته… لكن الحَجْر الذي فرض على ساكنة العالم منذ شهر مارس 2020 له مذاق آخر، أقرب ما يكون إلى مذاق العلقم. كأننا كنا في غفلةٍ مديدة مستسلمين لرحلةٍ لا نعرف مآلها، حين ارتفع نفيرُ الفيروس “كورونا” لِيُوقظنا من سنةِ الكرى المُخدّر، ويضعنا وجها لِوجْه أمام شبح الموت الماثِل شخصيا في الطرقات والبيت، في المعامل والمصانع، في المساجد والكنائس، يترصّدنا ونحن لا نراهُ ولا نقوى على مُداراته أو صرفه عنا إلى حين… تلك طبيعة الكوارث والأوبئة الفتّاكة التي رافقت رحلة الإنسان من المجهول إلى المعلوم، على امتداد عصورٍ ودهور، كان الطاعون أبرزها، وصولا إلى الأنفلوزا الإسبانية (2018) ثم “السيدا”، وصولا إلى كوفيد 19.
إلا أن ما يُميّز هذه الجائحة الجامحة التي هبّت اليوم علينا هو أنها تزورنا في سياقٍ مختلف، بلغتْ فيه العولمة ما يُشبه الأوج، إذْ تلاشت الحدودُ والخصوصيات، وتوحدتْ السلوكاتُ عبر التقدم المُذهل لوسائط التواصل ورقمنة مجالات العيش، فأصبح الإنسان الآلي قابَ قوسيْن أوْ أدنى من تسلم القيادة نيابة عن الإنسان المُنهك الذي نخرتْه الأمراضُ والتلوث والرفاهية المعادية لصفاء الطبيعة… في مثل هذا السياق الخانق الذي لم تعُدْ فيه فرصٌ سانحة للنازحين والباحثين عن شغلٍ يقيهم من ذلّ السؤال، قرعتْ الكورونا أبوابنا وفضاءاتنا كأنما لتقول لنا: “سْتوبْ . هل تودون الاستمرار في هذا الطريق المسدود المُفضي إلى الخسران والانكسار والانهيار؟ هل ستتقبّلون إلى ما لانهاية لعبة الشركات عابرات القارّات، المُتحايلة على عقولكم وجيوبكم؟ هل هذا ما وعَدَ به آدمُ حواء عندما نزلا إلى الأرض ليملآها سعادة ومودة وأنغاما تجدد الروح وتزرع السكينة في النفوس”؟
لكنْ،إذا دققنا النظر، سنجد أن أسئلة كوفيد 19 هي ذات وجهيْن يشملان معضلة الإنسان منذ الأزل: وجهٌ ماديّ يتصل بهذا الاختلال المُتفاقِم الذي انتهى بالعالم إلى طريق مسدود أوْ يكاد؛ إذْ آل التسابق إلى حمّى التصنيع والعمران والمخترعات والحروب، أي إلى تلويث الطبيعة وتدنيس البيئة وتفكيك العناصر التي كانت تسمح بالتعايُش بين طبيعة رحيمة وتكنولوجيا مُتهافتة على الربح، تقودُ إلى اهتزاز توازن الطبيعة الحاضنة لرحلةِ الناس فوق الأرض… والوجهُ الروحاني أو الحميمي، الذي يُحيلنا على سؤال الوجود انطلاقا من الجذور: كيف نستمرّ في المُراهنة على الحياة، والموتُ هو مستقبلنا؟ صحيح، نحن نعلم منذ البدء أن الموت هو الأفق النهائي الذي يبتلع الإنسان لينقله إلى منطقة العدم؛ إلا أن الكورونا تجسّده بفظاعة أمام أعيننا، بعد أن ظننّا أننا تناسيناه، وأننا نجحنا في معانقة الحياة الدنيا وكأنها هِبَة أبدية لا تكفّ عن التجدّد.
في كلتا الحالتيْن، يُرغمنا فيروس كوفيد 19 على أن نولي وجهنا شطر الفلسفة والفلاسفة، علنا نجد ما به نتعلّل، ما به نتمسّك لتصليبِ عُودنا، وتقوية إرادة مواجهة الكرونا التي تخبط خبْطَ عشواء. في هذا الصدد، نكتفي بما قاله الفيلسوف جاك دريدا، سنة 2004، قبيْلَ وفاته: “الخطابُ الذي أتلفظ به ليس مُناصرا للموت، على العكس، إنه تأكيدٌ صادرٌ مِنْ حيّ يُفضّل العيش، أيْ يُفضّلُ الاستمرار في الحياة على الموت، لأنّ البُقيا (survie) لا تعني فقط ما يتبقى، بل هي الحياة الأكثر كثافة (…) ذلك أن التمتّع، والبكاء على الموت المُترصّد، هما بالنسبة لي شيء واحد” (من حوارٍ مع جريدة لوموند).
مهما تكن القشّة التي نتشبث بها لتبرير حبّنا للحياة، فإنّ جائحة الكورونا تؤكد، بكيفيةٍ صارخة، خطر الهشاشة التي تحاصر حيواتِ الناس وتجعلهم مدفوعين، في كلّ حين، إلى تبرير تناسيهم للموت وحرصهم على مقاومة العدم بالارتماء في بحر الحياة المُتدفق. هكذا، وأمام إنذارات الموت الفاغر فاهُ صباح مساء، نلجأ إلى بلورة معنىً لحياتنا، يحُدّ قليلا من الهشاشة ومخاطر الزوال: نراهنُ على الحميمي وعلى العواطف التي تُنعش اللحظات المميّزة وتوهِمنا بأن “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”. نحرص على أن نبلور هُويّة فردية تسندُنا ونحن نصارع المؤسسات الوصائية والقيمَ الماضوية التي تريد أن تدفننا أحياء. وفي الآن نفسه، نواجهُ الهشاشة من خلال إعطاء دلالة متميّزة لوجودنا داخل المجتمع الذي ننتمي إليه.
هذا الحرص على مقاومة الهشاشة الوجودية، من خلال ابتداع الهوية الفردية والانتماء المجتمعي، هو ما يتجلى في المراهنة على العلم والعقل والإحساس، لتحقيق نوع من التوازن داخل عالمٍ غامضٍ في مَنشأهِ وتطوراته ومآله. لأجل ذلك، لن تكون تجربة كوفيد 19 مثل زيارات سابقة لجوائح أخرى، بل إنها ستفجّر أسئلة عميقة وفاصلة، تخصّ وجود الإنسان على البسيطة وموقعه من السلطة /الغول(Léviathan)، التي تتحكمُ في مصائر الأفراد والشعوب، وتُلامسُ تساؤلاتٍ عن طبيعة المستقبل البشري الذي قد يُخفّفُ من حدّة التدهور والهشاشة. ذلك أن هجمة الكورونا وطقوسها الإرغامية قد جسّدتْ، ولوْ لِفترةٍ محدودة، المساواة بين جميع الفئات والطبقات، لا فرق بين حاكم ومحكوم… تلك المساواة التي طالما تغنّتْ بها الإيديولوجيات، وحلمَتْ بها قلوبُ الفقراء؛ لكنها ظلتْ مُتمنّعة دونَها خرطُ القتاد. وها هو الخوف المعانق للكورونا يكشفُ الهشاشة المشتركة بين الأنام، ويُرغمُ الجميع على تقبّل المساواة في الموت الذي توزعُه الجائحة، من دون تمييز بين مَنْ يتبوّأ أعلى الدرجات ومَنْ دَحرجَتْه أقدامُ التعسف إلى الحضيض…
يبقى أنه من الصعب تخمين التحدّيات التي ستحظى بالأسبقية بعد انحسار جائحة كوفيد 19. إلا أن الوضعية الاقتصادية المتدهورة ستفرض نفسها، ومعها شكوك في فعالية العولمة وأطماعها الرّبْحيّة المعادية للبيئة والقيم الإنسانية… سيُصغي العالم لأطروحاتٍ وتصوراتٍ تترجمُ شغف الإنسان بأن يجعل من رحلته الحياتية فرصة لتحقيق ما يُميّزه عن وحوش الغاب، ويمنحه لحظات تضمن حريته وحقوقه في العيش الكريم… نعم، دائما كانت المصائب والحروب والأوبئة فرصة لتحقيق قفزاتٍ إلى الأمام، استهداءً بالعقل والعلم والإحساس، غير أن التجربة التاريخية تشير أيضا إلى أن ما فرضتْه سياسات العولمة والشركاتُ القارية، الرّبْحية، ومغامرة الرّقمنة الشاملة، في ظلّ سيطرة الذكاء الاصطناعي، قد تجعل هذه القوى المضادّة لسعادة الإنسان تستعيد سيطرتها فتُغمض العين عن دروس الكورونا، وتعود إلى ما كانت عليه من عماءٍ واحتقار للقيم الكونية…
كل الاحتمالات واردة؛ لكن الحَجْر الذي نعيشه منذ أكثر من شهر قد يجعل الأغلبية من سكان العالم المحبّين للحياة يتصدّوْن لغيلانِ الأسواق ومُنتهكي البيئة، المفتونين بالتسلط وجبروت الحكم الفوْقي. لأجل ذلك، نحن على وشك أن ندخل في دورة جديدة من جدلية التاريخ وتقلبات الطبيعة، ما سيجعل الصراع أكثر واقعية وملموسية، ويجعل بوابة الأمل أكثر انفتاحا على ما يحقق المساواة والعدالة والأخوة واحترام الحريات. عندئذٍ، تصبح مواجهة الجائحات والأوبئة ممكنة وفاعلة.
كاتب مغربي
————————————
أغلفة العزلة/ حاتم الصكر
“الجائحة”، الوقت، الكتاب، وفراغ التوقعات
لم تمثل لي الفسحة الوقتية المتاحة اضطرارياً أهميةً كبيرةً، فمتقاعد مثلي- يحف صدى مموسق بمهنته “للقعود” عن العمل – لم تأت العطالة هبة طارئة جلبتها تداعيات فايروس كورونا ، ولا دلالة إضافية لها عن الفراغ الذي يحسه العاطلون بالضرورة ، وبمفاجأة كورونا الزائرة بلا حياء، تداعياً من زائرة الحمّى في قصيدة المتنبي.
ازداد إيقاع الفراغ أو العزلة بالمعنى الأدق، إيقاع يتألف يومياً حين يطلع من نشرات الأخبار ومن هواتف الأصدقاء الذين صار لمكالماتهم مدى زمني أكثر، فلا أجمل من مهاتفة في وقت مفتوح كما نشاء. العادات اليومية ستأخذ وقتاً أطول: إزاحة الستائر لاستقبال كمية الضوء الخارجي الممكن – نكاية بنا وتضامناً للطبيعة مع تسونامي كورونا لم تظهر الشمس خلال أسبوعين في هذا المكان القصي من الجنوب الأميركي المعتاد على الشمس الربيعية الخجول في مثل هذا الوقت – ثم التوجه لإعداد كأس الليمون بالماء الدافئ. سألاحظ أنه صار بطعم الدواء منذ تكررت التوصية بأن يكون علاجاً، ثم كأس الحليب الساخن والفطور السريع.
لا طعم لشيء، فالهاجس العلاجي والوقاية، تؤطّران الأفعال كلها، وتنزعان المتعة عن أفعالنا اليومية. تمارين رياضية قليلة لا يتقبلها الجسد بسلاسة، بعد أن انقطعت يومية المشي في ساحات التريض في الهواء الطلق، أو في النادي الرياضي الصحي الذي أقفل أبوابه منذ البدء.
من خلف الشبابيك لن ترى حركة زائدة. ثمة فراغ موحش لا تقطعه إلا سيارة البريد التقليدية، أو عربة النفايات الخضراء التي لا تزال تشع بشعارها فكّر بالأخضر!
للأخبار وجودها الكابوسي حين أذهب للتلفاز: أرقام تتدافع وتملأ الذاكرة بالخوف.. تتزايد وتتعقد الأمور كلها. والترقب يغدو معلقاً بالنشرات والبريد القادم عبر الرسائل النصية والفيديوهات.
للكتاب الآن وجود خاص .حتى ما كان موجوداً بالقوة على الأرفف صار له وجود بالفعل بين الأيدي. أعود للمجلات وأعدادها الخاصة: سيميائيات وتآويل، سير حياتية وذكرى، وقصائد جديدة وقاصين جدد، ونظريات في النقد والسرد، في الرسم والرسامين، في الكتابة كقدر واختيار ولعبة ماكرة، وبحر لسفن تائهة وسيرينيات تغوي البحّارة والمبحرين ولا شمع لِحجْب أصواتهن.. وانزلاق لذيذ نحو المصير.. ثم حنين للهرب والراحة بعيداً.
دواوين محمّلة على النت.. وروايات لأصدقاء أتجول بين صفحاتها وأقارنها باللحظة الكورونية القائمة.. ثم أنتقي شيئاً للقراءة وأنتظر بتعب. أغلفة الكتب جمدت في اليدين تمددت حتى صارت مجازاً . فأرة الحاسوب (ماوس الكيبورد) تتمثل لي حقيقة، فأنفر منها متحاشياً نداءات المواقع والصفحات والفيسبوك والصحف الرقمية والبريد. سأكتفي منعزلاً بما برمجته على الهاتف منها بعد فراغي من فراغ الفطور والمرور بالأشياء التي غدت أيقونات ذات هيئة تمثالية، ثم أهرع ثانية للتلفاز. أتغافل عن النمو العددي والأرقام المرعبة، وأبحث عن أمل في أنباء تتواتر عن علماء من بلدان عدة يتسابقون لدرء الوباء بعقار مناسب. أتساءل كل مرة: أيبحثون عن وقاية لمن لم تصبه الجائحة أم علاج لمن أصابته؟ وبين الوقاية و العلاج يتأرجح الأمل ولا جديد يطمئننا. وتظل أسئلتنا كقلقنا.. كخوفنا في مهب الريح العاتية.
التسوق هو الآخر صار فعلاً محفوفاً بتداعيات الفراغ الكوروني المفاجئ. العربات الطافحة بالمواد شيء لم أعهده في أسواق مدينتي والحي الذي أعيش فيه منذ تسعة أعوام. كنا نتندر إذ ينتقي المتبضعون حبّات مفردة من الأشياء، ويمضون خفافاً دون عناء. وها هم اليوم يتسابقون كما في ميدان تنافس ليحصلوا على ما هو متاح. عربات التسوّق المثقلة. الأيدي الناعمة والأرجل المرتبكة ، وتترك دلالة الشراء علامة على زيارة السيدة المتطفلة كورونا، تصاحب حمّاها حمّى التبضع والخزن بآلية الخوف الذي أعاد الإنسان إلى طبعه لا تطَبّعه مثل سنورات (قطط) الحكاية الشعبية اللائي ألقين الشمع المدرّبات على حمله في مجلس الوزير تأدباً، وتراكضن ليصطدن الفأر الملقى بحيلة خبيثة أمامهن. وعدْنَ قططاً فحسب، يلقين شموع الأناقة والتأدب؛ ليصطدن ما يحسبنه للقادم من أيام العزلة.
الجائحة أنثى.. والفايروس ذكر
تأتي لفظة العزْل عربياً مرادفة للحجْر.. ذلك موجع. فالحجْر يُستخدم للقاصرين والممسوسين والمخرّفين، فيحجر عليهم ذووهم، ويقيدون تصرفهم بما يملكون. لكنّ العزْل يحمل معنى الإبعاد والتبرؤ؛ فيكون المعزول مداناً بخطر عدواه. كلاهما مرٌّ بالغ القسوة. وأقرب تمثيل صوري له هو عزلة الطائر عائداً إلى محبسه بعد أن سئمه الفضاء.. وذلك الحَجْر يأخذ قسوته كالعزل من إيقاعه اللغوي في هذه الجائحة. ولكن ما الجائحة؟ وكيف اهتدى المختصون إلى هذه المفردة ذات الوقع المنفّر المخيف؟
إنها مؤنثة، ارتاح لها العقل الذكوري، وهجر من أجل ذلك الوصف المذكر: الوباء. وحتى مرادفاتها المعنوية مؤنثات. هكذا يقترح المعجم للجائحة وجمعها المؤنث السالم- يا للسخرية من سلامتها! ألفاظاً مثل: المصيبة/الداهية. ويستطرد تأكيداً للعقلية الذكورية: الجائحة داهية أو مصيبة تصيب الرجل! في ماله فتجتاحه كله. والسنة الجائحة الجدبة هي الغبراء القاحلة. كلها مؤنث. ولا وجود لوباء أو مرض فاتك أو شديد. هناك المزيد من العداء الأنثوي: الجائحة في المعجم هي “آفة” سماوية تتلف الثمر أو وتذهب له.
ربما هو اللاشعور اللغوي الجمعي الذي يلصق بالأدواء والمشكلات هذا الوصف: عاصفة/جائحة/داهية/قاحلة/آفة/غبراء..
التباعد الاجتماعي: روميو محجوراً
تطلب منا تعليمات الوقاية من الجائحة أن نسلك التباعد الاجتماعي. أبتسم مردداً لنفسي: وأيّ تقارب يفترضونه سوى حميم العلاقات وقريبها المؤقت. وإلا فأين الجوار والصحبة؟ والمعارف لا أحد.. فلماذا يقترحون التباعد؟ لأغراض في نفوسهم فحسب. الأسرة لن تتمكن من التقارب. الأحفاد عادوا في يومهم الدراسي الأخير قبل الإغلاق بوصية ينفذونها تماماً. ابتعد عن جدَّيْك لأن مناعتهم ضعيفة أو معدومة. لا تزرْهم ولا تدخل سكنهم. الهاتف أيضاً سيعود لوظيفته العاطفية التقليدية مسرحاً للأسئلة البليدة: كيف الحال؟ كونوا على حذر.. وداعاً..
الرومانسيون والرومانسيات هم ضحايا نوعيون للجائحة، فالقبلات والأحضان وتشابك الأيدي ممنوع ضمن الحملة العاطفية لمقاومة الوباء. وصاروا مادةً لصانعي الطرف والنكات، ولرسامي الكاريكاتير – ضمير الجماعة في الأزمات والصعاب – بديلاً للرغبة بالقُبل قبَل قطتك والشريكة تفعل ذلك. أصبح تقبيل القطط إشارةً ذات محمول عاطفي (إيروتيكي في نشاط استثنائي وسط الجائحة؟) صارت الأمثولة: ويحب قطَّتها قطّي! انزياحاً عن الحماسة البدوية الساذجة: ويحب ناقتَها بعيري! أحد رسامي الكاريكاتير في مدينتنا نشر في الجريدة المحلية رسماً عن الكورونا مستدعياً مشهد الشرفة مقلوباً: جولييت من شرفتها تنادي روميو بدلال ولهفة: أين أنت؟
يخرج روميو لها من شرفته دامعاً حزيناً ليقول: أنا في الحَجْر!
2020 حيَّتان برأسين وحبلا مشنقة
لا أؤمن بالطِّيرة والتطيّر، إنها ربط لا علّي – غير سببي بين الشيء ودافعه ونتائجه. لكنني غير مطمئن لهذه السنة. هل كانت كبيسة؟ منذ البدء أهدتنا مصافحات قاسية مؤلمة: شفا حرب بين اثنين ثالثهما العراقيون بلا رابط! ثم هز مدينة ناشفل حيث أسكن إعصار رهيب، خلال الدقائق العشر التي سلّم بها علينا ممطراً عاصفاً مسرعا بدرجة 160 ميلاً في الساعة، ترك عند الثانية صباحاً أكثر من 25 قتيلاً جلّهم تحت أنقاض بيوتهم. هُدمت مبانٍ لمدارس ودور ومؤسسات وممتلكات خاصة.. كل شيء بدا في الصباح أثراً بعد عين.. الصور الجوية التي التقطتها درون (بلا طيار) تشي بآثار قصف أو معركة ليلية لمن لا يعرف ما فعل التورنيدو… لم نستفق من الواقعة حتى حلّت الجائحة.
أيّ سنة هذه؟
2020
تأملت هيأتها الخطية وأنا أعلق التقويم الجديد على الجدار. تراءت لي حيتان تطلان برأسيهما من العدد 2 المكرر، والصفران الدائريان كحبليْ مشنقة. أين نهرب منها. لا اختيار إلا الحبل أو رأسي الأفعوين. خيار نجا منه الرجل الهارب من الفيل الهائج في كليلة ودمنة: فاختار أن يتدلى بالحبل ويرقب الحيّات في الأسفل، متلهياً بغمس إصبعه في كوارة العسل على جدار البئر بانتظار أن يسقط إلى القرار.
حين دخلناها، بل قبل ليلتين منها كنت ممدداً في غرفة الطوارئ في زيارة لأسرة ابنتي في كندا. قضيت ليلة الميلاد الحوّائية التي تسبق الكرسمس أعاني من ارتفاع ضغط الدم بدرجة حيرت الأطباء.
ثلاث رسائل تلقيتها في نهار واحد: النادي الرياضي يرجو أن نستمر في اشتراكنا الشهري، معلناً توقفه (المؤقت)..، متحف فريست للفن البصري، مركز المتعة اللونية والحركية والمعارض المدهشة في مدينتي يرسل رسالة رقيقةً بالمعنى نفسه: مُقفل مؤقتاً، وانتظرونا وادعمونا، أخيراً مكتبة الحي راعية السأم ومعالجة فوضاي وارتباكاتي وتوتري وملجأ عزلتي الموسمية هي الثالثة تعتذر وتقفل، وتعِد بلقاء لا تاريخ له.
هل سيطول الأمر إذن أم سيحل السلام مع الغضوب الجائحة الكاسحة اللامرئية؟ ومؤقتاً نقتات صمت عزلتنا وسلامها العابر.
ولكن أيّ سلام ستمنحه العزلة وأخبار الموت تتزايد، والوباء خارج السيطرة في أكثر الدول والمجتمعات تقدما تقنياً وطبياً…؟
أخبار الأهل والأقارب تزيد الأسى الذي أحسه على ما يضرب البشر في قاراتهم كلها: صرنا نفقد أفراداً قريبين. تجسدت الفاجعة وصارت ملموسة، وعلى القلب الواهن أن يحتمل: بأكواب الليمون والحليب، بكتب الورق والشبح الرقمي، وبالمذياع والتلفاز، خداع الهاتف وحيل الحاسوب، وتقاطعات الأمل واليأس.
أنظر الآن إلى المطر الليلي، ولا أجد له طعماً. تساوت الشمس والغيوم، غيوم العزلة وشمس الفضاء الطلق. عالم يتغير نحو المجهول لافتته الموت اليومي والفاقة والعزلة.. أغلفة تتضاعف.. تتوالد بكثرة كسرعة تمدد الجائحة التي لا يرضى المتداولون أن ينسبوها لوباء أو مرض أو قدر غاشم.. لأنهم أبطال خيّرون، والكون من صنع امرأة ولدتنا ثم تخفت في هيئة جائحة/ داجية/عاصفة/جدباء/قفراء… خالية إلا من ابنتها الأقرب والأحب: المنيّة، بعد أن وأد الآباء ابنتها المدللة المتغنجة: الأمنية.
العزلة التالية
يختم ماركيز روايته “مائة عام من العزلة” بمشهد ذي دلالة في عزلتنا الراهنة. أوريلاندو يقرأ في رقاق ملكيادس المكتوبة قبل مائة عام، والتي أيقن أن قدره مكتوب فيها. تلك اللحظات تهب الريح العاصفة فتقتلع الأبواب والنوافذ والسقف والأسس.. فغدت ماكوندو إعصاراً مخيفاً من الغبار والخراب. مدينة المرايا أو السراب تجتثها الريح وتنفيها من ذاكرة الإنسان.. فالسلالات، التي منحها القدر مائة عام من العزلة، لا يمنحها القدر على الأرض فرصةً ثانيةً.
ولكن أما من أمل بأن يمنحنا القدر الغامض ذاته عزلةً تتجدد فيها النفوس والأمكنة، ويطلع منها نسل جديد كذلك الذي توقعه خليل حاوي وهو ينتظر الصاعقة التي تتفجر منها الحياة…؟
ناقد من العراق
————————————–
عزل متبادل/ أبو بكر العيادي
عندما اندلعت الأزمة في مدينة ووهان الصينية، كنت أتابع أصداء كورونا كما أتابع أحداثا بعيدة نحن عنها في مأمن، أو أخبارا تُتداول في عالم افتراضي، قد تكون مجرد “فيك نيوز”، ولم أعِ تمام الوعي أن ثمة خطرًا محدقا يتهدد الناس جميعا، إلا حين تصدّر المشهدَ محللون وخبراء أوبئة وأطباء ورجال سياسة يتناوبون بانتظام متصل على البلاتوهات، ليؤكدوا أن ثمة عدوّا يتربّص بنا عند كل منعطف.
كان لقرار الحكومة الفرنسية غلق سائر المؤسسات وإيقاف كل الأنشطة الثقافية والتعليمية وقعٌ كبير في النفوس، بعضهم رأى فيه حدّا للحرية، وخرقا للديمقراطية، ولكن الأخبار التراجيدية القادمة من الجارة إيطاليا أخرست أكثر الأصوات ميلا إلى التمرد على ذلك القرار. وبانقطاع الأبناء عن المدرسة والزوجة عن العمل وركوننا جميعا في البيت، صرنا معنيين بما يجدّ، وتغير مفهوم البيت فلم يعد سكنًا بل ملاذٌ نعوذ به من شرّ مستطير.
بالحَجْر الصحّيّ تغيرت علاقتنا بالفضاء، فالذي هو في مثل حالي منغلقٌ داخل شقة، ليس له من سبيل إلى الهروب إلى الريف، حيث الخضرة والهواء النقي والطبيعة الغنّاء، صارت المدينة في عينيه أشبه بمكان قفر لا يشوب سكونَه حِسّ، جامدةٌ جمودًا يوهم بخلودٍ وقتيّ. مدينة تذكر بلوحات الإيطالي جورجو دي كيريكو، حيث الشوارع خالية، والساحات كئيبة، والزمن فيها معلّق، ساكنة سكونا يوحي بوَشْك زوبعة أو هجمة كائنات غريبة؛ أو بفيلم “على الشاطئ” (1959) للأمريكي ستانلي كرامر، الذي يصوّر مدينة ملبورن وقد خلت من سكانها بعد اندلاع الحرب العالمية الثالثة وتفشي إشعاعات الأسلحة النووية.
أمام هذا الوضع، ليس للناس إلا أن يرتدّوا إلى الداخل، أن يلوذوا ببيوتهم مرغمين بالقانون، أو بكورونا، هذا الوباء الذي لم يروه بعد، ولكن الأخبار المتلاحقة عن ضحاياه جعلتهم يدركون أنه هنا، يرود بالأماكن كالأرواح الشريرة. انسحبوا إلى فضاءاتهم الخاصة، يرتّبون حياتهم على قدر طاقتهم، كلّ على طريقته لا محالة، ولكنهم يلتقون في أشياء كثيرة لا تختلف عن نمط معيشهم اليومي المعتاد، حتى لكأن كل فرد منهم حمل معه قطعة من هذا العالم المشترك، الذي بات مهدّدا بخطر داهم، غامض لا يُدرَك، ملتبس لا يُفهَم، شبحيّ لا يُمسَك، سفّاحٌ يحصد الأرواح، حيثما حلّ، دونما شفقة ولا رحمة.
ومن عجب أن هذا الوباء الذي ألغى الحدود الطبيعية والدولية أوجد حدودا أخرى، فردية هذه المرة، حيث انعزل كل واحد في بيته، ليصون نفسه دون ريب، ولكن ليصون الآخرين أيضا، ويقيهم إصابة محتملة. أي أن انعزاله ليس لحماية نفسه فقط، وإنما أيضًا لحماية من يعرف، ولا يعرف، حَسْبُه أنهم بشرٌ مثله. ففي مناخ اجتماعي غلبت عليه الأنانية، جاء الفايروس يحمل رسالة مفادها ألا سبيل للنجاة إلا بالتضامن، والإحساس بالانتماء إلى مجموعة نحرص على حياتها كما تحرص على حياتنا. وبذلك نتمثل استعارة بليز باسكال عن “الغرف المنفصلة”، في حديثه عن مجالات النشاط العام كالتربية والصحة والعدالة والاقتصاد وما إلى ذلك، ليقيم غرفة خاصة به قصد الحفاظ على نفسه وأسرته، والحفاظ في الوقت نفسه على الغرف المنفصلة التي تشكل العالم، على أمل أن تساعده وسائل الاتصال الحديثة في إعادة نسج الروابط الاجتماعية ولو بطريقة مغايرة. فقد أثبتت وقائع التاريخ أن الأوبئة لا تفتك بالأرواح فقط بل تفتت النسيج الاجتماعي أيضا، وتفقد السلطات قدرتها على إدارة الأزمات، وكان المؤرخ اليوناني توسيديديس (465-395 ق م) قد لاحظ أن “طاعون أثينا”، وكان شاهدا على وقائعه، لم يصب الأجساد وحدها، بل أدخل اضطرابا على قواعد الحياة المشتركة وعمل المؤسسات، فالتوتر يبلغ أشدة زمن الأوبئة.
لتجاوز القلق والضيق في مثل هذه الحالات، يبتكر الناس ميثولوجيات شخصية أو جماعية، وبدل أن ينساقوا إلى الجزع والهلع، يجنحون لبناء عوالمهم، لأن الانكفاء على الذات وملاحقة الأخبار ليل نهار قد يفقدهم القدرة على الثبات، وخاصة القدرة على الحلم. في “شعرية الفضاء” كتب غاستون باشلار “لو يسألونني عن أنفَس نعمةٍ للبيت سأقول: البيت يحمي الحلم، البيت يحمي الحالم، البيت يسمح لنا بأن نحلم في سلام”. ولكن هذا يصحّ حينما يكون المرء وحيدا يرتّب حلمه كما يشاء ويوزع وقته كما يهوى، فما الحيلة إذا ألفيت نفسي مرغما على مقاسمة أفراد أسرتي الوقت كما أقاسمهم المساحة، على ضيقها، حتى هجعة الليل؟”.
في سكون الليل، يلتهب الذهن بتساؤلات لعلّ أهمّها كيف نحيا مع الشك، حين يفقد العالم تماسكه، دون أن نقع في الكآبة والخوف من المجهول؟ لا يكون ذلك إلا باتخاذ التجربةِ والعادةِ بوصلةً، الأولى تعلمنا تواشج الأشياء في ما مضى من حياتنا، والثانية تحثنا على توقّع الشيء نفسه في المستقبل، وكلتاهما تساعد على تنشيط الخيال وابتكار بعض الأفكار. فالأوقات الميتة، أي لحظات العزلة التي يسمّيها القدامى تحررا، ذات أهمية بالغة لإنعاش تجربتنا الحياتية، وربما نجد فيها انعتاقا من هذا النسق المحموم الذي طبع هذا العصر، عصر التسارع بعبارة الألماني هارتموت روزا. ولكن المفارقة أننا انشغلنا عن عيالنا وإخوتنا وأصدقائنا بالتواصل الافتراضي، لضيق الوقت وكثرة الالتزامات، فلما أحالتنا العزلة على البطالة (إلى حين)، حرمَنا الفايروس من إعادة الروح إلى تلك العلاقات واقعيا، فأقمنا بيننا وبينهم هذه المرة مسافة حقيقية، يصدق فيها قول فريد الأطرش “قدّام عينيّ، وبعيد عليّ”، لنعيش في عزلة.
أنا أحب العزلة، حينما تكون باختياري، أغنمها فرصة للقراءة، والكتابة على وجه الخصوص، فلي من المشاريع ما لا يفي به عمر واحد، ولكني أكره العزلة حين تُفرَض عليّ، وتُقيِّد حركتي، فأغدو حبيس فضاء لا أغادره إلا بترخيص. انزعجت في البداية، ثمّ أقنعت نفسي بأن الحَجْر لم يفقدني أدواتي ولم يحرمني ممّا أريد، فأن أكون معزولا بإرادتي أو بإرادة هذا الوباء أهوَنُ بكثير من أن أكون تحت قصف المدافع والصواريخ زمن الحرب، حيث تنعدم كل شروط الحياة الآمنة، ولا مجال عندئذ غير التفكير في تأمين سبل البقاء. عدت أمارس طقوسي المعتادة، وإن بشيء من التحوير فرضه الوضع العائلي الجديد، فلي التزامات مهنية لا يمكن أن أخلّ بها، أيّا ما تكن الظروف، ومشاريع في الإبداع والترجمة تنتظر الإنجاز أو الإنهاء. انشغلت بها لكونها من صميم عملي دون ريب، ولكن لكونها أيضا جدارا يقيني أصداء كورونا وما يحوم حولها من إشاعات. بعضها تتحدث عن حرب بيولوجية خفيّة بين القوى العظمى، وبعضها يردّ الفايروس إلى عمل مخبري تتنافس إثره مؤسسات تصنيع الأدوية العملاقة للهيمنة على السوق العالمية. وما هي في نظري سوى نتيجة حتمية لإساءة الإنسان إلى الطبيعة، فالاحتباس الحراري والتصحّر وتدمير الغابات وتلويث البحار والمحيطات واستنزاف الطاقات الجوفية نجمت كلّها عن جشع إنسان هذا العصر، وخاصة إنسان البلدان المتقدمة الذي جعل التنمية الدائمة ديانة جديدة.
ولئن عزلتني كورونا عن العالم، فإن الكتابة عزلتني عن الكورونا، ولم أشعر لحظة أن وجودي مهدّد، لأني أعرف أنها زائلة مهما طال بها الزمن، ونحن باقون أيّا ما يكن عدد الضحايا. والذين يهوّلون المسألة بذكر أرقام لم تتجاوز الثلاثين ألفا عبر العالم حتى الآن، يتناسون عدد ضحايا الأوبئة السابقة، فالإنفلونزا الإسبانية وحدها (وإسبانيا منها براء) خلّفت نحو خمسين مليون قتيل. نعم، لست خائفا، فالموت آتٍ بالكورونا أو بغيره، وإن داخلني خوف أحيانا فعلى أهلي في تونس، وقد حلّت عليهم المصيبة هم أيضا؛ بل أنا متفائل، واثق أن علماء هذا “الغرب الكافر” الذي ندعو عليه بالوبال في كل صلاة، سيتوصّلون إلى استحضار ترياق ناجع، مثلما توصل سابقوهم إلى القضاء على سائر الأوبئة. ولا تراودني أيّ صورة عن فناء العالم، التي تروجها الروايات والأفلام الديستوبية، فلست من أنصار “الكَلّوبسولوجيا”، ذلك التيار الذي ظهر في بداية هذا القرن، وتنبأ دعاته بانهيار الحضارة الصناعية وزوال العالم في صورته الحالية. قد أستخلص من هذه الجائحة عبرة، أو فكرة، ولكني لا أتخذها فرصة لمحاسبة الذات والنظر في ما مضى من مسيرتي الحياتية والأدبية، فأنا ممن يداومون ذلك كل ليل، قبل أن يكّحل الكرى أجفاني كما يقول الشعراء.
ولكن ينتابني أمل وخوف. أمل بأن يعي الإنسان أخيرا أنه سبب البلاء في هذا الكون، فقد رافق انتشار كورونا تراجع الأنشطة الصناعية والاقتصادية، وتوقفها في بعض الحالات عندما اعتكف كل فرد داخل بيته، فاستعادت الطبيعة بعض عافيتها، إذ تناقص التلوث وتحسن الهواء وخفَت ضجيج المحركات، حتى أنه يمكن القول إن أكبر مستفيد من الوباء هي الأرض. أما الخوفٌ فهو من تكذيب النيوليبرالية كل التوقعات المتفائلة، التي تتوهم أن هذه الجائحة ستكون حدّا فاصلا بين عهدين، ما قبل “كوفيد – 19” وما بعده، وأننا سنشهد نظاما عالميا جديدا يزيل الحدود ويقرّ بأن مصيرنا على هذا الكوكب واحد، فقد تعالت أصوات في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وأميركا تؤمن بالفلسفة الأخلاقية النفعية، التي تقوم على النظر إلى الأشياء وفق المصلحة العامة، تدعو إلى التضحية بالفئات العمرية الهشة كالمرضى والمسنين، للحدّ من أزمة اقتصادية رهيبة سوف تتسبب مستقبلا في أموات أكثر، بسبب البؤس والجوع وتفشي أمراضٍ سوف تعجز المنظومات الصحية عن علاجها لغياب الموارد المالية. ففي زمن الأوبئة، “عادة ما توجه المجموعة الإصبع نحو الضحية، الذي يتحول إلى كبش فداء، فيتم عزله، ثم تدميره” كما يقول الأنثروبولوجي الفرنسي فريدريك كيك.
فكّرت أن أستغل العزلة في تجميع أعمالي الكاملة، وإرسالها إلى بعض الثقات كي تنشر من بعدي إن حان الأجل، ثم طردت من خاطري هذه الفكرة التي توحي بالنهاية، نهاية مشروعي الأدبي والفكري، ونهاية وجودي ككائن حيّ. ومضيت أرتّب أوقاتي على ضوء الوضع الجديد، فأدرّس ولديّ، وأساعد زوجتي في إعداد الأكل، وأسمع الموسيقى في الشرفة، وأرد على مكالمات الأقارب ورسائل الأصدقاء، وعندما يخلد الجميع إلى النوم، أنصرف إلى حاسوبي لأحرر مقالة جديدة، أو أضيف بعض الفِقَر إلى رواية لا تريد أن تكتمل، أو أعكف على ترجمة رواية من عيون الأدب العالمي.
ومن الصدف العجيبة أنني، عند اندلاع أزمة كورونا في الصين، شرعت في ترجمة رواية للفرنسي جوزيف كيسّل تتحدّث عن معزولين في مصحة بمرتفعات الألب السويسرية، أصابهم السّل في مطلع القرن الماضي. ورواية ثانية للروسي يوري بويدا عن قطار لا يعرف أحد من أين يأتي ولا أين يمضي، ولا طبيعة حمولته، حتى عمال المحطة التي يتوقف فيها فقط للتزود والصيانة. فهل تكون كورونا كهذا “القطار الصّفر” الذي لا تعرف له وجهة؟ ربّما. ولكن لكل شيء نهاية، وكل وباء إلى زوال.
وصيّة كاتب
عندما أصابني هذا العدوّ الغامض، وجاءت سيّارة الإسعاف تنقلني إلى مستشفى بومبيدو، تساءلت كيف أدركني وأنا منه في منَعة، ليس في جواري غير زوجتي وأبنائي. عزلت نفسي عن الناس، وامتنعت حتى عن القيام بمشيتي الصباحية المعتادة في حديقة الحي. تناسلت في ذهني تساؤلات لا تفضي إلى يقين، وأسلمت أمري للأطباء يفعلون بي ما يشاؤون، وقد باتت روحي معلّقة بين أيديهم.
في غرفة الإنعاش، كانت أنفاسي حشرجة. غرفة صغيرة بلا نافذة، تنير فضاءها أضواء خافتة، وتزدحم فيها آلات إلكترونية وأسلاك ووصلات كهربائية… لم أعد أتساءل عن سبب إصابتي، صرت أسأل نفسي، بين سَعلة وأخرى، عن هذا الفايروس الذي ليس بيني وبينه عداوة، ولا أحسب أنه يعرفني أو أعرفه. تساءلت أيضا عمن أرسله إليّ، وليس لي في الكون كلّه من يضمر لي الشرّ، ثم ماذا سيكسب حين يزهق روح رجل مسالم، يحبّ الخير لكل الناس، على اختلاف أجناسهم وأديانهم. تساءلت أيضا هل هي نقمة إلهية عن خطيئة اقترفتها دون وعي، أم هو عقاب عن معصية ارتكبتها في شبابي؟ وإذا كان الفايروس تعبيرا عن غضب من الطبيعة، فما ذنبي وأنا الذي يعشق الخضرة والهواء الطلق شأن كل من نشأ في الأرياف، أتألم لوردة ذاوية، وغصن مقطوع، ودوريّ تدعسه سيّارة.
استبدّت بي الوساوس والهواجس والخوف من ترك أبنائي بلا عائل، وبتّ ليلة عسراء يجفو فيها جنبي عن موضعي. لم أدر هل نمت أم غُشي عليّ. كانت الأوجاع قد سكنت قليلا، وأنفاسي تتردد عبر جهاز التنفّس في نسق ضعيف، حين فتحت عينيّ. تراءى لي الرواق خافتَ الإضاءة. رواق يزفر رائحة أدوية وأمصال يدركها وعيي وتخطئها حاسّة شمّي، يشهد حركة في الاتجاهين تنبئ باستفحال الكارثة. ولم يمض وقت طويل حتى أقبلت ممرّضة في بدلة صحية بيضاء تلتم على جسدها القصير، وواقية ورقية تغطي شعرها وتنحدر على جبينها، وكمامة تستر الوجه فلا تبدو منه غير عينين زرقاوين محوّقتين. خلعتْ عن وجهي جهاز التنفّس، ووضعتْ بدلها كمامة. وما كادت تغادر الغرفة حتى دخل طبيب في بلوزة بيضاء مستور الرأس والوجه. جاء يعلمني بأن حالي ميؤوس منها، وأن نهايتي وشيكة.
ألجم الخبر لساني، فغمغمت من بين أسناني: “ما شاء الله كان.”
نظر إليّ من خلف كمامة لا تبين منها غيرُ عينيه الضيّقتين، وبدا متردّدا قبل أن يضيف في لكنة توحي بأصول آسيوية، فيتنامية أو كمبودية، لست أدري:
– يؤسفني، قال. يؤسفني إعلامك أن دفنك… أنّك ستدفن مع كل من قضى نحبه خلال هذين اليومين.
غصصت بما تبقّى في حلقي من ريق ناشف، وانتابني سعال حادّ وهو يقول:– دون حضور أحد.
أزحت كمامتي رغمًا عنه وسألت:
– حتى أسرتي؟
– حتى أسرتك. توقّيًا للعدوى.
قال ذلك وتراجع نحو متر، وربما أكثر. لمحت في عينيه ما يشبه الحدّة وهو يقول في غضب جهد في كبحه:
– من فضلك، أعد الكمامة.
تجاهلت أمره وسألت:
– وأين سيكون الدفن؟
– في… في حفرة جماعية… خارج باريس، ردّ وهو يتراجع خطوة.
“حفرة، قلت في نفسي. وهل القبر إلا حفرة؟ … جماعية؟ يعني أنها تحوي موتى من كل الملل والنحل؟ … إلهي، ألا أجد الراحة حتى في موتي؟”.
– لي وصية، قلت أباغته قبل أن ينطق. ووصية الميت… في كل الثقافات… تُحترم.
التفت خلفه كمن يبحث عمّن يساعده، وأراد الكلام فسبقته إليه:
– أنا كاتب، أتفهم؟ ولا يعقل أن… أن أعامَل كسائر الموتى.
– ليس في هذا الظرف، رجاء، ردّ بجفاء.
قلت في صراخ واهن مبحوح:
– إذا لم يكن من الحفرة بدّ، فأنا… أريد… أن تكون لي حفرة وحدي.
كنت قد بذلت في الصّراخ كلّ جهدي، رغم أنه كان من الضّعف ما لا يتجاوز مسافة شبرين. انتابني الألم من جديد، وتسارعت أنفاسي، وأدركت أنها ستنقطع، فقلت في همس وكأني أحدّث نفسي، وربما خيّل إليّ أني نطقت، وما فاه لساني بحرف:
– أريد أن يكتب على شاهدتها: هنا… هنا يرقد من تحدى الكورونا. الكورونا إلى زوال … وهو باقٍ.
بدا أنه لم يسمعني، أو لم يفهمني. وقبل أن أعرف رأيه، غامت الأشياء أمام ناظري، وضاقت أنفاسي، وشهقت شهقة فاضت معها روحي.
