خرائط غوغل في مناطق النزاعات- سياسية ومُسيسة/ سالم الريس
على الرغم أن إسرائيل لم تعلن حدودها قط، إلا أن غوغل أعطتها اسمًا وحدودًا كما لو كانت أرضًا غير متنازعٍ عليها
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي قبل فترة بتغريدات عن قيام “غوغل” و”أبل” بحذف اسم “دولة فلسطين” من خرائطهما المعتمدة، فيما يتم ذكر “إسرائيل” وبالخط العريض على الأرض المحتلة عام 1948. وفي حين أن التغريدات في معظمها أشارت إلى أن “غوغل” قامت “بحذف” اسم فلسطين عن الخريطة، إلا أن الحقيقة هي أن اسم “فلسطين” لم يكن أصلاً موجوداً – يعني لم يتم حذف الاسم بالخطأ، لا سمح الله- بل أن الشركة لم تذكر اسم فلسطين سابقًا على خرائطها.
هذه ليست المرة الأولى التي يثار بها هذا الموضوع. في عام 2016، تم تداول نفس القضية وقال البعض أن الشركة حذفت اسم فلسطين من على خرائطها. ردت غوغل بالقول أنها حذفت بالخطأ اسم الضفة الغربية وقطاع غزة وتعمل على اعادتهما على الخريطة.
وعلى الرغم من ادعائها الحيادية في رسمها للخرائط، رفضت “غوغل” الانصياع للمطالب الفلسطينية بوضع اسم فلسطين على خرائطها، على الرغم من اعتراف 136 دولة بالأمم المتحدة عام 2012 بدولة فلسطين كعضو مراقب، ومتحججة بسعيها إلى عرض المناطق المتنازع عليها بموضوعية باستخدام خط حدودي منقط، بحسب بيانها التوضيحي الأخير.
المشكلة الأبرز فيما يخص فلسطين ليس رسم الحدود فقط، بل حذف اسمها بشكل نهائي واستبداله بـ “إسرائيل.” قد لا يحتاج الفلسطينيين لخريطة للاعتراف بهم كدولة، فهم يعرفون اسمها وحدودها وتاريخها عن ظهر قلب، ولكن القضية أكبر بكثير من ذلك. الموضوع سياسي بامتياز، إذا لم تتواجد كدولة على خريطة العالم أو خريطة غوغل فهذا يعني أنك غير مرئي وغير موجود وغير معترف بك. من المتعارف عليه أن الخرائط تساهم في تشكيل وعينا الذهني بشكل الدول والمدن بل والطرقات خاصة في الخرائط الالكترونية الحديثة التي باتت تبرز تفاصيل التفاصيل بفضل الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية، وتساهم في تشكيل خريطة ذهنية مسبقة دون زيارة الدول والمدن بشكل فعلي.
في حالة فلسطين، الأمر مُعقد وخطير. على الرغم أن إسرائيل لم تعلن حدودها قط، إلا أن غوغل أعطتها اسمًا وحدودًا كما لو كانت أرضًا غير متنازعٍ عليها، واعتبرت القدس عاصمتها، متجاهلة وضعها المنقسم والمعترف به دوليًا. في ذات الوقت، تهمش غوغل العديد من المناطق والقرى الفلسطينية، حيث لا تظهر إلا في حال تكبير الخريطة بشكل كبير، وقرى أخرى شُطبت، كما شطبتها “إسرائيل” من خرائطها الرسمية، سواء في الأراضي المحتلة عام 1948، أو في المناطق المحتلة عام 1967 داخل أراضي الضفة الغربية والخاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية وتسمى بالمناطق ج. إضافة إلى ذلك لا تظهر الضفة الغربية وقطاع غزة -باستثناء المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية- كجزء من أي بلد أو دولة.