كاتب من تونس مقيم في باريس
———————————
جائحة الحلم الجماعي/ رحاب أبو زيد
ابتدعتُ مجموعة مصغرة مكوّنة من أفراد الأسرة من النساء، نأخذ فيها جولة واسعة حول الحارة مشياً سريعاً لترييض الحلم حتى لا يترهل، ولترويض الخوف حتى لا يستفحل، نقوم بعدها بحفنة من التمارين الرياضية الخفيفة خلال اليوم نقطع بها ساعات الجلوس الطويلة، كنت قبلاً ألوم ثلاثة: المتذمرين والملولين والمصابين بالوسواس القهري، ترى كيف حالهم اليوم، هم من يجب تجنبهم حالياً أم الاقتراب منهم لنشهد على التغيير العظيم.
تعلمتُ في لحظة واحدة مكثفة أن السجن داخلك.. وأنك أنت السجّان الوحيد المخوّل بتدمير سجينك.
تعلمت أن الناس في الأزمات يتوقون للأحضان المواسية، وفي اليوجا هناك تمرين جيد اسمه الحضن الذاتي! وفي المستقبل.. قد لا تحتاج لأحد.
تعلمتُ أن الشعور بوطأة الملل العام منوط بالمسافة التي تفصلك عن الناس.. وأن الموازنة هي في البقاء بينهم والحفاظ على تفاؤلك.
تعلمتُ أن نوبات الذعر ليس حلها الهيام في الشوارع أو مسكنّات منوّمة، إنما اليقين.
أقضي يومي قبل الجائحة إلى حد كبير يشبه ما بعدها، كنت في عزل قبل العزل، وأعمل عن بُعد قبل أن يصبح الأمر ظاهرة، كنت أظن أني في غربة لا علاقة لها بالمكان، وبلا مقدمات لحق بي كل الكون، ها أنا أزاول الانشغال نهارًا، ثم ساعات متقلبة بين أخبار العائلة والعالم على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتهاءً بالاسترخاء بعد يوم من الاسترخاء أمام شاشة التلفاز بحثاً عن لا شيء، ربما أنقذ شيئاً من الليل بقراءة صفحات من كتاب، بعد محاولات خائبة للحصول على تصويت الأغلبية في اختيار مسلسل أو فيلم، ينتهي الجدل بانصراف كل إلى شؤونه – داخل المنزل – لألوذ بوحدتي في الظلام المحيق حولي إلا من أشعة الشاشة والصوت على وضع “مكتوم” والأجسام والألوان أمامي تتسابق في حركة مستمرة مع عقلي وكأنها تقول هل سأنجح في أن أحوز على انتباهها، عجيب كيف تمضي ساعات سابحاً في اللانهائية.. كفضاء أمام طائرة أو عمق البحار أم غواصة! ثم تفيق وقد انهالت عليك الأسئلة في معقلٍ إدراكيّ بالدرجة الأولى.. ما الذي يحتّم عليك مشاركة الآخرين عجزهم وأنت حر وقادر؟
نادت علينا أختي للقيام بالدورة اليومية المعتادة للمشي، فتكاسلتُ وتذرّعت بالتعب نهياً للروتين من اقتحام يومي البسيط، ثم تمددتُ بأريحية على أريكتي – التي ما أن يقترب منها أحد حتى أعتبره انتهك خصوصيتي – بنبرة متوسلة قالت: ألم تكن فكرتك؟ انشغلت بأخبار كورونا على قناة العربية، تقتلني الأخبار فأغيّر القناة، يحاصرني الجهل فأعيد القناة، يتسلل لسمعي صوت المذيع متحدثاً عن تجربة التعليم عن بُعد وتقاربها مع شكل الكتابيب القديم، مختلطاً بصوت جارتنا من فوق سطح بيتهم المقابل، يبدو أن سهرات السطوح ستعود دون تنبؤ بحجم ما قد تعيده معها من حميمية.
يدقّ المنبه لتذكيري بموعد مؤجل لدى صالون الأظافر، وآخر معلّق لدى إدارة التصاريح في البلدية، في الحقيقة لم أعرف بعد إذا كانت حالتي يمكن وصفها بالدهشة، إذ أنني حتى الآن لم أصح يوماً إلا وسؤال يباغتني هل نحن جميعاً نحلم الحلم نفسه؟ بالعادة اعتزال الناس وفرض المسافات منطقة مرنة تحت سيطرتي، حتى ظننت أني سأموت وحدي، اليوم أرجو أن يعودوا للفرح حتى أعود لأحزاني، ضجرهم وقلقهم وبدايات كآبتهم حمّلتني عبئاً، وأنا لست حفلة للترفيه ولا منصة لرفع المعنويات، المزاج العام هو الذي يخنقني أكثر مما يفعل الفايروس، عندما كنت أكتب وأتحدث عن الحرمان وأنه هو المعلم الأول لم يسمعني البعض والبعض اعتبرني قديمة الطراز، ها هم يتعرفون عن قرب على ضيف ثقيل لكنه كالمعلم الرشيد اسمه الحرمان.
عادت شلة البنات من مشوارها الرياضي، وأنا أقاوم حزمة من الملهيات وأبذل جهداً مضنياً كي أحافظ على اتزاني العاطفي فلا يتأثر بما يسمع أو يرى حول العالم، وبالتالي أحتاج لوقت يقارب الساعتين صباحاً حتى أعلن أني صحوت بالفعل، وإذا ما سألني أحد متى تستيقظين لسبب ما، فإني صدقاً لا أعرف، قد أستيقظ في السابعة لكني لا أصحو إلا في العاشرة، رمقت البنات بطرف عيني الساهية وأنا أراهنّ ولا أراهنّ، لفت نظري هدوء غير مسبوق، ماذا هنالك؟ قالوا عدنا بالكيك من محل الحلويات القريب على ناصية الشارع، كي أبدي اللامبالاة بشعور الذنب النابض أسفل رسغيّ، رفعت صوت التلفاز، ووجدتني أقفز من صومعة الدهشة.. أريكتي، لأنقضّ على قالب السكّر والشوكليت والسعرات الحرارية بحثاً عن السعادة، تنبّهوا أني لم أسأل عن المناسبة، فتبرعت إحداهن “اليوم عيد الأم، كل عام وأنت أحلى أم”…
آآآه يا أمي.
هذا يثبت أن الأيام تعيد نفسها شكلياً فقط، أشك أن تعود الحياة لسابق عهدها قبل جائحة كورونا، مؤكد ستكون أفضل بكثير.
ثمة موسيقى منقذة من اليأس والحيرة، كصوت جوليا بطرس الثائر الحنون الذكي الساخر، تجعلك تنتشي فرحاً وأملاً وضحكاً ولا تدري أهي تعني ما تقول أم تقول النقيض بطريقة ساحرة، النتيجة واحدة الموسيقى علاج:
رغماً للجوّ المشحون
تبعاً للظرف المرهون،
مطرح ما عيونك بتكون.. بحلم شوفك يوماً ما
بكرة بيخلص هالكابوس
وبدل الشمس بتضوي شموس،
وعلى أرض الوطن المحروس..
راح نتلاقى يوماً ما.
كاتبة من السعودية
—————————————–
إشراقة البيت/ زاهر الغافري
في العادة لا أجلس في البيت كثيراً إلا في السنوات الأخيرة مع التقدم في العمر، عندما كنتُ أقيم في نيويورك كنتُ مشاء كبيراً من مكانٍ إلى آخر وكنتُ شبيهاً بشخصية كوين في مدينة الزجاج في ثلاثية نيويورك لبول أوستر. لكن ما يجعلني أمكث في البيت في هذه السنوات هو القراءة والكتابة وهما عنصران يشكلان الترنيمة الأكبر إخلاصاً في حياتي. في مالمو – السويد المدينة التي أقيم فيها الآن أستيقظ باكراً بين الثالثة والثالثة والنصف وأبدأ بالكتابة، في العاشرة صباحاً أقرأ كتاباً، شعراً أو رواية أو في مجال الفكر والفلسفة والأنثربولوجيا، مع ذلك أحس أن الوقت يقصر يوماً بعد يوم، أعرف أن الظهيرة ستعيد لي كأس نبيذ طيب وأن المساء ينتظرني لأرى فيلماً نوعياً من أفلام الطليعة التي أحبها، خصوصاً بعض الأفلام التي شاهدتها في السينما. حياتي اليومية هذه تجري على خلفية الموسيقى الكلاسيكية أعمال لشوبان أو ماهلر أو بتهوفن أو باخ إضافة إلى الموسيقى الكلاسيكية العربية حينما أستمع إلى أم كلثوم أو عبدالوهاب أو كارم محمود أو عبدالحليم حافظ أو فيروزيات الرحابنة. أزور أصدقائي أحياناً أو يأتون إلى بيتي نتحدث ونشرب وحتى نرقص أحياناً.
أخاف؟ لا أخاف من شيء، أتحرك بحرية أذهب أحياناً إلى حانةٍ وأشرب النبيذ. صحيح أن هناك حالة من الخوف والهلع عند الناس ولكن في المقابل هناك حالة من المبالغة وربما كانت وسائل الإعلام تقوم بهذا الدور، طبعاً هناك نظريات كثيرة حول فايروس كرونا المستجد “كوفيد – 19” بما في ذلك أن الفايروس مُصنّع في مختبرات أميركية أو أوربية أو صينية لا أحد يعرف يقيناً حول الأمر لكنه واقع حال.
علاقتي بالآخر لم تتغير كثيراً زوجتي معي، أما ابنتاي فهما في بلدان أوربية أخرى أطمئن وأتابعهما هاتفياً بشكل يومي تقريباً. لا أشعر بالضعف ولا بالقوة الزائدة فأنا لست سوبرمان على أيّ حال، بل أحسّ بالهدوء والسكينة خصوصاً عندما أقرأ أو عندما أسمع الموسيقى. أراجع نفسي باستمرار قبل أن يدخل العالم إلى هذا النفق الذي يكاد لا ينتهي وأحلم بشكل متواتر، أحلام ليلية أو أحلام يقظة ودون هذه الأحلام والجو الهادئ الذي أخلقهُ في البيت سيكون من الصعب عليّ الكتابة. ودون الكتابة أكون قد دخلتُ في فصل آخر هو الموت. لديّ شغف دائم في وقت النوم فقبل أن تنعس عيني أستحضر الأمكنة الأليفة التي أحبها للنوم. أحب العلية في البيت مثلاً أو الشرفة المغلقة بالزجاج والمطلة على الخارج أو النوم تحت سلالم البيت، إنها بشكل ما عودة إلى جماليات المكان التي ذكرها غاستون باشلار.
أعرف أن الدول الكبرى، القوية تستطيع أن تدبر كل شيء وتفعل ما يحلو لها طالما لن يحاسبها أحد، أما الطبيعة فنعم فهي تتمرد وقد تنتقم. أقرأ الآن رواية الحجلة لخوليو كورتاثار في حوالي سبعمئة صفحة وفي الرواية فصول تتحدث عن التكنولوجيا وكيف تنهض الطبيعة لتعاقب الإنسان الذي يقوم بتدمير هذا الكوكب الذي نعيش فيه. هذه الجائحة وحدها هي المخيلة الكبرى للإنسان وقد أصبحت واقعاً وهي فعلاً تذكر ببعض الأفلام التي شاهدتها حول نهاية العالم لكن هذه المرة في الواقع الحقيقي، فهو أقسى بكثير. صحيح أن العالم شهد من قبل في القرن السابع عشر والثامن عشر جائحة الطاعون وقتلت الكثيرين وهناك السل والحمى الإسبانية إلى آخره، هذه كلها جوائح. بالنسبة إلى الوقت الراهن لا أحد يعرف ما الذي سيحدث، لكن الأكيد أن الدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا هي التي ستتضرر أكثر على المدى البعيد إذا لم يكتشف لقاحٌ يوقف هذا الانتشار وهذا الموت.
نعم أظن أن العلم والتطور الطبي هما الأساس لمعالجة ما نحن فيه وليس الدين ولا الشعوذة والخزعبلات. بالنسبة إليّ شخصياً لن يتغير شيء لكن أجل أظن أن هذا الأمر قد يخلق نمطاً من التفكير يصبُّ في صالح حياة الإنسان أو ربما العكس.
شاعر عماني
———————————-
الصدمة المربكة/ محمد بن زيان
لقد كانت مداهمة الجائحة بمثابة الصدمة المربكة، على الأقل بالنسبة إليّ شخصيا، فأنا بعد سنين إحساس باللاجدوى بدأت أجد معنى لوجودي منذ بداية الحراك منذ ثلاثة عشر شهرا. الجائحة أعادت خلط الأوراق والبحث عن صيغ للتعايش مع وضع حجر صحي ولنا كجزائريين تجربة قاسية مع جائحة أخرى استمرت عقدا، أعني سنوات المحنة الدموية.
“الخوف السائل” بتعبير عالم الاجتماع البولندي الشهير زيغمونت باومان، الذي حلل آلية من آليات مجتمعات عصرنا وهي المتصلة بالخوف فقال “آلية تحاول أن تجعل حياة مليئة بالخوف قابلة للعيش”.، وكآلية مقاومة هناك استمرار مكثف في القراءة والكتابة، ومتابعة حصص وأفلام، ومتابعة لما يتم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي.. ولكن تأثير الحجر يربك ولا يتيح ما تتطلبه القراءة والكتابة من تركيز.
ربما لأن الحجر عزل وليس عزلة، العزل إجبار والعزلة اختيار.
كنت أعيد النظر منذ شهور في نصوص مخطوطة لي وأحاول تحضيرها للنشر، ومن بينها نصّ سردي أعدت كتابته بعد ضياع الأصل، وهو نص كتبته عقب اغتيال بختي بن عودة وفي الإعادة قمت بمزج بين سيرتين، سيرة بختي ورفاقه وسيرة شباب مثقف تواصلت معهم في عام الحراك، وبمداهمة الجائحة أحاول كتابتها سرديا كمقاومة، كتابة تستعيد مرجعيات كـ “كشف الغمة” للمقريزي.
مع الكتابة أحاول قراءة ما أمكن من كتب متصلة بالمشاريع التي أفكر فيها، وأقرأ بعض الأعمال الإبداعية.
يكتسح الاضطراب يومياتي، فلحظات ينتابني الملل والقنوط، وأستدرك بمواصلة القراءة والكتابة ومشاهدة الأفلام ومتابعة الفايسبوك.. لكن مع الوقت صارت أخبار الجائحة تثير الضجر فأحاول تقليص متابعة النشرات الإخبارية.
نظرا لتراكمات ظروف خاصة، لم يحدث تغير كبير فإحساس الغربة والعزل لازمني منذ سنوات، ولكن العزل الإجباري يضاعف الإحساس لأن العزل قهر والعزلة خيار.
فضائي الشخصي بسيط جدا وليس فيه ما يشحن بالحيوية ولا ما يحقق التعويض، ولكن بالتعود تآلفت مع وضعي.
أتمرّن يوميا على استرجاع الذاكرة وإعادة تمثلها لتجاوز عقدها، ولتحيين الصلة بمن عرفت، ولقد بدأت منذ فترة كتابة شذرات عن كل من عرفت في حياتي وهذا ما يسعف على التحمل.
العزل يشعرني بالضعف والهشاشة، ولكنه شعور رغم تراجيديته رائع لأنه تشكيل لمرآة التآلف مع الذات وإدراكها، وهو ما يقلب الضعف قوة، لأن الضعف نقصان والنقصان مؤشر حياة، لأن تمام القوة اكتمال وتحقق الاكتمال هو الموت.
العزل يحرّك جمر الذاكرة، ويتيح إمكانية رؤية أفضل بتوفيره مسافة التحرر من الالتباس.
التجربة حلقة أخرى من حلقات صاغت سيرتي، وكل حلقة تشعرني بالتهديد المصيري، وكل مرة أواجه التلاشي.. وعقبه أتشكل.
العزل هو تهديد وجودي، لأنه خلخلة وهدم لمعيارية سلوكية، لمنظومة تواصلية.. والتهديد يستفز غريزة البقاء الكامنة ويكون محك اختبار أهلية الوجود.
الخوف رافقني باستمرار من الغد، خوف مزمن، لكن الجائحة علّمتني درسا جوهريا هو استثمار اللحظة وعيشها فالآتي لا يمكن مهما كانت دقة الاستشراف والإعداد تمام التأمين.
ما يحدث ملتبس، والأهم البحث عن خلاص بدل الاستغراق في إعادة سرديات المؤامرة، لأن المؤامرة دوما مصاحبة للتاريخ، والجائحة هي تصريف لعبث المخابر وللتلاعب بالتوازن الحيوي المتمادي منذ عقود، وقد تكون إنذار الطبيعة الثائرة على المدمرين.. وربما عبّر المخرج الكندي جامس كامرون عن ذلك في فيلمه الرائع “أفاتار”.
الجائحة أعادت إلى البال كتاب المقريزي “كشف الغمة” وما كتبه بعض المؤرخين عن أهوال الاجتياح المغولي لبغداد، ومشاهد الموتى بالوباء في ثلاثية محمد ديب، وفي “الطاعون” لكامي، وما كتبه شكري في “الخبز الحافي” عن البؤس الفظيع.
كما حضرت في البال أفلام صوّرت بروعة مشاهد قيامية كفيلم “حماية كتاب” (The book of Eli)، من بطولة داينزل واشنطن، وفيلم “حرب الزومبي” العالمية بطولة براد بيت، وفيلم “أنا أسطورة” بطولة ويل سميت.
الجائحة كابوس سينتهي كما انتهت كوابيس قبله، لكنه سيكون فاتحة لمرحلة أخرى وربما سيتجاوز تأثيره على وجهة الأمور ما ترتب عن أحداث الـ11 من سبتمبر 2001، وهناك تفاؤل بقدرة العلماء والأطباء للتوصل إلى لقاح، ولكن المخيف فايروسات متوقعة مستقبلا.. وأعتقد أن الجائحة كانت هزة أو صدمة جاءت بعد أن تجاوزت المنظومات المهيمنة الحدود، وبعد أن تم تجريد السياسة والاقتصاد والعلم من الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية.
أعتقد أن التغيّر سيكون كبيرا وشاملا، تغيرا في الصياغات الجيو ـ استراتيجية، تغيرا في السلوكيات الفردية وإعادة الاعتبار لقواعد الوقاية والطب الاجتماعي.. وربما الأساسي هو إعادة الصياغة لنظرتنا للزمن.
بعد حوالي ربع قرن تمكنت في بداية السنة من استعادة التآلف مع جماعة أعادت وصلي بالجماعة التي تبددت عقب اغتيال بختي بن عودة، وأخشى أن يتبدد التآلف مع الحجر، أخاف أن يؤثّر العزل على ما بدأ يتشكل.. أخشى أن تؤثر يوميات العزل على ما بعدها.. ولكن المرعب في الجائحة أنها حولت كل واحد منا إلى مصدر تهديد لغيره، كل منا صار قابيلا، وفي كل قابيل يكمن هابيل.. أخشى كل ما يدمر ما تشكل من إرهاصات عام الحراك.
هو صراع بين القنوط والأمل، قنوط تضاعفه رتابة العزل وأمل تبثه بعض منشورات الفايسبوكيين الذين يحثون على الصبر والصمود، ويعيدون بالافتراضي الوصل بما فصله العزل.
كاتب من الجزائر
———————————
عزلتي المثمرة/ عواد علي
فوجئت، مثل غيري، بوباء “كورونا” المستجد، الشرس الذي أخذ يفتك بالبشر، ويشيع الهلع في كل مكان، ويعزل دولاً ومدناً بكاملها، وراحت مخيلتي تشطح في البداية إلى تصوره كائناً خرافياً، أو مارداً جباراً شبيهاً بمردة الأساطير وحكايات الجدات يتربص بالناس، أو يجتاح قراهم وبلداتهم ويقضي عليهم بقوته الخارقة. ثم حملتني التداعيات إلى استدعاء أسطورة “إرّا” البابلية، التي تقول إن إله الطاعون “إرّا” اقترح على كبير الآلهة “مردوخ” بالتنحي عن عرشه مدةً من الزمن، بسبب عجزه عن السيطرة على البشر لما ناله من ضعف وخوَر، كي يحلّ محله، ويؤدّبهم ويعطيهم درساً لن ينسوه أبداً. وقد حرّضه على ذلك وزيره إيشوم وأسلحته السبعة التي باتت تشكو من الصدأ لقلة الاستعمال، وما إن استجاب “مردوخ”، ومضي إلى الاستجمام والراحة حتى بدأ “إرّا” بإهلاك معظم سكان سومر وأكدْ في بلاد الرافدين بعدد من الكوارث الطبيعية والمفتعلة، بذريعة ازدياد عددهم، وكثرة ضوضائهم التي أزعجت الآلهة، فضلاً عن استخفافهم بها، وازدرائهم كلامها، وتصرفهم وفقاً لما ترغب فيه قلوبهم. لكن إيشوم يعدل عن موقفه بعد أن رأى هول الكارثة، ويأخذ بتوجيه النصح لسيده عله يوقف حملته الكاسحة، ويفلح أخيراً في مسعاه.
قبل ظهور هذه الجائحة كنت على قناعة بأن التطور العلمي، والمنجزات المتقدمة التي حققها الإنسان على الصعيد الطبي قد حصّنت عالمنا اليوم من شرور الأوبئة والأمراض التي ضربته في الأزمنة الغابرة، وأن ما يقلقنا فقط هو كوارث الحروب والمجاعات والفيضانات، مع الأمل بقدرة المجتمع الدولي على تجاوزها، أو التخفيف من أعبائها. لكن تفشي الجائحة بهذه السرعة في كل أصقاع العالم، وحصدها آلاف الأرواح، خاصةً في الدول المتقدمة، صدم قناعتي وبخّر أوهامي. ولم أجد بدّاً من الالتزام بالعزلة، أو الحجر الصحي في البيت، تنفيذاً للتدابير الوقائية المتخذة لمواجهة الفايروس، وإنجاز الأعمال التي يتوجب عليّ إنجازها من خلال الكومبيوتر. ثم جاء إعلان الحكومة تفعيل “قانون الدفاع” القاضي بحظر التجوال ليدفعني أكثر إلى لزوم البيت، والتواصل مع العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الإنترنت. وقد هالني ما صرت أقع عليه من منشورات وأخبار وأفلام ولقاءات مع أطباء عن تطورات الفايروس، وتدابير الدول للحد من انتشاره، ومعها الكثير من خطابات الرؤساء والملوك والأمراء، والإشاعات والتلفيقات والتراشق بالاتهامات بين كبار ساسة العالم، خاصةً ساسة الولايات المتحدة والصين، في سياق نظرية المؤامرة.
وأكثر ما أزعجني خلال متابعتي لتلك المنشورات والأخبار التصرفات الحمقاء التي شهدتها بعض المناطق في محيطنا العربي والإسلامي، والتي تنمّ عن جهل أو تشبث ببعض المعتقدات، مثل المسيرة الليلية في مدينة الإسكندرية التي تجمّع فيها المئات تضرعاً لإزاحة الوباء، وحشود الزائرين في بغداد إلى إحدى العتبات المقدسة، واندفاع ملايين الإيرانيين إلى الشوارع للاحتفال بعيد نوروز، غير مبالين بتحذيرات العالم من خطورة التجمعات، في حين أن أكثر ما أعجبني قول طبيب هندي إن “هذا الفايروس له عزة نفس كبيرة جداً لن يأتي إلى منزلك إلا إذا خرجتَ ودعوته”.
وبمرور الوقت صرت أخفف من متابعة تلك المنشورات والأخبار، وأنكفئ على القراءة والكتابة، ومشاهدة الأفلام الروائية التي أحتفظ بعدد وفير منها في جهاز الكومبيوتر، أو تلك التي يقترح عليّ بعض الأصدقاء المعنيين بالسينما مشاهدتها. وأغلب ما كتبته مقالات عن المسرح أحدها حول تمثّلات المسرح العالمي والعربي للأوبئة بدءاً من مسرحية “أوديب ملكا” للشاعر المسرحي الإغريقي سوفوكليس، التي تدور أحداثها في مدينة “ثيبة”، حيث تغضب الآلهة فتنشر مرض الطاعون فيها جراء الدنس الذي ارتكبه أوديب بقتله أباه وزواجه من أمه، وانتهاءً ببعض المسرحيات العربية التي تناولت أوبئةً عديدةً، وما تركته من آثار وتحديات على مختلف الأصعدة. ومقال آخر عن حيلولة “كورونا” دون احتفال المسرحيين في العالم بعيدهم هذا العام، الذي مر يوم الـ27 من مارس، كما كانوا يفعلون كل عام، وما خلّفه ذلك من غصة في نفوسهم.
كما واصلت كتابة عملي السردي الجديد، وهو رواية ذات منحى فانتازي أفترض فيها مجيء الملك الآشوري آشور ناصربال الثاني، مع أسرته وحاشيته، بقارب شراعي، إلى مدينة أرابخا (كركوك الحالية)، التي شيّدها أثناء حكمه، ليتفقد أحوالها، إحساساً منه بأنها تعاني من انعدام الأمان، وأن مجموعة أقوام تتنازع للاستئثار بها. ويلتقي في المرفأ، صدفةً، بطالب آثار من أبناء المدينة خرج إلى التنزه على ساحل البحر، ويغريه بهدية ثمينة مقابل تسهيل دخوله ومرافقيه إلى أرابخا، فتحدث مفارقات عجيبة خلال وجوده فيها، مستغرباً الحال التي انتهت إليها، بينما كانت في ما مضى مرتعًا لأناس من شتى المنابت، يتعايشون في ألفة رائعة، دافئين وهادئين، مثل أسماك مضيئة، لا تكدّر صفوهم أطماع قبلية ولا إثنية.
شاهدت على مدى عزلتي أفلاماً مختلفةً، سياسيةً وتاريخيةً واجتماعيةً أوروبيةً وأميركيةً، منها الفيلم السويدي “المهاجرون”، المنتج عام 1971، للمخرج يان ترول، وهو ملحمة درامية زاخرة بالشخصيات المؤثرة، والصراع الأخلاقي، والمواقف الإنسانية المتقلبة، تروي حكاية مزارعين سويديين فقراء، من مقاطعة سمولاند، تضطرهم ظروف حياتهم السيئة أواخر القرن التاسع عشر إلى الهجرة من قريتهم صوب ولاية مينسوتا الأميركية في رحلة بحرية وبرية طويلة، مليئة بالمشاق والمعاناة، بحثاً عن حلم الوفرة في القارة البكر.
كذلك فيلمٌ “الصيد” الدنماركي، المنتج عام 2012 ، للمخرج الدانماركي توماس فنتربيرغ، الذي يحكي قصة معلّم في روضة، منفصل عن زوجته، تكاد تتحطم حياته بسبب كذبة تختلقها طفلة من خيالها الواسع مفادها أنه تحرش بها جنسياً. لكن مديرة الروضة تتردد في تصديقها، أولَ الأمر، حتى تستدعي مسؤولها الذي يستجوب الطفلة، فتشيع في القرية “حقيقة” أن المعلم مريض جنسياً، ويجب على الأهالي الحذر منه، خاصةً أن الأطفال الآخرين صدقوا الكذبة، وراحوا يضيفون إليها من أخيلتهم.
وكان لا بدّ أن أشاهد فيلم “عدوى” الأميركي، المنتج عام 2011، إثر إحياء وباء كورونا شعبيته. وهو من إخراج ستيفن سودريرغ، وتدور أحداثه حول وباء ينتقل بفعل فايروس عبر اللمس والهواء، ومحاولات الباحثين والمختصين السيطرة عليه، والتداعيات السلبية له على النظام الاجتماعي، على غرار ما يحدث حاليا نتيجة لتفشي فايروس كورونا.
وآخر ما شاهدته فيلم الدراما النفسي الرائع “المنارة”، وهو انتاج كندي أميركي بالأسود والأبيض عام 2019، من إخراج الكندي روبرت إيغرز، مستوحى من قصة غير مكتـَملة للكاتب الأميركي أدغار آلان بو، ومستفيدا من أجواء مواطنه الروائي هيرمان ميلفل في روايته الشهيرة “موبي ديك”، وتجري أحداثه في القرن التاسع عشر حول حارسيْ منارة في جزيرة معزولة عن الحياة في (نيو إنجلاند)، أحدهما العجوز “توماس ويك”، الذي سكن المنارة أكثر من ثلاثين عاماً، والثاني شاب يُدعى “أفرايم وينسلو” مُساعد حارس المنارة المستجد، الذي كان من المُفترض أن يمكث أربعة أسابيع فقط، لكن الأمور تتطور، في إطار ميتافيزيقي غريب، ليتحول الاثنان إلى مهووسَين بسبب عاصفة هادرة تضربهما وتفقدهما صوابهما. ثم تسود الكراهية بينهما عندما يرفض العجوز السماح للشاب بالوصول إلى قنديل الضوء في الأعلى، إذ كان يرده دائماً بقوله إنه ينتمي للضوء والضوء ينتمي إليه وحده، لكن ذلك كان ينمي داخل الفتى اليافع الفضول الذي يدفعه إلى تحقيق رغبته في عزلة ذلك المكان القصي.
وقد حاول بعض النقاد إسقاط شخصيتَي الفيلم على شخصيتَي “برومثيوس” (سارق النار) والإله “زيوس” في الأسطورة الإغريقية، لكن نقاداً آخرين لم يجدوا مسوّغاً لهذا الإسقاط، خاصةً أن الفيلم واقعي حصلت أحداثه في القرن التاسع عشر. كما أنهم رفضوا إدراجه في خانة أفلام الرعب لمجرد وجود حالة توتر مرعبة في العلاقة بين الحارسين وتصاعدها.
كاتب من العراق
——————————-
رسائل إلى كائنات المستقبل/ نوري الجراح
هل يجوز لنا منذ الآن أن نطرح السؤال عن الما بعد.. ما بعد كورونا، بينما نحن في قلب الجائحة الكبرى التي عصفت بكوكبنا؟
هل نحن في قلب عملية تغيير قسرية كبرى فرضتها وتفرضها علينا الجائحة؟ تغيير في علاقتنا بأنفسنا؟ تغيير في علاقتنا بالآخر.. الآخر قريباً وبعيداً؟
ماذا بعد أن يقال لنا، مبكراً أو متأخراً، يمكنكم الآن أن تخرجوا من عزلاتكم في البيوت هل سنكون نحن أنفسنا التي عرفناها قبل أن نلوذ بالبيوت؟ هل سيكون الشارع نفسه، والمقهى نفسه، والمطعم ومحطة الباص والقطار والسوق؟ كيف ستكون علاقتنا بالآخرين الذين ابتعدنا عنهم وابتعدوا عنا متوجّسين واحدنا من آخره؟
كيف ستكون علاقتنا بأجسادنا، وبجسد الآخر، وما مصير ذلك الهارموني التلقائي الذي يجمع هذه الأجساد في مهب الحضور الإنساني في الجوار، وتحت الأبصار؟
كيف سيكون شكل الحب؟ ما الذي سيبقى من فكرة الحب بينما الحذر ربقة تقود الكائن بعيدا عن عفويته وأريحيته الطبيعية بإزاء الآخر؟
ما الذي سيبقى منا، من طرائقنا التي اعتدنا عليها؟ من عاداتنا؟ من تلقائيتنا في التفاعل مع الآخر؟
كيف سيكون شكل عالمنا، في المستقبل؟ ما هي تصوّراتنا عن فكرة العمل في صيغها وتجلياتها الجديدة، بينما العمل مرتبط بالآخرين؟
كيف سيكون شكل التواصل والتفاعل المجتمعي في ظل علاقات القوة والضعف والخلل في المعايير؟ كيف سنعبّر عن أنفسنا كأفراد ومجاميع وقد سلبت منا فرص التجمع لأجل الاعتراض على السياسات الظالمة؟ ما هي الحقوق التي ستبقى للأفراد في المنظومة الاجتماعية، وقد غابت إمكانات تجميع الأفراد في آصرة جماعية للاعتراض؟
هل يعقل أن تتحول الجائحة إلى لحظة تساوي بين الضحية والجلاد في مجتمعات غابت عنها العدالة وسلبت فيها الحريات، وبات الخلل معها لصالح المحتل والدكتاتور والفاسد؟
ما سلف كان قطرات في محيط من الأسئلة التي أخذت تطرق أذهاننا ومخيلاتنا، بينما نحن في مواجهة تسونامي الوباء، وقد تحول إلى طوفان حمل كل كائن إلى كهف، ولا يبدو أن في العالم من الكهوف ما يكفي الجميع للنجاة من الغرق.
وفي هذا العدد من الجديد استجابات لهذه الأسئلة، بعضها أخذ شكل المقالة، وبعضها شكل الخاطرة الأدبية أو القصيدة الشعرية، وأحيانا شكل اليوميات، وغيرها كلها يمّم جهة التأملات الفلسفية.
***
وإذ تقدم “الجديد” للمعتصمين في البيوت هذه الوجبة من ثمرات العقول والأرواح، إنما تتوجه في الوقت نفسه بالتحية إلى كل من آزرها بمواصلة الكتابة، ومواصلة المغامرة الفكرية والجمالية التي بدأناها معا قبل خمس سنوات ونيف، متطوّعين لحمل شعلة الكتابة الجديدة والمبتكرة والفكر النقدي الجريء، آخذين على أنفسنا الوعد في أن نشكل معاً المنبر الأدبي والفكري العربي الجامع، وقد أقام جسراً بين المشرق والمغرب، وبين المهاجر والمنافي ومن تبقّى في الأوطان من حملة الأقلام العرب دعاة الاستنارة والحداثة والتغيير الاجتماعي.
***
بمَ نصف هذه اللحظة الكونية التي يعيشها البشر ساكنة الكوكب، ولم يسبق لأيّ منا أن اختبر بنفسه ما هو أكثر شؤماً مما نحن فيه، مما نشترك فيه. إنها لحظة قيامية، لحظة كونية تنتمي إلى دنيا الأساطير والميثولوجيات أكثر مما تنتمي إلى دنيا الحقائق المنظورة، حيث العماء يغمر الأرض، والسراب يكذّب الأمل، وحيث كرونوس يبتلع أبناءه، وأورفيوس لا يتلفت إلا ليفقد حبيبته في غموض العالم السفلي، وإيكاروس يهوي من أعالي السماء وقد تفرط جناحاه، والنسور تنهش كبد بروميثيوس سارق النار من الآلهة.
لن يفوز جلجامش بعشبة الخلود، ولن ينقذ نوح البشر جميعاً، فثمة أرواح سيأخذها الطوفان، وأقدار ستكتب في ألواح البشر الهالكين عند الأبواب، وتحت أسوار المدن الناجية، ولكن متى يظهر الطائر فوق السفين، وتنحسر أمواج الوباء، وتظهر يابسة ما بعد الطوفان؟
هذا السؤال أبسط من أن يكون سؤال المفكر، فالمفكر لا يتأمل في المصائر والمصارع بوصفها حكايات أليمة وإنما يتأمل في رمزيات الفاجعة، وفي عزمه استخراج الدلالة الحية من الجسد التالف، والفكرة المبتكرة من تلك التي تهرّأتْ. فالمفكر نذر نفسه ليكون رجل الحوار بين الأفكار، وخطابه شرفة النظر جهة المستقبل. لذلك لا يضير المفكر أن يتجرع كأس السمّ، ما دام يرى في نسيج فكره ذلك الخيط الذهبي للسؤال وهو يطرق الأبواب بحثاً عن الحقيقة.
ولكن ماذا عن سؤال الفن والفنان؟ وفي خطوطه وألوانه، تخفق قلوب، وتنبض حيوات، وتتشكل رؤى، وتتلامح تصورات؟ ظاهرة لا مثيل لروعتها تلك الجداريات المنتشرة في شوارع العالم. مرة واحدة اتّحدت جدران العالم وأجمعت على الموضوع نفسه، فما إن توارى البشر في البيوت، ولم يعودوا يظهرون حتى في الشرفات، حتى امتلأت شوارع العالم بالجداريات، وقد صحبتها الصور، صور البشر في ما يعمر نفوسهم بالأمل، ويغمر أرواحهم بالأمل، ويطفح من التفاتاتهم بالحب. زحف الغرافيتي من هوامش الحياة في المدن إلى قلب المشهد، كاسراً فراغ الشوارع برسائل البشر للبشر، ومحتلا بالأمل مدن العالم.
لكن ماذا لو كانت هذه الجداريات هي آخر ما سيتركه البشر من دليل على أن بشراً كانوا هنا، يوما، في هذه المدن الخالية من كل حياة، وقد ظهرت بعد عقود وربما قرون، كائنات أخرى قد تكون مختلفة تماما عنا، أو هي من ضلع أفراد نجوا من نسلنا البشري، وهاهم يقفون في ذلك المستقبل البعيد على بقايا تلك الرسائل والرموز، محاولين فك شيفرة النداءات التي تركها وراءهم سكان سبق أن عاشوا على سطح هذا الكوكب!
أفكار وتخيلات وهواجس كئيبة.. نعم، لكنها ليست بعيدة كل البعد عن صيرورة كارثية للمسار البشري قد تنزلق بساكنة الأرض إلى عماء تلك النهايات.
لندن في 1 حزيران/ يونيو 2020
—————————
صناع الأعالي/ زاهر الغافري
9 قصائد
استيقاظ
أستيقظُ على باب الجحيم سكراناً من الأسى
من هذه الدودة العمياء التي تأكلُ ماضيَّ
بدليل اليد المبذولة
وهي تُطعمُ الحمامات
وتستنطق أرملةَ الريح.
أستيقظ في كلّ مرّةٍ
أمام قطعة الصمت
ناسياً ذراعي المشلولة في العراء.
الملاكُ لا يُصغي لغناء الوعول في الليل،
وحدها الساقية توزّعُ للضيوف خمرةً في خرائب المدينة.
لكن هل أنا آخر الآتين إلى باب الجحيم،
مترنحاً كمن يبحثُ عن سرير الله في الأعالي.
نفْس المكان
مرّة أخرى نأتي إلى نفس المكان
حيث ترسو القوارب أمام غضب الأمواج،
مرة أخرى نستفيقُ
كأن ماضينا مسوّرٌ
وأننا نجازف اذا تجاوزنا الجدار.
بأيدينا، بأنفاسنا نصنع الألم حتى لا يراهُ أحد.
أعرفُ أننا لن نموتَ
أنتِ وأنا بين خاتم النعاس
بعد أن رمينا التيجانَ إلى الملوك
لأنها ثقيلةٌ وخاليةٌ من الأسرار.
لنجعلَ من الأيام تلد أخرى
حتى يضربَ العُقابُ بجناحيه الكبيرين الآفاقَ
وهي تنتظر قدومنا.
يأتي الصوتُ مفتولاً كالحبل
ليخبرنا أن صبيّاً قتلهُ
القنّاصةُ وأن فتاةً توزع المناديلَ
سُفح دمُها على مرأى الجميع
مرةً أخرى نأتي إلى نفس المكان.
خشب الطفولة
لا، أنا لستُ من هنا،
كنتُ فارساً يخطف صبيّةً
على حصانٍ من خشب الطفولة ثم متُّ.
اذهب واطرق ذلك الباب
سيأتي إليك الصوتُ
لك وحدكَ من وراء القبر
لأنّكَ أتيتَ
لترى القطعة النقدية المحمولة بالهواء
وهي تسقط فوق طاولة الكتابة.
أجل إنه قرش ماري تيريزا الفضيّ
اذهبْ وخذه،
كنتُ أشتري به الآفاق قبل أن يولدَ العالم
لكنَّ الألمَ خاطفٌ في اجسادنا
ولا يمكن ترميمه
ثم أن المسافةَ بيني وبينكَ
تحملها عاصفةٌ وشيكة ستحتالُ عليك.
سيأمركَ الصوتُ لتصغي إلى ڤيڤالدي،
الفصول الأربعة
وعندما تحتار كأنكَ مضروبٌ بحربةٍ
في الصدر ستقول.
لا، أنا لستُ من هنا
كنتُ فارساً يخطف صبيّةً
على حصانٍ من خشبِ الطفولة ثم متُّ.
هنا والآن
لن تموتَ اللحظةُ حتى لو سافَرتْ
حتى لو قيل لي أنها تغادر
ولن تعودَ
فأنا أعرف
أنها مشدودةٌ بحبلٍ سريّ
يربطها بهنا والآن
كي نعيدَ معاً غزالةً إلى غابة
ثم نزرع عظام الميت فوق المنحدر.
كما لو كانت نبوءة في فم الأفعى
تظهر اللحظةُ لتكشفَ مصير
الارتحالات الكبرى.
يمسحُ العالمَ حفيفٌ من الأشياء الصغيرة
كأن شيئاً لم يحدثْ
من قبلُ ومن بعد.
في رأسي حالة من الدوار الخفيف
هل هو الأسى
يذكّرني بطفولتي،
الحجر الذي يسدّ الأبواب في الليل
بينما تخفقُ الرايةُ فوق جبلٍ بعيد.
إيروتيكا
هذا ما أردتُ،
هذه اللعبة السريّة المأخوذة من السفوح والسهول
من الأعشاب النابتة بين فخذيكِ
حيث يدور اللسانُ
على شكل لولبٍ
ضائعٍ بين الأنفاس
وهو يقبض نتوءاً صغيراً
يهرطق بين الطبيعة أو فوق السرير.
لن يقرأَ أحدٌ الظمأَ المتبادل في الرواق الاّي
تحت أضواءٍ خافتةٍ
كأنما الجوهرة تتفتح
لتشعَّ على عالم بأكمله.
الجسدُ من فرط النشوة يتلوى
مثل المحموم
وكلما استدارت العينُ
عرفتُ أن النورَ قادم من ألف سنة
متوّجاً بالزهرة والسرخس.
على باب الكهف
أتركُ المياهَ تتدفق بعيداً عن أعين الآخرين.
استذكار متأخر
هناك أصوات أتيني على ظهر الأبدية
أقاسمها حياتي.
أموات يبيعون الجمرَ والصراخ لليالي
القادمة في فصل الثلوج.
لا أعرف أن أسمّي ظلالَ من دخلَ إلى الغرفة.
هل العائلة لاتزال حيّةً،
هل أنا رجل وحيد وأعمى.
أذكر أنني كنتُ شاباً يسافر في
منتصف الألم تتلقفُهُ جهات العالم كلها.
لا بدّ أنني أضعتُ المفتاحَ في مكانٍ ما
في الطريق.
لا بد أنني أضعتُ ما كنت أترجّاه بالأمس.
يقول الأصدقاء: ها هي Batumi على مرأى
حجر جرّبْ هذا جرّبه إذن إذا أردتَ
لعينيك أن تستفيقا على إيقاع رقصةً
بيضاء مرشوشةٍ بالملح في البحر الأسود
وأنت تركعُ أمام آثار الليالي
كما لو كنتَ يوليسس يعود بسيفه اللامع إلى إثاكا.
الضيوف
يأتي الضيوفُ رجالاً ونساءً إلى بيتي
حاملين معهم غبارَ الأبدية،
موسيقى التانغو تعذّب أقدامهم بعد السكر.
يلتهبُ الجوُّ بسبب الرقص حتى تتراجع الكلماتُ
إلى الخلف وتضجَّ الصالةُ بكاملها كأنَّ
انفجاراً هائلاً قد يقع في أيّ لحظة.
أستطيع أن أرى عبر المرآة امرأةً وحيدة
وصامتة كما لو كانت تحلم بأصواتهم
التي ذهبتْ بعيداً.
هل هو الملاك الذي يحرسُ البيتَ عندما
يُشرق الموت من نافورة الحديقة
أم أنا رجل ثملٌ يرقص في ساحة الاوبرا في باريس.
من هنا أو هناك يعودُ الكائنُ ليصغيَ
ليصغي فحسبْ إلى دورة الأفلاك
قبل أن يلتحقَ بالحافة أمام نظر الراقصين.
بغداد
سنسلكُ معاً هذا الدرب من حافة
الباصات حتى معقل النجوم.
انظري
ها هي الحانة التي رقصنا فيها بكؤوس
النبيذ والغبار يتصاعد إلى الأعلى.
هناك أطلقت الرصاصات على شباب الحيّ
الجميلين.
أمسكي يدي بقوة
بعد قليل سنجتاز السياج
يقال إننا ولدنا هناك في أطراف الغابة
في مشتل أو بيت الأيتام. من قال هذا:
العسكرُ، مهمو القنابر والصيارفة أمسكي
يدي بقوة. صدري العاري وصدرك العاري
بحلمتين واقفتين سنأخذ اللؤلؤة.
شتاء
أحتاج إلى صدْفةٍ يتلاشى النهار فيها
ويلقي بردائه إلى الأعالي.
لا بأس إذا أتى
البرقُ من يدِ الريح فأنا رجل يشرب في
الحانات الأرضية وهي تمتثلُ لصيحات
القراصنة في آخر الليل.
أشربُ بنظرةٍ أو تحديقة ميدوزا وجسدي
يرتمي إلى الخلف أمام موجةٍ نهريةٍ
جمّدها الصقيع لكنّ دخاني يعود حاراً من
لسان النار الذهبية حتى تهتزّ الأرض
وتدور دورةً كاملةً ثم اسمع الصرخةَ
الأخيرة من آخر العالم.
تلك هي الصُدفة ذلك كل ما أحتاجه في هذا الشتاء.
شاعر عماني
—————————
كلامي المسكون بالغرباء/ مهى العتوم
شيزوفرينيا
سوف أكتب هذا الشتاء
أغاني عن الحب
مبلولةً
مثل قمصان عشتار
يمضي الشتاء
وتبقى الأغاني
كرسم البخار
على سطح نافذة باردةْ
ثمة امرأتان تحاورتا
في الخريف:
– لديّ مشاريع نيئة
في الكتابة
– لا تنضجيها
– مشاريع غامضة في القصيدة
– لا تكتبيها
اتركيها متبّلة في إناء التجارب
أكثر من ليلة
– ربما فسدت
– ربما أنها فاسدةْ
سوف أكتب
هذا الشتاء…
تديران ظهري
وتختصمان
على موعد النوم والصحو
والطبخ
أنظر من إبرة الليل
إحداهما ستنام
وتبقى التي فيّ
قائمة قاعدةْ
لحظة واحدة
إذا التقتا في القصيدة
قد تصبحان هنا امرأة واحدة
وقد تمطران على
جسد يابس.
********************
لحظة الشاعرة
لحظة شاردةْ
شاعرة عبرت من هنا
أعرف تلك الطريق
التي ضعتُ فيها
وما زلتُ أسلكها وأضيعُ
أمرّ إليها من الليل عزلاء
أنسى الرصاص الذي
ثقب النوم
أنسى الشتاء
الذي يجعل العاشقين نبيّينَ
أو شعراء
ولا أتذكر إلا حروف الهجاء:
سأرسم خطّاً يشير إلى البيت:
بيتي الكلامُ
الذي عشتُ فيه كأشجاره
أتسلى وأعلو
ونعّستُ شمس الظهيرة فيه
ونمت على بابه مثل أرجوحة
سوف يصبح بيتي كلامي
ويفرغ حين أموت
ويسكنه الغرباء
سأرسمُ خطين يعبر بينهما العمرُ
كالنهر
خيط رفيع من الماء
ألظم فيه الحصى
ويصير طريقاً
لشاعرة عبرتْ من هنا:
الحصى خطواتي
وتلك الخطوط على الماء
ما ظل مني
ومن كلماتي.
شاعرة من الأردن
————————–
ذئب كورونا/ عبده وازن
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
سقط قناعك أيها العالم
أقصد وجهك
سقطت نبوءاتك المزيفة
سقط فردوسك المصطنع الذي رسمته لنا
سقطت أكاذيبك التي أدمنتها علانية
سقطت أحلامك التي بلغت اقصى الكواكب
سقطت أوهامك اللامعة في ليلنا.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
وباء كورونا يفتك بأبناء الأرض
يحصد رؤوسهم كسنابل قمح
ينقض عليهم كما النسر على الفرائس
يعزلهم في الخوف داخل الأسوار
رياحه السامة تعصف في الأرجاء
أمواجه الآسنة تجرف الخرائط والتخوم.
تباً لك أيها العالم
يا من نسميك العالم الأول
تباً لترسانتك النووية
تباً لثورتك التكنولوجية الهائلة
تباً لأوهامك التي أغريت بها البشر
تباً لعولمتك المتوهمة
تباً لمختبراتك السرية
تباً لاختراعاتك الفائقة الخيال
تباً لما تسميه سباق التسلح
والذكاء الاصطناعي.
أهذه علبتك السوداء أيها العالم
تتطاير منها أشباح وهياكل عظم؟
أهذا صندوقك السحري
تقفز منه خفافيش وغربان؟
أهذه هي زهرة الغد تتفتح ذابلة كالشيخوخة؟
أبو كاليبس أبوكاليبس
جعلتنا نصرخ كالمعتوهين في مصح
ممنوع على الجسد أن يقترب من شقيقه الجسد
ممنوع أن تحضن الأم ابنها العائد
أن يتعانق حبيبان ولو في النسيم
ممنوع أن تصافح يدٌ يداً
الإنسان ذئب في غابة
الحياة فعل افتراضي على شاشة فضية.
أبناء آدم معزولون واحداً عن آخر
المرضى في الحجر كالسجناء
العجائز يُرمون على الطريق
كالمجذومين في التوراة
فليموتوا ما دام لا حاجة كي يعيشوا.
على شاشة التلفزيون
تصرخ امرأة إسبانية عجوز:
حرموا زوجي آلة التنفس
وأخرى في روما:
طردوني من سريري وأعطوه لشابة في الثلاثين
في باريس يلجأ المسنون إلى الموت الرحيم
وفي أسفل المعمورة
ترتفع صرخات استغاثة
سرعان ما يمحوها هواء الفضائيات.
أيتها البربرية الجديدة
إنني أسمع وجيب أناس
أسنانهم تصطك رعباً
سعالهم يملأ الهواء
الحمى تشعل أحشاءهم
وبأنفاس دامية يستغيثون
عيونهم متحجرة ذعراً
وراحاتهم منقبضة.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
الوباء الغريب
ينتشر في الأرجاء
الوباء الأسرع من البرق
الخاطف كألسنة اللهب
الوباء الذي لا وجه له
الأقل من نقطة
ينسل كالقشعريرة في العين
المتربص بنا كعدو لامرئي
يغلق الأبواب علينا
يعزلنا مثل أسرى العصور الوسطى
مثل مجانين المصحات
يرسم أمامنا طرقاً إلى المجهول
ويفتح العتمة على مصراعيها.
إننا قلقون كعادتنا
كما علمتنا أيها العالم
كما علمتنا مآسي تاريخك
كما علمتنا حروبك المتعاقبة
منذ أول فجر
منذ أول ليل
كما علمتنا غرائزك الدفينة
وحرابك المتكسرة فوق رؤوسنا.
إننا قلقون
يستبد بنا خواء معاصي الخائنين
عبث النظر إلى القبة الزرقاء
سأم اللاجدوى
كأن هاوية انفتحت أمامنا
على حين غفلة
لا وراء كي نرجع خطانا
لا بحر لنرفع أشرعة
لا صحراء نتوه في رمالها
عراة مثل أسلاف في أسطورة
كأن لم يكن ماض قريب أو بعيد.
إننا خائفون
المجهول على العتبة
وخلف النافذة تعصف ريح صفراء
ريح حمراء
ريح سوداء
إننا في عزلة قسرية
كل ما نراه أمامنا
كأنما وراءنا نراه
داخل الغرف
ليس لنا سوى نوافذ نقف أمامها
ليس لنا سوى شرفات نجلس عليها
تحت نور شمس باهتة
وفي الليل الطويل
عندما نملّ الشاشات المسمومة
عندما يقاومنا النوم
نستسلم لأحلام يقظتنا
للكوابيس التي تأتينا من جحيم.
في الصباح الذي يحلّ متثاقلاً
نفتح دفاتر النهار
نقلّب صفحاته المرسومة بأقلام الفحم
ومن قبة كنيسة مجاورة
تتناهى إلينا أصوات
تصلي يا أم الله
ثم نسمع الجرس بدقات كئيبة.
في الشارع ترتفع دعوات للبقاء في البيت
يطلقها ميكروفون سيارة الشرطة.
كم يشبه آخر الليل أول النهار
الساعات تتعاقب
الأيام تتشابه
الكوابيس تتشابه
الخوف من الآن
كالخوف من غد وبعد غد
الجائحة تجتاح بلا رحمة
كل دقيقة مصاب
القتلى لا تحصيهم أصابع ولا أرقام
الأرض خراب
الأرض رماد حرائق باردة
الأصقاع معزولة بعضاً عن بعض
جدران وأسيجة عازلة
السماء مهجورة لا تقطنها سوى غيوم داكنة
بوابات المدن مغلقة بأقفال من حديد
وفي الأقاصي ينتظر النازحون في العراء
لا أحد يفتح لهم كوة بين الأسلاك الشائكة
وفي بقع غير صغيرة
ما برحت المعارك مفتوحة
وساحات الدم والغبار
تتسع لمزيد من قتلى وجرحى
إنهم يتحاربون في هواء الكورونا الطلق.
على الشاشات الصغيرة نبصر العالم أجمع
العواصم جمعاء
المدن جمعاء
نبصر ما يعيث الوباء من خراب
في الأحياء والساحات
في المستشفيات الضيقة
في المصحات التي تكاد تكون بلا أسرة
على الشاشات نبصر أيضاً
علماء كباراً يعلنون عجزهم.
العالم قرية صغيرة حقاً
الجميع أبناؤها اليوم
تجار الأسلحة والسموم الكيميائية
العلماء النوويون الذين يخططون لمستقبل مجهول
الأثرياء غير الشرعيين
مهربو المخدرات
الساسة المتعجرفون الذين يحتقرون البشرية
سماسرة الحروب والمعارك.
قرية صغيرة حقاً
الجميع أبناؤها
حتى فقراء الأطراف المعدمة
المتشردون والتائهون بلا عتبات
الغرباء المضطهدون
المتضورون جوعاً
المتهالكون بؤساً
قاطنو الخيم في الأراضي الوعرة.
كلنا أبناء هذه القرية
الحاكمون والمحكومون
السادة والرعاع
الطغاة والضحايا
الأشرار والأنقياء القلوب.
قرية صغيرة
رايتها كمّامة ترفّ فوق السطوح
كمّامة تحلّق فوق عواصم المعمورة
فوق المدن المبعثرة على الخريطة
فوق ناطحات السحاب في نيويورك
فوق برج إيفل العالي
فوق ساعة بيغ بن
فوق آثار جدار برلين
فوق ساحة الكرملين
فوق سور الصين العظيم
فوق قبة كاتدرائية مار بطرس في الفاتيكان
فوق مدن الصفيح في العالم الثالث
فوق الخرائب والمقابر الجماعية.
كمامة واحدة ترفّ كغيمة
فوق صفوف البشر المنتظرين
في المنازل والمستشفيات والمصحات
كجنود مهزومين في حرب لم تبدأ.
أميركا أميركا
يصرخ ألن غينسبرغ في قبره
إنهم يدفنون موتاك الموبوئين في جزيرة مهجورة
رئيسك يبتسم كضفدع
يعدّ الضحايا في الصباح والمساء.
لوركا يصرخ في ضريحه المجهول:
إنياثيو إنهم يوارون الجثث في ملاعب الثيران
بعدما امتلأت القبور
وجوه غويا السوداء ترتاع في ظلمة متحف ألبرادو.
بودلير في مثوى البانتيون
يتأمل سأم باريس
بعدما فرغت شوراعها من أهلها الغرباء.
أندريا بوتشيلي يرتل آيفي ماريا
في كاتدرائية ميلانو المهجورة
بصوت مجروح يهز أرواح الراقدين.
الشاعر دو فو يبكي مع المنتظرين في أوهان
الذين لم يحصلوا حتى الان
على رماد امواتهم
الذين رماهم الجند في المحارق.
إننا نخاف
ننتظر معجزة تأتي من السماء
ننتظر أن يفتر ثغر الله عن كلمة
أن يكسر الله صمته الغابر
أن يرفع يديه فوق العالم
أن يدخل المختبرات فيصرخ العلماء:
وجدناه وجدناه
ليطمئن البشر وجدنا الدواء.
إننا نخاف
كأن ما يشبه النهاية هنا ولا نهاية
كأن ما يشبه الطوفان ولا سفينة
كأن ما يشبه الغرق ولا يمامة
ولا غصن زيتون.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
إننا قلقون
ننظر إلى العالم فإذا صحراء مقفرة
ننظر إلى السماء فإذا عاصفة تهب
كأنما اليوم الأخير يحل أمامنا
ولكن لا ملائكة ولا أبواق
بل أخيلة تتصاعد من أبواب مفتوحة
أشباح تعبر كما في سدوم
ولكن لا نار ولا غمام دخان.
إننا في بيوتنا نقبع كالسحالى
لا نجرؤ على الصعود إلى السطح
لا نجرؤ على الخروج إلى الحقل
إنها الأيام التي قيل فيها:
ويل للحبالى والمرضعات.
السكون من حولنا يبلغ أقاصي الغيوم
سكون يكتمل مثل قمر أرجواني
سكون ما قبل هبوب العاصفة
سكون ما بعد هبوب العاصفة
سكون أماسي الحروب
سكون المعارك بعد اختلاط الدم والرماد.
كل ما حولنا صامت
هواء الربيع الذي تأخر
السنونوات التي تفرد أجنحتها المقطوعة
الأشجار التي لا يُسمع لها حفيف
حتى النهار المشوب باصفرار الشمس
حتى الليل عندما يحل بالسر
عندما ينسحب أمام أشعة الفجر الأولى.
الخوف الخوف
ليس الخوف فكرة عابرة في الرأس
ولا صورة شعرية في قصيدة
ولا وجهاً قاتماً في لوحة
ليس خوف محكوم بالإعدام
ولا خوف مقاتل في أوج المعركة
ولا خوف شخص يلقي بنفسه من شاهق
ليس خوف من يُخطف على حاجز
ليس خوف من يُساق إلى الذبح كنعجة
ولا خوف من يواجه كابوساً بعينين يقظتين.
الخوف الخوف
خوف الخوف من نفسه
خوف المجهول من المجهول
خوف في الوجوه والعيون
في ماوراء العيون
الخوف الخفي
الخوف الخاوي
الخوف المتلبد.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
إنني أخاف
أجلس على كنبة
أحدق من النافذة إلى زرقة السماء
أرنو إلى فراغ يتصاعد ربما من عينيّ
وقع العقارب في ساعة الجدار لا يُسمع
أصغي إلى ما لا أسمعه من أصوات
أبصر صخب الشارع من شدة خرسه
أنتظر كما لم أنتظر يوماً
أنتظر فقط
غيمة، ربما علامة ربما وجهاً ربما صوتاً
ربما نسيماً ربما عاصفة ربما ناراً.
أنتظر كما لم أنتظر من قبل.
لم يخيل لنا يوماً
أننا سنقول كنت جميلاً أيها العالم
أنّ كل ما كرهناه فيك جميل
أنّ كل قباحتك جميلة
أنّ وحشتك أليفة
أنّ عبثك عظيم
ما كان أجملك أيها العالم
قبل شهرين أو ثلاثة
قبل سنة قبل عقد من السنين
كأنك الآن أمسيت ذكرى عالم كان
كأننا الآن أمسينا أطيافاً لأشخاص كانوا
كأننا أمسينا أناساً افتراضيين في حياة افتراضية
الكمامات، أقنعة البلاستيك، كفوف الأيدي
والمطهرات التي نرشها كماء كولونيا
نظراتنا المرتابة بعضاً إلى بعض
مصافحاتنا بأيد كأنها مقطوعة
خوف واحدنا من الآخر
خوف واحدنا من ظله.
ما أصغرك أيتها الكرة الأرضية
تدورين حول نفسك
تدورين حول الشمس
لكن صباحاتنا باتت شبيهة ليالينا
والربيع الذي يشرق الآن
شبيه خريف لم يغادر.
اليوم في الرابع والعشرين من آذار 2020
بل قبله منذ شهرين وأكثر
أو بعده
كأنها نهاية العالم
كأنها ما يشبه نهاية العالم.
شاعر من لبنان
———————–
غرفة مكتظة بمقعد واحد/ سامر أبو هواش
وراء الأنفاس المهملة
في الشقوق
خريف ينسدل ببطء
من شقوق سقف آخر
يعاود البكاء
بلا سبب؛
عيون تجفّ
على ستائر
لم تعد هنا.
مساءٌ متعب في الصور.
شمس صغيرة
تولد بعد منتصف ليل
ليس لأحد،
منديل قديم
تطويه الأم بحذر
وتضعه بخشوع
على وسادة رجل
من أسف خالص
وتنهدات
وأنواع أخرى،
غير مرئية،
من الصمت.
***
مياه غزيرة في الأرق.
تربة معجونة بالحصى
حشائش يابسة
وكلمات تنجرف
من مساء إلى آخر
ومن فم لِعَين
أرصفة بادت
من كثرة النسيان
لكنها ظلّت هنا؛
نوافذ تومض
في عتمة شاخصة.
***
منذ أربعين عاماً
هذه المسبحة المتدلية كموجة
من مسمار صدئ
على جدار مزدحم
بالساعات:
عيون بلا ضوء
تحرس أشباه النائمين
وأولئك الذين انفرطت
أسماؤهم، منهم،
في الهواء.
***
هواء ومع ذلك
لا شيء يتحرّك
في الأشجار.
رجل على مقعد،
هو الآخر لا يتحرك.
ذاكرة تحاول أن تتذكر.
عينان تسيلان إلى الداخل.
كلمات لا تقال.
***
في الصور الميتة،
شيء ما يتألم بوضوح
لكننا لا نراه.
ما الفرق إذن،
إن كنا انتقلنا حقاً
من مساء إلى آخر
أو من مكان
إلى جرح؟
ما الفرق
إن كنا لم نتقدّم
طوال أربعين عاماً
إلا بمقدار لمسة
أو ذرة غبار
كنا نعرف، طوال الوقت،
أنها كانت هنا؟
***
الصيف كلمة.
واللمسة.
الغرف، في النهاية، ليست الجدران
لأننا مهما حاولنا
لا نجد طريقة
لنجمع، في كلمة واحدة،
الظلال والأنفاس
والمياه السريّة
التي ظلت تتدفق
بين حياتين مهدورتين.
***
الكلمات التي لم تقل شيئاً
الآن أيضاً، لا تقول.
أصوات مبهمة؛
ليل يترك لمسة خفيفة
على وجهك،
أبعد من وجهك،
في المكان النائي
من روحك.
***
رحيل يحدث في لحظته.
الصور التي فارقت
هي أيضاً الصور التي بقيت؛
أقف وحيداً
في نهاية رواق سرّي
حيث باب لا يتسع
لكلّ هذا الصمت،
حيث الأيدي ظلال صخرية
في برهة وداع طويل.
***
يد تنسى نفسها على النافذة
تصير، في الذكرى، غيمة.
يد تصير غباراً غير مرئي
على مقبض الباب،
على الطاولة.
الصورة على مقربة شديدة
من عينيك
تمحو بعضها؛
موسيقى تصويرية لنسيان
نسي
أن يُنسى.
***
ليلاً،
في حجرة الأمس،
أتنفّس برهات
من حياة،
ما زال غيابها
يتضاعف
في الهواء؛
يدي، في هذه العتمة،
تحاول أن ترى.
***
يتامى ضوء،
نقف منتظرين
كل ما لا يصل،
ما لم يصل يوماً؛
كلمات شحيحة
تسقط من جيوبنا
بينما نقطع الأيام
إلى شجرة البداية:
بيت، شارع، مدينة،
باب، نافذة، ستارة،
يد، عين، قلب،
جدار، لمسة،
قفر:
كلمات حصى على الطاولة؛
عيوننا التي
ما زالت،
من بعيد،
تحدّق بنا.
جارح هذا الهواء
جارح وأليف ويكاد، لبرهة،
أن يكون حقيقياً
كغروب في بيت بعيد
كالكنبات العجائز
وقد شُغلت
بأصحابها الغائبين
كشيء
يريد أن يُلمس
كلمسة
تريد أن تكون شيئاً.
***
كلمات ضالة تتشبث بالحجارة؛
يراعات بلا ضوء
تنحت عتمة هذا النهار
ثم تسقط
كالنظرات القديمة
التي تظل تسقط
في فراغ حجرة مكتظة
بمقعد واحد
للذكرى فحسب.
***
مع ذلك، أحياناً
شجرة وحيدة
تضيء شارعاً
مثلما داخل العين
صخب الظلال الغائبة؛
ومض غامض ينبض
بما هو متذكّر.
***
نتسلّق الكلمات
إلى مدن غارقة
في مياه لم تصل.
نتسلق الغرف إلى الكلمات
التي نحسبها أبواباً؛
نقف طويلاً أمام المفارقة؛
أحدنا يقول: “باب”
فيتحجر الهواء فجأة
على يد ممدودة
في الظلام.
أحدنا يقول: “صباح”
فيرتدّ غباراً
على عتبة باب يفضي
إلى جدار فحسب.
***
وجهٌ على كنبة. وجه أمام جدار.
في صورة فوتوغرافية.
في نظرة.
أو:
ماذا يفعل هذا الوجه هنا
حيث لا شيء
سوى بياض ضرير
في غرف نوم تقطنها الوحشة
أو الرطوبة
أو الصمت؟
أو:
وجهٌ ذاهل أمام نافذة
تعبر به الأشجار
ويظلّ كذلك، في ذهول
لا يطلب تفسيراً،
لأن نظرة واحدة
تكفي لاختصار حياة
كانت كثيراً
أو لم تكن.
***
شيء ما لا يصل.
كلمات كثيرة تفقد ضوءها
قبل أن تولد.
الصور صداع مقيم
في رأس معطّل
كحياة
من نافذة قطار
يظل يعبر
هذه الغرفة المقفرة.
***
رجل بلا نافذة.
بلا سماء.
رجل مع سيجارة.
رجل على مقعد.
أمام بحر.
يتحرّك قليلاً
فترتعش ستارة،
في حياة أخرى.
شاعر من فلسطين مقيم في أبوظبي
—————————————
فلاسفة الغرب في مواجهة الوباء/ أبو بكر العيادي
هل نحن اليوم أمام عالم معلَّق، أم عالم محطَّم، أم عالم متحوّل؟
يقف العالم خائفا أمام هذا الوباء الذي غيّر أنماط عيشنا وواقعنا الاجتماعي والتوازنات الجيوسياسية بشكل قد يكون نهائيًّا، إذ شلّ معظم الأنشطة البشرية، وعزل الناس أفرادا وشعوبا في حدود لا يتخطّونها إلا بإذن. والمفارقة أن العالم لا يعرف بالضبط مما يخاف. هل يخاف لأن الفايروس عابر للقارات، أم لأنه يشاهد آثاره كل يوم على شاشات التلفزيونات والهواتف الذكية، أم لأن دعاة نظرية المؤامرة يوهمونه آناء الليل وأطراف النهار بأنه أمر دُبّر بليل، في مختبرات النيوليبرالية في سعيها لمزيد امتصاص عرق الشعوب، وفي مختبرات القوى العظمى في حربها الجرثومية ضدّ بعضها بعضا، ولمَ لا ضدّ شعوب تعيش عالة على ما تنتجه تلك القوى. ولكن الأخبار تفنّد هذا الزعم برغم فيديوهات المستنيرين، فالعدوى عامة، تصيب الفقير والغني، المؤمن والكافر، العلماني والملحد. إن عدوى الفايروس وعدوى الإشاعات يعيشهما الجميع كلحظة ارتباك عالمية، يكتشف الإنسان خلالها أن التطور التقني أنساه أن مصير البشرية واحد، وأن الاستئثار بالثروة والأسلحة الفتاكة والقوة الاقتصادية المهيمنة لا تقي أصحابها ولا تضمن لهم النجاة إذا حمّ خطر كونيّ، كهذا الفايروس الذي لا ترياق له حتى هذه اللحظة. وهو ما يثير ضرورة تحديد سياسة صحية لمواجهة تهديدات كونية، ليس أقلّها الكساد الاقتصادي والبطالة وما يتبع ذلك من تحركات شعبية، وربما ثورات لتأمين القوت، وحروب للحصول على المواد الأوليّة.
المفارقة أن الفراغ الذي أحدثه كورونا بات يُملأ بالحديث عنه، وأن الشوارع فارغة بينما التواصل عبر المواقع الاجتماعية والإنترنت على أشدّه. حتى المؤسسات التي فُرض عليها إيقافُ نشاطها، لجأت إلى النّت لنشر موادها والتواصل مع روادها. من هذه الأحاديث ما هو عام يتداوله الناس في ما بينهم. ومنها ما هو صادر عن مفكرين لم يكتفوا بتحليل الأزمة وتفسير أسبابها، بل سعوا أيضا إلى استشراف المرحلة القادمة، لأن الوباء في نظرهم إلى زوال مهما اشتدّ.
يصف الجميع الأزمة بكونها عالمية، ولكن ما هو مفهومنا للعالم اليوم في ظل هذه التقلبات؟ يرى الفيلسوف الفرنسي مارك فوسيل أن العالم اليوم هو قبل كل شيء أفق اجتماعي مدرِك، طريقة لتنظيم الزمن والتأكيد عليه. العالم هو نظام حياتنا العادي المشترك، أفق الجدّة التي تحيط بها، وليس مجرد حفظها بيولوجيا. لهذا بات عالمنا، ولو مؤقتا، ملغى عن طريق الحجر. من ناحية أخرى، لا يكون ثمة عالَمٌ إلا متى استطعنا أن نستشرف المستقبل بكيفية مؤكدة نسبيّا، وهنا نلاحظ أن أصحاب القرار لا يعرفون كم ستدوم هذه الأزمة، ما يدفع كل واحد منا إلى إعادة خلق العالم في بيته، وهذا ليس أمرا هيّنا، وربما هو مستحيل لأن العالم يفترض علاقة مع الآخر. والمفارقة الحالية أننا مطالبون بأن نكون متضامنين انطلاقا من عزلتنا.
وهو ما عبّر عنه تقريبا الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران حين أكّد أن هذه الأزمة تبين لنا أن العولمة تبعية متبادلة دون تضامن. صحيح أنها وحّدت الكون تقنيا واقتصاديا، ولكنها لم تطور التفاهم بين الشعوب، فقد ظلت الحروب والأزمات المالية منتشرة منذ التسعينات، ورغم أن المخاطر الكونية (كالبيئة والأسلحة النووية والاقتصاد المختل) كانت فرصة لتوحيد المصير، إلا أن الوعي بها ظل قاصرا. وها أن هذا الوباء يضيء بشكل طارئ ومأساوي وحدة المصير هذه. ولكن بدل تضافر الجهود، انغلقت الدول على نفسها.
زميلته فرانسواز داستور حللت هي أيضا الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمة، وفي مقدّمتها العولمة التي أوجدت السياحة الجماهيرية، وفولكلورية الثقافة، والتسلية المتشابهة المتأتية أساسا من أميركا، والغلوبيش (إنكليزية التخاطب عبر العالم) بدل تنوع اللغات. والنتيجة أننا نحاول، في ثقافة التسلية، أن نهرب مما ينبغي أن يستحوذ على اهتمامنا، أي الوعي بما هو مهمّ بالنسبة إلينا ككائنات منذورة للموت. وتنصح بقراءة “الإنسان ذو البعد الواحد” لهربرت ماركوزه الذي ينتقد حصر إنسانيتنا في مرجعية وحيدة أنتجتها الصناعة الليبرالية، صناعة المستهلك وأنماط الحياة المتماثلة. فقد صرنا نتكلم بسرعة متزايدة، لأن الكلام حاد عن دوره الجوهري، أي التعبير عن الفكر وتبادل الآراء، ولم يعد يصلح إلا لنقل المعلومة. وترى أننا فقدنا بالحجْر مُتَعنا، ولكننا بتنا نجد الوقت للتفكير والنظر في إمكانية تغيير أسلوب حياتنا لنعود إلى زمنية ليست متقطعة ومندفعة، ما يسمح باستعادة زمنية أخرى، والعيش في الحاضر بصفة عملية، لأن الحاضر ليس فقط حدّا متلاشيا بين ما مضى وما لم يأت بعد، بل هو بعد جوهري يحتفظ داخله بكل ما فات ويستبق المستقبل، وهو ما عبر عنه هوسرل بـ”الحاضر الحيّ” تمييزا له عن “الحاضر الميت” الذي ينحصر في هباءة، هي اللحظة المقسّمة تجريديا على خط الزمن. لأن العيش في اللحظة بامتلاء يفتح الوضعية التي نشغلها في العالم، كي نتحمل أعباءها كما بيّن هايدغر.
أمّا الفيلسوف الإيطالي إيمانويلي كوتشا فقد توقّف عند الهلع الذي أصاب الجميع، ليبيّن أنه ناجم في جانب كبير منه من كوننا نكتشف أن أصغر كائن حيّ قادر على شلّ الحضارة الإنسانية الأكثر تطورا وتجهيزا من الناحية التقنية. هذه القدرة التحويلية لكائن لا مرئي ولّدت مراجعة عميقة لنرجسية مجتمعاتنا. ولا نعني بالنرجسية هنا تلك التي جعلت من الإنسان سيّد الطبيعة فقط، وإنما أيضا تلك التي أعطته قوة تدميرية مذهلة ما انفكّت تُخلّ بالتوازنات الطبيعية. وهو لا يدري أن قوة التدمير تلك، شأنها شأن قوة التوليد، موزعة بالتساوي بين سائر الكائنات، فكل بكتيريا، وكذا كل فايروس وكلّ حشرة، يمكن أن تحدث آثارا واسعة في العالم. بالفايروس ندرك أن تلك القوة الهائلة ليست رهينة ميزة جسدية أو طاقة ذهنية، فحيثما وجدت حياة، أيّا ما يكن موقعها في شجرة النشوء، نجد أنفسنا، كما في حالة الفايروس هذه، إزاء قوة قادرة على تغيير وجه الكوكب. وفي اعتقاده أننا لم نتمثل أبدا حدس داروين الذي لا يقصد أن الإنسان يتحدر من القردة، بقدر ما يعني أنه لا يوجد أيّ نوع خالص تماما، وأن كل نوع هو خليط من هويات جينية لأنواع أخرى سبقته. ولذلك نحن نحمل أثر تنوع الأشكال التي مرت بها الحياة قبل أن تنتج الشكل الإنساني.
وكنتيجة لذلك نجد أنفسنا مجبرين على عيش تجربة البطء والسريرة والاتزان، كما يقول الباحث الفرنسي فانسان مينيورو صاحب “نظرية إيكولوجيا الفكر”. صحيح أنه اتزان إجباري، وتراجع تنمية مفروض بقوانين، ولكن من الواجب أن نكون قادرين على الوعي باللحظة، وأن نمر إلى انحسار في التنمية نختاره ويكون تضامنيا ومتساويا. وفي اعتقاده أننا اليوم في وضع صحي ينبغي تقريبه من الطارئ الإيكولوجي، لأننا بصدد تدمير الحيّ ونظام الأرض بنسق متسارع. والواجب يقتضي فرض حماية البيئة بقرارات صارمة، ووضع حواجز لا يحق لأحد تخطيها. لقد ساد حتى الآن نموذج ليبرالي شرس، مع كل ما يعنيه من تجاوزات خطيرة، من الاحتباس الحراري إلى تمزق التنوع الأحيائي.
الاتزان هو ما ينصح به أيضا الفيلسوف الألماني هارتموت روزا، صاحب نظرية التسارع، وهو يدرك أننا في عالم قائم على التنمية، ولا نعرف كيف نخفف السرعة دون أن نفقد التوازن. وفي اعتقاده أن تفاقم الجائحة معناه إفلاس مؤسسات وتزايد البطالة، وربما انقطاع سلاسل التموين الغذائي، وفقدان المواد الغذائية، إضافة إلى أزمة مالية عالمية بدأت ترسم ملامحها. فهو يتوقع سيناريوهات كساد سوداء تعقبها أزمات اجتماعية وسياسية، كما أن أغلب المنظومات الصحية سوف تصاب بالعجز عن أداء دورها بالكامل. قد يكون تباطؤ الاقتصاد العالمي خبرا سعيدا بالنسبة إلى الطبيعة، ولكن من الذي يستطيع أن يغتنم ذلك؟ يقول روزا “آمل أن تفرز هذه الأزمة إصلاحا عميقا لمؤسساتنا وأساليب عملنا الاقتصادي، ولكني أراهن على أن كل بلد سوف يسعى جاهدا لاستعادة التنمية المفقودة، فور نهاية الوباء.”
وهذا ما شغل المفكرين كلهم، فالسؤال الذي يتردد الآن هو “هل سنعود إلى عالم ما قبل كورونا أم أن ثمة إعادة صياغة له؟”.
لا يخفي فانسان مينيورو خشيته من أن نعود إلى ما كنا فيه، ولو أنه يرى في هذه الأزمة فرصة لإعادة الحياة الإنسانية إلى حال لا تكون فيها “واحدية الأبعاد”، حيث الطاغي الآن هو الاستهلاك المفرط، وإخضاع الفلاحة للآلة، والرضوخ لقوانين السوق. “هي فرصة لكي نعود كما كنا، ليس كمجرد حيوانات عقلانية ظنت أنها قادرة على سيادة العالم، بل ككائنات منذورة للموت”. أي أن يقتنع الفرد، كما قال هايدغر، بأنه كائن لأجل الموت أساسا. وهو ما يحتّم علينا التوقف عن البحث عن الخلود لكي نقيم في العالم بحق، ونحرسه بدل أن ندمره.
مارك فوسيل أيضا عبّر عن مخاوفه من العودة إلى نقطة البدء، فقد ذكّر بموقف الزعماء عقب الأزمات السابقة، وادعائهم بألا شيء سيكون كما سبق، وأننا دخلنا إلى عالم ما بعد الأزمة، قبل أن تعود الأمور إلى سالف عهدها. قد يكون الأمر مغايرا هذه المرة، ولكن ذلك مرهون بالتحولات التي سوف تحدث. إذا كان سيعاد النظر في الأيديولوجيات الإدارية، والتصورات الإنتاجية المناهضة للبيئة فذلك مقبول، أما إذا كان طابع الوضعية المأساوي والخوف الذي تولّده سيقوداننا إلى اتخاذ إجراءات أمنية وبيوأمنية معززة، فنشرع في امتداح النموذج الصيني كنموذج يفوق الديمقراطيات، بمعنى إذا دامت هذه الفترة من الحجر ووضع أدوات مراقبة رقمية وتفتيش للمواطنين فإن الـ”ما بعد” سيكون حتما أفظع حتى من الراهن. وهذا يحيلنا على إشكالية فلسفية كلاسيكية: هل ينبغي أن يغدو الظرفي معياريّا؟ إذا عممنا هذه القاعدة على الكون كله وصار الناس يتوجّسون من بعضهم بعضا، فإن ذلك سوف يفتح عهدا من الشكوك ويمنع خلق عالم يضمّ الجميع. ولكن فوسيل يتهيّب ما للرأسمالية من قدرة عجيبة على الارتداد، فحيثما وُجد طلب، سعت جهدها كي تنتج نوعا من العرض. ولا يمكن في اعتقاده أن نبني سياسة كونية انطلاقا من مخيال حياة بورجوازية عائلية هادئة.
أما فرانسواز داستور، التي تعيش عزلتها رفقة زوجها في بيت بأحد الأرياف الفرنسية، فتعتقد أن الوقت حان كي نفهم أن السِّلم الاجتماعية يمكن أن تستند إلى قيم غير قيم الاستهلاك الجماهيري. ومشروع مارشال الذي وضع أوروبا في ما أسماه أستاذ العلوم السياسية سيرج أوديي بـ”العصر الإنتاجي” بات من الاحتمالات القديمة، ومن الممكن أن يبحث المرء عن سعادته في مكان غير السوبرماركت. ينبغي، مباشرة بعد نهاية الأزمة، تغيير العرض التجاري بصفة جذرية، وتغيير وسائل النقل البرية والجوية على حدّ سواء. وهذا ليس طوباويا بل هو اختيار سياسي. وفي رأيها أن من الخطأ أن نقول إننا قادرون على تغيير نمط حياتنا، وتخفيض إنتاجنا، وأننا سنفعل الشيء نفسه إزاء الاحتباس الحراري فور نهاية الأزمة، فقد دلت التجارب أن البشرية تتضامن حينما تكون في مواجهة خطر خارجي ليس من صنعها، أما ما تتسبب فيه هي فهو أمر داخلي لا ترى غضاضة في استمراره. وفي رأيها أن الحضارة الصناعية يجب أن تتجند ضد نفسها.
وأما عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل غوشي فقد كان، مع الفيلسوف الإيطالي جورجو أغامبين، من المعترضين على الحجر الصّحّي، إذ اعتبر قرار الحكومة نوعا من مصادرة الحريات. وهو إذ يعترف بألا أحد بوسعه أن يتكهن بضخامة الحدث، وأن الهزة الثقافية والأيديولوجية كانت كبيرة، يعتقد أن الوباء أعلن عن موت العولمة الليبرالية، وأن مبدأ “التجارة الناعمة” الذي قيل إنه سيحل كل المشاكل أصبح لاغيا، ما يجعل البحث عن حلّ عقلاني على المستوى العالمي من أوكد الضرورات. وألحّ على ضرورة وضع برمجية سياسية جديدة.
الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك أيضا يوصي باعتماد إجراءات، ولكنها إجراءات قد يصفها بعضهم بكونها شيوعية، يقع تصوّرها على المستوى العالمي، كتنسيق الإنتاج والتوزيع خارج مواصفات السوق. ولكن لا يفوته أن يلاحظ أن من سخرية الأقدار أن نحتاج إلى إجراءات شيوعية للحدّ من مرض ظهر في بلاد يسيّرها حزب شيوعيّ. ويرى أن من واجبنا التخلي عن أيّ شكل من أشكال الحنين إلى شيوعية القرن العشرين، التي كانت أفظع من الرأسمالية، وابتكار أشكال من الأنشطة جديدة مركزة حول المشترك. ويتساءل “هل هي طوباوية؟ الطوباوية في نظري هو أن نتصور أننا يمكن أن نخرج سالمين من هذه الأزمة بكيفية أخرى”. ويختم قوله مستشهدا بما قاله مارتن لوثر كينغ منذ أكثر من نصف قرن “ربما جئنا في سفن مختلفة ولكننا اليوم على متن سفينة واحدة.”
ولعل خير من لخّص الوضع ورسم آفاقه العجوز الحكيم إدغار موران إذ أكّد أن الفايروس يقول لنا بشدة إن الإنسانية قاطبة ينبغي أن تبحث عن طريق جديدة، أن تتخلى عن النظرية النيوليبرالية لتعقد صفقة جديدة، سياسية واجتماعية وإيكولوجية. طريق من شأنها أن تحمي وتعزز المرافق العامة كالمستشفيات التي خضعت في أوروبا إلى تخفيضات مذهلة منذ أعوام؛ ومن شأنها أيضا أن تصحح آثار العولمة بخلق مناطق غير معولمة تحفظ استقلالا ذاتيا في مجالات أساسية، كالغذاء والصحة، فلا يعقل أن تصنع أدوية الأوروبيين في الصين أو الهند، وتُنتَج أغذيتهم في ما وراء البحار. يقول موران “ستتأثر إمكاناتنا الاستهلاكية، ولكنها ستكون فرصة كي نراجع إدماننا على استهلاك مواد لا فائدة منها، فنتخلص من الكمّ لحساب الكيف، حفاظا على صحتنا”. وفي رأيه أن الحَجْر الصحي سوف يساعدنا على إزالة ما يضرّ بنمط حياتنا والبحث عن حاجاتنا الأساسية كالحب والصداقة والحنان والتضامن وشعر الحياة. وكعادته، بدا ذا نظرة إنسانية كوسموبوليتية وهو يقول في ما يشبه الوصية “إذا لم نَع أن مصير البشرية واحد، ونعمل على تغيير الفكر السياسي وممارساته، فإن الأزمة ستزداد تفاقما على المستوى العالمي. إن رسالة الفايروس واضحة، والويل لنا إن لم نفهمها.”
كاتب من تونس مقيم في باريس
الجديد
——————————–
أساطير معاصرة.. حرب الكينا والكورونا في نيكاراغوا
ما إن أعلن أحد الأطباء عن أهمية استنشاق أوراق الكينيا المغلية للجهاز التنفسي ومقاومتها لفايروس كورونا، حتى هرع كثيرون لقطف الأوراق من الأشجار المزروعة في شوارع العاصمة النيكاراغوية مناغوا، وبيعها للمارّة. أبدت المعارضة اهتماما بكل ما يُثبت انتشار الفايروس على عكس الرواية الرسمية، متجاهلة المعايير والمحاذير في التعامل مع الطب الشعبي. وهكذا، ساهمت في تأكيد فعاليّتها. ونكاية بالمعارضة لاحقت الشرطة البائعين وحمّلتهم في سياراتها مع بضائعهم “المصادرة” وكأنها شحنات من المخدرات، بحجة الحفاظ على البيئة وحماية أملاك الدولة.
على مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت أوراق الكينيا “ترند” ومجالا لتبادل الضربات بين الحكومة والمعارضة التي تساءلت: ماذا عن قطع ذوي النفوذ لآلاف الأشجار لبيع أخشابها بطرق غير قانونية ولحساب بعض الشخصيات الفاسدة في الحكومة؟ وفي حين انتشرت صور الشرطة وهي تقبض على “قاطفي أوراق الكينيا” غزت مواقعَ التواصل صورٌ لشاحنات محملة بجذوع الأشجار المقطوعة، تمرّ بسلام.
الرئيس قام، حقّاً قام
ببطء، اعترفت الحكومة النيكاراغوية وعلى رأسها الرئيس دانييل أورتيغا بوجود إصابات بالفايروس. وبعد اختفائه (الرئيس) لأكثر من شهر منذ بدء انتشار أخبار الفايروس، حتى تناقل المواطنون إشاعات موته.
ظهر الرئيس بعد عيد الفصح مباشرة ليدحض تلك الإشاعات. ثم أعلنها صراحة، لا إغلاق ولا حجر صحيا. للرئيس مبرراته، فالموت لا يأتي على شكل كورونا فقط.. “قد يتصارع اثنان فيقتل أحدهما الآخر في السوق، أو قد يأكل أحدهم إجاصة من شجرة مرشوشة بالمبيدات، فيموت!”
أوصاف جديدة برزت لوصف الحالات المصابة، منها “حالة اتصال مستوردة” لإثبات أن نيكاراغوا خالية من الفايروس والحالات المصابة من الخارج. ووصفٌ آخر للحالات المصابة “وضعها معقّد لكنه مستقر”، “وضعٌ مستقرٌّ ومُراقب” أو “تحت المسؤولية والعناية” و”تحت العناية والرصد المسؤول المستمر”. وفي محاكاة ساخرة لتلك المصطلحات، يعلن النيكاراغويون عن موت أحدهم بالقول “ميّت لكن حالته مستقرة”. البعض يلمّح إلى أن هذه المصطلحات ليست نتاج متخصصين في الطب والصحة بل قادمة من نائب الرئيس وزوجته روساريو موريّو وهي أصلا شاعرة وكاتبة.
كلما نقصت المعلومات، زادت الإشاعات. وقد باتت المقاطع المصوّرة لسيارات تحمل من قضوا بالفايروس إلى المقابر ليلا، تتكاثر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وسائل الإعلام المعارضة لا تتوقف عن نشر هذه المقاطع وإجراء لقاءات مع أطباء وخبراء صحة يشددون على ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر حزما ويشككون بالأرقام التي تعلنها الحكومة، والتي قفزت من 14 حالة مصابة منذ شهر أبريل إلى أكثر من 100 حالة شفاء من الفايروس قبل أسبوع. وقد اتهمت الحكومة تلك الوسائل بفبركة المقاطع المصورة للتحريض ضدها.