ليس هذا فقط. بل أن خرائط غوغل لا تُظهر ما هو موجود على أرض الواقع من حواجز ونقاط تفتيش إسرائيلية على خرائطها، ولا يتمكن الفلسطيني من معرفة تفاصيل الازدحام والطرق المسموح له بعبورها، ومن الممكن أن تكون طرق خطرة عليه كفلسطيني، حيث تختار برمجة خرائط غوغل المستخدمة الطرق الأنسب تلقائيًا على افتراض أن المستخدم يحمل هويةً إسرائيلية. في المقابل، تظهر هذه الخرائط للمستخدم الإسرائيلي كافة تفاصيل الطرق وتساهم بتسهيل عملية تحركه ما بين المدن والمستوطنات دون عائق، الأمر الذي يبرز تحيز غوغل الواضح في التعامل ما بين الفلسطيني والإسرائيلي.
كما يشمل تركيز غوغل في خرائطها على المناطق الإسرائيلية، الغير قانونية وسواها، على خدمة التجول الافتراضي، حيث تغطي الخدمة معظم “إسرائيل” ومستوطناتها الغير قانونية، وكذلك البلدة القديمة في القدس التي تحتلها “إسرائيل”. وفي المقابل، لا تتسنى رؤية فلسطين عبر هذه الخدمة باستثناء أريحا وبيت لحم ورام الله وبعض الأماكن في قطاع غزة.
في الواقع، لدى الفلسطينيين تاريخ طويل ودام مع الخرائط. منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، والذي أعقبه هجرات اليهود لأرض فلسطين، أخذت الخرائط الصهيونية لفلسطين التاريخية بالانتشار، حيث كانت الخرائط تحتوي على علامات طوبوغرافية ودينية مصممة لإعادة رسم الخريطة على غرار الدولة الصهيونية المقترحة. استخدمت بعض المنظمات الصهيونية فيما بعد الخرائط -المزورة للحقيقة- في جمع التبرعات لاستملاك الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات اليهودية، حيث كانت تتجاهل وجود وإبراز المدن الفلسطينية في ذلك الوقت، بهدف تعزيز مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.”
استمرت الهجرات اليهودية لأرض فلسطين والتلاعب الصهيوني في الخريطة، وصولاً إلى نكبة 1948، حيث ضاع الجزء الأكبر من أرض فلسطين وهُجر أكثر من 750 ألف فلسطيني من أرضهم. وبدأت دولة “إسرائيل” الوليدة، بإطلاق مسميات عبرية على المدن والمستوطنات بدلاً من العربية في خرائطها القومية كإحدى وسائل بناء الدولة الصهيونية. كما أطلقت أسماء عبرية لوصف كافة المعالم الجغرافية، حتى تكون العبرية اللغةَ الوحيدة التي يمكن بها فهم التضاريس والمشهد الجغرافي، وبذلك تمحو تاريخ السكان الأصليين وتجاربهم. لم يكتفِ قادة الحركة الصهيونية بتغيير الأسماء، بل إنهم مسحوا قرى عربية فلسطينية عن خرائطهم، وهو ما تفعله غوغل اليوم في خرائطها، ولم يشيروا لها بأي إشارة لوجودها وكأنها مناطق فارغة خالية من السكان.
قضية اسم فلسطين هي جزء من العديد من المشاكل في خرائط غوغل والتي أصبحت جزءً من الصراع السياسي منذ إطلاق خرائطها عام 2005 في الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وإيرلندا. تطورت جودة الخرائط واستخداماتها مع مرور الوقت، وأصبحت تعرض خرائط دولاً أخرى وصولاً لعرض خرائط جميع دول العالم بتفاصيل دقيقة، وبصور عالية الجودة عن طريق أقمار صناعية. مع تطور التكنولوجيا وإدخال خدمات الـ GPS اعتمدت العديد من الشركات على استخدام خرائط غوغل مثل شركات السيارات العالمية والهواتف الذكية، لكن ذلك أبرز مشاكل سياسية وقانونية وأخلاقية عدة في خرائطها مع بعض الدول والشركات العالمية.