طرق تعامل مختلفة
وعلى منوال المقولة الأشهر لماري أنطوانيت “إن لم يجدوا الخبز، فليأكلوا البسكويت”، انتشرت مقولات تنسب للسيدة الأولى، روساريو موريّو، تسعى فيها لطمأنة النيكاراغويين إلى أن أمرا لن يصيبهم، لأنهم معتادون على شراب نوع من المشروبات الروحية رخيصة الثمن وذات نسبة كحول مرتفعة، فإذا كانوا يتحملون ذلك المشروب، فسيصمدون أمام الفايروس، أو المقولة المنسوبة إليها بأن البطل النيكاراغوي القومي أوغستو ساندينو (1895 – 1934) يحمي نيكاراغوا.
كلٌّ على طريقته، كان مستعدا لمواجهة الفايروس. بعض الكنائس أكدت أن “من آمن بيسوع لن يصيبه شيء”، وعليه جهزت الزيوت والمياه المقروء عليها من الإنجيل. وعلى ذكر المواجهة، فقد نظَّمت الحكومة مظاهرة في مناغوا ضد الفايروس تحت شعار “بالحب، نقاوم الفايروس”. وكانت قد شجّعت الناس للخروج والاحتفال خلال أيام عيد الفصح.
وفيما الفزع يعمّ الأرجاء كان دون لويل الجنايني، هادئا كأن الأمر لا يعنيه، ينصحه الآخرون بعدم الخروج من المنزل وهو يقترب من الثمانين عاما، هو يردد أنه عاش حياته كاملة ولا يطمح بالمزيد.
وهي المرة الأولى التي أرى فيها الفزع في عيني جوهانا المعاونة المنزلية منذ 16 عاما، أي منذ وصلت نيكاراغوا. ظلّت تتابع الأخبار عن كثب، وكانت قلقة بشأن وفيات إيطاليا، ثم زاد قلقها حين أصبحت مدينة غواياكيل في الإكوادور بؤرة انتشار الفايروس. شاهدتْ على التلفاز جثثا ملقاة في شوارع تلك المدينة وتوابيت كرتونية تنقل الجثث، وجثثا تُحرق. تناولتْ المهدئات وتفاقمت لديها حرقة المعدة. قالت لي إنها لا تفهم لماذا لا يدفن الناس موتاهم في بيوتهم بدل انتظار السلطات التي تتأخر أو لا تصل أبدا في غواياكيل، ثم نظرتْ باتجاه حديقة البيت الخلفية وأردفت: على الأقل لدينا مكان نُدفَن فيه.
كاتبة ومترجمة من فلسطين مقيمة في نيكاراغوا
——————————-
تجمعهم القهوة ويفرقهم فيسبوك/ هيثم الزبيدي
نعاني هذه الأيام من “التباعد الاجتماعي”. صار لزاما على الجميع الإبقاء على مسافة من الآخرين. كورونا فرض واقعا اجتماعيا جديدا. ثمة إجماع بأن هذا الواقع مزعج وأنه لن يدوم. هناك حركات احتجاج ضده وهناك ما يكفي من التمرد على السلطات التي تسعى لفرضه. الإنسان، الكائن الاجتماعي، يريد أن ينجو بأهم إنجاز حققه على مدى العصور: المجتمعات.
“التباعد الاجتماعي” مبرر بالخوف من المرض ومن الموت. المرض والموت رعبان دائمان في تاريخ البشرية. ثمة جهود جبارة بذلتها الإنسانية للإتيان بعلاج لكل مرض. وثمة جهود عقلية متواصلة للاستئناس بالإيمان وتعليق الأمل على القيامة ما بعد الموت. الثورات العلمية والصحية والفكرية تدور في فلك الحرص على البقاء. لكن هذا البقاء لا شك غير مرتبط بالعزلة، أي ليس البقاء لغاية البقاء، بل بنوعية الحياة التي نحياها بين الناس. لعل هذا هو مبعث فكرة “التقارب الاجتماعي” التي نريد أن نفرضها للرد على رهاب “التباعد الاجتماعي”.
لكننا ابتدأنا “التباعد الاجتماعي” منذ عقود. التباعد الحالي هو مشهد مرتبط بالوباء. لكن مظاهر التباعد معنا صارت مرسخة وتعيد صياغة حياة الناس كل يوم. كل خطوة سلوكية جديدة تنشأ بوجود تقنية حديثة، سنجد فيها الفردانية والذاتية وفرض المسافات.
مشاهد “التباعد الاجتماعي” واضحة. قد لا يحس بها العربي الذي يعمل في مدينة عربية مزدحمة. ستوهمه أفواج الناس التي تستخدم وسائل النقل العامة بأنه قريب من الجميع. لكن الصورة تتضح أكثر في المدن العربية ذات الكثافة السكانية الأقل، أو في المجتمعات العربية المغتربة.
نبدأ من الغربة. في المدن الغربية الكبرى كان هناك شيء اسمه “الجالية”. هذه الجالية كانت تلتقي في مناسبات واجتماعات. كانت هناك أندية اجتماعية عربية، وكانت هناك ملتقيات دورية لبحث مختلف القضايا. كان البعض يتعمد الحضور في هذه الترتيبات لكي يعطي أولاده الفرصة للقاء أولاد الآخرين، ليتعارفوا، بل ويتزوجوا من “أمثالهم” من عرب أو من جنسيات محددة. جاءت الفضائيات، ففرضت تكاسلا في الحضور. صار المغترب جزءا من مجتمع عراقي أو مصري يشاهده على شاشة الفضائية. ثم جاءت الإنترنت لتمعن في شق الجاليات على أنفسها، ولتبدأ الأندية الاجتماعية والجمعيات والتجمعات بالتآكل. مع وصول تقنيات الشبكات الاجتماعية، وخصوصا فيسبوك، إلى كل كمبيوتر وكل أيباد وكل هاتف ذكي، كانت تلك التوليفات الاجتماعية قد انتهت وحل “التباعد الاجتماعي” بديلا عنها. “التقارب” اليوم هو “صداقة” على فيسبوك. وبين حين وآخر، تأتيك مبادرة للّقاء الحقيقي، في مقهى أو جمعية أو ندوة، وعادة لا تأخذها محمل الجد. لعل التجمعات الدينية في المساجد والكنائس كانت القليلة القادرة على الصمود. لكن حتى هذه التجمعات سيتحدث لك الأصدقاء عن صعوبة إقناع الأجيال الشابة بالذهاب وأداء الصلوات أيام الجمع والآحاد، بل وحتى الأعياد.
المشهد في دول الاغتراب واضح. لكن جرّب أن تركز أكثر في المشهد ببلداننا. هناك مجالس للقاءات. إما مجالس في المقاهي والكافيهات والمولات، كما في دول شمال أفريقيا والهلال الخصيب، أو مجالس الرجال أو النساء في البيوت في الخليج. سترى الناس يلتقون. يتبادلون الأحاديث ويشربون القهوة والشاي معا. بعد قليل ينصرفون إلى متابعة آخر البوستات والتغريدات على هواتفهم الذكية. يبتسمون للشاشات أكثر من تبادل ابتساماتهم مع من يجالسهم في المقهى والمجلس. التقارب الاجتماعي هنا شكلي، لأن الجميع يمارس نوعا من التباعد الاجتماعي الافتراضي. تحتاج إلى شخصية كاريزمية تشغلهم في حديث، أو إلى مباراة ساخنة لكرة القدم تجبرهم على الانقطاع عن التحديق في شاشات الهواتف. تجمعهم القهوة ويفرقهم فيسبوك.
التباعد الاجتماعي” كوصفة حكومية للحفاظ على الصحة العامة وتجنب الإصابة بالوباء بالتأكيد مزعجة. لكننا كنا مستعدين لها تماما وانسجمنا معها من أول أيام العزل والحجر. لو أن أحدا قال قبل كورونا إن بوسعك أن “تأسر” أكثر من 7 مليارات إنسان في منازلهم لأشهر، ما كان بوسعنا تصديق الأمر. لكن هذا ما حدث بالضبط لأننا “متباعدون اجتماعيا” منذ وقت ليس بالقصير.
أسمع الكثير من الأصوات الآن التي تتحدث عن العمل عن بعد وعن الاستغناء عن المكاتب وعن وظائف بمنظومة عمل أساسها التطبيقات الإلكترونية. هذا كله مفيد، لكنه لا يغني عن الجلوس سوية والعمل سوية والمشاركة الوجدانية سوية. هذا التفتت الإنساني غير مقبول. نحن نضيّع أجمل ما أنجزناه خلال عشرات الآلاف من السنين: أن نأنس لبعض وأن نتفاهم.
“التباعد الاجتماعي” الالزامي لعله فرصة لإعادة النظر في “تباعدنا الاجتماعي” الاختياري. العالم الافتراضي جميل وممتع وباعث على الكسل. لكننا كائنات اجتماعية نكتسب قيمتنا وقوّتنا من التقارب مع الآخرين. نحتاج إلى التقارب من جديد وإعادة تعريف كنه العلاقة البشرية مع الآخر.
كاتب من العراق
——————-
كلام الجدران/ العربي رمضاني
هذه الجدران تنبئنا من الآن، بأن ما بعد كورونا هو فصل جديد لا بد أن يحدث لأنه يطوي فصلا آخر من حقبة دقيقة وغير طبيعية في حياة البشرية التي خضعت لسلطان الخوف والحيطة من وباء غير مرئي نسف سيرورة الحياة وفرض جمادا مخيفا لم يتبدد بعد، والأهم من ذلك أنه سيفرض عمليات تغيير شاملة تجاه علاقتنا بأنفسنا ونظرتنا للحياة والآخر.
العودة إلى الحياة الطبيعية حيث الحرية التامة والاحتكاك البشري والعلاقات الاجتماعية مهما تأخرت أو طالتها تلك الريبة وبعبع الجائحة والموت لن تعود بتلك السرعة، ستبقى هناك مسافة وهمية تعزلنا عن الانغماس في ضوضاء المدن وزحمة الطرق وجلبة الأسواق ومحطات النقل، بالنسبة إلى من اختار حجرا صحيا منضبطا واعتزل لشهور في منزله لا أعتقد أنه سيغامر ويقتحم بسرعة الحياة، هاجس الخوف سيبقى يتبرص به إلى حين، والأمر برمته ينسحب على كافة أنماط العيش السابقة حيث العفوية التامة في الحياة بلا توجس أو خشية من جائحة لا ترحم.
في غياب لقاح مضمون النتائج يهزم الوباء ويبدد هلع البشرية وانطواءها على نفسها واستسلامها للعزلة، أتصور أن الدفء الإنساني بحميمية العلاقات الاجتماعية وسطوة الحب المتعالي عن كل الموانع سيتضرر، قد يحدث نوع من التريث ووضع جملة من الاعتبارات الوقائية عند الخوض في هكذا علاقات وجودية عفوية، سيبقى ذلك الحاجز قائما إلى حين وتبقى تلك الغربة الباردة بين الأرواح والأجساد سواء كانت قريبة أو بعيدة، ومعها يتأجل شغب الوجود وتجليات الاجتماع البشري حيث الذات فاعلة مخترقة الجماعة ومتفاعلة معها.
كيسنجر يتحدث عن عالم جديد قيد التشكل أو عالم ما بعد الجائحة، ربما لسياسي مخضرم رؤية استراتيجية وجيوبولتيكية باردة تهتم برسم الخرائط وطبيعة المحاور والأقطاب، لكن إنسانيا يبدو أن شكل العالم من خلال طبيعة التغير الذي طرأ على أداء الفعل البشري خلال الأسابيع الطويلة التي اعتزلت فيها البشرية هربا من الموت، يبدو أن هناك تغيرات جوهرية ستحدث وبدأنا نرى تجلياتها، خاصة في ما تعلق بفكرة القُطرية والانعزال وبروز الأنا الوطني المُتضخم وهو يصادر شحنات كمامات قبل أن تصل إلى أصحابها، ثم فضلا عن ذلك التهاوي المريع لفكرة قام عليها النظام الدولي الحالي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وهي العولمة باعتبارها أهم منجزات نظام ما بعد الأقطاب، فضلا عن ذلك سوق العمل هو الآخر شهد تغٓيرا في نمطه، بإستثناء الأعمال الشاقة أو اليدوية، بقية القطاعات تم تعويضها بعدد محدود من العمال ويؤدون مهامهم من منازلهم دون الحاجة إلى الالتحاق بمقرات عملهم.
أهم ما أفرزته الجائحة طبيعة التواصل بين الأفراد والمجتمعات، في غياب التجمعات المعتادة في الأماكن العامة أو الجامعات والمؤسسات وغيرها، تم تعويض ذلك بالتواصل عبر النت والمحادثات الجماعية لمناقشة وضع ما أو الترويح عن النفس وكسر العزلة، كل هذا سحب من الناس حقهم الطبيعي في الاحتجاج والرفض ومناوءة سياسات الأنظمة وفضح رجال السياسة والتحريض ضد الفساد.
الفضاء العام بات مهجورا والساحات والشوارع التي تحتضن المحتجين وتزعج رجل السياسة أصبحت تحت مراقبة رجال الأمن، وحركة الأفراد خاضعة لسلطة الشرطة وحرمان من التجمع تفاديا للعدوى، والخشية من استمرار الحجر أن يقتل روح الرفض خاصة بالنسبة إلى شعوب ترزح تحت نير الاستبداد وسطوة الأجهزة الأمنية وقمع الأصوات المعارضة.
جائحة كورونا كانت هدية مجانية بالنسبة إلى الطغاة بسبب الحجر وإن كان صحيا في ظاهره، إلا أنه استغل أبشع استغلال لتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وتجذير الاستبداد وقمع حتى الأصوات المنددة برداءة الخدمات الصحية وإهمال الوضع المزري للناس.
كاتب من الجزائر
—————————-
الجدران تتكلم/ مخلص الصغير
الغرافيتي ينازل كورونا في الشوارع
تحتضن العاصمة الشيلية سانتياغو واحدا من أكبر معارض فن الغرافيتي في العالم. يحمل المعرض اسم “الشوارع تتكلم”، حيث تنطق شوارع المدينة كل سنة بسلسلة من الرسائل الفنية التي يلقيها فنانو الغرافيتي على شكل جداريات فنية معاصرة. واليوم، أصبحت كل شوارع العالم تتكلم لغة الفن، بعدما أقفرت وخلت من الناس، لينزل الفن إلى الشوارع من أجل مواجهة الوباء. فعبر كل الثورات والأزمات التي مرّت منها البشرية، كثيرا ما ترجّل فن الغرافيتي، بوصفه فنا من فنون الشارع، ليظهر فجأة في ميادين الحرية وعلى قارعة الطريق. وها هو الفضاء العمومي يتحوّل اليوم إلى “أغورا بصرية”، تحتضن حوارا فنيا صامتا بين الجدران.
قبل سنتين، تم عرض لوحة “الفتاة والبالون” لفنان الغرافيتي الشهير بانكسي في مزاد علني كبير أقيم في العاصمة لندن. وما أن استقرّ ثمن البيع على مبلغ كبير (مليون و400 ألف يورو)، حتّى كانت المفاجأة حين تقطع ورق اللوحة وتدلى مِزَقاً من إطارها، لتظل معلقة في الهواء. تبين في ما بعد أن تدمير اللوحة كان مقصودا من قبل مبدعها، وتم بفعل فاعل، حيث تم وضع قاطع ضوئي مخفي في إطار اللوحة. وبمجرد ما تم الإعلان عن بيع اللوحة، حتى ضغط أحدهم على جهاز للتحكم عن بعد، لتتمزق اللوحة من الداخل. توجد اللوحة الآن في متحف فريدر بوردا بألمانيا، وقد تضاعفت قيمتها أكثر بعد واقعة تدميرها. بينما يبقى بانكسي واحدا من أكبر فناني الغرافيتي مجهولي الهوية، وهو ما يزيد أعماله إثارة وسحرية، حين يعمل في خفية من الجميع، ثم سرعان ما يظهر فجأة، في هيئة غرافيتي جديد على أحد الجدران.
ما قيل عن لوحة “الفتاة والبالون”، إلى حد الآن، يكرر المقولات المؤسطرة للفن المعاصر، بوصفه خرقا وتدميرا للمعايير، وخروجا عن المألوف، ولعله كذلك بالفعل. لكن، ما هي الرسالة التي أراد بانكسي أن يتركها لنا؟ فنحن حين نعود إلى الفيديو الذي وثق للحظة تمزق هذا العمل الفني، سوف يظهر لنا ورق اللوحة وهو يتدلى من أسفل الإطار، قطعا وأوصالا متفرقة. تخرج الورقة من إطار اللوحة، مثل رسالة بالضبط، ويبقى الإطار في مكانه مثل ظرف بريدي كان يحمل تلك الرسالة. لكن كيف يمكن أن نقرأ الرسالة وقد تمزقت. لا شك أن قراءتها تقتضي، قبل ذلك، إعادة جمعها وترميميها، وربما إعادة كتابتها. والحال أن كل قراءة إنما هي إعادة كتابة من جديد، كما ذهب إلى ذلك رولان بارت.
للفن المعاصر تاريخ يبدأ بالخروج الأول، وهو خروج عن إطار اللوحة، أفضى إلى ميلاد فن التجهيز وفن الأرض والفن المفهومي وفنون الأداء… وهلمّ معاصرة. وقد حقق الفنّ المعاصر الخروج الثاني عندما غادر قاعة العرض ليقدم نفسه في الساحات العمومية والفضاءات الرحبة أيضا. بينما يأتي الغرافيتي ليعلن ميلاده في الفضاء العام. ولذلك، فهو لم يخرج من الفضاء المغلق إلى الفضاء المفتوح، بل ولد حرا في الأفق الطلق للفن.
لكن مؤسسات الفن المعاصر، والتي تدير وتوجه المجال الفني، سرعان ما سعت إلى احتواء الغرافيتي وإخضاعه لقوانينها، فأدخلته إلى صالات العرض التي تأتي في طليعة “المؤسسات الخلفية”، التي تتحكم في حركية الفن المعاصر، بعبارة بيرنارد تايسيتر. وفي دراسة أخرى عن الغرافيتي كان فانسون كوزلوفيتش قد تنبأ بموت الغرافيتي. ربما شجعه على هذا الحكم المتسرع انتقال بعض الغرافيتيين من الرسم على الجدران والأسطح وعربات القطارات وجدران الأنفاق.. إلى صالات العرض الأميركية الكبرى، أو ترحيل أعمالهم إليها. أي الانتقال من الفضاء العام إلى فضاء المؤسسة الفنية، ومن الفن الاجتماعي، بوصفه فنا خالصا، إلى فن المؤسسة، بتوصيف ناتالي إينيك.
وبينما تم تنظيم أول معرض لفن الغرافيتي داخل قاعة للعرض في العاصمة الفرنسية باريس، فقد ظهرت صالة خاصة بهذا الفن في هولندا ثم ألمانيا وبعدها في نيويورك… ولا يزال يُنظر بعين الريبة إلى هذا التدجين، الذي تقوم به مؤسسات الفن المعاصر وإدارات المعارض والقيمون عليها. إنها فكرة الحداثة نفسها، وهي تنزع نحو محاولة احتجاز كل الأزمنة في مكان واحد، “كل الحقب والأشكال والأذواق”، كما كان يقول ميشيل فوكو، وهو يتحدث عن الأدوار التوثيقية والتصنيفية للمتحف والمكتبة. في مقابل ذلك، يحدثنا طوني بينيت في “ميلاد المتحف” عن المتاحف وقاعات العرض بوصفها فضاءات تمثيلية، تسعى إلى التصنيف والتنظيم، في مقابل الفضاءات المفتوحة، المفعمة بالحياة والتي تستعصي على الضبط والتحكم.
لنعد إلى مشهد العمل الفني “الفتاة والبالون” وهو يغادر اللوحة، في المزاد العلني المذكور، حيث سارع موظفو قاعة العرض في لندن إلى حمل العمل خارجا، وسط استغراب الجميع. وهي العملية التي دبر لها صاحب اللوحة الفنان بانكسي في الخفاء، ليحقق ما أراد، وليبلغ رسالته، وليحقق العمل الفني المعاصر ما نسميه “الخروج الثالث”، من اللوحة وقاعة العرض معا. ذلك أن بانكسي هو أحد أكبر فناني الغرافيتي؛ إنه صاحب خيال فني حر يريد أن يبدع متحررا من وصاية المؤسسة. بل إن الغرافيتي هو في الأصل فن ضد المؤسسات كيفما كانت، بما فيها مؤسسات الفن نفسها. وقد أراد هذا الفنان المشبع بروح الغرافيتي الثورية أن يقول لنا بأن العمل الفني ينبغي أن يغادر إطار اللوحة، وأن يغادر المؤسسة الفنية المعاصرة (قاعة العرض والمزاد)، وأن يغادر نفسه أيضا، أن يتشظى وأن يندثر. ولعلها واحدة من الخاصيات المعاصرة لفن الغرافيتي، كونه فنا زائلا، لا يدوم ولا يستقر على جدار.
في كتابه “بعد نهاية الفن”، يرى آرثر دانتو أن الأنظمة الرأسمالية قد أرادت للفن المعاصر أن يكون متحررا مثلها، وأن ينخرط في أسواقها التي تسمّى حرة. وانطلاقا من ذلك، أمكن القول إن اقتصاديات الفن المعاصر قد دفعته إلى أن يتحرر، ولكن إلى درجة التحرر من الحرية نفسها. لذلك، يمكن للغرافيتي ولفنون الشارع، عموما، أن تعيد التفكير في العلاقة بين الفن والحياة. يقول دانتو “تبدأ الحياة فعليا عندما تصل القصة إلى نهاية”. ومن هنا، أمكن للغرافيتي أن يستأنف مرحلة فنية جديدة تضمن له الانتقال إلى زمن ما بعد كورونا، إلى جانب فنون معاصرة أخرى، ما دام الإبداع هو المعني بالمستقبل والخلق والابتكار.
الشوارع تتكلم
عاد الغرافيتي بقوة غداة النصف الأول من هذه السنة، ليقيم في شوارع العالم المقفرة، بسبب الحجر الصحي الذي فرض على البشرية في ظلّ الجائحة. رسومات شاخصة بأحجام فارعة وألوان صارخة. هكذا تمثل أمامنا أعمال الغرافيتي في زمن كورونا، وهي تتسلق جدران الشوارع الخالية. تبدو شوارع المدن مثل كاتالوغ مفتوح، يعرض أمامنا آخر ما أبدعه فنان الغرافيتي، وقد ألهمته الأزمة الضاربة. ويؤكد تتبع الرسم على الجدران، من خلال مصنّفات تاريخ الفن، منذ رسومات الإنسان داخل الكهوف، حتى غرافيتي الشوارع، أن هذا الفن غالبا ما يتخذ شكلا من أشكال المقاومة، ونزوعا نحو البقاء، وتوقيعا على الرغبة في الخلود.
وما أشبه الكهوف القديمة بالكهوف المعاصرة التي اعتقلنا داخلها طوعا وكرها، بسبب الفايروس. كما يظلّ الغرافيتي بمثابة تسجيل لموقف من العالم فوق جسد العالم نفسه، وإدانة له، كما أكد غرافيتي الثورات الإنسانية، منذ الثورة الطلابية بفرنسا في ماي 1968، أو إبان الأزمة الاقتصادية في أميركا، منتصف السبعينات. والأمر نفسه بالنسبة إلى الأعمال الجدارية الفنية التي صاحبت الانتفاضة الفلسطينية أو الحرب اللبنانية، وصولا إلى ثورات الربيع الأحمر في العالم العربي.
غرافيتي كورونا
يختلف ما يمكن أن نسميه “غرافيتي كورونا” عن التجارب السابقة في فنون الشارع. فإبّان الثورات أو الأزمات، وحتى في الأيام التي نسميها “عادية”، يكون ثمة عابرون ومارة هم الذين يشكلون جمهور هذا الفن، وهم “المتلقّي المتوقع” والواقعي. أما في زمن كورونا، فقد أبدع فنان الغرافيتي عمله دون أن يتوقع متلقيا حاضرا للتفاعل معه. بل هو يعلم أن المتلقي غائب أو مغيّب عن فضاء التفاعل الجمالي. لنقل إنه يقدم عملا لمن يمكن أن نسميه “اللامتلقي”. وهنا، يصير الغرافيتي موضوع هذا المقال، أشد تحررا، وهو يتخلّص من رقابة المؤسسة، كما لا يخضع لانتظارات المتلقي وتوقعاته.
هكذا، أمكن الحديث عن “موت المتلقي”، بعد الحديث عن موت المبدع الفنان، ثم موت الفن نفسه. هذه المرة سوف يعود الفن ليذرع الشوارع ويملأ الحياة، وقد أحس بموت الإنسان في ظل الوباء. لنقل إنها “انتفاضة الفن ضد تاريخ الفن”، كما يقول هانز بيلتينغ في كتاب “نهاية تاريخ الفن”. يتراءى الغرافيتي ههنا مثل مقاوم أعزل يواجه الموت بمفرده، بعدما غادر الجميع ساحة المعركة. حتى الفنان نفسه، مبدع الغرافيتي، يغادر دون أن يوقّع عمله في الغالب، وحتى إذا وقّعه فغالبا ما يكون التوقيع رمزا وإشارة. فعبر تاريخ الغرافيتي، ظل جل مبدعيه في عداد الفنانين المجهولين. بينما يبقى الغرافيتي، وهو يتشبث بجدران الكون، مثل حال الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وهو يردد جملته الشعرية الشهيرة “وحدي أدافع عن جدار ليس لي”.
في مقابل ذلك، هنالك الكثير من فناني الغرافيتي الذين وقّعوا بأسمائهم الحقيقية، وأعلنوا عن أنفسهم دائما. ومن بين النماذج الحالية في زمن كورونا شاب اختار أن يوثق لشهادته الفنية على هذه الجائحة، حين رسم بورتريها لامرأة تضع سبابتها على فمها، وهي تأمرنا بالتزام الصمت، في إحالات كنائية إلى عودة التحكم، وإمساك أجهزة السلطة بزمام الأمور في هذه المرحلة. وقد رسم هذا الفنان الشاب جداريته بالأسود فقط، بينما اختفت الألوان التي تنبض بالحياة. شاب آخر يلتقط سيلفي له مع غرافيتي بالأسود، يتضمن رسما لشخصيتين تلتقطان سيلفيا لهما أيضا. وحدها الكمامة التي ترتديها الشخصيتان مرسومة باللون الأزرق، على غرار الكمامة الحقيقية التي يرتديها الشاب الذي يلتقط السيلفي إلى جانب العمل، ولعله صاحبه. وهذا الشاب يرتدي هو الآخر لباسا أسود، حيث يتطابق الواقعي بالتمثيلي، بينما يربط هذا الغرافيتي زمن الجائحة بالزمن الرقمي الذي ظهرت فيه.
الوجه والقناع
يصدع الغرافيتي برسائله وهو ينتشر بسرعة بين جدران الأزمة، مثل البخاخ الذي يُرسم به. البخاخ الذي ينوب عن الفرشاة، وهو يعبّر بلمسات قوية وسريعة، لأن فنان الغرافيتي هو فنان مطارد، تلاحقه السلطة، عبر تاريخه الثوري والاحتجاجي، ويطارده الوباء، هذه المرة، في شوارع كورونا. في هذه الشوارع أقفلت المحلات التجارية وغيرها، ولذلك، لم يقتصر عمل الفنان على الجدران، بل رسم على أبواب تلك المحلات، حين تحولت المدينة كلها إلى جدار ممتد. وبينما كانت الجدارية عمودية في فن الغرافيتي غالبا، تنطلق من الواقع وترتفع عنه، صارت الجداريات في اتجاه أفقي، تمتد في الواقع وتخترقه، بمقدار ما يخترقها.
ولأننا أمام شوارع مهجورة وموحشة، فقد اختار فنان الغرافيتي أن يركّز على رسم شخوص متخيلة، وكأننا بها تنوب عن حضور الناس في الشوارع خلال هذه الأيام. وأغلب الرسومات تتعلق بوجوه مشدوهة، تتأملنا وتتأمل مصيرنا، أكثر مما نتأملها نحن، والحال أننا في حالة غياب.
ومن أجل تشخيص هذا التأمل، نزع فنان الغرافيتي إلى التركيز على رسم أحداق وعيون شاخصة، تنظر إلينا وتتفقد غيابنا، أو تعبّر عن وضعنا الإنساني الحالي، وكأننا بالإنسان يقف اليوم وجها لوجه أمام نفسه، التي التقى بها، أخيرا، وتعرّف إليها، لأول مرة، بعدما خلت الشوارع والأزقة من ضجيج العالم وصخب الحياة المعاصرة. تلك النظرات التي تزداد حدة في كثير من أعمال الغرافيتي التي ارتدت فيها الشخصيات المرسومة كمامات، لتقدم لنا صورة الإنسان الملثم، أو المقنع، الذي يخفي هويته، بينما تقول نظراته كل شيء، وهي تنضح بمشاعر الغضب والتيه والقلق. فالشخصية في الغرافيتي تقوم بوظيفة التمثيل، كما يحدث في المسرح، أو السينما والأشرطة المرسومة وسينما التحريك. وثمة علاقة أصيلة ما بين الشخصية والقناع، ذلك أن كلمة “PERSONA” باليونانية “ΠΡΟΣΩΠΟ”، وبالإسبانية، أيضا، تعني الشخصية.
وبينما ترددت أغلب أعمال الغرافيتي في ظرفية كورونا ما بين التشخيصي والتعبيري، اختارت طائفة أخرى من الغرافيتيين تجريب أشكال فنية أخرى، عبر الخروج من سطح الجدار إلى الفضاء، على غرار عمل يقدم مانكانات وهي ترتدي كمامات، أو الاستعانة بالتصوير الفوتوغرافي، بينما ترتسم الجدارية في الخلفية “الحائط”. والشاهد عندنا ما أورده غرافيتي آخر تم رسمه فوق باب محل تجاري. العمل عبارة عن صورة شبه فوتوغرافية لفتاة جميلة، غطت عينيها ورأسها، ولم يظهر منها سوى أنفها وفمها الذي يهيمن على العمل، ويتمركز في وسطه، بينما يزداد حضورا بسبب قوة أحمر الشفاه. فبينما يضع الناس قناعا يغطي الأنف والفم، باعتبارهما جهازين للتنفس، تغطي المرأة حاستي البصر والسمع، وهي تخفي عينيها وأذنيها، وكأنما ترفض رؤية ما يحدث في العالم، وتأبى أن تسمع أخباره التي لا تتوقف عن إحصاء الضحايا في هذه الجائحة.
لسان الغرافيتي
إذا كان الغرافيتي حريصا في غالبه على الكتابة، عبر رسم جمل وعبارات وشعارات تكون بمثابة خطاب شارح يفصح أو يلمّح لرسالة الفنان، فإن غرافيتي كورونا لم يخرج عن ذلك. فقد كانت الكتابات الموازية للعمل الفني على أديم الجدران بمثابة جمل مباشرة في الغالب، بالنظر إلى سياق إنتاج الغرافيتي، وهي تكاد تخلو من شعرية لهذه الأسباب. نذكر هنا أعمال فنان الغرافيتي الأميركي “سامو” على جدران نيويورك، والتي وشّحها بمقاطع شعرية دالة. بينما يتجلى غرافيتي كورونا مثل معلقات سردية لا شعرية، تحكي هذا المنعطف التاريخي الذي تعيشه البشرية الآن. وإذا كانت جل الأعمال قد كتبت ودونت عبارات تدعو إلى التزام البيوت والتقيد بقواعد الحجر الصحي، وأخرى قدمت تهنئات بخصوص عيد الفصح أو عيد الفطر.. ومن جملة كل الكتابات ثمة عمل غرافيتي أنجز في مارسيليا، في جنوب فرنسا.
العمل الذي أبدعه أصحابه على باب محل تجاري، مغلق طبعا، حمل توقيع أسماء عديدة (عماد، لحسن، براهيم، جوليان، ديبي)، جعلت منه عملا يجمع بين أصوات ومصائر متقاطعة في زمن الوباء، وفي فضاء الهجرة والاغتراب، وتحديدا مارسيليا. إنه توقيع جماعي على تراجيديا جماعية وكونية، ضحاياها مقيمون وعابرون ومهاجرون ولاجئون احتموا بجدار واحد، بينما يتهدّدهم مصير أوحد. وما أشبه هذا الغرافيتي بآخر وقّعه شباب إيطاليون ولاجئون في العاصمة روما، توقفت أحلامهم عند جدار واحد، وقد أيقنوا أن كل الطرق لم تعد تؤدي إلى روما. بينما تشهد أعمال الغرافيتي في كل شوارع العالم أن هذا الفن الذي نزل إلى الشوارع لمواجهة كورونا، قادر على المساهمة في بناء تصور جديد للفن في عالم جديد وممكن، بعد كورونا.
كاتب من المغرب
—————————-
إنسان ما بعد كورونا/ سعيد خطيبي
في شعريّة الأفواه المكممة
برأيي أن الأبطال الحقيقيين في مواجهة جائحة كورونا، والذين نغضّ الطّرف عنهم، ونتعمّد إهمالهم عن قصد، هم أولئك الذين ارتضوا «الخنوع»، وعوّدوا أنفسهم على الطّاعة دون مُساءلة، أولئك الذين التزموا بيوتهم، وتمنّعوا عن ترف المغامرة، أولئك الذين تسمّروا في الأسابيع الماضية خلف شاشات موبايلاتهم، يتلصّصون على أرقام الإصابات والوفيات، ولم يطّلوا على الشّمس في الخارج، حكموا على أنفسهم أن فقه جغرافيات الجائحة ومتابعة الأخبار المتناثرة القادمة من الصّين وما جاورها ومن إيطاليا وما حام حولها أهمّ من فقه الشّوارع التي يعيشون فيها.
أفرزت الأسابيع الأخيرة التي عمّت فيها الجائحة إنساناً جديداً، مثلما تطوّر الفايروس، ونوّع في وظائفه فقد تطوّر إنسان ما بعد كورونا أيضاً، صار أكثر قابلية للطّاعة، أكثر إذعاناً ورضوخاً، يتذلّل من أجل خبر سار، ولا بأس أن يكون شائعة، يوحي بأن الجائحة في تناقص وأن عدد الذين نجوا من الفايروس في تزايد، فإنسان ما بعد كورونا لا يحلم سوى بالشّيء الضّئيل، ليس يمنّي نفسه التوصّل إلى لقاح أو إلى دواء حاسم، فكلّ المحاولات التي بشّر بها الأطباء انتهى أمرها إلى الفشل، واقتنع الإنسان الجديد أن المأساة جماعية، بينما الخلاص منها لن يكون إلا فردياً، لا يهمّه أن يُصاب جار له ولا قريب منه، بل يهمّه أن يستيقظ صباحاً خاليا من أعراض المرض، أن يقيس نبضات قلبه، ويداوم على شهيق وزفير، دون حرج، أن يقيس حرارة جسمه، ولا تتعدى الرّقم المتّفق عليه، هكذا بات الإنسان في هذا العام منزاحاً إلى خلوته، ومدافعاً عنها، وفي نظره أن نجاته هي انتصار له، وكلّما شعر أنه راوغ الفايروس فكّر في الخروج قليلاً، أحياناً ليُحس بأنه لا يزال حياً وأحيانا أخرى كي يثبت للآخرين أنه أفضل حالا منهم، وأنه قد حقّق ما عجز عنه الآلاف من غيره، أن المرض لم يصبه، وينفي عن نفسه تهمة الخنوع، أنّه يخرج في تحدّ للمرض وللأوامر الحكومية التي حدّت من حركة النّاس.
أقيم في مدينة رفع عنها الحجر المنزلي، قبل فترة وجيزة، ولم يكن اليوم الأوّل من خروج النّاس إلى الشّارع سهلاً، بدا المشهد كما لو أنها بروفة من يتدرّب على فيلم عبثي. الخوف طغى على وجوه المارّة. يرتدي النّاس كمامات، ويخفضون رؤوسهم وهم يمشون. هل نتفق أن الأفواه التي تغطيها كمامة أكثر شعرية من الأفواه المكشوفة؟ وصلت إلى مكتبة عامّة، قصد إعادة كتب استلفتها قبل أن تصل الجائحة، فوجدت الموظّفة قد عزلت نفسها خلف زجاج، وتجنّبت أن تمسك الكتب التي ينوي القراء إعادتها، بل اكتفت بالإشارة إليهم أن يتركوها على طاولة، في زاوية معزولة، وهي تستعجلهم الانصراف.
لقد نجحت الجائحة في هدم كثير من القيم المثالية التي آمن بها، كهدم فرضية عيش مشترك بين البشر، بات اليوم كلّ واحد لا يتمسّك سوى بعيشه المنفرد. استسلمنا إلى الخوف وشيئاً فشيئاً سوف نستسلم إلى عدم الثّقة في بعضنا بعضاً. وقد نصل عما قريب إلى ما حذّر منه فيليب روث، فالخوف سيحوّلنا إلى جبناء، والجبناء يشيخون قبل الأوان. بتنا فعلاً نتصرّف مثل من تقدّم به الزّمن ويشعر بأن أجله سوف يدنو منه في أيّ لحظة.
ولكن هل للخوف تبعات أخرى؟ ألن يعزّز هذا الخوف مشاعر كراهية النّاس تجاه بعضهم؟ لقد جاءت الجائحة في الوقت المناسب كي ترفع من مقام اليمين المتطرّف، ولنا في حالة هنغاريا نموذجاً، لقد عزّزت هذه الحالة المرضية من معاداة الأجانب، لاسيما الآسيويين منهم، صار كلّ غريب حاملاً لشرّ مضمر في ناظر ساكنة البلد الأصليين، وعندما سوف يعلن عن نهاية الفايروس فلا يجب أن نندهش أن اليمين المعادي للأجانب قد تقدّم خطوات للأمام، كان سيعجز عليها في حالات طبيعية وصحيّة.
منذ الأيّام الأولى لهذه الجائحة، انطلقت خصومة كلامية بين بعض الفلاسفة، سارع سلافوي جيجك إلى التّبشير بعودة الشّيوعية، وأن شيوعية أممية ستنقذ البشر، من جهته هلّل ميشال أونفري بنهاية الحضارة المسيحية – اليهودية، يا لها من أصوليّة فلسفية! الاثنان استغلاّ الظّرف كي يروّجا لما ورد في كتب سابقة لهما، كسبا لعبة التّشهير والتّرويج ولكن لا واحدة من نبوءاتهما وقعت، فالغرب لم يتخلّ عن تقاليده، وليس يبدو عليه أنه سيفعل ذلك، تفرّق فلاسفة آخرون، كلّ واحد منهم يريد أن يثبت أنه الأكثر نضجاً مقارنة بزملائه، وتناسينا تفسير الوضع بحكمة، فجائحة كورونا يتحمّل مسؤوليتها، بالدرجة الأولى، نمط عيشنا المعاصر، تتحمّل مسؤوليته مجازفتنا في تحويل العالم إلى عالم تكنولوجي.
لن نختلف إذا قلنا أن كورونا «استعمرنا» بفضل الطّيران، فحركة النّقل الجوّي كانت سبباً في تسارع انتشارها، وسوف يدفع هذا القطاع الضّريبة الأعلى. منذ أكثر من شهرين خفّت حركة الطّيران، ولسنا نعلم متى سوف تعود إلى سابق عهدها، ويليها قطاع السّياحة الذي سيكون ثاني أكبر المتضرّرين. في السّابق كان الإنسان يخطّط لأسفاره ووجهاته، بحسب ما يتوفّر عليه حسابه البنكي، لم يكن يبالي بالواجهة، بل يسأل فقط عن التّكلفة، أما الآن وغداً، فسوف يخطّط خرجاته بالاتّكاء على «جغرافيات الجائحة»، فقد سلبت منه نزعة المغامرة، بات خانعاً مثلما أسلفنا الذّكر، خائفاً ومستسلماً للشّائعات، لن تكون إيطاليا وجهة محبّبة، كما كانت في السّابق، ولن تكون الصّين قبلة تجار الشّنطة وأصحاب شركات الاستيراد والتّصدير، ستنخفض حركة الطّيران الخارجية لصالح نظيرتها الدّاخلية، هكذا سيلتزم الإنسان بمحليته أكثر، سوف يراجع نفسه، لا خيار آخر له سوى الانطواء على ذاته، وبدل السّفر خارج الحدود سوف يكتفي بترحال داخل الحدود لا أكثر.
جائحة كورونا لم تكن وباءً على الجميع، بل هناك من استفاد منها، لاسيما بعض الأنظمة السّياسية، في كوسوفو استغلوا الوضع فأسقطوا حكومة ونابت عنها أخرى، في البرازيل بعدما سخر جايير بولسونارو من الفايروس، دفع البلد فاتورة عالية، بمئات الضّحايا والآلاف من المصابين، أقال وزير صحّة أول ثم ثانٍ وعيّن عسكرياً وزيراً في ذات المنصب، أما في الجزائر فقد اكتظت السّجون، في الفترة الأخيرة، بشباب الحراك، ومما يصلنا من أنباء في أكثر من مكان فإن الغضب سوف ينوب عن الخوف، ولو لحظياً، في الأسابيع القادمة، غضب شعبي ضدّ فشل بعض الحكومات في تسيير الأزمة. لكن إلى ذلك الحين سيظلّ إنسان ما بعد كورونا مستكيناً إلى عزلته، وكرهه للآخرين، مطوّراً فوبيا تجاه الجماعات، وليس من باب التشاؤم أن نقول إنها سوف تطول.
كاتب من الجزائر
—————————-
الخوف من الحرية/ نورالدين قدور رافع
الطبيعة في سعيها لترشيد فكرة الحرية
“ليبارتيفوبيــا” مصطلح يقصد به معنى “الخوف من الحرية” أو “رهاب الحرية” حالة مرضية مرتبطة بسلوكات الإنسان المتناقضة، وهي ضمن إطارها الأخلاقي علامة على اضطرابات داخلية تصيب النفس البشرية بالاحتقان والغضب والهلع، ممّا يراد التخلص منه أو تملكه أو الفرار منه أو إليه، وتصبح ملازمة للفعل البشري بمجرد انتفائها عن القيم الإنسانية المسكنة لها، “فمتلازمة ليبارتيفوبيا” لها عوارض اجتماعية واقتصادية وسياسية يمكن أن نلتمس بداياتها في سلسلة بقع حمراء متطايرة بكل مكان، حيث الدماء المختلطة ريحها بالعصبية والعنصرية تجتاح عالمنا المغدق على شعوب الأرض بمزيد من أسلحة الدمار والتهجير، فطلب الحرية بوطننا العربي كان وجها بشعا لآلة القمع والقتل الرافضة للانتقال الديمقراطي الآمن، حيث تم تشخيص نضال المقهورين والمهمشين بمنطقتنا العربية كهمجية وبربرية مقيتة لا تنتج سوى الدمار، وكان الغرب المتعقب للانتهاكات والتجاوزات في صحراء مجلس الأمن يتماهى مع هذا الإفراط في الخوف معللا إياه بقرارات دولية مخزية تقصف الضحية لا الجلاد.