مثلاً سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وعدم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بتبعيه الجزيرة لروسيا، أجبر شركة غوغل على إنتاج ثلاث خرائط مختلفة لجزيرة القرم لإرضاء كل الأطراف. حيث أنتجت خريطة لمستخدمي خرائطها من أوكرانيا، تبرز الجزيرة كجزء منها، بينما أنتجت خريطة ثانية لمستخدمي الخرائط من روسيا تبين القرم منفصلة عن أوكرانيا بخط سميك، فيما أنتجت خريطة ثالثة للمستخدمين الدوليون بخط منقط، علامة على أنها حدود متنازع عليها.
أيضًا، تلك المشكلة واجهت غوغل في تايوان، حيث تعتبرها الصين جزءً منها، واضطرت لإنتاج خريطتان تبرز لكل مستخدم بحسب الدولة التي يتبع لها. وفيما يخص منطقة كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان، تظهر منطقة كشمير للمستخدم من داخل الهند على أنها جزء منها، بينما للمستخدم من بقية أنحاء العالم تظهر حدود المنطقة بخطوط متقطعة إقرارًا بأنها حدود متنازع عليها. ومن أمثلة ازدواجية الحدود التي تظهر في خرائط غوغل تبعًا لمكان المستخدم خريطة المملكة المغربية، حيث تبدو منطقة الصحراء الغربية للمستخدم داخل المغرب على أنها جزء منها، بينما من خارج المغرب يظهر خط متقطع يفصل المغرب عن منطقة الصحراء الغربية.
ليس من الواضح لماذا لم تقدم “غوغل” هذه الخيارات للفلسطينيين – خريطة تظهر دولتهم ومدنهم – أو حتى إظهار الحدود بخطوط متقطعة باعتبار أنها حدود متنازع عليه، فالصراع لم ينتهي، وإسرائيل لا تسيطر على كل فلسطين. في الوقت الذي يتم تجاهل مطالبهم، وتزوير حقيقة منطقتهم الجغرافية المتبقية تحت الاحتلال الإسرائيلي، بما يشمل كافة المعيقات أمامهم وتغيير أسماء مدنهم وقراهم وشوارعهم، لم يتوقف الفلسطينيون مكتوفي الأيدي، فقد أطلق رسام الخرائط الفلسطيني سلمان أبو ستة، عدة مواقع إلكترونية لخرائط فلسطين التاريخية ومعلومات عنها، مثل هيئة أرض فلسطين وأطلس فلسطين.
كما أطلق فلسطينيون عام 2018 خرائط فلسطين المفتوحة، وهو مشروع تعاوني بين مؤسسة تصوير فلسطين وستوديو-إكس عمَّان التابع لجامعة كولومبيا، كأول مشروع للخرائط مفتوحة المصدر المستندة إلى الخرائط التاريخية من حقبة الانتداب البريطاني. تحكي هذه الخرائط المفصلة متعددة الطبقات روايات مصورة تبث الحياة في مناطق جغرافية مُغيَّبة ومختفية، وتسمح للمستخدمين بالبحث في المشهد الجغرافي الفلسطيني في فترة ما قبل النكبة. في محاولة لإحياء وتثبيت الرواية الجغرافية الفلسطينية في ظل حالة الطمس التي تواجهها أرض فلسطين.
كما ويقوم الفلسطينيون بإنشاء خدمات الخرائط المستقلة الخاصة بهم، مثل نظام الملاحة دروب، الذي أُطلق في صيف 2019، ويعتمد على جمهور المستخدمين في الحصول على بيانات إغلاق الطرق والازدحام، خاصة في الضفة الغربية والقدس، ويسمح للسائقين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمتابعة حركة السير عند نقاط التفتيش باختيار طرق بوسعهم أن يسلكوها في محاولة لتجنب حوادث قد يواجهونها بسبب خرائط غوغل المسيسة.