كانت عملية “تحرير الاقتصاد” تشوبها تشوّهات مرضية متفرقة، تحمّلت تبعاتها طويلة الأمد مجتمعات بثقافتها وهويتها واقتصاداتها الموازية، فأن تتحرر حركة رؤوس الأموال من دورة الحياة المالية للدولة، وتصبح الشركات متعددة الجنسيات المحرك الفعلي للسياسة الاقتصادية والنقدية بواسطة عرّابين كصندوق النقد الدولي، للسطو على الثروة الوطنية والحد من نمو الاقتصادات الصاعدة، لم يكن ذروة “الهلع من تحريره” حتى بعدما اجتاحت السوق العالمية الأزمة الاقتصادية 2008، بل كان الاهتمام بكيفية مواجهة تداعيات الأزمة وتقديم خطط إنقاذ محفزة، بدل العمل على نقد السياسة المالية للمؤسسات الدولية ونظام الفقاعة البنكية المتجاوز حدود الطبيعة البشرية في الحياة والتملك، لتنفق مئات المليارات لإنعاش البنوك المنهارة والتأمينات المفلسة، في وقت كانت سلالة سارس المتطورة تدق أسافين المجتمعات المقهورة منذرة بخطر أعظم يغشى نظام الرعاية والأمن الصحي للعالم.
حوكمة الخوف: الحجر على النشاط البشري
عندما طرحت صحيفة “ليزيكو” (Les Echos) الفرنسية سؤالا عن حال الاقتصاد سنة 2020، قدمت اقتراحات عدة منها صعود أسواق الأوراق المالية، أو ارتفاع الفوائد، أم أنه عام لغلاء سعر الذهب، أم سيكون عام استراحـــة؟ وكانت الإجابة عن تساؤلها تتوقف بمدى استجابة العالم لمعرفة حقيقة وباء كورونا المستجد الذي ينتشر في صمت، فالقليل من الوقت كان كافيا لأن يدخل العالم بأكمله مرحلة “استراحة شاملة” بسبب تصاعد عدد الوفيات الناجمة عن جائحة كورونا، إذ أنّ الخوف اجتاح العالم كما لو أنّ حربا تتساقط فيها الجثث من غير رمي ولا قصف ولا تسمم، عدوّ غير مرئيّ يفتك بالآلاف من البشر ويغلق الشركات الكبرى ويعطل الملاحة ويلجم الساسة في بيوتهم، بل إنّ الموت الذي أذاعه فايروس كوفيد – 19 كان حملا ثقيلا على اقتصادات لطالما ازدهرت أسواقها المالية بضحايا صفقات التسليح، ومجتمعات استهلاكية آن لها أن تدرك قيمة ما يُدّخر وما لا يُنتفع به، في لحظة استثنائية بدت الحياة أشبه بمدائن خالية وشوارع موحشة وحسابات لا حاجة لأصحابها بها، عواصم لطالما احتفت بملايين السياح والزائرين نزعت عنها الجائحة ثوب التمدن والتحضر وأسلمتها لطبيعتها المادية ممتحنة ما تبقى من إنسانيتها، فما نفعتها بورصاتها الصاخبة ولا أسواقها الضخمة أمام ما تحتاجه الإنسانية من رعاية طبية لمواجهة وباء كورونا، وما بقي لها سوى لباس الخوف يكتنف القرى والمدن المسوّمة بألقاب الحداثة والعولمة ليسلب منها حريتها الموحشة.
ربما منح “الخوف من الحرية” كطريق اتخذته الإنسانية لتبصر مستقبلها المشرق بحياة أكثر عدالة وأمنا للبشر جمعاء، أولئك الذين يرقمون مجتمعاتهم بسياساتهم الاستيطانية الحجج لفرض مزيد من القيود إزاء نشاط الإنسان نحو التحرّر والانعتاق مما ساد سنين عددا، فمتى كانت العدالة في بيئة صحية إلا أنتجت لنا الحرية مجتمعا متوازنا واقتصادا معتدلا وهويات متدافعة، وهذا ما كشفته جائحة كورونا وهي تعيد رسم الخطوط الأولى للدفاع البشري عن حق تملّكه وتنوّعه، فهي لم تمنح الحياة لطائفة دون أخرى ولم تجتبي خيرية لمجتمع دون مجتمع، كما أنها أثبتت مقدرتها على فرض رسوم مكلفة لهوس البشر في تحرير اقتصاداتهم وعولمة أسواقهم بطريقة احتكارية، لنكتشف حجم الخدع المالية والتجارية المبرمة بموجب اتفاقيات الاستحواذ والاندماج، كما أنّ المجتمعات المنهمكة في برامج التسلية والترف المادي ساقته نحو إعادة التعرف على ذاته والتقرب من مجتمعاته الداخلية بغلق الفضاءات المنافسة التي حالت بينه وبين الحياة الأسرية الحميمية، لتصبح القيود المفروضة على حركة البشر وإلزامهم بالحجر الصحي الكليّ تجربة بشرية فريدة من نوعها لفهم معنى أن يكفّ الانسان عن قول “لا”، وأن يصبح قبول الكثيرين “لمناعة القطيع” بمثابة خطيئة أخلاقية مكلفة للحياة الإنسانية، فما الموت إلا ظل الحياة وهو يأذن برحيلها كل ثانية مع إعلان أعداد ضحايا الفايروس المهولة، وفي لحظة ما توقف مصير البشر على اختلاف أمصارهم وأجناسهم بقرار سيادي يكفل أمنهم الصحي، وهم منقادون له كما لو أنّ شغفهم بالحرية في كسر جدر الخوف من الاستبداد والموت، تلاشت أمام رغبتهم الجامحة في البقاء والتمسّك بمزيد من الأحلام والآمال نحو غد أفضل وأرقى.
لقد فرضت الجائحة على العالم حجرا تاما توقفت بموجبه معظم الأنشطة البشرية، فمن أجل أن نحدّ من انتشار الوباء وجب علينا أن نلتزم بقدر لا بأس به من التضامن الإنساني والمسؤولية الأخلاقية تجاه ذواتنا ومجتمعاتنا، وللعمل على تحصيل نتائج إيجابية لمؤشر تراجع أرقام العدوى والاصابات وجب التكاتف والتضامن لتخليص ذواتنا من الأنانية واللامبالاة المهدّدتين لأمننا الصحي، والبدء في تقليم حريتنا ورسم حدود طارئة للفرد داخل بيته وعائلته ومؤسسته ودولته، فعداد الموت كان يحصد الآلاف يوميا بسبب استهتار بعض الحكومات وتهاونها إزاء “التعامل الحذر” مع فايروس كوفيد – 19، الذي على ما يبدو ليس هو الأخير المغير على استقرار اقتصادنا ومجتمعنا، وقد نتج عن العطلة الإجبارية للعالم بسبب جائحة كورونا تزايد المديونة وتعثر السياحة وخسائر مالية لأولئك الذين يزاولون أنشطتهم التجارية والاقتصادية خارج دائرة دافعي الضرائب، إلى جانب حرب ديبلوماسية أميركية – صينية حول المسؤولية الأخلاقية والقانونية لانتشار الوباء، تجلّت أماراتها بتهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على الصين لمواجهة تداعيات الجائحة.
الأخلاق وأزمة الوباء
وفي وقت بدت اقتصادات أكبر دول العالم تعاني من أزمة تحقيق اكتفاء ذاتي للمنتجات الصحية وتراجع مستويات الاستهلاك الفردي للبضائع والسلع التجارية، كانت دول أخرى تعاني الأمرّين بسبب نقص الكفاءة الاقتصادية والسلوكات “الاجتماعية اللاتشاركية” لمواجهة تراجع الصادرات وتذبذب أسعار النفط المموّلة لموازنتها العامة، معززة إجراءاتها بقرارات شعبوية لتوزيع طرود الإغاثة والمساعدات الإنسانية الهشة، وبدل الاستثمار في حالة الخوف التي يعيشها العالم بسبب الوباء لتقييم الأداء الاقتصادي والسياسي “ما قبل الجائحة” الموجه لقطاع الاستغلال والاستهلاك لا خدمات الرعاية الصحية، أصبح العمل على فرض واقع متأزم بتجديد قيود “الحجر العبثية” وتمرير قوانين وافتعال مسودّات، يُظهر مدى تراجع مستويات النشاط الديمقراطي والحريات العامة ببلدان تألق اسمها ذات ربيع في الحراك العربي، إذ الغاية من فرض قيود على حركة الناس والاقتصاد زمن المحن والأوبئة تقليل معاناتهم والتكفل بضروراتهم المعاشية ودفع ضرر ما لا طاقة به لنظام الرعاية الصحية التصدي له، فترشيد الخوف بإمكانه تقليل معاناة المحجور عليهم وتخليصهم من اللامبالاة المنافية لسلوك التشارك والاعتراف والمسؤولية الجماعية، كما أنّه يمنح إدارة الأزمة وقتا مستقطعا لتفادي انتكاسة أخلاقية في تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية.
إنّ أكثر ما يخشاه العالم الآن رفع قيود الحجر الصحي المفروضة على الناس، لاعتبارات اجتماعية ونفسية تجاه صحة الأطفال وغيرهم من المرضى، لكن ثمّة أمر شديد الأهمية يسمح بتلك القيود بالزوال التدريجي والممنهج، إنّها أرباح الشركات الكبرى واقتصاد الرأسمالية المستحوذ على أبسط منتجاتنا اليومية، واللقاح المنتظر ليس بمعزل عن سوق الاحتكار والمضاربة لتسجيل مزيد من الأرباح، ومهما سعت الطبيعة لتقليم طغياننا والإحاطة بمساوئنا ودفعنا للتخلص من أنانيتنا وشرنا، فإنّ الكثيرين ممن تعوّدوا على حروب الوكالة وتهجير شعوبهم وتحميلها وزر خطاياهم، ينتهزون تغافل الناس وانشغالهم بالتمسك بالحياة لفرض نظام حكم جديد يرفض التعدديـــــة والحريــــــة، ولعلّ ما فرضته الجائحة وهي تعيد رسم حدود الخوف تجاهها تلك الإرهاصات ببداية مرحلة جديدة من تاريخ العولمة والإنسان، فما بعد كورونا لن تحكى فيه آهات الموتى ولن تروى فيه عاهات المرضى، بقدر ما تعاد فيه “صيانـــــة نظام دولي” يتأبـط الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرير الاقتصاد بأكثر وحشية وخبثا، لتعويض ما ذرته موجة الجائحة من خسائر اقتصادية ومالية فادحة، ومهما بد الأمر كما لو أنّ قوة تستغل ضعفنــا وهواننــا، فإنّه من الحكمة أن ينقـاد “العــــالم الحر” نحو خلاصه بكثير من الإنسانية.
كاتب من الجزائر
—————————
حدود الخصوصية اليوم/ بهاء درويش
يفرض كل تطور تكنولوجي نفسه على طبيعة وقيم حياة الإنسان للدرجة التي يتغير معها ما يكون الناس قد عدّوه ثوابت حياتية لهم خاصة إذا ما طالت فترة ثباته مما يولّد اعتيادا عليه واعتقادا أنه أصل ثابت غير قابل للتغير. تعد حدود الخصوصية من هذه الأمور التي تتغير نتيجة التطور التكنولوجي.
فمع اجتياح الرقمنة حياتنا على كل الأصعدة وفي كل الميادين، تلك التي يسير العالم سيراً حثيثاً نحوها، وهي ما تعني الاعتماد التام على تكنولوجيا متقدمة وذكية متطورة باستمرار كنظام – بديل للقوة البشرية – في شتى ميادين الحياة، ومع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واعتياد الانسان عليها حتى صارت هذه الأخيرة تشكل جزءاً مهماً لحياته لاشتراكها أيضاً كأداة في تنظيم حياة الإنسان اليومية مثل برنامج الواتس أب، اعتاد معظم الناس تبادل صور شخصية وتوثيق أخبار ونشاطات خاصة بهم، بل وحتى الإعلان عما يتذوقونه ويفضلونه من مأكولات وألوان للملابس التي يرتدونها، وآرائهم حول الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما يجعل معرفة ميولهم وآرائهم واتجاهاتهم الفكرية وتطلعاتهم وطموحاتهم ممكنة لدى الكثير ممن يتاح لهم الاطلاع على صفحاتهم وصفحات أصدقائهم الإلكترونية، كما أنه من الممكن تخزين كل هذا من خلال برامج وتطبيقات إلكترونية معينة، إلى الحد الذي ثار معه السؤال: أين الخصوصية الفردية – إذن- بعدما أصبحت حياتنا الشخصية مباحة ومتاحة للجميع نتيجة التقارير التي نكتبها بأيدينا عن كل ما يخصنا ونتيجة المعلومات الشخصية التي تخصنا والتي أصبحت في أيدي كثيرين غيرنا، منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف؟ أين الخصوصية في عالم ذاب فيه التمييز بين ما هو عام وما هو خاص؟ هل أصبحنا نعيش مرحلة أو (عالم ما بعد الخصوصية) كما أسماه ميخائيل كوسنسكي (Michal Kosinski)؟
يرى البعض أن حدود الخصوصية تنكمش مع كل ازدياد لاستخدامنا للرقمنة ولأدوات التواصل الإلكتروني. ولما كان العالم يتجه نحو الرقمنة، فإن حدود الخصوصية تتجه نحو الذوبان بحيث يصبح من الصعب الحديث عندئذ عن خصوصية. لا يكمن الضرر فقط في غياب الخصوصية ولكن في خشية الاستغلال السيء لهذه المعلومات الخاصة. المعلومات الخاصة بأمورنا الصحية ستكون متاحة على تطبيقات وبرامج خاصة لكل من يستخدم الرقمنة الصحية. من الممكن أن يمارس أصحاب العمل تمييزاً ضد المستخدمين من أصحاب الأمراض المزمنة وأن يعطوا الأولوية لأصحاب الجينات الوراثية التي تظهر ذكاء ونشاطاً أعلى إذا ما تمكنوا من الوصول إلى هذه المعلومات.
ولكن ناحية أخرى، يرى البعض أن هذا الاختفاء التدريجي للخصوصية – أو لنقل السرية – والذي لن ينطبق فقط على الأفراد ولكنه ينسحب أيضاً على المؤسسات والحكومات سيجعلنا نحيا في عالم أكثر شفافية: سوف يصبح من الصعب على الحكومات في ظل إتاحة المعلومات أن تكذب على شعوبها أو تخفي معلومات من حقهم الاطلاع عليها. ففي ظل عالم من الصعب فيه إخفاء المعلومات، سيستعد كل امرئ للتفكير في كيفية التعامل الشفاف مع الآخر [Spivack, N.The Post Privacy World. In https://www.wired.com/insights/2013/07/the-post-privacy-world/ تم الدخول بتاريخ 29 يناير 2020].
اااا
أرى أن الخصوصية خاصية فطرية من خصائص الإنسان، تختلف درجتها وحدودها من مجتمع إل آخر ومن وقت إلى آخر ولكنها لن تختفي. فهي قيمة مطلقة من حيث وجودها في كل زمان ومكان ولكنها في الوقت نفسه قيمة نسبية لاختلاف شدتها من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر.
لا غرابة أن يقلق الغرب من هذا الذي بدا لهم اعتداء على الخصوصية ويطلق أحد مفكريهم على المرحلة التاريخية القادمة مرحلة أو “عالم ما بعد الخصوصية”. فالقارئ للفكر الغربي والمتأمل للحياة في الغرب في العصر الحديث يلاحظ إعلاء مفكري الغرب وأشياعهم من غير الغربيين – بفخر – من شأن الخصوصية الفردية، والحديث عن كيف أنها ما يعطي الفرد قيمته واستقلاليته، فهم يعدونها من منجزات الديموقراطية الغربية التي يفخرون بها، بل ويعدونها القيمة الأخلاقية الأولى التي تتأسس عليها سائر القيم المجتمعية الأخرى. تعني الخصوصية وفقاً لهم الاستقلالية التامة لكل بالغ في قراراته وسلوكياته وحياته، خصوصية تظل مشروعة طالما أنها لا تخالف القانون. هذه الخصوصية خصوصية واعية يمارسها المرء باختياره وإرادته راغباً فيها ومتحملاً لنتائجها. ولكن الغرب في العصر الحديث ربطها بحق المرء في الاحتفاظ بسرية معلوماته الخاصة وحمايتها ضد أيّ اعتداء عليها.
أما الخصوصية في التصور الاسلامي فهي جزء لا يتجزأ من رؤية كلية عن كيفية حماية واحترام الإسلام لكرامة الإنسان من حيث كونه خليفة الله على الأرض. من هنا نجد تأكيداً عليها وعلى كيفية احترامها لخصوصية الإنسان في أكثر من آية قرآنية “ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً”، (الحجرات: الآية 12)، “يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها” (النور: الآية 27)
هذا المفهوم للخصوصية التي تهدف لصون كرامة صاحبها شابه خلط في مجتمعاتنا العربية بجعله مضاداً للحميمية الاجتماعية. غابت هذه الحميمية الاجتماعية التي كانت تميز الشرق العربي لتحل محلها خصوصية مستوردة من الغرب مزقت الأسر. انتقلت إلينا هذه الخصوصية من الغرب نقلاً – للأسف – آلياً دون أن نحاول اختباره والتحقق مما إذا كان يناسب نسيجنا الاجتماعي أم لا. فلأننا لا نختبر عادة ما يأتينا من الغرب، ولا نتحقق غالباً مما إذا كان يناسبنا أم لا، أو نحاول استقراء نتائجه التي قد تكون له، وكيف نستفيد منه إن أمكن، بل نتلقاه تلقياً أعمى، فإن انتقال كل ما هو غربي من أدوات وقيم وسياسات إلى مجتمعنا العربي – بحكم أن الغربي هو الأكثر تقدماً وقوة – لا يأخذ مجهوداً، لا من الناقل ولا من المتلقي. كان من نتيجة هذه الخصوصية الفردية التي انتقلت إلينا كشرقيين نتصف بالحميمية الاجتماعية أن ألقى كل فرد بنفسه في مجتمع افتراضي من خلال اعتماده على أجهزة المحمول بدلاً من المجتمع الحقيقي الذي كان يحيا فيه. ففي الوقت الذي اعتقد فيه الفرد العربي أنه بهذه الخصوصية يحقق استقلاليته، سمح لمن لا يعرف – في عالم الرقمنة أو عالم ما بعد الخصوصية – بالاطلاع على خصوصياته.
بعيداً عن مفهومي الخصوصية الغربية والعربية، يبدو أن هناك دائماً حدوداً مقيدة للخصوصية تفرضها ظواهر خارجة عن إرادة الإنسان على المرء أن يتنازل فيها عن قدر من هذه الخصوصية من أجل أن تستقيم حياته. فالإنسان قبل اعتماد حياته على الرقمنة كان يحيا في مجتمع قوامه أفراد تنشأ بينهم علاقات. يضحي فيه المرء ببعض خصوصياته وأسراره في سبيل قيام هذه العلاقات. فالقريبون منه قرابة الدم أو لظروف العمل يعرفون بعض خصوصياته التي تختلف كماً وكيفاً من شخص إلى آخر ممن يتعامل معهم. اعتاد الناس أيضا على احترام الملكيات العامة التي يشاركه فيها بقية أفراد المجتمع. كذلك يتنازل المرء عن قدر من خصوصياته متى تعارضت مع صالح المجتمع.
بالمثل، في عهد الرقمنة، يمكن لكل امرئ حماية خصوصياته على صفحات التواصل الاجتماعي بعدم نشر ما لا يحب. فكما أن هناك برامج وتطبيقات تجعل كل خصوصيات مستخدميها متاحة، هناك تطبيقات حماية وتقييد إتاحة يمكن استخدامها. كما يمكن للمجتمع أن يحفظ للفرد خصوصياته ويحميه من إساءة استخدام المعلومات الخاصة به بقوانين تمنع وتجرّم نشر أو استخدام أيّ معلومات أو صور خاصة دون استئذان صاحبها. نحتاج أيضاً لقوانين تضع حدوداً قاطعة بين ما هي خصوصيات فرد أو مؤسسة ما وبين ما هو تعدّ على الصالح العام أو الأمن القومي فيصبح من حق الدولة التدخل فيه.
السرية والخصوصية مطلوبة أيضاً لحماية كرامة المرء. سنحتاج لتشريعات تحمي الموظفين أصحاب الأمراض أو الضعفاء بشكل عام ضد أصحاب العمل الذين قد يمارسون تمييزاً ضدهم متى تم الكشف عن حالاتهم الصحية وذلك برفض توظيفهم حتى وإن لم تكن أمراضهم تشكل خطورة على غيرهم.
هذه على مستوى سائر المجتمعات. أما بالنسبة إلينا كشرقيين، أعتقد أننا في حاجة لدراسة هذا الوافد الجديد علينا دراسة جيدة، وأعتقد أن حظنا أفضل من الغرب كوننا لم ندخل عالم الرقمنة بالقدر الذي دخل فيه الغرب بعد. وبالتالي مازالت الفرصة أمامنا لدراسة السلبيات التي بإمكاننا تجنبها قبل حدوثها ويبقى تميزنا مرهوناً بقدرتنا على قطف أكبر قدر ممكن من ثمار نواتج التكنولوجيا بأقل قدر ممكن من خسائر تغيير قيمنا الأساسية.
أكاديمي مصري
————————-
البقاء في البيت بعيداً عن الخطر/ علال سنقوقة
مأساة حقيقية أن تبقى في البيت، ربّما لا يشاركني كثيرون وجهة نظري، ومن حقهم ذلك بطبيعة الحال، المشكلة العميقة أنّ الإنسان لا يمكن أن يكتسب “فرديته” إلا من خلال الآخر، سيتخلّى الفرد منّا عن الكثير من العلاقات الأساسية التي جُبل عليها المخلوق البشري بشكل خاص.
الفردية تؤدّي إلى الانعزال بما يخلق لدينا حالة من الفقد والتوحّش.
لكنّها إجبارية، وهو ما يجعل منها حالة صعبة، أي أنّ الإنسان غير مخيّر، مجبر مثل حالة السجين لا يمكنه أن يختار طريقا غيرها وهو ما يجعلها أكثر مرارةً كطعم العلقم أو أكثر.
لا يمثل لي البيت من وجهة نظر إبستمولوجية أيّ معنى بل هو المسؤول عن خراب حياتي وتدمير قواي العاطفية والذهنية في مقابل “تحقيق” أشياء واهية، نشارك الحيوان فيها، وهي السعي وراء سراب اسمه “البيت” بكل ما تعنيه الكلمة من مترادفات: الأولاد، الزوجة، وما يرتبط بهم من سلالات مدمّرة لصحة العقل والنفس والوجدان.
أريد أن أوضّح مقصدي، حتى لا يتّهمني القراء بنوع من الشيزوفرينية غير المعلنة:
البيت في العالم المتقدم غيره في العالم الأدنى، نتشارك في البيولوجيا ولكنّنا نختلف في الجوهر: في المدى الإنساني والروحي والفكري العميق، لا يمثّل “البيت” في المجتمع العربي (بنسبة تكاد تكون عامة) إلا استمرارا للنسل، وحالة من القلق على الوجود والمستقبل، حياتنا، في العالم العربي، جري مستمر وراء الخبز والأمان والحرية.. بما يعني أنّ الواحد منا لمّا يصلْ إلى القبض على جوهر الحياة، وتتسلّل السنون من عمره واحدة تلو الأخرى، ليس في ومضة عين بل بصعوبة بالغة لا يكاد يصدّقها العقل، ينطبق عليها قول زهير بن أبي سلمى:
“سَئِمْـتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ وَمَنْ يَعِـشْ
ثَمَانِيـنَ حَـوْلاً لا أَبَا لَكَ يَسْـأَمِ
وأَعْلـَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَـهُ
وَلكِنَّنِـي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَـمِ
رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ
تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ
وَمَنْ لَمْ يُصَـانِعْ فِي أُمُـورٍ كَثِيـرَةٍ
يُضَـرَّسْ بِأَنْيَـابٍ وَيُوْطَأ بِمَنْسِـمِ”.
تمثل “البيت” مملكة زائلة، سرعان ما يستيقظ الشعور الحقيقي الذي يملأ الأبناء وهو تملّكها عن طريق الوراثة، وهي الحالة التي تنظم حياة الإنسان وتستمر معه قرونا وأجيالا وإلى نهابة الخليقة ولكنّ “الضمير الأخلاقي” والشعور بالذنب تجعل الفرد منا لا يجاهر بذلك بالرغم من أنّها حقيقة نتشارك فيها جميعا.
من هنا نستطيع القول إنّ “البقاء في البيت” شكل من أشكال النفي والاستبعاد للكائن قسريا، الصيغة تحمل طابعا تعميميا أي أنّها قرار رسمي موجّه إلى كل الطبقات الاجتماعية دون مراعاة أشكال الوعي والتراتبية العقلية، وهي حالة المستندات القانونية التي تصدرها المؤسسات الرسمية.
في رأيي، الوباء، يمكن التغلّب عليه بالوعي والفهم، فهو ينتقل عن طريق ملامسة المصاب أو الأشياء المادية والأسطح، لكنّ مصدره واحد هو الإنسان السقيم، لذلك فإنّ الاستغناء عن “عادات” قديمة في السلوك البشري يمكنها أن تؤتي أكلها وتخلّصنا من الفايروس.
عندما تجلس في البيت، هذا السجن الصغير، سيصاب عقلك بالدوار عندما لا تجد مفرّا من قضاء فائض الوقت في وسائل التواصل الاجتماعي: جملة من الحماقات والأكاذيب والسرطانات الإعلامية الخبيثة تجدها تنتظرك، ومن ذلك أن الوباء لعنة الله، فأكثروا من الدعاء والاستغفار.. الوباء غاز سام انتشر في العالم من أحد المخابر البيولوجية قريبا من مدينة يوهان الصينية وهو ما يمكن أن يكون دليلا على وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب له بأنه “فايروس صيني”.
أما القنوات التلفزيونية، فأصبحت تمثّل شكلا من أشكال الضغط على الإنسان “المحجور”، أخبار “العاجل” مدمّرة، مثبطة للنفس، ترمي بنا في أُوار الجحيم، لا شيء من الأمل، سوى أخبار عن مزيد من الموتى والجثث كحالة الصين وإيطاليا وإيران وإسبانيا.. هنا لا بدّ أن نعيد التفكير جيدا في “رأيت المنايا خبط عشواء” كما قال زهير بن أبي سلمى ونستغل فرصة الوباء لنطرح مجموعة من الأسئلة الشائكة: هل فعلا امتلك العقل العلمي مصير البشر أم أنّهم لم يحققوا لأنفسهم الأمان؟ هل الفايروس قادر على أن يكون مقدمة لنهاية العالم (يوم القيامة كما تسمى دينيا)؟ وإلى أيّ مدى سيعززّ الوباء فكرة القدر أكثر في الذهنية العربية؟ أم أنّه على العكس من ذلك سيعمل على تعزيز فكرة “الإنسانية ” والإيمان بقيمة العلوم في تطوير الفرد في العالم؟
من جهة أخرى، كيف سيكون لتأثير الوباء على الاقتصادات الهشة ومنها تلك القائمة على المواد الطاقوية كحال الجزائر ومعظم دول العالم العربي والإسلامي؟
لا أخفي عليكم، بأنّها وساوس تنتاب أيّ فرد منّا، لأنّها مرتبطة بمصائرنا وحالنا بعد الخروج من الوباء، فهل نستطيع أن ننتصر على كل هذه التحديات ونحن في “البيت”؟
أخشى أنّنا سنتخلّف أكثر، نحن الذين نعيش في هشاشة اقتصادية وعلمية منذ قرون، ومن الأسباب المهمة في ذلك أنّنا لم نعمل على تهيئة سماء المستقبل، على خلاف الدول الصناعية الكبرى ومعها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.
يشعر المواطن في الجزائر، كما هو الحال عليه في دول أخرى، بالحيرة والخوف من المستقبل بالرغم من أنّ الوباء عابر لا محالة، لعدّة معطيات: مناخية وصحية وتاريخية.
وأنا واحد من هؤلاء.. لا أخفي عليكم لقد تصرّفت بالطريقة الطبيعية التي تصرّف بها الناس في مختلف بقاع العالم: الخوف من الغد.
في السوبر ماركت، يتهافت هؤلاء الذين يريدون أن “يتحجّروا” في البيت على العجائن: المعكرونات، الكسكس، القهوة، السكر والزيت والمياه والدقيق بأنواعه، وأحسب ذلك مشروعا كون طرق الإمداد والتموين في بلادنا، كما هو الحال عليه في بعض الدول العربية، ضعيفة ولا يتحكّم فيها القانون، فـ”التهافت” جاء من غياب التنظيم وليس من الندرة.
مما زاد من حدّة هذا الخوف ما رآه المواطن من مضاربة فاحشة في الأيام الأولى من اكتشاف الوباء في البلاد، فقد ارتفعت الأسعار فجأة وخُزّنت سلع كانت إلى وقت قريب متوفّرة بقوّة في المستودعات، وهو أمر كشف عن جشع “التجّار”، وعرّى ضعف الرقابة الرسمية على القطاع التجاري والفلاحي.
لا بدّ أنّ الوباء، كشف عن تعلّق الإنسان، في مختلف أنحاء الأرض بالحياة، فالخوف من الموت والنهاية ظهر جليا في سلوكات الناس، في قتامة تقاسيم وجوههم، في الحزن والدموع ولحظات الأسى على الضحايا.. وأبانت عن روح التضامن بين جمعيات المجتمع المدني في داخل الأوطان، أو في تضامن الدول بعضها ببعض، على نحو تطوع الأطباء الصينيين في إيطاليا وهو حال دلّ على أنّ الفردية ليست طبيعة الكائن البشري النزّاع إلى التضامن والألفة.
تصبح المحبة كونية، لا تحدّها الجغرافيا ولا نظم سياسية، ولا غرو في ذلك فإنّ في تقارب الناس محبّة، تستقيم بها الحياة و”تنجلي الأحزان، ويقصر الزمان، وتطيب الأحوال، ولن يفقد الإنسان من صاحب هذه الصفة عونًا جميلًا، ورأيًا حسنًا؛ ولذلك اتخذ الملوك الوزراء والدخلاء كي يخفّفوا عنهم بعضَ ما حملوه من شديد الأمورِ، وطُوِّقوه من باهظ الأحمال، ولكي يستغنوا بآرائهم، ويستمدوا بكفايتهم، وإلا فليس في قوة الطبيعة أن تقاوم كل ما يَرِد عليها دون استعانة بما يشاكلها وهو من جنسها”.. كما قال ابن حزم الأندلسي في “طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف”.
سواء أقضينا أوقاتنا في قراءة الكتب والمجلات والجرائد أو في النوم والاستلقاء أو في استهلاك مواد تثقيفية بسيطة أو في اللعب أو في الأكل.. فإنّ ذلك لن يغيّر من حقيقة غالبة علينا جميعا وهي أنّنا جميعا سنعيش في سجون صغيرة، لا تختلف عن السجون والزنزانات العادية إلا في كوننا نستطيع ترتيبها وفق أذواقنا الخاصة نتصرّف في محتوياتها بحرية تامة ولكنّها في النهاية هي حزام ناسف، قد ينسف بأحلامنا واجتماعيتنا وعلاقاتنا بالآخر ويدمّر كلّ ما بقي فينا من روح الحياة.
كاتب وأكاديمي من الجزائر
——————————
إحباط فايروسي: اكتملت حكاية الآخرين فمتى تبدأ حكايتنا/ هيثم الزبيدي
وباء كورونا شيء محبط. ابتداء من العزل الذاتي، إلى توقف الأعمال، إلى الاصابات والآلام والوفيات، إلى عودة الحدود وتوقف حركة العالم، إلى التفكير بتبعاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصولا إلى الإحساس بأنك عاجز أمام شيء غير مرئي. لا توجد بالطبع جثث ممدة في الشوارع أو مصابون تحولوا إلى زومبي مخيف كما أتحفتنا الأفلام على مدى العشرات من السنين. الأمور هادئة نسبيا، ولعل الاستجابة بمغادرة الشارع والاكتفاء بالجلوس في البيت، في إجازة أو عمل عن بعد، كانت لافتة. السيطرة الحكومية تبدو أقوى مما كنا نتخيلها في فرض تعليمات الحجر، والسيطرة الإعلامية أهم وأعمق في تهيئة الناس نفسيا لقبول ما لم يكن بالحسبان. لكن كل هذا لا يمنع من الإحساس بالإحباط.
لمجلة ثقافية يبدو الإحباط بأبعاد مختلفة وكثيرة. من الناحية العملية، تضطر أن تنشر عددا مزدوجا وتؤجل الطباعة لأن اللوجستيات إما صعبة او متوقّفة. المطبعة توقفت لأن الورق متهم بنقل الفايروس. لو مرّت قضية الطباعة ووجدت مطبعة بديلة، فكيف تحل مشكلة التوزيع. لا سيارات تنقل ولا مكتبات تستقبل ولا طائرات توصل العدد الجديد إلى أيّ من الأسواق العربية التي تهتم بمجلة ثقافية. طاقم المجلة يجلس كل في بيته بانتظار الضوء الأخضر ليقول “ها قد عدنا”.
لكن الأبعاد الثانية لا تقل أهمية. خذ مثلا إحباط الناشر أو رئيس التحرير أو الكاتب. ينشرون ويكتبون عن التنوير، ويخلصون في تقديم أفكار يعتقدون أنها تغيّر في بركة المياه الراكدة في واقعنا المعرفي والفكري. سنوات من العمل والمثابرة في محاولة تحريك الوعي ليخرج من الخرافة والتفسيرات الميتافيزيقية، لتجد نفسك أمام ردة فعل شعبية قدرية، حتى عند من يفترض أنهم من قرائك ومن أثّرت فيهم بالكتابة والحديث على مدى سنوات. بعد مئات الآلاف من الكلمات التي سطرناها على هذه الصفحات، لا تزال شريحة كبرى من مجتمعاتنا، من الأميّين والمتعلمين على حد سواء، تستمع إلى رأي رجل الدين والعراف وأشباه الأميين من مفسّري علامات الساعة. كمية الكلام المتداول على الوسائط الاجتماعية هائل. ومن يستخدم فيسبوك وتويتر وواتساب نفترض أنه متعلم ولديه الحد الأدنى من المعرفة بالأدوات العصرية في عالم متصل. لكن الكثير من هذا الكلام لغو وترديد لأدعية وتمنيات، بدلا من أن يكون نقاشا في لحظة مفصلية وتريّثا لإدراك ما يحدث من حولنا، وما يمكن أن يجرّه الوباء علينا من كوارث نفسية واجتماعية وسياسية، أكبر بكثير من غريزة البقاء الشخصي. بعد سنوات من النشر والكتابة والاهتمام والإنفاق، تكتشف أنك كنت تحرث في البحر. في مجتمعات غيبية، لا تتغير الأمور إلا لكي تعود إلى حالها.
الإحباط أيضا يتواصل إلى ما نعد به أنفسنا من رغبة في التقدم والتطور. لا أعرف كم هو عدد الجامعات والمعاهد العلمية المتخصصة في عالمنا العربي. هو عدد كبير لا شك، بالمئات وربما بالآلاف. وفي كثير منها – ونظريا كلها – كليات ومختبرات للدراسات الصحية والبيولوجية. هناك عشرات الآلاف من الباحثين وأساتذة الجامعات والأطباء ممن يتخصصون – نظريا – بالبحث العلمي الصحي والطبي والبيولوجي والمخبري. منهم نسبة كبيرة يجب أن تكون الأوبئة شاغلهم الأول، طالما لا زال في مجتمعاتنا ما يكفي من التخلف ونقص البنى التحتية وتراجع الخدمات الصحية والبلدية، ممّا يسهّل انتشار الأوبئة. تتصفح يوميا الأخبار وتجد أن العلماء والباحثين في كل العالم يعملون على مدار الساعة على أمصال واقية واختبارات كشف فعالة ومحاولات لإيجاد العلاج للفايروس. لكن لا تسمع أو تقرأ بأن عالمنا العربي مهتمّ بالأصل، بل ينتظر مشروع الإنقاذ الغربي أو الشرقي الصيني أو الهندي أو الياباني. يوتيوب مليء بخبرائنا وأطبائنا يفتون بالنصائح والإرشادات، وكنا نتمنى أن يكونوا في مختبراتهم يضيعون الوقت مع الفايروس في محاولة رصده وتحييده، وليس معنا. الفايروس لا يمكن أن يقتل بالصدفة أو من خلال معجزة كتلك التي تطل علينا في صحفنا يوميا عن اكتشافات “علمية” عربية لا تتوقف عن علاجات لأمراض السرطان والإيدز والكبد الفايروسي. بالطبع كلنا نعرف أنها اكتشافات وهمية لا قيمة لها. “صباع كفتة” على أقصى تقدير. اكتشافات تعزز الإحباط.
يقال إن الطاعون كان لحظة فارقة في حياة أوروبا، حين أدرك الناس أن الدجل والخرافة والأفكار الغيبية لا يمكن أن تنقذهم. يعتقد مؤرخون أنها كانت لحظة الحقيقة، على الأقل لبعض التنويريين ممن وجدوا الفرصة لتنبيه الناس وحثهم على النظر لحياتهم بشكل مختلف. بقية الحكاية في الغرب من عصور النهضة والتنوير والثورة الصناعية والطبية والعلمية والتقنية معروفة. متى تبدأ حكايتنا؟
كاتب من العراق
—————————–
كورونا في مواجهة العالم/ عامر عبدزيد الوائلي
في حالات الخسارة والكارثة، التي يعيشها البشر، فإنهم يتصرفون بشكل مختلف عما كانوا قد اعتادوا عليه خصوصا أوقات الصعبة، وهم يواجهون الموت فهم يمرون بخمس مراحل من الحزن تبدأ بالإنكار، وهو عادة ما يكون مجرد دفاع مؤقت للفرد. ثم الغضب حين يدرك الإنكار إذ لا يمكن أن يستمر، بسبب الغضب الذي ينتاب الفرد فيصبح من الصعب جداً رعايته لما يكنّه من مشاعر ثورة وحسد. إلا أنه سرعان ما يدخل في الحالة الثالثة، وهي المساومة إذ تحتوي على الأمل بأن الفرد يمكنه فعل أي شيء لتأجيل الموت أو الفقد. عندما لا يجد هذا ممكنا ينزاح إلى مشاعر التقبل إذ تمد المرحلة الأخيرة الفرد بشعور من السلام، والتفهم للفقد الذي حدث/القادم. عامة سيفضل الفرد في هذه المرحلة أن يُترك وحيداً، فضلا عن ذلك قد تنعدم لديه مشاعر الألم، وتعد هذه المرحلة نهاية الصراع مع الفقد.
هذه المشاعر التي يمكن أن نرصدها في المواقف البشرية إزاء وباء كورونا سواء جاءت تلك على صعيد الفرد أم على مستوى الجماعة، فهي مشاعر يظهرها الإنسان إزاء الحدث الذي يهدد كيانه ويكسر حالة التقليدية التي يعيشها وقد أدرك عمق الكارثة. ويمكن رصد مجموعة من الأحداث الصادمة :
قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إن فايروس كورونا “يهدد البشرية جمعاء”، وذلك خلال إطلاقه “خطة استجابة إنسانية عالمية”. وكانت منظمة الصحة العالمية صنفت كورونا بالـ”جائحة” وهو تصنيف طبي أكثر انتشارا وخطورة من الوباء.
وسرعان ما تطورت الأحداث إذ أصاب الفايروس أكثر من 471 ألف شخص في العالم، توفي منهم ما يزيد على 21 ألفاً، فيما تعافى أكثر من 114 ألفاً. أجبر انتشار الفايروس دولاً عديدة على إغلاق حدودها وتعليق الرحلات الجوية وفرض حظر تجوال وتعطيل الدراسة وإلغاء فعاليات عدة ومنع التجمعات العامة وإغلاق المساجد والكنائس.
وكان سفير الولايات المتحدة في لندن قد قال إن الصين عرّضت العالم للخطر من خلال حجب معلومات حول تفشي فايروس كورونا مما سمح له بالانتشار خارج حدودها.
مشكلة البحث
المواجهة وآليات حماية الناس تنوعت بتنوع المذاهب السياسية، فقد أظهرت الصين استجابة سريعة، إذ نجحت نجاحا كبيرا في مواجهة الفايروس عندما طبقت بالقوة الجبرية حجرا صحيا على حوالي 60 مليون شخص في مقاطعة هوبي التي سجلت أكبر عدد للإصابات في بداية الوباء وفرضت قيودا صارمة على السفر واستعملت التكنولوجيا في تطبيق الإجراءات الصارمة وتتبع تنفيذ المواطنين لها، كما قامت ببناء مستشفيين في ووهان في ظرف أسبوع لاحتواء المصابين.
إلا أن تلك الإجراءات تعبّر عن سياسة شمولية لا تتفق مع معايير السوق الحرة ومنظومة الحريات المطبقة في الغرب وبين تلك الاختلافات ظهرت مواقف نقدية تحاول أن تقدم معالجات جديدة، ومنها جهود سلافوي جيجك التي عبرت عن موقف مختلف يحاول تجاوز الحالة الصينية والغربية معا ويقترح شيوعية جديدة.
حياته وتحولاته
هذا التطلع النقدي الذي يمكن رصده بأشكال متنوعة من نقد الأيديولوجيا إلى السخرية إلى النقد الذي سيتماهى إلى التحليل النفسي، إذ أن هناك إجابات مختلفة عن أسئلة كثيرة متنوعة وغنية تخلق أشرعة متنوعة من أجل الإبحار في فكر سلافوي جيجك، إذ أن هناك كثيرا من البوابات من الموضوعات والجسور الرابطة بينها.
كنت أشاهد كثيرا من الأعمال والبرامج له وعنه، وهو يخوض في كثير من الموضوعات ويثير كثيرا من الاستجابات نقدا ومدحا وسخرية أيضا. وفيما طالعته عن سيرته العلمية يظهر لي أنه ولد عام 1949 في ليوبليانا، في سلوفينيا وقد كانت حينها مقاطعة في يوغسلافيا. ثم إنه نال شهاداته الجامعية من جامعات بلدته وقد نال الدكتوراه في الفلسفة العام 1981، ثم زار باريس إذ زامل أكاديميين من تلامذة المحلل النفساني الشهير جاك لاكان ونال الدكتوراه الثانية العام 1985 في التحليل النفسي من جامعة باريس الثامنة. بعدها عاد إلى سلوفينيا إذ كان ناشطا سياسيا في المعارضة الديمقراطية لنظام تيتو. والمعروف أن سلوفينيا هي أول مقاطعة انفصلت عن يوغسلافيا بعد وفاة تيتو، منذ ذلك الحين وطاقات جيجك موجهة نحو البحث العلمي، والفلسفة. (دورين خوري، التعريف بسلافوي جيجك: في الأيديولوجيا والثورة، 2020)
تلك المشاهدات والقراءات تجعلني أتوقف عند محطات مختلفة في سيرة الرجل تحكي للقراء ما كان قد عاشه أو قاله في أزمنة وأماكن متنوعة تركت أثرها في كتاباته التي هي بمثابة استجابة لتلك المثيرات، إذ ظهرت في سيل من الكتابات تعبّر وتؤسس إلى مواقف وأفكار فلسفية ونقدية (فكرية وجمالية وأخلاقية) يمكن رصدها في حياته المهنية والأكاديمية إذ أنه في عام 1971 أعطي وظيفة في جامعة ليوبليانا كباحث مساعد مع وعده بالترقية. لكن في عام 1973أقيل بعد اتهامه صراحة أن أطروحته للماجستير ليست ماركسية. أمضى عدة سنوات بعد ذلك في الخدمة الوطنية للجيش اليوغسلافي. بعد أربع سنوات من البطالة حصل على وظيفة كاتب تسجيل في المركز الماركسي السلوفيني. وانخرط في الوقت نفسه مع مجموعة من العلماء السلوفينيين وكان تركيزهم على نظرية التحليل النفسي لجاك لاكان. وكان لهذا أثره فيما بعد، ففي بداية الثمانينات الميلادية نشر أول كتاب له والذي كان يركز على تفسير الفلسفة الهيغلية والماركسية من منظور نظرية “Lacanian” للتحليل النفسي.
يبدو أنه انخرط بأحداث عصره بقوة وقد كان لها تأثيرها في تحولاته الفكرية وما يثيره من مواقف إذ بين عامي 1988 و1990، شارك في العديد من الحركات السياسية والمجتمع المدني التي تحارب من أجل تحقيق الديمقراطية في سلوفينيا، وبالأخص لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان. في أول انتخابات حرة جرت في عام 1990 سارع بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية لسلوفينيا عن الحزب الديمقراطي الليبرالي. وقد وصف نفسه في ظهور إعلامي عام 2009 بأنه يساري متطرف.
فيلسوف التنوع
التنوع والانهماك بكل شيء من خصال الرجل الذي كسر طابع التخصص الأكاديمي (التنوع والتخصص) كما عرف به الفلاسفة في بريطانيا، وقد وصفه تيري إيجلتون “يميلُ الفلاسفةُ للفصل بين الأكاديميين الذين يكتبون لبعضهم بعضًا، وبين تجار معنى الحياة الذين يسطعون بتأملاتهم على الناس العاديين. وجزء مما يميز جيجك أن لديه الأسلوبين معا فهو باحث حصيف متأثر جدًّا بكانط من جهة، ومن جهةٍ أخرى بهيدجر الذي كان لديه هو الساخر شغف لا متناهٍ بمسائل الحياة اليومية” (تيري إيجلتون: سلافوي جيجك: قراءة العالم بعيون يسارية). هذا الوصف يجنبنا كثيرا من الشرح إذ أحاط الرجل بالأسلوبين معا. ولعل هذه المفارقة تضاف لها مفارقات أخر إذ جمع أيضا من حيث الأسلوب بين الغموض والوضوح ولعل هذا قد ظهر جليا واضحا في كتابيه كما يقول تيري إيجلتون “كتابه ‘الارتداد المطلق’ (Absolute Recoil)، مليء بالأمور العصيّة على الفهم بيد أن كتابه الآخر ‘علةٌ في الفردوس’ ( Trouble in (Paradise، ينبئ عن الوضع السياسي في مصر والصين وكوريا وأوكرانيا والعالم بلغة نثرية رقيقة جدِّ متقنة كانت لتفخر أيّ صحيفةٍ بنشرها، وإن كان هذا لا يعني؛ نظرًا لآرائه الاستفزازية، أن كثيرا من الصحف ستُقْدم على هكذا خطوة ” ( تيري إيجلتون: سلافوي جيجك..)، مثلما جمع بين الأيدولوجيا، والسخرية والنكات إذ يضم السخرية كمنهج تهكمي ما بعد حداثي يتمثل في نكاته التي تبدو بأنها لا يمكن تلخيصها، وبخاصة تلك المتعلقة بالثالوث الهيغليّ، أو صورة المرأة في الكتب المقدّسة، أو التماهي الزائف، أو مفهوم “التحديقة” كموضوع نفسيّ. خطاب ساخر يحيل القارئ إلى الدهشة “أما القارئ المتابع فسيكون أمام طريقٍ مختلفة إلى عقل جيجك متباينة بدرجةٍ ما عن كلّ ما قرأه سابقاً له، على الرغم من أنّ النكات (والأفكار) قد تبدو للوهلة الأولى مكرورة باهتة جامدة”. (يزن الحاج، سلافوي جيجك النكتة كمدخل فلسفي،2015).
أما الأيديولوجيا التي ظهرت في عام 1989 في أول كتبه بعنوان “موضوع الأيديولوجيا الرفيع” كان في تلك الحقبة مشدودا إلى هدف واحد هو الأمل في الثورة السياسية. هو مفكر ماركسي يستعمل التحليل النفساني لشحذ أدواته الماركسية النظرية، إذ “يجد أن أهداف التحليل النفساني تلتقي مع أهداف الماركسية ؛ لأن كليهما يعيّن الحيز الاجتماعي على أنه الحيز الأكثر فاعلية للتحليل بسبب توسطه بين السياسي والفردي”. ( دورين خوري، التعريف بسلافوي جيجك،2020). مثلما جمع أيضا بين نقد الشمولية والماركسية، ففي نقده سخرية من الشمولية الماركسية في الصين والليبرالية حيث فلسفة السوق.
تبدو المقاربة جامعة بين الماركسية والتحليل النفسي التي كانت لحظة الانطلاق تلك العلاقة التي اكتشفها جيجك بين ماركس وفرويد عبر موضوعة الحلم والشكل السلعي كون الأول (ماركس) قارب السلعة مقاربة شكلية وليست موضوعية من خلال تأكيده على “لماذا العمل لا يستطيع أن يفرض طابعه الاجتماعي إلا بواسطة الشكل السلعي لمنتوجه؟” (Frederic Jameson, «First Impressions: The Parallax View by SlavoyZizek») .
هذه الرؤية النقدية التي على جنباتِ فكرها تجمع بين نقد السوق والماركسية، وهو يحاول العبور نحو مقاربة جديدة، لا تخلو تماما من ذاكرتها النفسية والأيديولوجية، بل نجده في أكثر من مكان يستدل بها في طريقه الطويل في نقد الليبرالية واقتصاديات السوق. معتمدا على الموروث الماركسي في إزالة الحجب حول الشكل في “نواته الخفية/المحتجبة”، ونتفحص المسار الذي بموجبه يكتسب المضمون المحتجب مثل هذا الشكل، إذ يرفض ماركس القول أن قيمة سلعة ما تعتمد على مجرد الصدفة (كالتفاعل بين العرض والطلب مثلا) ويدعو إلى العمل على اكتشاف سر قيمة السلع. فيما يؤكد فرويد على الحلم على أنه ظاهرة ذات معنى، على أنها ــ الظاهرة ــ تبعث برسالة مكبوتة ينبغي اكتشافها بالواسطة التأويلية. على نحو مشابه. (Tony Myers, SlavojZizek, London)، Routledge.
كورونا وتأملات سلافوي جيجك
في مقاربته للحدث الكوني فايروس كورونا يقدم سلافوي مقاربة مميزة للحدث مقاربة تعرضت إلى السخرية والتهكم من قبل الكثير من المواقع والنقاد، حتى ظهر وكأنه يريد إرجاع النظام الشيوعي القديم، وهي مقاربة غير حقيقية فالرجل تعرض إلى سوء القراءة، وقد أدرك الأمر وحاول أن ينشر توضيحات وشروح يبين فيها طبيعة ما يقصده في معالجته تلك.
نسعى في مقاربتنا هذه إلى تقديم عينة من القراءات الفلسفية عن فايروس كورونا وجدنا في قراءة سلافوي جيجك عينة مميزة؛ نظرا لمكانته ونظرا لما يثيره من ردود فعل متنوعة تجمع بين السخرية والإثارة؛ إلا أن هناك حالة ثالثة هي أن الرجل يقدم قراءة تجمع بين البعد الأكاديمي والبعد العام القريب من فضاء القارئ العادي ممّا يجعل منه رجلا مثيرا وجدليا.
وقد تطرّقت المقالات التي درس فيها الموضوع فايروس كورونا فقسمتها على ثلاث أبعاد: الأول يتعلق بتعريف الفايروس علميا وثقافيا، والثاني المواقف السياسية الرسمية ممثلة بالدول من الفايروس، والثالث الحل الذي اجترحه كعلاج وما تعرض له من نقد لاذع وسخرية مقيتة وردود فعله الشارحة للموضوع .
أولا: تعريف الفايروس كورونا (علميا وثقافيا)
إن التأصيل المفهوم لكلمة الفايروسات أو الحُمَات. مفردها فايروس أو حُمَة باللاتينية (Virus) وتعني فايروس في اليونانية “ذيفان” أو “سم” وهو عامل ممرض صغير لا يمكنه التكاثر إلا داخل خلايا كائن حيّ آخر. الفايروسات صغيرة جدا، ولا يمكن مشاهدتها بالمجهر الضوئي. تصيب الفايروسات جميع أنواع الكائنات الحية، من الحيوانات والنباتات إلى البكتيريا والعتائق (Koonin EV, Senkevich TG, 2006) فإن هذا التأصيل العلمي حاضر في التعريف، وهذا يعبر عن تفهمه لهذا الكائن بشكل علمي إذ يقول عنه “فإن الفايروسات ليست شكلاً أوليًا للحياة تطورت منه أشكال أكثر تعقيدًا. إنها طفيليات بحتة؛ إنها تتكرر من خلال إصابة الكائنات الحية الأكثر تطورًا (عندما يصيبنا الفايروس نحن البشر يستخدمنا ببساطة كآلة للنسخ).
في هذه المصادفة بين الأضداد – الابتدائية والطفيلية – تكمن في سر الفايروسات: فهم حالة لما أطلق عليه شيلينج ” der nieaufhebbare Rest”، وهو لما بقي من أدنى أشكال الحياة الذي نشأ نتيجة إلى خلل وظيفي لآليات الأفضل للتكاثر، وتستمر في مطاردتها (في نقل العدوى) بقية لا يمكن إعادة دمجها على الإطلاق كلحظة متفرعة لمستوى أعلى للحياة (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
أما على المستوى الثقافي فنجد أن سلافوي يقدم مقاربة ثقافية يعتمد فيها على تولستوي الذي يجد أنه قدم مقاربة مهمة في هذا المجال في المقاربة بين عدوى الفايروس والعدوى الثقافية المؤثرة في دماغ الإنسان، فينقل عن تولستوي قوله “الإنسان هو من القردة بدماغ مصاب يستقبل الملايين من المتعاطفين الثقافيين والمحفزات المساعدة لكل هذا هي أنظمة التكافل المعروفة باللغات” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم) وهي مقاربة تعتمد على التشابه في نقل الأفكار واتخاذها من العقل مجال للانتشار، إذ يقول “الكائن البشري: هو وسيط فارغ سلبي مصاب بعناصر ثقافية محملة بالعدوى تنتشر من فرد إلى آخر مثل العصيات المعدية. ويذهب تولستوي هنا حتى النهاية. إنه لا يعارض هذا الانتشار للعدوى العاطفية استقلالية روحية حقيقية”، وهي تبدو استعارة ثقافية بامتياز إلا أنها تبين أن الفيلسوف مدرك لطبيعة الفايروس علميا، وثقافيا، ومن ناحية ثالثة إنه “نتيجة من نتائج أفعال البشر وتدميرهم النظام الطبيعي عندما تهاجمنا الطبيعة بالفايروسات، فإنها بطريقة ما ترسل رسالتنا الخاصة إلينا. الرسالة: ما فعلته بي، أفعله الآن لك” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
وهذا ما نجده في مماثلة أخرى عندما قارب الوباء الفايروس التاجي على أنه نسخة مقلوبة من “حرب العوالم” لهربرت جورج ويلز (1897). (هربرت جورج ويلز، حرب العوالم، 2013). يحكي الكتاب عن غزو المريخيين للأرض، ثم يكتشف البطل – الراوي اليائس أن جميع المريخيين قد أبيدوا بوساطة ميكروبات أرضيّة لم يكونوا محصنين ضدها، وهنا يستنتج سلافوي، بالقول “ونحن اليوم نعيش حالة مماثلة إذ ربما ينبغي بالفعل النظر إلى الأوبئة التي تهدد بتدمير البشرية على أنها نسخة مقلوبة من قصة ويلز ‘الغازي المريخي’ الذي يستغل ويدمّر الحياة على الأرض بلا رحمة هو نحن أنفسنا، البشرية، وبعد فشل جميع الاستراتيجيات الأكثر تطوراً لمحاربتنا، نحن الآن مهددون “من قبل أكثر الأشياء تواضعاً من بين تلك التي وضعها الله، في حكمته، على هذه الأرض”، فايروسات غبية تتكاثر خبط عشواء – وتنتشر” (علاء خزام، جيجك والفايروس الإيديولوجي، 2020)
الثاني : مواقف الدول السياسية من الوباء
في مقاربته النقدية الساخرة التي يقدمها إلى استجابة الدول للحادثة يؤكد على ضرورة النقد، فهو يشرح أولا استثمار الدول من أجل فرض هيمنتها على الشعوب عبر نشر الخوف والذعر بين الناس من أجل فرض تحكمها وفرض مراقبتها الشمولية عليهم ومن هنا يأتي دور النقد في تعرية تلك السلطة فإن “القطةُ عندما تنظر إلى أسفل فترى أن لا أرض صلبة تحتها، فتسقط”. فالوعي النقدي يحرر الناس من الخضوع إلى التضليل والقبول به كونه سلطة لا يمكن مقاومتها، ويؤكد على ذلك بقوله “علينا تغيير موقفنا بالكامل تجاه الحياة وتجاه وجودنا ككائنات حية بين أشكال الحياة الأخرى. بعبارة أخرى إذا فهمنا ‘الفلسفة’ كصفة لتوجهنا الأساسي في الحياة، فسيتعين علينا عيش ثورة فلسفية حقيقية”. (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
الأمر الثاني يحاول فيه توصيف استجابة الدول للحدث معتمدا على مقاربة قدمتها إليزابيث كيوبلر روس، في كتابها “الموت والوفاة” الصادر عام 1969، حاولت في كتابها إن تقدم أنموذج كيوبلر روس المعروف بمراحل الحزن الخمسة (بالإنجليزية: Kübler-Ross model, Five Stages of Grief) هوَ أنموذَج يَصِف خمس مراحِل للطريقة التي يتعامَل بها الإنسان مع الحزن الناتِج عن المصائب، خاصّة لو كان الشخص قد شُخّص بمرض قاتل أو عانى من خسارةٍ كارثية :
1- الإِنكار: “أنا بخير”، “لا يمكن أن يحدث هذا، ليس لي”، الإنكار عادة ما يكون مجرد دفاع مؤقت للفرد. هذا الشعور عامة يُستبدل بالوعي الشديد بالمواقف والأفراد التي سَتُترك بعد الموت.( Maciejewski, Paul K.; Zhang, Baohui; Block, Susan)
2- الغضب: “لِمَ أنا؟ هذا ليس عدلًا”، “كيف يحدث هذا لي؟”، “من المَلُومُ على ذلك؟”، ما أن يدخل الفرد المرحلة الثانية حتى يدرك أن الإنكار لا يمكن أن يستمر بسبب الغضب الذي ينتاب الفرد اذ يصبح من الصعب جداً رعايته لما يكنه من مشاعر ثورة وحسد.
3- المساومة: “فقط دعني أعيش لرؤية أطفالي يكبرون”، “سأفعل أي شيء من أجل أن تعود لي”، المرحلة الثالثة تحتوي على الأمل بأن الفرد يمكنه فعل أيّ شيء لتأجيل الموت أو الفقد. عادة ما تتم المفاوضة مع قوى عليا (الإله مثلاً(.
4- الاكتئاب: “سأموت على أيّ حال، ما الفائدة من أيّ شيء سأفعله؟”، “لقد رحلت\رحل، لماذا أستمر بعده/بعدها؟”، يبدأ الفرد في المرحلة الرابعة في فهم حتمية الموت/الفقد؛ ولهذا يصبح المرء أكثر صمتاً، ويرفض مقابلة الزوار، ويمضي كثيرا من الوقت في البكاء. تسمح هذه المرحلة للفرد بقطع نفسه عن الأشياء الأشخاص المحبوبة له. من غير المنصوح بها أن تتم محاولة إبهاج الفرد الذي يمر بهذه الحالة؛ لأنها حالة يجب أن يمر بها ويتعامل معها.
5- التقبل: “ما حدث حدث ويجب أن أكمل الطريق”، “لا فائدة من المقاومة، من الأفضل أن أستعد لما سيأتي”: تمد المرحلة الأخيرة الفرد بشعور من السلام، والتفهم للفقد الذي حدث القادم. عامة سيفضل الفرد في هذه المرحلة أن يُترك وحيداً، فضلا عن ذلك قد تنعدم لديه مشاعر الألم، وتعد هذه المرحلة نهاية الصراع مع الفقد.
وهنا يستعمل سلافوي جيجك “أنموذج كيوبلر روس” فى توصيف الحدث بالقول “يمكن للمرء أن يميز المراحل الخمس نفسها، كلما واجه المجتمع بعض الانفصال المؤلم. دعنا نأخذ خطر الكارثة البيئية:
1- نميل إلى إنكارها (إنه مجرد جنون العظمة ما يحدث هو تقلبات معتادة في أنماط الطقس) ثم يأتي الغضب (على الشركات الكبرى التي تلوث بيئتنا، وعلى الحكومة التي تتجاهل الأخطار) فتليه المساومة (إذا قمنا بإعادة تدوير نفاياتنا يمكننا شراء بعض الوقت فضلا عن وجود جوانب جيدة لذلك أيضًا كإمكانية زراعة خضار الغرينلاند و ستتمكن السفن من نقل البضائع من الصين إلى الولايات المتحدة بشكل أسرع بكثير مرورا بالطريق الشمالي، وستصبح الأراضي الخصبة الجديدة متاحة في شمال سيبيريا ؛ بسبب ذوبان التربة الصقيعية …) فالاكتئاب (فات الأوان نحن محكوم عليهم بالفشل …)، وأخيرًا القبول: نحن نتعامل مع تهديد خطير وعلينا تغيير طريقة حياتنا بأكملها” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
إنه يحاول إن يطبق الأمر على استجابتنا لهذه الكارثة الوبائية على وفق المنهج العلمي السابق. ثم أنه يقدم تطبيق على الاستجابات السياسية لهذه الكارثة، وكيف تمظهرت في الأقوال، والإجراءات تجاه الوباء”.
الموقف الأميركي يقول فيه “فإن الشيء نفسه ينطبق على أولئك الذين أصيبوا بصدمة من رئاسة ترامب: أولاً، كان هناك إنكار (لا تقلق، ترامب هو مجرد موقف و لن يتغير أي شيء إذا تولى السلطة) فيليه الغضب (على قوى الظلام التي مكنته من الاستيلاء على السلطة، وعلى الشعبويين الذين يدعمونه، ويشكلون تهديدًا لماديتنا الأخلاقية…) ثم المساومة (لم نفقد كل شيء بعد لعله بمقدورنا احتواء ترامب دعنا نتسامح مع بعض تجاوزاته..) فالاكتئاب (نحن على طريق الفاشية، والديمقراطية تضيع في الولايات المتحدة) ثم القبول: هناك نظام سياسي جديد في الولايات المتحدة والأيام الخوالي للديمقراطية الأميركية قد انتهت، دعونا نواجه الخطر ونخطط بهدوء كيف يمكننا التغلب على شعبوية ترامب..” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
ثم إنه يحفر في التاريخ، ويرصد الاستجابات المتنوعة التي جاءت في العصر الوسيط إذ تفاعل السكان مع الطاعون في المراحل الخمسة نفسها ثم يقول “أليس هذا أيضًا طريقة تعاملنا مع وباء فايروس كورونا الذي انفجر في نهاية عام 2019؟ في البداية، كان هناك الإنكار (لا يوجد شيء خطير يحدث، بعض الأشخاص اللامسؤولين ينشرون الذعر فقط) فالغضب (عادة في شكل عنصري أو معادٍ للدولة: الصينيون القذرون مذنبون، دولتنا ليست فعالة..) ثم تأتي بعد ذلك المساومة (حسنًا، هناك بعض الضحايا، لكنهم أقل خطورة من السارس، ويمكننا الحد من الضرر..)؛ إذا لم تفلح ينشأ الاكتئاب (دعونا لا نخدع ذواتنا، فنحن جميعاً محكوم علينا بالفشل). ولكن كيف سيبدو الرضا في هذا الوضع؟ إنها لحقيقة غريبة أن الوباء يعرض خاصية مشتركة مع الموجات الأخيرة من الاحتجاجات الاجتماعية (في فرنسا، في هونغ كونغ..): إنهم لا تنفجر ثم تموت بدلاً من ذلك تبقى هنا وتستمر جالبة الخوف الدائم والهشاشة في حياتنا” (سلافويجيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم). وانطلاقا من هذا التحليل تغدو كل الردود تدخل من ضمن المقياس نفسه، وأن بعض الدول تحاول إشاعة الخوف من أجل تبرير الشرعية وإضفائها على تدابير السيطرة والتنظيم التي لا يمكن التفكير فيها حتى الآن في المجتمع الديمقراطي الغربي. إن السبب الرئيسي لهذا هو “الاستجابة غير المتناسبة” في “الميل المتزايد نحو استعمال حالة الطوارئ كنموذج تحكم طبيعي”. تسمح التدابير المفروضة للحكومة بتقييد حرياتنا، وبالنتيجة يؤكد على “(وينبغي) أن يدفعنا إلى تعبئة أنفسنا من دون ذعر وأوهام، للعمل في تضامن جماعي. ما يجب أن نقبله، وما يجب أن نتصالح معه، هو أن هناك طبقة فرعية من الحياة، الحياة غير المتكررة، والفايروسات المتكررة بغباء والتي كانت موجودة دائمًا وستظل معنا دائمًا كظلام الظل تشكل تهديدًا لبقائنا، وتنفجر عندما لا نتوقع منها ذلك” ( سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
فرض الصمت والوصاية على الناس: يقوده تفكيره “الاستثنائي” إلى أن يعد كورونا حدثاً “تحررياً” بمعنى ما من المعاني (أعمق؟) ويجب اقتناصه؟ بمعنى أن الفايروس بوصفه حدثا يمكن أن يكون بابا من أبواب فضح التضليل الذي يمارس من قبل الدولة عبر إشاعة الرعب، وفرض الصمت على الأصوات المعارضة من الداخل للسياسة المتبعة من قبل الدولة، هذا ما وقع فعلاً! بقوله “أنا أزعم ببساطة أنه يمكن حتى للأحداث المروعة أن تكون ذات نتائج إيجابية غير متوقعة”. فالصمت أمام جبروت الدولة التي تمارس فرض سطوتها باسم القانون وتجبر المعارضين على الخضوع لها، من الصحيح أن عمل جهاز الدولة الصينية بكامله يعارض شعار ماو القديم الذي يقول “ثقوا بالشعب!”. تعتمد طريقة الدولة في التصرف على فرضية أنه لا يجب الوثوق بالناس: يجب أن يكون الشعب محبوباً ومحمياً ومعتنى به… لكن لا مجال للوثوق به. ليس انعدام الثقة هذا في نهاية المطاف سوى التجسيد الأخير لموقف تتبناه السلطات الصينية بشكل منهجي عندما تواجه احتجاجات بيئية أو مشاكل متعلقة بصحة العمال.
2- فإن إشاعة الرعب وغياب اليقين: هو الآخر من الممكن أن يكون بابا من أبواب إشاعة الوباء أمام اتساع موجة الخوف الذي أصاب الناس بحسب غابرييل ليونغ (Gabriel Leung) كبير خبراء الأوبئة في قطاع الصحة العامة في هونغ كونغ، إذا لم تتم السيطرة على هذا الوباء فمن الممكن أن ينتشر بين ثلثي سكان العالم. وقال إن الناس كانوا بحاجة إلى الإيمان بحكومتهم بينما يعمل المجتمع العلمي على إزالة عدم اليقين بشأن الوباء الجديد، “ولكن مع وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تختلط الأخبار المزيفة والحقيقية، ولا توجد أي ثقة، فكيف نحارب هذا الوباء؟”. يتطلب الأمر، على العكس من ذلك، جرعة إضافية من الثقة، وشعوراً متقدماً بالتضامن، ومقداراً إضافياً من حسن النية، كل الأشياء التي تم استنفاذها بالكامل”. وبالتالي فإن موقف سلافوي جيجك كان يدعو ببساطة إلى فتح حيز يمكن فيه سماع انتقادات المواطنين. إن الاعتراض الرئيسي على فكرة أن الدولة يجب أن تتحكم في الشائعات؛ لتجنب الذعر هو أن هذا التحكم نفسه ينشر عدم الثقة، ويخلق بالاتي مزيدا من الشائعات المؤامراتية، فقط الثقة المتبادلة بين الشعب والدولة يمكن أن تعمل.
3- الحل والتوضيح له: في هذه النقطة نصل إلى الحل الذي حاول من خلاله أن يقابل الواقع بطريقة جديدة بعد الفشل الذي وقعت فيه الدول، وهي تعمل منفردة وهدفها إشاعة الخوف، وفرض سطوتها على شعوبها، جاء الحل في مقاربة كونية تقوم على نبذ سياسة السوق الهادفة إلى تحقيق الربح، والحد من سلطة الدولة نحو سياسة جديدة أكثر تعاونا على المستوى الدولي تجمع الجهود في مواجهة الوباء وتسهم في محاربته. لمقولته ردود ساخرة ورافضة وقد اتهمته بالرجعية والعودة إلى الماضي، ولكن ما تلك المقولة ؟ يقول “يمكننا أيضًا تخمين ما سيحدث عندما يلاحظ الغشّ من هم في السلطة: سيتم اتهام المدراء المحليين بالتخريب، ومعاقبتهم بشدة، وهو ما يعيد إنتاج حلقة مفرغة من عدم الثقة.. ستكون هناك حاجة إلى جوليان أسانج الصيني ليكشف للجمهور هذا الجانب المخفي عن كيفية تعامل الصين مع الوباء”. (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم)، وهو هنا يريد القول إن الأمر يعيد واقع سابق تمثل في نقل المسؤولية عن الفشل عبر أكباش فداء يتحملون مسؤولية الفشل. إلا إن كلامه عن الحل عبر الشيوعية حمل معاني وتعرض إلى سوء قراءة جعله يقدم توصيفا؛ لما كان يريده من الشيوعية التي يقصد وهو يقول “إذا لم تكن هذه الشيوعية التي أفكر فيها، فماذا أعني بالشيوعية؟ لفهم ما أقصد، يكفي قراءة الإعلانات العامة لمنظمة الصحة العالمية، وهذا آخرها: قال رئيس منظمة الصحة العالمية الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس “إنه على الرغم من أن سلطات الصحة العامة في جميع أنحاء العالم لديها القدرة على مكافحة انتشار الفايروس بنجاح، فإن المنظمة تشعر بالقلق من أن مستوى الالتزام السياسي في بعض البلدان لا يتطابق مع مستوى التهديد”.
هذه ليست مناورة. هذا ليس وقت الاستسلام. هذا ليس وقت الأعذار. هذا هو الوقت المناسب لسحب كل المعوقات. لقد كانت البلدان تخطط لسيناريوهات مثل هذه العقود. قال تيدروس “حان الوقت للعمل على هذه الخطط. يمكن إخماد هذا الوباء، ولكن فقط من خلال نهج جماعي ومنسق وشامل يشرك الجهاز الحكومي بأكمله”.
أي إن ما يقصده من الشيوعية هو من الضرورة وجود نهج جديد من الفكر يقوم على التعاون الدولي العابر للدولة القومية تعاون يحقق توحد الجهود في محاربة الوباء. وهو يعبر عن هذا شارحا بالقول “عندما اقترحت أن وباء كورونا قد يعطي دفعا جديدا للشيوعية، لقيت دعوتي، وكما هو متوقع، السخرية. على الرغم من الطريقة القوية التي انتهجتها الدولة الصينية تجاه الأزمة يبدو أنها قد نجحت – على الأقل هي تعاملت مع الوباء بشكل أفضل بكثير مما يحدث في إيطاليا – إلا أن المنطق الاستبدادي القديم للشيوعيين في السلطة أظهر بوضوح حدوده” ( سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
فهو لا يمتدح الأنموذج الصيني الذي استطاع أن يواجه الوباء لكنه سقط بالخطاب الاستبدادي الذي انتهجته السلطات الصينية. والبديل يقوم على نهج قوامه الثقة المتبادلة بين الشعب وأجهزة الدولة، وهذا هو ما يُفتقر إليه النهج الصيني.
في رده على ما أثارته فكرته عن الشيوعية كبديل عن الوضع الليبرالي القائم على اقتصاديات السوق الذي يجعل الدولة ضعيفة وغير فعالة بما يفترض أن تقوم به من إجراءات
نجده يقدم أكثر من شرح يبين معنى الشيوعية التي يقصد وقد ظهر أن الشيوعية هي ليست المذهب الاقتصادي المتعارف عليه سابقا بل هي نهج جديد من التعاون الدولي يغلب عليه المصالح العامة للإنسانية على المصالح الضيقة القومية. وهو يشرح فكرته بالقول “ما يزال الموقف السائد الآن يقول إن كل بلد يعمل لأجل نفسه إذ هناك حظر وطني على تصدير المنتجات الرئيسية مثل الإمدادات الطبية مع البلدان التي تلجأ إلى تحليلها الخاص للأزمة وسط نقائص محدّدة وعارضة، ومقاربات بدائية للاحتواء”.
فهذه المعالجات تبقى ضمن إما “اقتصاديات السوق فحسب، أو إلى الحدود الأكثر فتكًا للشعبوية القومية التي تصر على سيادة الدولة الكاملة” لقد انتهى الأمر مع أميركا إنه لا يمكن إنقاذها إلا من خلال التنسيق والتعاون العالمي.
يقول إنه في مقاربته هذا هو ليس طوباويا، كما أنه لا ينشد تضامنًا مثاليًا بين الناس، بل على العكس إن الأزمة الحالية تبين بوضوح أن التضامن والتعاون العالمي لصالح بقاء الجميع وبقاء كل واحد منا هو الشيء الأناني العقلاني الوحيد الذي يتوجب علينا القيام به. ولا يقتصر الأمر على الفايروس: فقد عانت الصين نفسها من الخطر الكبير لأنفلونزا الخنازير منذ أشهر، وهي مهددة الآن باحتمال غزو الجراد.
فإنه يؤكد على أن النهج الشيوعي الواسع الذي أدافع عنه هو السبيل الوحيد لنا للتخلص فعلا من مثل هذا الموقف الحيوي البدائي. وإن علامات تقليص التضامن غير المشروط يمكن ملاحظتها بالفعل في المناقشات الجارية، وبموجب البروتوكول المسمى “ثلاثة حكماء”، في حالة اكتظاظ المستشفيات بالمرضى سيضطر ثلاثة استشاريين كبار في كل مستشفى إلى اتخاذ قرارات بشأن تقنين الرعاية مثل أجهزة التهوية والأسرّة.
ألا تشير هذه الإجراءات إلى أننا نستعد لتفعيل المنطق الأكثر وحشية أي البقاء للأصلح؟ لذا، مرة أخرى، يتوجب علينا الاختيار إما هذا أو نوع من الشيوعية المبتكرة. ( سلافوي جيجك، الشيوعية العالمية أو قانون الغاب).
الخاتمة
في حالات الخسارة والكارثة، التي يعيشها البشر، فإنهم يتصرفون بشكل مختلف عما كانوا قد اعتادوا عليه خصوصا في الأوقات الصعبة، وهم يواجهون الموت. هذه المشاعر التي يمكن أن نرصدها في المواقف البشرية بإزاء وباء كورونا سواء أجاءت تلك على صعيد الفرد أم على مستوى الجماعة، فهي مشاعر يظهرها الإنسان بإزاء الحدث الذي يهدد كيانه.
المواجهة وآليات حماية الناس تنوعت بتنوع المذاهب السياسية، إذ نجحت الصين نجاحا كبيرا في مواجهة فايروس، إلا أن تلك الإجراءات تعبر عن سياسة شمولية لا تتفق مع معايير السوق الحرة ومنظومة الحريات المطبقة في الغرب وبين تلك الاختلافات ظهرت مواقف نقدية.
من ضمن هذه المواقف النقدية يظهر سلافوي جيجك بما عرف عنه من مواقف نقدية بأشكال متنوعة من نقد الأيديولوجيا إلى السخرية إلى النقد السينمائي إلى التحليل النفسي، إذ شكلت كتاباته مواقف فلسفية من الأحداث وتقديم حلول.
تك المشاهدات والقراءات تجعلني أتوقف عند محطات مختلفة في سيرة الرجل تحكي للقراء ما كان قد عاشه أو قاله في أزمنة، وأماكن متنوعة تركت أثرها في كتاباته التي هي بمثابة استجابة لتلك المثيرات.
التنوع والانهماك بكل شيء من خصال الرجل الذي كسر طابع التخصص الأكاديمي (التنوع والتخصص) كما عرف به الفلاسفة في بريطانيا. جمع بين الأيديولوجيا والسخرية والنكات إذ يضم السخرية كمنهج تهكمي ما بعد حداثي.
في مقاربته للحدث الكوني فايروس كورونا يقدم سلافوي مقاربة مميزة للحدث مقاربة تعرضت إلى السخرية والتهكم من قبل كثير من المواقع والنقاد، حتى ظهر وكأنه يريد إرجاع النظام الشيوعي القديم، وهي مقاربة غير حقيقية فالرجل تعرض إلى سوء القراءة، وهو أدرك الأمر وحاول أن ينشر توضيحات وشروح يبين طيعة ما يقصده في معالجته تلك.
وقد تناولت المقالات التي تناول فيها الموضوع فقسمتها على ثلاثة أبعاد الأول يتعلق بتعريف الفايروس علميا وثقافيا، والثاني المواقف السياسية الرسمية للدول من الفايروس، والثالث الحل الذي اجترحه كعلاج، وما تعرض له من نقد وسخرية.
على المستوى الثقافي نجد أن سلافوي يقدم مقاربة ثقافية يعتمد فيها على تولستوي الذي يجد انه قدم مقاربة مهمة في هذا المجال في المقاربة بين عدوى الفايروس، والعدوى الثقافية المؤثرة في دماغ الإنسان.
في مقاربته النقدية الساخرة التي يقدمها إلى استجابة الدول للحادثة يؤكد على ضرورة النقد فهو أولا يشرح استثمار الدول من أجل فرض هيمنتها على الشعوب عبر نشر الخوف والذعر بين الناس من أجل فرض تحكمها، وفرض مراقبتها الشمولية. إن ما يقصده من الشيوعية هو بالضرورة وجود نهج جديد من الفكر يقوم على التعاون الدولي العابر للدولة القومية تعاون يحقق توحد الجهود في محاربة الوباء.
كاتب وأكاديمي من العراق
—————————————-
شمس خريفية حمراء/ سامر أبوهواش
الموتى لا يموتون
“هذا هو الموت يا صاحبي، وهؤلاء هم البشر. نهاية طبيعية.. لمخلوقات غير طبيعية”
(يوسف السباعي، السقا مات).
ضوضاء دائمة في الهواء. آلات غير مرئية وأشياء أخرى، كائنات تواصل عملها رغم توقف كل شيء آخر؛ تذكار بأن الصمت المطلق مجرد خرافة. الصمت الحقيقيّ ذلك الذي يليق به أن نسمّيه سكينة، ربما هو الانشغال عن ضوضاء العالم؛ طبقة أخرى تغطي الطبقة القائمة التي لا نعرف كم طبقة أخرى تعاقبت عليها. ربما ما تسمعه الآن، تلك الأصوات الصغيرة، الدقيقة، التي تحتشد معاً لتصنع هذا الضجيج السرّي، ليس إلا احتكاك كل تلك الطبقات ببعضها بعضا. طائر يعبر الهواء بصمت، يحتلّ ثوان حيّزه في الفضاء، ثم يختفي، يصبح جزءاً من مربّع النافذة، من ذاكرة مشغولة بالمحو المستمر لذاتها. ساعة على جدار، تظلّ تمشي، كشيخ يجرّ عربة يدوية في صحراء شاسعة، أو ربما كانت العربة التي تجرّه؛ شيء آخر يسجّل مرور الزمن، لكنه يظلّ ثابتاً في مكانه.
لم تعد طائرات تعبر السماء. كنت كلما رأيت طائرة مسافرة أتخيلها دون هيكلها الخارجي. أرى كل أولئك الركاب جالسين على مقاعدهم معلقين في الهواء وبعضهم يقف أو يمشي في الممر. صورة تسبّب لي الدوار دوماً، إذ لا أقوى على الاحتفاظ بهم طويلاً على هيئتهم هذه، سرعان ما يسقطون، وبدلاً من الأشياء والمقاعد والأجسام والحقائب المبعثرة ثمة الصراخ فحسب؛ صرخة واحدة، هائلة، تسقط من علوّ شاهق إلى فراغ لا قعر له. لم يخطر ببالي يوما أنه يمكن السقوط من اليابسة أيضاً. الناس الآن في منازلهم، في حجراتهم، أكثر ثباتاً من أيّ وقت مضى في تاريخهم المشترك، لكنهم يسقطون طوال الوقت، يرتطمون بأجسادهم، يختفون دون أن يختفوا حقاً، يتلاشون عكسياً؛ من مجرد فكرة وجودهم.
هذا، ربما، مظهر آخر من مظاهر الموت الجماعي. على شاشة الموبايل أو التلفزيون، تتلاحق الأرقام، 461 وفاة جديدة في إيطاليا، 1200 في الولايات المتحدة، 320 في إسبانيا “في أقل حصيلة يومية” منذ ستة أسابيع.. الناس، في حقيقة الأمر، لا يموتون بل يختفون. الطريقة التي تمتدّ بها يد الموت العملاقة وتغرف كل هذه الأرواح دفعة واحدة، لا تختلف جوهرياً عن فناء آلاف البشر في الانفجارين النوويين في اليابان، ولا في تسونامي، ولا في الـ11 من سبتمبر، ولا في حرب سوريا، “تعدّدت الأسباب…”، إلا أن الأمر في هذه الحالة أقرب ما يكون للاختفاء القسري، وهو اختفاء يوميّ يكاد يكون روتينياً، جاعلاً الصلة بين “عالم الأحياء” و”عالم الموتى”، تلك الصلة التي نحاول جاهدين نسيانها، أشدّ حضوراً من أيّ وقت مضى.
في رواية كيفن بروكماير “تاريخ وجيز للموتى” (2006) تفنى البشرية نحو منتصف القرن الحادي والعشرين، بفايروس غامض (تتكشّف لاحقاً أسبابه)، لكنّ عدداً من الموتى يظلون موجودين، يمارسون ما كانوا يمارسونه في حياتهم، يعملون ويمارسون الحب ويتشاجرون ويتنزهون في الشوارع والحدائق، لكنهم يعرفون أنهم موتى، وينتظرون الانتقال من هذا “المطهّر” الذي يسميه الكاتب ببساطة “المدينة” إلى العالم الآخر. هؤلاء الموتى ما زالوا موجودين لأن الشخصية الوحيدة الباقية على قيد الحياة، لورا بيرد، ما زالت تذكرهم، إنهم كل من عرفتهم أو صادفتهم يوماً، وما زالت تتذكرهم، وما إن يختفي أحد من ذاكرتها حتى يختفي من “المدينة”، وما إن يبرز آخر، حتى يظهر في المدينة آتياً من الصحراء.
الذكرى هي كل ما يبقى من الشخص بعد رحيله، هكذا يجيب الأب طفله في إحدى أقسى حلقات “ديكالوج” وأشدها سوداوية؛ الأب في تلك اللحظة لا يعرف أن الذكرى هي كلّ ما سيبقى من طفله: هل السبب أنه آمن بالتكنولوجيا أكثر مما ينبغي، فجعل منها إلهاً آخر، أم أن موت الطفل كان سيحدث بصرف النظر عن رأي أبيه بالحياة وما بعدها؟ الموت، في كلّ الأحوال، حادث طارئ، لكننا اعتدنا أن نعامل موت الأكبر سناً على أنه حادث بديهي؛ كانت ميتة “طبيعية” نقول، في تمييز واضح عن الميتات الأخرى، المفاجئة، في عمر الطفولة أو الشباب، الميتات غير الطبيعية حتى وإن كانت نتيجة مرض عضال. يبلغني موت ابن خالي في الثانية والأربعين من عمره. كان يصغرني بستّ سنوات تقريباً، وأذكر أنني أمضيت الشطر الأكبر من طفولتي في اللعب معه ومع شقيقه. أكثر من 35 عاماً مضت مذ سافرت عائلته إلى الخليج، لم ألتقه خلالها سوى مرة واحدة، خلال جنازة قريب آخر. ذكرى هذا اللقاء هي ما بقي منه في رأسي، أما ألعاب الطفولة فتقلصت إلى مجرد فكرة؛ مجرد حقيقة موضوعية تخلو من الذكريات والصور القادرة على استحضار الشخص في حالته الأولى، قبل أن يتدخل الزمن بمعوله الضخم.
لم يفارق “سمير” الحياة بسبب كورونا. توقف قلبه فجأة؛ ميتة طبيعية، لكن المؤكد أنه لم يفارق الحياة، بل الحياة هي التي فارقته، أي “وافته المنية”، مثلما تقول العربية. يقول كريستوف كيزلوسكي في نعيه لأندريه تاركوفسكي “لقد مات للأسف.. على الأرجح لأنه لم يعد قادراً على الاستمرار في الحياة. قد نقول إن امرئا ما مات بسبب السرطان أو في نوبة قلبية أو تحت عجلات سيارة، لكن السبب الحقيقي لموت الناس أنهم لا يعودون قادرين على مواصلة العيش”، قد تكون هذه ترجمة كيزلوسكي الخاصة لتعبير “فارق الحياة”، تعبير ينطوي على شيء من الكرامة، إذ يمنح الناس دوراً ما في موتهم، حتى حين لا يكون موتهم انتحاراً، مباشراً أو غير مباشر، بل مجرد حادث طبيعي. مات تاركوفسكي بسرطان الرئة عن أربعة وخمسين عاماً، السن نفسه الذي توفي فيه كيزلوسكي بمرض القلب. في الإنجليزية، التعبير الذي ينطوي على المعنى نفسه لتعبير “فارق الحياة” هو “departed”، أي رحل أو راحل؛ ربما لا فرق جوهرياً بين اللغات في ما يتعلق بهذه المسألة، فنحن أيضاً نصف ميتاً بـ”الراحل” من باب التوقير له أو للموت نفسه، نتفادى قول “مات” أو “ميت” فجّة صريحة وكأن ثمة قلة أدب أو قلة ذوق في هذين التعبيرين، إلا أن هذه الكرامة اللغوية اللاحقة على حدوث الموت هي على الأغلب شكل من أشكال التعويض أو مقاومة الهشاشة الأصلية التي تنطوي عليها الحياة والرعب الأصلي الذي ينطوي عليه الموت، نمنح أنفسنا دوراً ما في ما لا دور لنا به على الإطلاق، إشارة أخيرة إلى أننا لم نهزم هزيمة مطلقة وكانت لنا الكلمة الأخيرة؛ أتساءل إن كان محمود درويش في “لاعب النرد” كان يفعل شيئاً من هذا القبيل، يؤرخ رحيله ويحاول أن “يهزم الموت” حقاً باللغة.. أتساءل إن كان هو لاعب النرد، أم أنه كان يردّد صدى المعلقة الشهيرة “رأيت الموت خبط عشواء.. ؟”.
لا ريب أن الميتات الكثيرة بفايروس كورونا، وبصرف النظر عن أعمار الراحلين وأماكن عيشهم وظروفها، هي “خبط عشواء”، وما القبور الجماعية التي فتحت في نيويورك لاستقبال من لا أهل لهم من الضحايا، أي من لم يتم التعرف على هوياتهم، حتى تكون لهم قبور فردية وشواهد، إلا تعبيراً آخر عن فاجعة هذا الموت الجماعي. فحتى من تقام لهم جنازات لا يحظون بالوداع اللائق، فهم يدفنون سريعاً دون مراسم ولا مودّعين، أي دون ممارسة الحداد أو الحزن الذي من دونه يبقى كل وداع ناقصاً. تسأل الأم المفجوعة على زوجها وابنتها، مربيتها المنزلية، عن سبب بكائها، فتجيبها الأخيرة “أبكي لأنك لا تبكين”. هكذا ربما كان كيزلوسكي يقدم مراسم وداع الطفل الغارق في “ديكالوج” (1988)، عبر بكاء المربية على طفل آخر في “الأزرق” (1993).
“الموتى لا يموتون” مثلما اختار جيم جرموش أن يعنون فيلمه الغريب عن الزومبيز ونهاية العالم، في العام السابق، وإن كان من مشهد يمكن اختياره من هذا الفيلم لوصف مدننا في زمن كورونا، فهو مشهد بيل موراي وآدم درايفر يجوبان شوارع البلدة المهجورة بسيارة الشرطة حين ينقطع الإرسال ويموت الاتصال بالعالم. كانت كوكا كولا في “تاريخ وجيز للموتى” التي نشرت الوباء الذي أفنى البشرية، أما سبب الفناء في “الموتى لا يموتون” فانزياح الكوكب الناجم عن العبث البشري بالطبيعة “تتعدّد الأسباب…” مرة أخرى، ودائماً. لكنّ الذكرى، سواء تجسدت في شجرة “التمرحنة” كما في “السقّا مات”، أم في لحظات تستعاد من وقت إلى آخر، هي ما يجعل الموتى لا يموتون حقاً، وهو ما يجعل دون كويلو، ذلك الأب الأميركي في الثانية والثلاثين من عمره، يستجمع طاقته الباقية ليكتب رسالة لزوجته وولديه، قبيل وفاته بكورونا، إذ أراد الرجل أن يترك أثراً ملموساً، كلمات مفعمة بالتفاؤل والسعادة يسجّل بها خاتمته الخاصة ويهزم بها الموت على طريقته. أما الممرضة النيويوركية لونا برين فقد اختارت أن تنهي حياتها بنفسها عن عمر 49 عاماً، بعد أيام مضنية للروح قبل الجسد، أمضتها في غرفة الطوارئ تعالج مرضى كورونا، وتعجز عن مساعدة العديدين ممن فارقوا الحياة أمام ناظريها.
هل هزم الموت لورنا أم هزمته؟ لا أحد يملك الإجابة عن هذا السؤال. ربما علينا أن نسمع أكثر صوت الناجين، أولئك الذين اقتربوا كثيراً من مفارقة الحياة ثم عادوا إليها، كتب لهم عمر جديد مثلما يقال، وربما أحدهم ذات يوم، في أزمة أخرى أو في وباء آخر، سيحتفل بعيد ميلاده المئة مثل الكابتن توم مور وهو يمشي مئة جولة في حديقة منزله ليجمع التبرعات للجهاز الطبي البريطاني محاولاً بخطواته البطيئة هذه أن ينقذ بعضاً ممن يصارعون الموت على أسرة المشافي، متذكراً مع كل خطوة وجوه رفاقه الذين قصفت أعمارهم ذات حرب كونيّة لا تقل وبالاً عن كورونا، محاولاً أن يوصل رسالة أخيرة مفادها أن الموتى لا يموتون.. إلا إن ماتت ذكراهم.
إني أختنق
“أول ما تكتشفه عن الموتى، هو أنهم، إن ضربوا بقوة كافية، إنما يموتون كالحيوانات”. (إرنست همينغواي، تاريخ طبيعي للموتى)
لقطة فيديو تعيد نفسها؛ رجل يصرخ محتجاً على الأوضاع الصعبة التي يعيشها، والمراسل الصحافي يحاول فهم قصته وفي لحظة ما يبدو متشككاً بأوجاع الرجل (إذ كم شخصاً يصرخون على هذا النحو ما إن يروا كاميرا في المكان)، إلا أن القصة تتخذ منعطفاً دراماتيكياً، فالرجل يسقط أرضاً أمام الكاميرا، في حين لا يملك المراسل والجمهرة المحيطة به سوى محاولة إنعاشه ظناً منهم أنه أغمي عليه من شدّة الانفعال أو القيظ. لم يكن المحيطون بالرجل، بمن فيهم المراسل، يعرفون أنه مات، لكننا نحن، من شاهدنا الفيديو بعد بعض الوقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحت عنوان “شاهد رجلاً يموت مباشرة على الهواء” (التي باتت تتكرّر كثيراً في منشورات وسائل التواصل الاجتماعي كأنها اعتيادية حقاً) نعرف أننا نشاهد رجلاً يوشك أن يموت على الهواء مباشرة، ثم نراه وهو يسقط بالفعل ميتاً. لا أذكر أين بالضبط وقع هذا الحادث، ربما في مصر أو العراق أو اليمن أو أيّ بلد آخر، ولا من هو الرجل أو الصحافي أو لصالح من يعمل، لكنني أذكر أنني أعدت، عبر شاشة هاتفي، لحظة سقوطه عدة مرات، محاولاً فهم شيء ما عن هذه اللحظة، وما إذا كان في ملامح الرجل ما يشير إلى أنه سيموت. بالطبع، الصورة تظلّ معلقة، ومشاهدة “لحظة موت رجل” مستحيلة في حقيقة الأمر، أولاً لأنها مجرد لحظة، لا تتجاوز لحظة إغماض العينين بسبب أشعة الشمس، وثانياً – وهذه مفارقة اللحظويّ – لأن هذه اللحظة أبدية ولا تستطيع أيّ كاميرا أو وصف أو تعليق جعلها تنطق بغير ذلك.
كيف يكون الإنسان قبل ثوان من فنائه؟ كيف يكون وجهه لحظة موته وخلال اللحظات التالية لها؟ فكرةٌ لطالما أسرت المخيلة على مرّ العصور؟ هل يستطيع الوجه أن يكون سجلاً للاّمرئي، وهل اللحظات الأخيرة والملامح الأخيرة والنظرات الأخيرة قادرة على إعطائنا نظرة مختلسة إلى العالم الآخر؟ أذكر أنه كان في مكتبتنا، فترة طفولتي، كتاب قديم يتحدث عن تحضير الأرواح (لا أعرف كيف احتلّ هذا الكتاب مكانه بين صفوف الكتب الماركسية “العقلانية” التي كانت تكتظ بها المكتبة) ويورد الكتاب حوادث شهيرة سجّلت فيها بالفعل (بحسب زعمه) لحظة خروج الروح. وبين الصور العديدة التي ضمّها الكتاب، ثمة صورة محدّدة بالأبيض والأسود ظللت أرجع إليها، تظهر فيها ملاح وجه شبح (رجل ميت) وقد علت فمه رغوة بيضاء، لا أعرف السبب لاستخدام الرغوة، وما إذا كانت أفواه الأشباح يفترض أن تكون مزبدة كهذا الشبح المفترض، لكن ربما كانت تلك محاولة من “مؤلف” هذا الكتاب لإضفاء مزيد من المصداقية والرهبة على الصورة. إذ ما الفائدة في أن يكون وجهاً عادياً، مجرد وجه نعرفه أو نصادفه في الحياة؛ ينبغي أن تكون هناك علامة مميزة، تبثّ الروع في القلوب، وتضفي على المشهد مزيداً من اللغز والوقار.
هل للموت وجه؟ وهل تمكن رؤية وجه الموت؟
نعيش في حقبة يكثر فيها الموت. صار الموت يومياً، بل يكاد يكون اعتيادياً رغم كلّ مشاعر الصدمة المصاحبة له. ومتابعة أخبار هذا الموت وتطوراته أمر لا يقلّ اعتيادية. فبفضل شيوع التطبيقات التي تنشر على مدار الساعة تطورات انتشار وضحايا فيروس كوفيد – 19، صار في مقدور أيّ شخص متابعة الزيادات المطردة في أعداد الموتى حول العالم. لكنّ كل هذه الأخبار والتقارير والأرقام لا تقدّم ولو لمحة عن وجه الموت، هذا الموت تحديداً.
ظلّ تصوير الموتى أو صور ما بعد الموت، تقليداً شائعاً نحو قرن من الزمن، منذ منتصف القرن التاسع عشر وبداية التصوير الضوئي وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كان حفظ وجه قريب أو شخصية عامة أو أحد رجال الدين واحداً من استخدامات التصوير الفوتوغرافي واستمرارية لتقليد أوروبي شاع قبل ذلك، وهو تكليف رسام محترف بعمل بورتريه للمتوفّى يكون بمثابة ذكراه الباقية. ويستطيع المتابع لأرشيف “المؤسسة العربية للصورة” إلقاء نظرة على العديد من صور الموتى، من كهنة وقساوسة، التي تعود لبعض المجموعات الأولى المحفوظة من ذاكرة التصوير في المنطقة العربية، كما أن عدداً من تلك الصور، يحتفظ بها عدد من المكتبات الكبرى حول العالم، ومنها مكتبة الكونغرس التي لديها، مثالاً لا حصراً، صورتان فوتوغرافيتان، لأسقف سوري معروض جثمانه في كنيسة سورية بين عامي 1940 و1946، وهي الفترة التي توقفت فيها هذه الممارسة حول العالم، بعد أن بات من الاعتيادي حفظ ذكرى الشخص العزيز المتوفى (وشكله)، في حياته، مع شيوع التصوير الفوتوغرافي وتحوله أكثر فأكثر إلى ممارسة منزلية وفردية اعتيادية. أما تصوير الموتى فبات أمراً غير مستحبّ، وفي كثير من الأحيان لا أخلاقيا ويعدّ انتهاكاً لحرمة الميت وخصوصيته، ولم تكن صدمة العالم بعمليات الذبح والإعدام العلنية التي مارسها تنظيم داعش الإرهابي، لفترة قريبة خلت، إلا نتاج عرف أخلاقي عالمي متبع، ومدعوم بالمبادئ والقوانين، يجرّم انتهاك كرامة الميت عبر عرض لحظة وفاته أو مقتله.
لعل هذه الفكرة، إضافة إلى ذاكرة تسجيلية مشحونة بالأسى، هي التي دفعت بإرنست همينغواي إلى كتابة قصته القصيرة “تاريخ طبيعي للموتى”، والتي نشرها بداية في العام 1932، في ختام الفصل الثاني عشر من روايته “موت بعد الظهيرة”، ثم عاود نشرها العام التالي كقصة مستقلة في المجموعة القصصية “المنتصر لا يحظى بشيء”. ورغم أن الراوي في هذه القصة هو “عالم طبيعي”، وليس جندياً ولا مراسلاً صحافياً، مثلما كان همينغواي في الواقع، غير أنه يصعب على قارئ القصة ألا يشعر بأنها جزء مستلّ من مذكرات لم يكتبها همينغواي في حقيقة الأمر، وربما كان ذلك مقصوداً من طرفه، إذ أراد أن يسبغ على القصة بعداً “واقعياً” يتجاوز السرد المتخيّل إلى الإحساس التصويريّ؛ لقد أراد همينغواي أن يرينا وجهاً من وجوه الموت مثلما رآه بنفسه. فيصف في البداية، وبصفته مراقباً (عالماً طبيعياً) ينظر بحياد إلى تلك الوجوه مثلما ينظر عالم الطبيعة إلى نبتة أو حيوان نافق، ويستخلص وصفاً موضوعياً (صورة وليس انطباعاً ذاتياً)، لعدد من الجنود الموتى الذين صادفهم الراوي في شمال إيطاليا خلال الحرب العالمية الأولى “حتى يدفن الموتى، فإن مظهرهم يتغيّر بصورة يومية. اللون في العرق القوقازي يتبدل من الأبيض إلى الأصفر إلى الأصفر المشوب بالخضرة إلى الأسود.. الموتى يتضخّمون كلّ يوم حتى يغدون أكبر من بزاتهم العسكرية، يملؤونها حتى تغدو ضيقة إلى حدّ تشعر أنها ستنفجرّ”. لكنّ الراوي سرعان ما ينتبه إلى أن ما يصفه ليس “موتاً طبيعياً” بل هو أثر من آثار الموت قتلاً، بفعل الحرب تحديداً، فيعقب قائلاً “الموت الطبيعي الوحيد الذي رأيته، خارج إطار الموت بسبب فقدان الدم، وهذا ليس بالأمر السيء، هو الموت بسبب الإنفلونزا الإسبانية”، ثم يصف بمزيد من الإسهاب “في هذا الموت تغرق في المخاط، مختنقاً، وكيف تعرف أن المريض قد فارق الحياة، فمن خلال أنه يعود في النهاية طفلاً، وإن ظلّ محتفظاً بقوته الرجولية، ويخضّل الملاءات كأي حفّاظ بشلال أخير هائل أصفر اللون، يظلّ يسيل بعد موته”.
تلك واحدة من أفظع الشهادات المنقولة عن الموت بالوباء، بعد الكتابات والرسومات والحفريات الرهيبة التي تصوّر الموت بالطاعون خلال قرون سابقة. لكنّ اللافت أن الموت بكوفيد – 19، وقد شارف عدد الوفيات حول العالم، عند كتابة هذه السطور، على النصف مليون، يبقى تقريباً بلا صورة. وإذا وضعنا جانباً الموت على أسرّة المشافي فإن ما يثير قدراً لا يقلّ من الأسى، هو الموت الاعتيادي في البيوت التي قرر أصحابها عدم الذهاب أو عدم اصطحاب آبائهم وأجدادهم إلى المشافي، إدراكاً منهم أن تلك اللحظة ستكون اللحظة الأخيرة التي يرونهم فيها، كما هناك الأعداد الكبيرة ممن يموتون في دور الرعاية، أو ممن يموتون وحدهم من مشردين وأشخاص لا أهل لهم ولا أصدقاء في هذا العالم. هذا الموت عديم الصورة ليس إلا انعكاساً لحياة سبقته هي في الغالب عديمة الصورة أيضاً. فليس من قبيل الصدفة أن يكون أكثر ضحايا الجائحة هم من الطبقات الفقيرة أو الأقليات (مثل السود في أميركا أو حتى بريطانيا) الذين أدت سياسات التهميش الاقتصادي والسياسي والتعليمي والصحي والثقافي، على مرّ عقود، إلى أن يكونوا في طليعة ضحايا جائحة كورونا. أولئك الأفراد لا يختلفون جوهرياً عن مئات آلاف الجنود الذين تحدث عنهم همينغواي، والذين يزج بهم في مطحنة الحروب ويتركون لمصيرهم فقط لأن ثمة ثقافة تاريخية جعلت دور الفقراء والمهمشين أن يموتوا بصمت، وأن يكون موتهم هامشياً أيضاً، وإن غطته مزاعم البطولة وغلفته شعارات التضحية والوفاء.
خلال أزمة كورونا بدا كلّ شيء آخر أقل أهمية، وكأنه لا يحدث. لكن ظهرت مقاطع فيديو ذكرتنا بأن المآسي الأخرى ما زالت تحدث وربما بسوء أكبر. هكذا جلست عاجزاً تماماً، ككل المرات السابقة، وأنا أشاهد مقطع فيديو لضابط سوري يجبر امرأة وزوجها، تحت الضرب والتعذيب والإهانات اللفظية المتواصلة، على النهيق. الرجل وامرأته من الواضح كم هما بسيطان، وعلى الأرجح أن يكونا مجرد مزارعين لا شأن لهما بالسياسة، ولكن شاء قدرهما، كقدر ملايين السوريين، الوقوع في قبضة هذه الآلة الوحشية المروّعة. وعلى بعد ساعات من هذا الفيديو (الذي سبقته آلاف الفيديوهات المشابهة خلال سنوات الحرب السورية) ظهر فيديو جورج فلويد وهو يلفظ أنفاسه تحت قدمي شرطي أميركي. “لا أستطيع التنفس”، قال الرجل، لتتحول صرخته هذه إلى شعار الملايين حول العالم ممن يشعرون مثله بالاختناق جراء عقود مديدة من الظلم والاضطهاد واللامساواة واللاإنسانية وانسداد الأفق. وإذ تأتي هذه الصرخة في خضم المعاناة الكونية جراء أزمة كورونا، فربما كتذكار لا بدّ منه، بالمظالم الأخرى الكثيرة التي تقع على امتداد البلاد والقارات. لا أعرف إن كان ثمة أيّ كرامة في الموت، لكن الشواهد جميعها تؤكد أن كرامة الحياة لا تنفصل عن كرامة الموت، وهو ما تنبه إليه همينغواي باكراً جداً حين وضع مقتل الجنود في الحروب بموازاة من يموتون بالإنفلونزا الإسبانية. هذه الأخيرة هي الوحيدة التي يمكن وصفها بـ”الموت الطبيعي” على حدّ وصفه، أما الموت بالرصاص، بالقتل، بالظلم، بالقهر، فلا يختلف عن موت الحيوانات، وإذ أصر الضابط السوري على جعل الزوجين المسكينين ينهقان، وربما يخرجان من الأسر بعد ذلك، وتستمر حياتهما طويلاً، وربما يكونان قد قتلا، لا فرق بالنسبة إلى ذلك الضابط الذي يأمل أن تكون كرامتهما وكرامة الملايين مثلهما هي التي دفنت إلى الأبد، ذلك اليوم، في تلك الحجرة المظلمة.
كأنه الهايكو.. كورونا أو العالم كما هو
هناك أشياء كثيرة مشتركة بين فيرونيكا، مثلما يلفظ اسمها بالبولندية، وفيرونيك، مثلما يلفظ الاسم نفسه بالفرنسية. أوضح هذه الأشياء، أنهما الشخص نفسه، بالصفات والملامح الجسديّة نفسها، والسن نفسه. أوضحها أيضاً، أنهما كلاهما لديهما علاقة بالموسيقى، إحداهما تغني والأخرى تدرّس الموسيقى. هذا التوأم غير البيولوجيّ يلتقي في لحظة عابرة؛ فيرونيك الفرنسية على متن حافلة تلتقط صورة لشارع في كراكوف ببولندا، فتكتشف بعد ذلك، خلال مطالعة الصور بالصدفة في غرفة فندق مع “حبيبها” الفرنسي، أنها هي نفسها في الصورة، إلا أنها لا تمتلك معطفاً كالذي ترتديه الفتاة في الشارع. كريستوف كيزلوسكي كان مفتوناً بالصدفة وبالطريقة التي تتجلّى فيها الحياة سلسلة لا تنتهي من المرايا التي يعكس بعضها بعضا دون قصد ودون بيان سياسي أو فكري ما. كلا الفتاتين أيضاً، يحمل كرة مطاطية شفافة، تؤدي دور المرآة التي يمكن رؤية العالم الخارجي من خلالها معكوساً ومكثفاً في آن معاً. العالم الخارجي حيث تحدث الحياة الحقيقية دون تعليق من أحد عليها، هو العالم الذي شغل تفكير كيزلوسكي السينمائي، وربما هو الذي يقف وراء نظريته حول “تحويل الواقع إلى قصة درامية” خلال مرحلة انغماسه بالأفلام الوثائقية، ذلك أن القصة تحدث بمجرد أن الحياة تحدث ودور الكاميرا توثيق ذلك ودور المخرج خلال ذلك وبعده، إيجاد الخيط السرديّ الناظم دون فرض عنصر من خارج القصة “الحقيقية” عليها. نحن، إذن، شهود على الواقع مراقبون وموثّقون له على أفضل تقدير ولسنا صناعاً له.
فرضت فترة العزل عليّ، كما على العالم، الكثير من التغييرات. ورغم أنها لم تغيّر عادة مشاهدتي فيلماً سينمائياً كل ليلة، لكنها حرمتني من الإيواء إلى النوم فور انتهائي من المشاهدة، إذ بتّ أعود إلى التلفزيون لأعرف آخر أخبار الجائحة تلك التي أمضي السواد الأكبر من اليوم في تتبعها على أيّ حال. ليس السعي إلى المعرفة وحده ما يجعلني أقلّب بين القنوات، فالأرقام تكاد تكون نفسها، والوقائع لا تتبدّل كثيراً بين قناة وأخرى. بل هي محض عادة مكتسبة. أتذكر حرب الخليج الثانية. كانت الحدث الذي أدخل “سي إن إن” إلى المنطقة والعالم والذي جعلنا نجلس ونشاهد الأخبار لا بوصفها نشرة تقدم مرة واحدة كل مساء، مثلما كان يحدث قبل سنوات قليلة من ذلك، بل بوصفها حدثاً مستمراً. أذكر أنني كنت أجلس لساعات مفتوناً بحقيقة أنني أرى ما يحدث، خلال الوقت الحقيقي، في بغداد، بل دفعتني كل تلك الأخبار المتلاحقة، والتي لا تعدّ شيئاً يذكر أمام حمّى الأخبار في أيامنا هذه إلى تسجيل يومياتي أو يوميات تلك الحرب، مثلما أراه على شاشة التلفزيون، ولا فرق بين هذه اليوميات وتلك على أيّ حال، أو هكذا كنت أظنّ على الأقلّ.
كانت تلك لحظة تكررت كثيراً لاحقاً وفي حروب ومحطات مفصلية عدة (الانتفاضة الثانية، الـ11 من سبتمبر.. إلخ) أصبحت خلالها يومياتنا هي يوميات الشاشة نفسها. استثمار مالي وسياسي هائل وحتمية تكنولوجية أوصلا على الأرجح إلى الطفرة الهائلة في الفضائيات الإخبارية التي صارت تسرد قصة العالم من حولنا، وجعلت الأخبار شيئاً لا يتوقف، صورة موازية، لها قوة الواقع ووقعه وتبعاته، وفي أحيان كثيرة هي الواقع نفسه، إذ لا شيء يحدث إلا ما يحدث على الشاشة، وما لم تكن في قلب الحدث (الحرب، العمل الإرهابي، المظاهرات.. إلخ)، فإنك متساو مع الجميع ممّن ليسوا في خضم الحدث، لكنهم جزء منه، بما أنهم المشاهدون له والشهود عليه وعلى قوة تأثيره.
في “حياة فيرونيك المزدوجة” (1991) لا شيء يحدث حقاً سوى المصادفة والحدس، وكلاهما معاً يجعلان الخيط الفاصل مع الواقع، يُمحى تقريباً. فيرونيكا البولندية تقول إنها تشعر (تحدس) بأنها ليست وحيدة في العالم، وهذا الشعور الغامض يملؤها غالباً بسعادة ونشوة وامتلاء هي نفسها لا تدرك كنهها، لكنها ربما من الأسباب التي تجعل قلبها يتوقف خلال الغناء على المسرح. فيرونيك الفرنسية تشعر على العكس منها أنها وحيدة في العالم، وهو ما يحدث حين تفقد شخصاً ما في حياتك؛ تصبح ناقصاً من الداخل. وهذا الشعور هو ما يفسّر الحالة المختلطة من الفرح والحزن الذي تعيشه فيرونيكا البولندية وفيرونيك الفرنسية، تماماً كراقصة البالية، في عرض مسرح الدمى (الذي تشاهده فيرونيك)، التي تكسر ساقها ولا تعود قادرة على الرقص، فتموت ثم تتحول فراشة. وعلى عكس معظم عروض الدمى التي لا تظهر فيها يد أو أيدي من يحركونها، فإننا في هذا العرض نرى كمشاهدين، مثل الجمهور في الصالة، يد محرك الدمى، لأن يد محرك الدمى هي جزء من الواقع الذي يحدث ولا حاجة إلى إخفاء هذه الحقيقة أو تمويهها.
أجلسُ وأقلّب إذن، ومثلما ينهض الجنود إلى تمارينهم الصباحية كل يوم، ننهض، في أوقات تخصّ كل شخص أو كل عدة أشخاص معاً، إلى عادة تقليب القنوات. في زمن كورونا، يحدث الكثير كل ثانية. أعداد المصابين والموتى تتراكم. القصص الإنسانية تتعدّد. الدراسات والاستطلاعات والإحصاءات تتدفق. وتبقى الحقيقة الثابتة هذه المرة، أننا، البشرية برمتها، في خضم القصة، ولسنا جزءاً منها، كمشاهدين لها فحسب. إننا نشاهد أنفسنا، قصتنا، تاريخنا الشخصي، وهو يتوالى فصولاً أمام عيوننا. ربما نتساءل عمّا يحسّ به الأشخاص في الأوقات القصوى، الأشد حرجاً، العاملون الصحيّون في غرف الطوارئ، أو المرضى على الأسرة، الذين يخذلهم الهواء، فيختنقون. لكننا نتساوى في كل شيء آخر، في كل فكرة وكل شعور تزدحم به رؤوسنا طوال اليوم.
فيرونيكا ترى من نافذة غرفة عمتها عجوزاً تنوء بحمل بضع حقائب ورقية فتفتح النافذة وتناديها وتسألها إن كانت بحاجة إلى المساعدة. العجوز لا تردّ وتواصل سيرها. فيرونيك الفرنسية ترى من نافذة الصف المدرسي، عجوزاً تنوء بحمل نفسها فقط وتمشي بهدوء بين الأشجار. فيرونيك لا تتدخل لكنها تتذكر ولا تعرف حتى ما الذي تتذكره. في لعبة المرايا المضاعفة هذه ما يشبه الرجل في لوحة رينيه ماغريت “يمنع إعادة إنتاجها”، فبدلاً من أن نرى وجه الرجل منعكساً في المرآة، نرى رأسه من الخلف منعكساً مرة أخرى. هل كان ماغريت يلعب ويستفز الناظر فحسب، أم أن ثمة ما يريد أن يقوله من خلال هذه اللوحة، ولماذا يظهر الكتاب في الجزء السفلي، وهو ترجمة فرنسية لإحدى قصص إدغار ألن بو، منعكساً في المرآة، في حين يعاود الرجل نفسه الظهور ولكن دون انعكاسه، أي دون وجهه؟ هل المرآة، كالتلفزيون، كالفضائيات الإخبارية، عاجزة عن سرد الواقع الموضوعيّ، أم أن هذا السرد أكثر عبثاً من أن يتّسع له إطار واحد، سواء أكان إطار مرآة أو لوحة أو شاشة تلفزيونية؟ فيرونيكا، من نافذة القطار، ترى العالم عبر كرتها الشفافة، منعكساً بالمقلوب. فهل يمكن القول إنها ترى العالم، هذا العالم، أم أنها ترى عالماً آخر تماماً؟
أعمل، خلال الحظر ببطء شديد أنا نفسي لا أفهمه، على تنقيح ترجمة كنت أنجزتها قبل أزمة كورونا، لديوان الشاعر والروائي الأميركي ريتشارد رايت “هذا العالم الآخر”. عنوان الديوان، وهو نتاج تجربة رايت، خلال إقامته في باريس في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، مع شعر الهايكو الياباني، يحمل في حدّ ذاته دلالات مثيرة ربما لا تقلّ إلغازاً عن لوحة ماغريت أو عن فيلم كيزلوسكي. اختار رايت، أن يشير بسبابته إلى “هذا” “العالم الآخر” وليس “ذاك” القريب أو “ذلك” البعيد، فالعالم الآخر هو العالم القائم الآن وهنا، ونحن في قلبه، لكننا ببساطة لا نراه، أو لم نكن نراه. إنه العالم الذي يتجسّد أمامنا لحظة أن نفتح عيوننا ونقرّر أن نرى. إنه، بمعنى ما، واقع كيزلوسكي الذي يروي قصته بمجرد حدوثه. وقد أراد كيزلوسكي أن يختبر ذات مرة حدود نظريته هذه فطلب من ثلاثة أشخاص من خلفيات مختلفة أن يسجلوا على الورق يوماً من حياة كل واحد منهم، بتفاصيله الحقيقية ودون أيّ تعليقات أو إضافات ذهنية، والنتيجة بالنسبة إليه كانت ثلاثة سيناريوهات “مذهلة” وقابلة للتنفيذ على حدّ وصفه. لقد تضمنت تلك اليوميات وصفاً للعالم كما هو، لا تأويل له ولا سرد لعالم الأفكار والأحلام، وهو ما كان على رايت أن يكتشفه في منفاه الفرنسي، مستعيناً بفلسفة “الزن” وتجليها في شعر الهايكو، أي كيف يرى العالم كما هو دون الحدود والقيود الأيديولوجية والسياسية والثقافية، كيف يقف عارياً تماماً أمام الطبيعة ليكتشف فحسب حجم ضآلته أمامها، لأن هذه الضآلة شرط من شروط رؤية (وعيش) العالم كما هو وهذا الاكتشاف أو التجلي هو ما يجعله يفتتح ديوانه بالمقطع التالي:
“لستُ أحداً:
شمسٌ خريفيةٌ حمراءُ آفلة
حملتْ اسمي بعيداً”.
أقلّب إذن بين القنوات، مقترفاً في حق نفسي، ما أعدها كل ليلة بأنني لن أقترفه غداً، وهو مشاهدة الإيجاز الصحافي للرئيس الأميركي حول أزمة كورونا. أراه وهو يحوّل هذا الأمر الجلل، هذه المأساة، إلى عرض تلفزيوني. لست مهتماً بالتعليق على الأيديولوجيا السياسية التي تقود ترامب أو يقودها، بقدر ما يذهلني هذا العرض الذي يقدّمه للعالم أجمع. فهذا العرض يختزل بالتحديد العالم التلفزيوني/الإخباري الذي يتكون منه ترامب والذي يصنع صورة العالم، مثلما ينبغي أن تكون، لا مثلما هي في الواقع. أصدّق حين يقول مساعدو الرئيس الأميركي إنّ كلامه عن معالجة كورونا بحقن المصابين بالمطهرات المنزلية لم يكن مخططاً له. فقد برز هذا الكلام في لحظته؛ لحظة انتشاء تلفزيونية خالصة، جعلت الكلام يخرج من فمه، مثلما يحدث مراراً، دون أن يتعمد ذلك أو يعدّ له. مدهش كيف تكشف لحظة كهذه هشاشة ولا حقيقية العالم الإخباري الذي اعتدنا العيش فيه، وكيف تصبح هي في حدّ ذاتها قصة، بدلاً من أن تكون معالجة أو إدارة أو حتى تعقيباً على القصة الأصلية، وهي كورونا. ترامب، في كل لحظاته التلفزيونية، كما في حضوره على التواصل الاجتماعي، هو النقيض التام لـ”لست أحداً”، فهو “كل شيء وكل أحد”. الأنا المتضخمة عند ترامب، وهي تعبير عن الأنا المتضخمة عند الجميع تقريباً وإن بمستويات مختلفة، ليست إلا ذروة من ذرى لحظتنا الإنسانية الراهنة؛ لقد نجح الإنسان في أن يصبح هو العالم، أما الكائنات الأخرى وحتى الطبيعة، فهي مجرد أداة ملحقة به وبإرادته العليا.
كورونا، اليوم، كما العديد من الكوارث التي جاءت قبله، والتي ستأتي بعده، يدحض ذلك لكننا نرفض ببساطة أن نصدّق.
فيرونيك، في الأثناء، هي الفراشة التي صارتها فيرونيكا. العجوز الفرنسية هي الصورة المضاعفة، غير المنعكسة، للعجوز البولندية. وفي الأثناء يصحبنا كيزلوسكي، مع فيرونيك عبر شوارع باريس، وصولاً إلى محطة المترو حيث يفترض أن تعثر على حبيبها الذي هو الصورة المضاعفة لحبيب فيرونيكا، وبعين كاميرته التي تريد أن يروي الواقع قصته، يجسد قصيدة إزرا باوند “في محطة المترو”، تلك القصيدة التي للصدفة كتبها باوند عن محطة مترو باريس والتي أرّخت بداية الحركة “التصوّرية” وإحدى بدايات التعرف الغربي على الزن والهايكو اليابانيين:
“الظهور المباغت لتلك الوجوه في الزحام،
بتلات على غصن مبلّل، أسود”.
لا أعرف إن كان ماغريت قرأ هذه القصيدة حين رسم “يمنع إعادة إنتاجها”، لكنه على الأرجح كان يفكر في مقدار السحر والغرابة والاستفزاز والصدق في أن تقدّم للمشاهد العالم، ليس كما يتوقعه ولا كما يريد أن يراه بل كما هو في الواقع.
عن الحيوانات والزومبيز وفان غوغ و”تايمز سكوير“
في المبنى المقابل كثير من الشرفات، كثير من النوافذ. أنظر طويلاً إليها، أو إليه، إلى المبنى نفسه، وليس إلى شرفة أو نافذة محددة. لا أجيد وصف لون أيّ شيء. أحياناً أتمنّى لو كنت روائياً روسياً كلاسيكياً أو شاعراً أسكندنافياً لكي أستطيع تقديم وصف مسهب للون السماء أو البحر أو الهواء مثلاً. لا أستطيع. استنباط لون من تمازج بضعة ألوان أو تدرجات لون محدّد ليس أكثر ما أبرع فيه. ربما لهذا السبب لم أتّخذ الرسم هواية يوماً، وربما للسبب نفسه توقفت عن الاستمرار في كتابة الرواية. لعلها قلة الحيلة أو الصبر أو الضجر أو النفور البسيط من الاسترسال المضني في أي شيء، أو كل هذا معاً.
بالنسبة إليّ الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن هذا المبنى يقع في دائرة نظري كلما نظرت من النافذة، أمّا لونه، مثلما تفهمه عيناي، فهو مجموعة من الخطوط. أعرف أنها ليست حقيقة علمية مثبتة، لكن اللون يمكن أن يكون شكلاً. تفكر في البالون، مثلاً، فيخطر لك اللون الأحمر. تفكر في اللون الأحمر فيخطر لك الدم أو فستان نسائي مثير أو أفلام ياسوجيرو أوزو. اللون في هذه الحالة أيضاً شكل. خطوط أفقية وخطوط أخرى عمودية مشطورة إلى خطوط أخرى عمودية وأفقية، ولولا الشرفات الناتئة منها لحسبتها رسماً بالمسطرة على دفتر هندسي. السماء فوق المبنى، الآن على الأقل، رمادية. رمادية يسطع منها ضوء شمس تحجبها الغيوم. ليس ضوءاً ساطعاً لكنه واضح بما فيه الكفاية. ما اللون الناتج عن سماء رمادية تضيئها شمس تحجبها الغيوم؟ رمادي باهت؟ رصاصي؟ لا أعرف. لست بارعاً في وصف الألوان. لكنّني متيقن من أن هذا المبنى، هذا البرج بالأحرى، يتكون من ثلاثة ألوان رئيسية. الأخضر الفاتح لدرابزينات الشرفات. الأزرق الغامق لألواح الزجاج (النوافذ؟) والأبيض القشديّ، لكل الكتل الباطونية (الجدران؟) بين النوافذ والشرفات.
النوافذ المتشكلة من الألواح الزجاجية، ربما تكون نوافذ حقاً، وربما تكون شيئاً آخر لا أعرفه. لا أستطيع الحكم من هذه المسافة، حيث لا يمكن أن يظهر شيء خلف الزجاج الأزرق الغامق (الداكن؟). أما الشرفات المصطفّة بطبيعة الحال فوق بعضها بعضا فمسألة أخرى. لو وقف أحد على أيّ من تلك الشرفات، الظاهر منها في مرمى بصري على الأقل، فإنّني أستطيع رؤيته بوضوح وأستطيع من ملامحه العامة، أن أعرف إن كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً. العمر ولون البشرة ودرجة القبح أو الجمال والحالة النفسية لهذا الشخص سواء أكان فرحاً أو حزيناً، أو بين بين، فهذه أمور لن أستطيع سوى افتراضها مثلما أفترض أحياناً لون السماء دون أيّ درجة من الثقة أو اليقين. لكنّ هذه ليست المسألة. ولا المسألة أنني، منذ اتخذت هذا الركن من الغرفة، المطلة نافذته على ذلك المبنى المخطط، مجلساً ثابتاً للعمل والكتابة، لم ألمح أحداً يقف على أيّ من الشرفات الظاهرة أمامي. المسألة أنني، في أغلب الأحيان، ودون أيّ جهد شخصي ولا أيّ مهلوسات عقلية ولا أيّ رغبة حتى أجد نفسي من حين إلى آخر واقفاً على إحدى تلك الشرفات. ليس مهماً موقع الشرفة، فهو يتغير باستمرار، المهم هو أن الأمر لا يقتصر على التخيّل، بل إنني أصبح فعلاً واقفاً هناك، لأنه أحياناً وبعد فترة من الوقوف على الشرفة دون فعل شيء سوى النظر بلا هدف إلى لا شيء في الهواء أمامي، أشعر بالحاجة إلى الدخول ثانية إلى البيت، وبصرف النظر عن الغرفة التي تؤدي إليها الشرفة، سواء أكانت الصالة أو غرفة النوم أو المطبخ (وهذا احتمال مستبعد)، فإنّني أكاد أحسّ بيدي وهي تعاود فتح باب الشرفة، وبقدميّ وهما تخطوان إلى الداخل ثم بيدي وهما تعاودان إقفال الباب. وبعد ذلك لا شيء. بعد ذلك أختفي كجميع البشر الذين لا بدّ أنهم يشغلون تلك الحجرات في الأوقات التي لا أجد نفسي فيها. أختفي داخل حجرة شخص آخر. أختفي بمعنى أنني أتبخّر. بمعنى أنه لا يعود لي وجود. بمعنى أنني لا أعود قادراً على إيجاد طريقي خارج الظلمة التي تكتنفني داخل تلك البقعة المحددة (أو غير المحددة) من الحجرة. وحده الرعب يعيدني من تلك الحجرة وتلك الشرفة وذلك البرج إلى مقعدي في هذا الركن المحدّد من غرفتي. ولثوان أجد نفسي في حال من الذهول التام، إذ تظلّ هناك أجزاء من نفسي تحتاج إلى أن تجمع نفسها بصلابة داخل جسدي أو عقلي، حتى أعود كاملاً هنا، حتى أستطيع صرف نفسي عن النظر إلى تلك الشرفات وشغلها بشيء آخر كالعمل أو القراءة أو الكتابة أو تصفّح الهاتف أو لعب كاندي كراش.
ماذا لو كان المبنى فارغاً بالفعل؟ ماذا لو كانت المدينة برمتها فارغة بالفعل؟
نحن كائنات افتراضية بامتياز. نفترض أن المطر شيء جميل، فنحتفي بالمطر حين تمطر ونشتاق له حين لا تمطر. نفترض أن المطر شيء كئيب فتحدث العملية نفسها إنما بالعكس. شخصياً، افترضت مثلاً منذ فترة ليست قليلة أن الدجاج الذي أتناوله ليس إلا.. لن أكمل حتى لا أعدي أحداً بهذه الصورة المقززة. لكن العبرة أنني توقفت نهائياً عن تناول الدجاج، وكل هذا بسبب افتراض لا أعرف كيف أستنبطه عقلي فجأة، لكنه صار موجوداً وملموساً ومحسوساً. أي صار للافتراض قوة الحقيقة وعواقبها أيضاً. ألم نفترض في وقت ما أن الدجاج صالح للأكل وبدأنا نطور الأمر شيئاً فشيئاً حتى صار كل كائن يطير قابلا للأكل، بما في ذلك الخفافيش؛ أتساءل أحياناً، وقبل النصوص الدينية التي تحدّد ما يؤكل وما لا يؤكل، أترانا حكّمنا معياراً ذوقياً منحرفاً بطبيعة الحال حول ما يجب أن يدخل إلى معدتنا وما لا نسمح له بذلك. مثلاً الدجاج ظريف وكذلك الماعز والخرفان والأبقار والبط والإوز والعصافير والأسماك (معظمها على الأقل).. تؤكل إذن.. أما الخفافيش والجرذان والسناجب والسحالي ومعظم الحشرات، فهي بشعة دميمة.. لا تؤكل إذن. لكن ماذا بخصوص القطط والكلاب؟ لماذا قرّر بعضنا أنها لا تأكل، وقرر بعضنا الآخر أنها تؤكل؟ لا بدّ أنه اختلاف الثقافات الذوقية، فما نجده في شطر من العالم قبيحاً منفّراً يجده غيرنا في شطر آخر مليحاً ظريفاً شهياً. الخلاصة أن المسألة كلها تبدأ من افتراض؛ افتراض قابل لأن يصدّق ويغدو حقيقة، وافتراض آخر لا يصدّق فيدخل عالم الأكاذيب والخيالات.
قبل بضعة أيام أفقت من النوم مع إحساس عميق، بأن كل ما جرى حتى الآن (كورونا، العزل، الموتى، الخوف.. إلخ) كله كان مجرد كابوس وقد صحوت أخيراً منه. كنت أظن أن هذه الأمور لا تحدث إلا في الأفلام لأنني لم أرها سابقاً إلا في الأفلام. يصحو “البطل” فيكتشف أن زوجته التي قُتلت في انفجار مروّع في كابوسه المروّع، قبل ثوان فحسب، تنام بهناءة بجواره فيدرك أن كل ما عاشه في ذلك المنام ليس حقيقياً وأنه عاد أخيراً إلى أرض الواقع. نهضت من السرير واتجهت إلى الشرفة ونظرت إلى الشارع، وللمفارقة وجدت بضعة أشخاص يمشون في الشارع وسمعت أصوات مطارق العمال في المبنى الذي يستكمل بناؤه على بعد مئات الأمتار من مبنانا. وأذكر أنني، لوهلة، حدثت نفسي بشيء من السعادة الحذرة: هل يعقل أنني كنت أحلم؟ لكنني لم أكن أحلم. كان افتراضاً رائعاً، لكن للأسف لم تكتب له الحياة، ولم يستثمر فيه ما يكفي من التفكير أو الوهم ليصبح حقيقة.
كثير من الروايات (لا حاجة للتذكير بكافكا ولا بأورويل) أو الأفلام (لا داعي للتذكير بهيتشكوك أو داوود عبدالسيد) تبدأ بفرضية ما. نشأة الكون نفسه وتطوره وفناؤه الافتراضي أيضاً، حافلة بالفرضيات. ربما لهذا السبب اخترعنا السرد، ولاسيما السرد المتخيل بمختلف أشكاله وأنواعه. لا لنفهم الواقع أكثر، مثلما يرى بعضهم، بل لنبتعد قدر الإمكان عن الواقع. لنقيم حاجزاً بين الحقيقي والمتخيّل، المفترض والموجود بالفعل؛ حاجز يقينا الجنون أو الارتياب المطلق الناجم عن عيشنا في دوامة لا تنتهي من الافتراضات. لهذا السبب أيضاً اخترعنا الأساطير والآلهة الأسطورية والكائنات الخرافية. ولهذا السبب اخترعنا الأسباب نفسها. هناك أدبيّات كاملة حول الأسباب. ولو وضعنا في غوغل كلمة “لماذا” أو “كيف” فقط لحصلنا على ملايين، إن لم يكن مليارات النتائج. لكن، ورغم هذه الآلة المخيفة والرائعة من الأسباب التي يوفرها غوغل، فهناك أسباب بسيطة لا أحسب أنها نالت حقها من البحث والتفكير. لماذا، مثلاً، تظهر فجأة ذبابة في غرفة الجلوس؟ لأنها جاءت من الشارع. لماذا جاءت من الشارع؟ لأنها كانت تحوم في الجو أو بجوار مكبّ النفايات، ووجدت شرفة أو نافذة مفتوحة، فدخلت. لماذا اختارت هذه الذبابة أن تحوم حولي، ثم أن تدغدغ ساقي من وقت إلى آخر ثم أن تهرب قبل أن يتسنى لي قتلها بضربة من يدي؟ سؤال يتضمّن العديد من الاحتمالات. أولاً، لأنك في الغرفة، لأنه ليس من شخص آخر في الغرفة، لأنك حين شعرت بوجود الذبابة، قمت بقفل النافذة أو باب الشرفة (حتى لا تدخل ذبابة أخرى) فلم تعد الذبابة قادرة على الخروج، ممكن لأنها جائعة مع أنه من غير الواضح أيّ غذاء تتوخى الحصول عليه من ساقيك… الاحتمالات لا تنتهي، لكنها جميعها تفضي إلى سؤال واحد: لماذا الذبابة؟ أنا متأكد أنه لو كتب أحدهم “لماذا الذبابة؟” على غوغل فسيحصل على ملايين النتائج، لكن جميع هذه النتائج لن يجيب عن السؤال الحقيقي حول السبب الحقيقي للذباب في هذا العالم، ولن يجيب عن سؤال آخر أكثر تعقيداً، لماذا هذه الذبابة المحددة، في هذا الوقت المحدد، في هذه الحجرة المحددة، تحوم حول هذا الرجل المحدّد؟ ليس من غوغل لهذا النوع من الأسئلة. ليس من غوغل، حتى الآن على الأقل، يمكن أن يجيب عن السؤال: لماذا كورونا في هذا الوقت بالتحديد؟ هناك آلاف الاحتمالات والأسئلة والأجوبة الأخرى. هل جاء كورونا من الخفافيش، من الكلاب، من الحشرات، من المختبر؟ هل ينتقل كورونا في الهواء؟ عبر التكييف؟ من التنفس؟ من الكلام؟ من ممارسة الجنس؟ من مجرّد التفكير به؟ أسئلة لا تنتهي، تجعل كورونا ينتقل في وقت قياسي، من مجرّد افتراض مجنون، أو فكرة متخيلة، إلى واقع ملموس.
هل هناك مدينة في الخارج؟
أشاهد وثائقياً بريطانياً عن شمال إيطاليا التي ضربتها الجائحة بقسوة غير مسبوقة. المراسل يمشي في زقاق قديم رائع. يقول: هذا الزقاق فارغ تماماً كما ترون، لكن وراء هذه الجدران ثمة بشر، لكننا لا نراهم فحسب. أقف على الشرفة كل يوم، قبيل سريان حظر التجول، وأرى سيدة آسيوية تجرّ طفلها بعربة تدور بها حول ملعب الكرة. يخال إليّ أنها، في رأسها، اعتمدت خطّة ما للمشي تقضي ضمن أهدافها، بوضع حدود معينة، وحدها قادرة على فهمها، لرحلتها اليومية في الشارع. لكنها توظّب على المشي يومياً، هذا ما أعرفه معرفة اليقين. ماذا يحدث قبل هذه الرحلة وبعدها، لا أعرفه. الخطوط الافتراضية التي ترسمها السيدة بعربة طفلها، قد تكون طريقة ما لحماية نفسها وطفلها من الهجوم غير المتوقع للفايروس. لقد أعاد لنا كورونا غريزة كنا قد نسيناها منذ عصور ما قبل تاريخية، وهي غريزة تحديد الأمكنة، ربما ليس للاستحواذ عليها مثلما كنا نفعل في السابق، بل ببساطة لحماية أنفسنا مما هو غير متوقع، لأن ما حدث بالضبط هو غير المتوقع، وما نواجهه الآن هو المجهول الناتج عن غير المتوقع. كلاهما، أي اللامتوقع والمجهول، ضربان من التدرّجات اللونية لليأس، يصعب أيضاً وصفهما. في المخزن التمويني، رأسي يعمل كآلة حاسبة في رأس عالم رياضيات. أحسب الاحتمالات وأحدد الاحتياجات بناء عليها. كم كيلوغرام من الأرز، من الطّحين، كم علبة فول وسردين وتونة.. إلخ. لكن بجانب هذا الرأس، ثمة رأس آخر يحسب طوال الوقت المسافة من الآخرين، محاولاً باستمرار رسم تلك الحدود المتغيرة دوماً لحيّزي المكاني الخاص، ذلك الحيز الذي سأكون آمناً فيه من أولئك الموبوئين (افتراضياً) من حولي. في أفلام الزومبيز، يكفي أن يعضك الزومبي في أيّ مكان من جسدك، وخصوصاً رقبتك، ولو عضة بسيطة حتى تنتقل إليك العدوى وتغدو وحشاً غير فان يهيم في الأرض بحثاً عن رقبة يعضها. لو أن كاميرا سرية التقطت مشهدنا، نحن المتسوقون في المخزن التمويني، من الأعلى، لرأت منظراً مشابهاً لمنظر الزومبيز وهم يمشون، وفي رأس كل واحد منهم، جي بي إس خاص به، يجعله يبتعد عن الزومبيز الآخرين، ويتجه نحو شيء آخر غامض هو نفسه لا يعرفه.
بالعودة إلى المدينة، وإلى السيدة الآسيوية التي تجرّ العربة. كان يمكن لمنظرها الموصوف أعلاه، أن يكون عادياً في أيّ زمن آخر. أما الآن فليس إلا شاهداً وتذكاراً على غياب المدينة. ذلك الكليشيه القديم، “جنة دون أناس، لا تداس”، ينطبق تماماً على هذه الحالة. مدينة بلا أناس ليست مدينة. هي مجرد خطوط ورسوم هندسية ومخططات على دفتر. نستطيع أن نفترض وجود أناس خلف الجدران، وهم موجودون فعلاً، لكننا نستطيع أيضاً، خصوصاً في لحظات اليأس التام، أو الإحساس بأنّنا داخل دوامة لا تنتهي، أن نفترض عدم وجودهم. لا فرق. من مسافة كافية قد تتمكن من رؤية المخرج من الدوامة، أما وأنت في داخلها، فلا يمكنك سوى أن تواصل الدوران إلى ما لا نهاية.
الجميع منكبّون هذه الأيام على التواصل مع بعضهم بعض. الخوف على الأرجح يدفعنا إلى ذلك، لكن وفي خضم تواصلنا المحموم، وتنقلنا من محادثة فيديو إلى أخرى، لا أستطيع تجاهل الإحساس الكامن بعدم التصديق. ربما تكون هذه أكبر حالة عدم تصديق جماعي. لا أحد في الحقيقة يصدّق ما يجري، ولا ما سيجري. ما زلنا في مرحلة الصدمة. أولئك منا الذين يصدقون حقاً هم الذين سبقونا إلى الكوابيس والانهيارات العصبية. البقية يدافعون عن وجودهم، وعن تماسكهم العقلي، بعدم التصديق. إنها لعبة تواطأنا جميعاً على لعبها، حتى يأتي فجأة خبر يقول لنا إن الأمر انتهى، فجأة مثلما بدأ. حالة عدم التصديق هذه هي خطوط أخرى نضع بها حدوداً وهمية أخرى، ونستعين بها على سيولة كل شيء من حولنا. لكنّ الموتى يذكّروننا دوماً بأن الأمر حقيقيّ، ولذلك ربما يختار معظمنا، في هذه المرحلة، ألا يصدّق تماماً عداد الموتى هذا الذي لا يتوقف. التفجع والحزن الحقيقيان لهما وقت لاحق، أما الآن فالوقت الحقيقي هو للنجاة، وما الأفضل من عدم تصديق وجود الخطر للنجاة منه، لأننا لو صدّقنا فعلاً، لو أننا تخلينا عن كل الألاعيب الذهنية وغير الذهنية التي نحاول من خلالها السيطرة على الأمور، فإننا سنستسلم للحقيقة التي نرويها الآن مزاحاً، وهي أن العالم الذي نعرفه، الذي كنا نعرفه، لم يعد هو نفسه، وأن عالماً آخر، أو ربما لا عالم، يتشكل الآن أمام عيوننا. وهذا ليس مرعباً فحسب، بل هو التجسيد الحقيقي لكلمة أخرى نرددها مزاحاً أغلب الأوقات وهي الفناء، ولا أحد يحب فكرة الفناء خصوصاً في خضم انشغاله بحساب ما نقص من مؤونة البيت وما الذي نحتاج إليه للاستمرار أسبوعاً، شهراً، آخر.
أنكبّ في الأثناء على “البازل”، هوايتي البيتية المفضلة وإحدى سبل النجاة التي أستعين بها. كل قطعة أضعها في مكانها الصحيح، تحدث في قلبي نقرة من نقرات المسرة العابرة. أعمل على أحجية من ألف قطعة للوحة فان غوغ “ليلة مقمرة”. أضطرّ إلى التعامل مع الألوان، إلى التدرجات والفروقات البسيطة داخل الأصفر. دون هذه الفروقات سيكون مستحيلاً إنهاء الأحجية. فان غوغ رسم لوحته هذه، وعشرين لوحة أخرى، من نافذة غرفة نومه في المصحة النفسية. النجمة المشعة التي تظهر في اللوحة والنجوم الأخرى الأقل سطوعاً حقيقية على الأرجح، كذلك الشجرة والسفوح الجبلية. سيبقى لغزاً لماذا قرر فان غوغ إضافة قرية إلى اللوحة. قرية جميلة دافئة تحتضنها الجبال ويغمرها ضوء النجوم، جميع بيوتها نائمة، باستثناء بيوت قليلة تشع من نوافذها أضواء المصابيح. ربما أحسّ فان غوغ بالوحشة فقرر إضافة هذه القرية. ربما كان يريد أن يتخيل نفسه خلف أحد تلك النوافذ المضيئة المقطونة بالبشر، بدلاً من نافذة غرفته الموحشة في المصحة. أتشوّق لإنجاز هذه اللوحة حتى أنتقل إلى تركيب أحجية ميدان “تايمز سكوير” في نيويورك. على عكس قرية فان غوغ فإن الميدان، مثلما تشير الصورة، يضج بالحركة والألوان والسيارات ولافتات النيون والبشر، على عكس صورة الميدان اليوم خلال فترة العزل، حيث بدأ بعض الفنانين، من رسامين ومصورين فوتوغرافيين، يوثّقون هذه المرحلة الكئيبة التي ما كانت لتخطر بالبال من حياة الميدان. أحجية “الموناليزا” التي أنهيتها خلال الأسبوعين الأولين من العزل، معلقة الآن في الصالة، وبعد أسبوعين أو أكثر بقليل ستوجه نظراتها الحائرة إلى سماء فان غوغ الحاشدة بالنجوم وصورة “تايمز سكوير” المليئة بالحياة.
شاعر ومترجم من فلسطين مقيم في أبوظبي
———————————-
عالم ما بعد الكورونا، بين الليبرالية والاستبداد/ أبو بكر العيادي
منذ بداية العزل الصّحّي، أو الكرنتينة كما كان أسلافنا يقولون، سارع عدة مثقفين إلى رسم الخطوط العريضة لما سوف يكون عليه العالم بعد جائحة الكوفيد 19. منهم من اعتبر أن الأزمة إعلان عن نهاية العولمة الليبرالية والتبادل الحرّ والعودة إلى الحدود. ومنهم من رأى فيها تحقق نبوءات نهاية العالم، التي لا نجاة منها إلا باتباع حياة بسيطة منسجمة مع الطبيعة، بعيدا عن صخب المدن وتلوث أجوائها. ومنهم من أعلن تفوّق النموذج الصيني رغم ما يحمله من تسلط وتقييد للحريات على فوضى الديمقراطيات الغربية التي تشكو من أزمة اقتصادية ساهمت في صعود زعماء شعبويين في أكثر من مكان. وكلّها مواقف تكشف عن رفض الإنسان القبول بالطارئ، وعدم الاستسلام لمصير لم يتوقعه، حيث يحوّل نظره عن الحاضر، ليهرب إلى مستقبل يضع فيه آماله وتصوراته، ويلوّنه بألوان اليوتوبيا في أغلب الأحيان.
ما من شكّ أن أزمة الكورونا ليست عرضية، وأن آثارها ستكون طويلة الأمد، وألا أحد يستطيع أن يتكهن بالضبط بما سوف تكون عليه تلك الآثار، فقد نجمت عن تقلبات الأنظمة البيئية وتغوّل العولمة النيوليبرالية، وخلقت أزمات متداخلة، صحية واقتصادية واجتماعية وإيكولوجية، وقد تخلّف أيضا أزمة سياسية، يتولد تضافرها بعضها مع بعض فوضى عارمة، وربما ثورات في أكثر من مكان، ولا يمكن حلّ تلك المشاكل مجتمعة إلا بتضافر جهود شتى الأطراف في العالم. فالنّوايا الحسنة، وقتَ الشّدّة، ليست هي نفسها بعد زوال دوافعها.
ما يمكن ملاحظته أنّ هذه الأزمة لها وجهان: وجه فردي ذاتي، ووجه عالمي تاريخي.
على المستوى الفردي، نستشف من هذه التجربة ثلاثة أبعاد، أولها أن الأزمة أرغمتنا على سبر دواخلنا والتساؤل فرديّا أيّ القيم تسيّر حياتنا، وبذلك أعادتنا إلى ما هو أساسي، أي الصحة وصلات الرحم والعلاقات الاجتماعية. وثانيها أنها دفعتنا إلى الوعي بالتكافل الإنساني وبأن البشر كما قال المعري “بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدمُ”، وأن علاقة الجنس البشري بالفصائل الحيوانية والفيروسات حقيقة لا غبار عليها، أي أنها جعلتنا نفكّر في إطار أوسع، لا يخصّ واقعنا الأسَري والمحلّي وحده، بل يتجاوزه إلى الواقع الإنساني برمّته. وثالثها أنها حملتنا على التفكير داخل إطار صحّيّ شامل لا يخص فئة بعينها ولا مجتمعًا بذاته، وإنما يخص كافة سكان المعمورة.
أما المستوى العالميّ فتتجلى فيه أبعاد ثلاثة أيضا
الأول بيئيّ، فالفيروس نتج عن علاقة الإنسان بالحيوان، الذي لم يعد يجد ملاذا بعد تدمير بيئته الطبيعية، فخالط الإنسانَ في محيطه، ما ولّد هذا الوباء التي ما لبث أن تحوّل إلى جائحة شلّت العالم، وخلقت أزمة غير مسبوقة، لا من جهة عدد ضحاياها، بل من جهة انتشارها السريع وعزلها الناس حيثما كانوا بعضهم عن بعض، وكشفت بما لا يدع مجالا للشكّ أن الأرض لم تخلق للإنسان وحده كي يعيث فيها فسادا كما يحلو له، بل ثمة كائنات أخرى لا بدّ من احترامها، وإلا عادت عليه بالوبال.
هذه الأزمة الصحية، التي قد تتحول إلى أزمة اقتصادية خطيرة، فنّدت وعود العولمة النيوليبرالية بتحقيق الحرية والعدالة عن طريق التبادل الحرّ والتنمية والاستهلاك، فالنيوليبرالية التي تقدّم رأس المال على العمل، وتعمل على زيادة الإنتاج والاستهلاك بشكل مطّرد لا يعرف نهاية، دمّرت البيئة، وهيأت الظروف لانتشار الأوبئة، وجففت الموارد، ولوّثت الطبيعة، وحوّرت المناخ، فضلا عن التفاوت الفظيع الذي أحدثته عبر العالم.
وأصحاب القرار يقفون اليوم أمام قرينة ذات حدّين. من ناحية، لا أحد ينكر أن كلفة الجائحة ستكون قناطير مقنطرة من بلايين الدولارات، وأن الوسيلة الوحيدة لمقاومة البطالة والتداين والعجز التجاري هي توخي سياسة تقوم على زيادة تنمية الطاقة، وحتى إعادة التصنيع، ولكن ذلك سيمثل من ناحية ثانية أخطر قرار يُتّخذ بشأن كوكب الأرض.
وللتوفيق بين هاتين الفرضيتين المتناقضتين، ينصح بعضهم بالإنصات إلى نصائح المتخصصين في مجال الصحة والبيئة، مثل تيار “الصحة الكونية” planetary health وهو تيار طبّي وعلمي ظهر عام 2015، يُعنى بصحة كوكب الأرض ويضع الإنسان والطبيعة في صميم اهتماماته، ويؤمن بأن صحة الإنسان ينبغي أن ينظر إليها كملك مشترك، تماما كالجوّ والمناخ. ويقترح أعضاؤه فهمًا موسّعا لشروط صحة الإنسانية جمعاء، فقد أثبتوا علميا أن صحة البشر لها علاقة وطيدة بالأوساط الطبيعية، وأن التلوث البيئي يتسبب في وفاة تسعة ملايين شخص كلّ عام، ما يمثل نسبة 16 % من الوفيات في العالم، أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف ضحايا الإيدز والسل والملاريا مجتمعين، وأن مواصلة تدمير النظام البيئي سوف يكون له أثر كبير في تفشي الأمراض المعدية، بشكل قد يلغي ما حققه الطب الحديث من تقدّم. ولئن كان تعطّل الاقتصاد العالمي باهظ الثمن، فإن التغير المناخي وانهيار النظام البيئي سيكلفان البشرية كل عام جائحة ربما أفظع من كوفيد 19. فتلوث الجوّ يضاعف الاحتباس الحراري، الذي يعجّل بدوره بزوال الغابات ويقلّص التنوّع البيولوجي، وكلّها في رأي الخبراء مترابطة، فإذا ما تمّ تجاوز الحدود، لم تعد الظروف ملائمة لحياة إنسانية محتمَلة على هذا الكوكب.
ومن عجب أن قادة الدول، المصنّعة بخاصّة، أجمعوا على تطبيق الحجر توقّيًا للمخاطر، واختلفوا في الحدّ من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون رغم ثبوت دوره في تلويث البيئة والاحتباس الحراري. فعسى أن تكون هذه الجائحة فرصة لتعديل الماكنة الاقتصادية المسعورة، والعناية بالكائن الحي والطبيعة.
والبعد الثاني اقتصادي، والخبراء مختلفون في تصور ما ينبغي تعديله أو تغييره أو إبقاؤه بعد انجلاء الكورونا، ولكنهم يكادون يلتقون في نقطة هامّة، وهي أن الأزمة لن تمثل نهاية العولمة، وأقصى ما يمكن توقعه هو أنها ستراجع بعض مساراتها وأيديولوجياتها وخاصة الثالوث النيوليبرالي: فتح الأسواق، تراجع الدولة والخصخصة. وهو ما يؤكده الباحث السياسي برتران بادي، الذي يدعو إلى فصل ثانٍ من العولمة يقوم على الأمن البشري والحاجيات الاجتماعية المرتبطة به، لأن العولمة في نظره قامت دون رقيب، وهي في حاجة اليوم إلى تأطير ومرافقة وقوانين.
فالدول سوف تتدخل بقوة عبر استراتيجيات مضبوطة لدفع التنمية، وإعادة توطين أنشطة حيوية، إضافة إلى سياسة صحية أكثر طموحا، تعيد الاعتبار إلى تخزين المنتوجات. ولكن قد يحدث العكس أيضا، فتزداد الليبرالية تشددا، في حال حدوث أزمة عميقة يحتدّ فيها التداين وتفاقم البطالة وانهيار العملة، ما يدفع بثورات جياعٍ خاصّةً في البلدان الفقيرة حيث انضافت المشاكل الاقتصادية والبيئية إلى المشاكل الصحية التي تعاني منها، فالمسار التاريخي لا يزال في بدايته ولا أحد يستطيع أن يتكهن بمآله ونتائجه.
ولئن ظن بعض مثقفي اليسار، مثل السويسري جان زيغلر، أن جائحة كوفيد 19 سوف تضع حدّا لعهد التبادل الحر، هذا النظام الاقتصادي الذي جُعل على مقاس القطاع الخاص وألحق بالشعوب والبيئة خسائر فادحة، فإن كبار رؤوس الأعمال والشركات العملاقة في العالم قد تدعو إلى “رأسماليةِ أزمة” تسعى من ورائها إلى إعادة الأمور إلى معتادها، خصوصا أمام عجز الحكام عن اقتراح البديل، إما لغياب الشجاعة الكافية، أو لكونهم خاضعين لسلطة الأعراف، حتى أنهم أبدوا تأييدهم الضمني للتخلص من العجائز للحفاظ على وتيرة النموّ الاقتصادي. أي أن الدعوة إلى اقتصاد لا يخضع لقوانين السوق، بل لقوانين الطبيعة، ولا يعتبر النمو غاية في حدّ ذاته، لا يزال حلما عسير المنال.
أما البعد الثالث فهو سياسي، فالمفارقة أن أهمّ إجابة تفتقت عنها أذهان قادة الدول لمواجهة أزمة صحية، كانت أمنيّة بالأساس. فأمام عجز الدول عن إيجاد ترياق ضدّ الفيروس، وتوفير أسرّة الإنعاش، وروائز الكشف، وكمائم الوقاية، جعلت من شعوبها تهديدا، بحجة حمايتها من نفسها.
وهي في ذلك إنما تسير على خطى الأوائل، فالمعروف أن الأوبئة عبر العصور مثلت حلقات مفصلية لتوسيع نفوذ الدولة وتعميم الأساليب البوليسية في تعقب المصابين أو المشتبه في إصابتهم. ذلك أن الجائحة رافقتها في شتى أنحاء العالم إجراءات تبدو في العادة من ديستوبيات الخيال العلمي، فالبرلمانات مدجّنة، وأحزاب المعارضة مكمّمة، والتجمهر محظور، والاقتفاء الرقمي لتعقّب الأفراد والأماكن التي يترددون عليها جارٍ على قدم وساق، والتنقل ممنوع إلا بترخيص من الحكومة، كل ذلك صار أمرا مقضيا بدعوى مقاومة الكورونا، وحماية الأفراد، في جو يرين عليه غياب الاحتجاج.
وقد تعالت أصوات شعبوية تزعم أن السلطة القوية هي وحدها القادرة على تقديم إجابة مناسبة عن الجائحة، وفرض القرارات التي تحدّ من الحريات وتراقب مجتمعاتها عن كثب بحجة منع انتشار الفيروس، ويضربون مثلا على ذلك بالصين التي استطاعت منذ فبراير/ مارس السيطرة على الكورونا، بينما ظل جانب من أوروبا ثم الولايات المتحدة نهبا للفيروس بسبب ترددها ومراكمة أخطائها. ويستنتج أصحاب ذلك الرأي أن الحوكمة الرشيدة ليست في الأنظمة الليبرالية بل في الأنظمة ذات القبضة الحديدية، ويأملون أن تقتنع الشعوب بطرحهم وتصوّت لصالحهم عند الاقتراع. غير أن الباحث السياسي ياشا مونك لاحظ أن البلدان التي يقودها شعبويون فشلوا في تقديم الجواب المناسب، يستوي في ذلك الشعبوي اليساري المكسيكي أندريس مانويل لوبيس لابرادور، والشعبوي اليميني البرازيلي جايير بولسونارو، والشعبوي المعتدل البريطاني بوريس جونسون، والشعبوي المتشدد الأمريكي دونالد ترامب.
وبصرف النظر عن الصين والبرازيل وأغلب بلدان أوروبا الشرقية، فإن الديمقراطيات الأوروبية العريقة تشهد هي أيضا تآكل أسس الديمقراطية الليبرالية، ذلك أن ثنائية سوق الشغل والأسواق المالية أوجدت تفاوتا في الدخل والممتلكات، وتراجعا في وزن الطبقات الوسطى. فالديمقراطية الليبرالية التي لا يعيش فيها سوى من يملكون الثراء الفاحش ومن هم في فقر مدقع لا يمكن لها الاستمرار ما دامت مصالح الطرفين متناقضة، لأنها في الواقع ليست سوى واجهة ماكرة لحكومة أثرياء (بلوتوقراطية).
وهو ما ولّد شعورا لدى شعوب تلك الديمقراطيات بأن أصواتهم لم يعد يُحسب لها حساب، وأن اللوبيات الاقتصادية والشركات متعددة الجنسيات تشتري من ورائهم القرارَ السياسي لمنتخَبين فاسدين يقومون بتعزيز الوزن الاقتصادي لتلك الشركات بفضل تشريعات تلبي أهواءها. أي أن الديمقراطية استحوذت عليها مصالح الأقوياء الاقتصادية لا سيما رجال المالية المعولمة. حتى أن عالم الاجتماع كولان كورش لم يتردد في وصفها بأنظمة “ما بعد الديمقراطية”. بل إن الاتحاد الأوروبي نزع عن الديمقراطيات الوطنية جانبا كبيرا من إمكانيات اختيار سياساتها العامة، ولم يترك لها إلا الخيارات التي تسمح بها النيوليبرالية، أي تلك التي وردت في الاتفاقيات.
وأيّا ما تكن المنطلقات الأيديولوجية، فالثابت أن هذه الأزمة ستمثل اختبارا سياسيا للأنظمة الديمقراطية، لأن الأزمات هي التي تكشف للمجتمعات قوّتها وضعفها. وقد بدأت بعض الدول الأوروبية مثلا في تصوّر مرويات سياسية لتهيئة المستقبل، ثلاثة منها تتنافس في ما بينها: شعبوية واستبدادية وديمقراطية. تبدو المروية الأولى، أي الشعبوية، أكثر الثلاثة تضرّرا بالأزمة، كما أسلفنا، لأنها كشفت أهمية العقلانية ورأي الخبراء والمعرفة، أي المبادئ التي دأب الشعبويون على انتقادها وإلصاقها بالنخب كمآخذ وتُهَم، ولو أنهم قد يحمّلون الأجانب نشر الفيروس، وكذلك العولمة، وهما العنصران اللذان يقوم عليهما خطابهم الشعبوي، ويغتنمون الفرصة لتشديد الحواجز الحدودية وتأكيد عدائهم للمهاجرين.
وتبدو المروية الاستبدادية قريبة من الشعبوية من جهة تبسيط المشاكل واختزالها في تفسير واحد، فهي تعتقد أن الأنظمة المركزية الاستبدادية هي وحدها الكفيلة بقهر الجائحة من خلال استنفار كل موارد البلاد وطاقاتها، ولم تثبت صحة هذا القول حتى الآن إلا في الصين وروسيا، ولكنْ كلتاهما تمتلك الوسائل التقنية والعلمية اللازمة لمكافحة الفيروس، وهو ما لا يتوافر لدى الأنظمة الشمولية الأخرى. وأما الثالثة أي المروية الديمقراطية، فهي الأعسر بناء، لأنها تقوم على الشكّ والتساؤل والتداول والطعن، ما يعطّل اتخاذ إجراءات سريعة وفعّالة، غير أنها تتيح للشعوب أن تصدر أحكامها بعد انجلاء الأزمة لتثيب حكّامها سلبًا أم إيجابا.
منذ ربع قرن رأى فرنسيس فوكوياما في تحالف الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية نهاية التاريخ، وأن رياح هذه الديمقراطية الليبرالية ستهبّ على كل مكان بفضل العولمة، ولكن الصين وبلدان ذات أنظمة شمولية أخرى أثبتت أنها يمكن أن تستفيد من العولمة دون قبول الديمقراطية. وإذا كان المتفائلون يعتقدون أن ارتفاع المستوى التعليمي لدى مختلف شعوب العالم سيؤدي إلى فرض الديمقراطية، فإن المتشائمين يرون أن تعزيز تكنولوجيات المراقبة والمعاقبة، التي طورتها الدول والشركات الخاصة حتى في الديمقراطيات الغربية، سوف تقودنا إلى كابوس أورويلي ليس له نهاية.
كاتب من تونس مقيم في باريس
——————————–
الأجسام المنزلية تتأمل المشهد من وراء النوافذ/ أكرم قطريب
يعيش حوالي ثمانية مليارات إنسان على سطح هذا الكوكب، وهذا بحد ذاته إنجاز اجتماعي وتكنولوجي مذهل، غير طبيعي وغير مستقر. وعلى الرغم من ذلك عندما تقع الكارثة سننتبه إلى تعقيد حضارتنا، وأن هذا النظام بأكمله هو ارتجال تقني يمنعه العلم دائماً من الانهيار. من الناحية النظرية، يعرف الجميع كل شيء، ونعلم أن تغييرنا العرضي في الغلاف الجوي قد يقودنا إلى حادث انقراض جماعي، وأننا جميعاً بحاجة إلى التحرك بسرعة لتفادي ذلك.
لكننا لا نتصرّف بناء على ما نعرفه، ولا نريد تغيير عاداتنا. هذا جزء أساسي من البنية القديمة للشعور وتقاليد العيش. ثم كشف الفايروس عن عدم المساواة والظلم غير العاديين في العالم. والآن يأتي هذا الغامض الذي بإمكانه أن يقتل أياً كان. إنه غير مرئي، ينتشر بسبب الطريقة التي نتحرك ونتجمّع فيها، لقد تغيرنا على الفور، وليس من الواضح إلى أين تقودنا هذه الأزمة، كما أنه من المستحيل تجنب التوقعات القاتمة للعام المقبل، وكل ما قيل عن أن عملية الإغلاق ستنتهي قريباً، وملاعب كرة القدم والمطاعم والمقاهي ستمتلئ قريباً، إلا محض خيال.
الأنماط الثابتة للسلوك أثناء الأوبئة: الذعر، الخوف، الخرافة، الأنانية، البطولة المفاجئة، الملل أثناء الحجر الصحي. أعداد هائلة من العائلات ستقوم بتخزين مخصصات غذائية كبيرة لها وتغلق على نفسها.
الحاجة القوية لمعرفة ما يمكن توقعه. الحكايات والتفاصيل الدرامية، وأرقام الإصابات التي تتزايد باطّراد على شاشة التلفزيون، مع خريطة العالم التي تمنح طعماً عدمياًّ وهي تتهاوى بالتدابير والالتباسات الكثيرة، مع الأعداد الهائلة وهي تغرق كلياً في الكارثة. الحياة عما كانت عليه ستغيب إلى غير رجعة. كل السلوكيات البشرية ستتغير بشكل مفزع. فالحديث سيأخذ شكلاً إيمائياً مغلفاً بنكهة شكسبيرية وغموض رهيب.
2
طاعون أثينا دمّر المدينة في اليونان القديمة خلال السنة الثانية من حرب البيلوبونيز 430 ق.م بين أثينا وإسبرطة.. يعتقد أنه دخل المدينة عبر ميناء بيريوس. وأن الاكتظاظ الناجم عن الحرب أدى إلى تفاقم الوباء. قوة جيش إسبرطة أجبرت الأثينيين إلى اللجوء وراء سلسلة من التحصينات تسمى “الجدران الطويلة ” التي كانت تحمي مدينتهم، حتى اضطرت أثينا إلى الاستسلام.
وباء وجودي لا مجاز بإمكانكَ أن تسبغه عليه. فكرة الرمزية في شكل شراء الذعر، وارتفاع معدلات الوفيات. الأخبار الجيدة دائماً تأتي من الكتب، لذلك فنقل المعلومات أمر حيوي. كل فترة تاريخية لها هيكل إحساس خاص بها. الفايروس يعيد كتابة مخيلتنا. ما كان مستحيلاً أصبح مفهوماً، إلى تغير الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء: ندخل بسرعة هائلة إلى عالم وعصر جديدين.
الآن تتصرف الحضارة الإنسانية بسرعة غريبة لتجنب مصائر الموت الجماعي، لأننا نعيش في لحظة ذات أهمية تاريخية، وندرك تماماً ما نقوم به.
في الأوبئة سريعة الحركة يتدفق عدد كبير من الضحايا إلى المستشفيات، أو يموتون في المنزل، إلى الشاحنات المبردة الجاثمة خلف المستشفيات تخبرنا بكل ما نحتاج إلى معرفته. نحن الآن في أكبر أزمة منذ الحرب العالمية الثانية.
3
أصبح للقيود الإجرائية أهمية ضرورية خلال حالة الطوارئ الصحية العامة، لذلك تستخدم السلطات في جميع أنحاء العالم الفايروس التاجي كذريعة للقضاء على حقوق الإنسان لأغراض سياسية، على الرغم من أن بعض القيود ضرورية بلا شك لمواجهة الوباء. هناك خطر حقيقي ماثل من أن تؤدي هذه الجائحة إلى تراجع عالمي دائم في الحريات الأساسية. الوباء يخلق وضعاً مثالياً للتضليل، فالعديد من الحكومات تستخدم هذا التهديد لتبرير الرقابة الشديدة، وإخماد مصادر المعلومات المستقلة، حتى الديمقراطيات الليبرالية لم تتجنب قيوداً معينة على الحريات الأساسية خلال أزمات الصحة العامة.
فجأة يكون للوقت لون بشرة مختلف، وأكثر ما يقلقنا هو الحاجة إلى البقاء على قيد الحياة. يتم تذكيرنا باستمرار أننا ضئيلون بشكل لا يصدق، كما لو كان بإمكاننا النظر من فوق إلى أنفسنا ورؤية الجزئيات الصغيرة التي ترتدّ دون معنى. من يستطيع تفسير الخوف الجديد الهائل الذي يسري فينا؟ من كان يظن أننا سنكون بلا صوت؟ ها نحن نبقى في المنزل لإنقاذ العالم.
4
من الصعب تخيل المستقبل بعد هذه الجائحة، لكننا معاً سنحاول أن نشكله. أظن أنه حان الوقت كي نتعلم من دروس الهلع هذه، ونكتشف مدى قدرتنا على التحمل والتعاطف والاهتمام. إذ تكفي المشاهد المثيرة لبعض العروض الموسيقية التي حدثت على الشرفات من قبل أشخاص يسعون إلى جلب قليل من الفرح والابتسامة لجيرانهم، ثم مخاطرة البعض بحياتهم لرعاية الآخرين، وليس بالسهولة ما تمرّ به العديد من العائلات، لكن الذي يبقى مقلقاً هو مواجهة المجهول. إذ لن يعود العالم إلى ما كان عليه في السابق، لكن الفرصة قد تكون متاحة لإعادة تشكيله وجعله حيّزاً أفضل لساكنيه، مع القدر الكبير من الثقة والجرأة والانتباه والحب.
ما فقدناه لن يعيده السحر، ثمة شيء من وداع ما، وأكثر ما نتوق إليه الآن تلك الصور القريبة لبعضنا البعض في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل والاختلاط مع الغرباء في الحانات، لأرواحنا الهائمة، للأرصفة، وللبلاد التي حلمنا أن نزورها يوماً ما.
مجرد اتجاه صغير في معضلة الخسارة، وارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار، والمخاوف، والانتكاسات النفسية.
هناك شيء ما يحدث في بيوتنا الحديثة، موطن السعادة الخالصة، التي سيغرقها البطء بمتعها الخاصة أيام الإجازات، بينما الأجسام المنزلية تتأمل المشهد كله وراء النوافذ.
ماذا عن مخيمات اللاجئين السوريين، وعن فكرة المأوى والبيت. عن الدروب التي تتشقق في عيون الأطفال العرايا، عن الطين الذي أتينا منه، عن الملح والماء الذي كنا نشربه في الجحيم. لا تضاريس للبيت إلا في الحلم. اللاجئ وطنه جسده.
5
يصرخ أحدهم “إذا ساءت الأمور وانتهكت حقوقنا بما فيه الكفاية، يمكننا أن نقف بأجسادنا للدفاع عن أنفسنا، وبأي طريقة نراها مناسبة”.
واجهت القيود الشاملة التي تهدف إلى احتواء الفايروس تمرداً صريحاً في بعض الولايات الأميركية التي تواجه طفرة مقلقة.
الأميركيون السود أكثر عرضة للوباء، ويرجع ذلك جزئياً إلى التفاوتات الاجتماعية الراسخة.
أحبط مسؤولو سجن لانسينغ انتفاضة عشرات السجناء بكنساس وسط مخاوف من ارتفاع حالات الإصابات بينهم. قاموا بدورهم بنهب المكاتب وتكسير النوافذ وإشعال حرائق هنا وهناك. ثم في وقت متأخر من المساء سيستسلمون، ويعودون إلى زنازينهم.
تأتي هذه الانتفاضة مرافقة لاحتجاج النزلاء في جميع أنحاء أميركا ضد حالة تفشي الفايروس في العديد من مرافق السجون. سيرفعون لافتة مكتوبة بخط اليد، متوسلين المساعدة من نوافذ زنازينهم.
6
اندلعت المظاهرات في معظم الولايات الأميركية عقب وفاة رجل أسود في مينابوليس، الذي كان ضحية للقتل على يد الشرطة. جورج فلويد اسم هذا الأميركي أجج غضب الشارع، واشتدت الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين، لتتحول فيما بعد الاحتجاجات السلمية إلى مسارب العنف والفوضى، وسط حظر تجوال تام، وانتشار الحرس الوطني، حيث صعّدت الشرطة استخدامها للقوة، وتم إطلاق الغاز والرصاص المطاطي على المتظاهرين في ولايات عديدة. عمليات نهب واسعة النطاق.
سيُدين رئيس أساقفة واشنطن ويلتون غريغوري زيارة ترامب إلى ضريح العاصمة، لتكريم البابا يوحنا بولس الثاني، والتكتيكات المستخدمة لفرصة التقاط الصور في كنيسة سانت جون الأسقفية، حيث أصدر الأخير قراراً بضرورة إخلاء المتظاهرين لأحد شوارع واشنطن ليتسنى له زيارة الكنيسة.
الصحافيون يُعتقلون، وتضربهم الشرطة أثناء الإحتجاجات. صوت التاريخ يخرج ثانية من أحشاء هذه القارة الفريدة، وثمة قلق واضح من الكيفية التي ستتغير فيها أميركا.
التغيير الديمغرافي قوة هائلة ليس من السهل إيقافها، في حين يتصارع القادة وصناع السياسة مع التحديات الحقيقية لمسار البلاد.
في العام 2020، أميركا أقلّ بياضاً وأكثر تنوعاً، فالمهاجرون لديهم الكثير من الأطفال.
كاتب من سوريا مقيم في نيوجرسي/الولايات المتحدة
———————————-
موت كلاسيكي/ شيرين ماهر
تواضعت أحلامنا، بل وصارت مستحيلة
ظننت “الكلاسيكية” مفهوماً ينسحب على كل ما هو قديم وراسخ في الذائقة الجمعية وما تحمله من أثر تعجز الأيام عن طمسه. الآن وبعد ما نعايشه من صدمات في الوباء، عصفت وما زالت تعصف بكل خصائص الحياة المعتادة، لدرجة جردتها من أبجدياتها، بدا كل شيء أمامي وكأنه يَرِث صفة الماضي. راحت تنسحب عليه صفة “الكلاسيكية” مهما كانت حداثته.. شيء ما يكسبه مذاق الاشتهاء بعد أن صارت أبسط التفاصيل وأكثرها بداهة غير متاحة، ولأجل غير مسمّى.
أكاد لا أتذكر تفاصيل الحياة منذ بضعة أشهر لا غير.. لم أعد أتجرأ على الركض لمسافات أبعد بالذاكرة، كي لا أستشعر الاغتراب الشديد الذي قد يُدخِلني في حالة عنيفة من الحنين. هكذا صار الأمس القريب مجرد “متعة” كلاسيكية المذاق ترقد في توابيت الانتظار، ربما قُدِّر لها البعث مرة أخري. وها هي كافة المكتسبات تتهازل أمام ذلك السقوط الحر من أعلى سفح الحياة.. اليوم نتساوى جميعاً دون أدنى أفضلية، دون أدنى أسبقية.. دون ترياق، يتساوى الجميع على أعتاب المجهول.
راحت تتهدم أركان المعبد، ونحن نتوسط الأطلال في دهشة الفِيَلة التي استفاقت من إعصار الرعونة.. تعمل وظائفنا الحيوية كـ”طقوس إلزامية” تؤدي واجباتها القهرية، فالحماس منطفئ والبهجة ترتعد والأمل يلهث، توقاً للحظة خلاص. صارت الدنيا مجرد محبس مترامي الأطراف نتجول داخله وفى أطرافنا أغلال تجذبنا نحو الجدار. الخارج والداخل يستويان؛ بالخارج مجهول قاتل، وبالداخل موت مع إيقاف التنفيذ. لا وعود بالحرية ولا موعد للوصول و لقاء عصيّ مع الحياة.
كل ما يربطنا بالماضي القريب، تعاظم أثره وتعتقَت ذكراه، وكأنها الحياة تُطِل علينا من خلف المَشربيات القديمة، فإذا بأشعة الشمس ترسم داخلنا رقعة شطرنج فقدت قِطعها في حرب ضروس، ليبقى اللغز مُشفَراً، نبحث بين متاهاته عن سبيل وهِن لخروج آمن.. تنشب النيران في أحلام قوامها آلاف السنين ..تلتهم سوليفان كان يستعد لاحتضان الورود الربيعية.. تطلق بارود النهاية على صروح التمني ..تترك رماداً خانقاً يتخلل الأنفاس.. تقضي على الاخضر واليابس، وكأنها تشتاق لـ”التهام” المزيد كي يخمد نهمها.
البديهيات تأبى العودة والمجهول يقتحم الواقع برعونة. خواء الحاضر يُحرّض المستقبل على الضبابية. والعبثية تكتمل رتوشها استعداداً للغرائبية المقيتة. جاءنا الوداع غادِراً، فلم يمنحنا فرصة الإشباع الأخير.. صرنا مجرد رهائن في فضاءات موحشة وباتت الحواجز التي تفصلنا تبارز ناطحات السحاب. تواضعت أحلامنا، بل وصارت مستحيلة، في الوقت الذي جاء فيه المستحيل لاهثاً مُفترشاً ساحة الحياة. تعملقت المخاوف حتى اِلتهمها الفزع و ذاب العِتاب من فرط الندم. دغدغ الرجاء طبقات الروح واغتسلت الحياة مع انهمارات النحيب. الأسود والأبيض يتلاطمان بينما يعلن الرمادي اعتزاله دون مواساة. كرات الثلج تتدحرج دون سيطرة الجاذبية عليها، بينما النيران تنضُج في أحشائها وتُنذِر بـ”إغراق مروّع”.
ستهدأ العاصفة يوماً ما، لكنها ستترك كل ما حولها ركاما. ومع أول زفير سيتهاوى صرح الرماد. ولو صارت أبواب الحياة مفتوحة على مصراعيها، لم أعد أصدق النبوءة الكاذبة. ترنيمة الموت تغازل مَن لازالوا على قيد الانتظار دون استحياء، بينما أصبحت الحياة حُلماً بائداً يصعب الطواف به تحت مظلة الواقع الحارِق. ومهما عاود الضجيج الغابر زحفه من جديد، لن يجدنا كما تركنا. لم نعد نحمل متعة الطمأنينة بعد أن صار الماضي مجرد انعكاسات راحلة للظل المُتلاشي بفعل الغروب الأخير.
لم أتصور ذات يوم أن يكون هناك “موت كلاسيكي”.. نعم، حتى الموت الذى كنا نعرفه في الماضي لم يعد مُتاحاً هو الآخر. لقد صار من النِعَم التي توارت دون الإعلان عن زوالها المفاجئ.. الموت الأن مجرد تَركة من التآمر، تجنيه الأجساد الوهنة التي يُدركها سهم الاختيار ويتنصَّل مِنها ذووها.. لعنة “الوباء” راحت تطمس كل المعاني والمشاعر… ولكن، أهي حقاً لعنة أم سطوة المجهول التي جعلت البعض يفرون كـ”الجرذان” بين أزقة الحياة؟ لقد التهم الوباء قدسية الموت، لينزع عنه كل مظاهر الخشوع والحداد، و بات الأمر لا يزيد عن خانات نكراء يترنح داخلها تِعداد انسيابي، يمكنه ابتلاع المزيد من الموتى والمصابين.. المزيد من المصائر المجهولة في انتظار الحشود دون مراسم، دون وداع، دون تأبين.
أيتها الحياة التي تأبى العودة، سنحمل لكِ في خيالنا موعداً للقاء غير معلوم. ربما عاودت السطوع. نتشبث بالنجاة طمعاً في لقاء “كلاسيكي” و مَوت “كلاسيكي” وما يتناثر بينهما من تفاصيل بمذاق اعتيادي طال الاشتياق إليه.. أيها المَحبس الشاسع أَطلِق سراح الحشود. لم تعد لدينا طاقة لمواجهة ذلك الواقع التعجيزى.
أيها “السراب” لا تضع كلمة النهاية. ولا تدع العُزلة قدرنا. لم نأتِ للحياة، كى نرحل هكذا.. ربما لسنا جديرين بفرصة ثانية، لكننا تواقين للعودة.. الأن ندرك أن أكبر خطايانا ذلك الاعتياد الأبله على النعم الألهية، وذلك الاستنكار الساذج لأوضاع صارت الأن أمنيات لا نتجرأ على الطمع فى بعثها من جديد. يكفي أننا صِرنا نطمع فى “موت كلاسيكى” بعد أن صار تكريماً بعيد المنال في زمن الوباء. لا تؤاخذنا يا الله على اعتياد النعم، فعندما زالت، تجلى اليقين وبقيت الحقيقة صادمة بين راحتي القدر. فالنجاة معلقة بخيوط الرحمة تحت سماء كاشِفة، والمصائر على اختلافها تصوغ لحظات فاصلة في زمن غرُبَت فيه طقوس البشرية.
كاتبة ومترجمة من مصر
———————-