حوار مع د.برهان غليون حول الازمة العالمية الراهنة
حوار حسن مصدق
يحتوي هذا الحوار شهادة على وباء العصر وتداعياته السياسية والاجتماعية والصحية والثقافية، وهي تتضمن تحليلا لمؤسس علم الاجتماع النقدي العربي ووجهة نظره في الأسئلة التالية: هل ستساعد الظرفية الحالية على إفراز حلولا للمشكلات أم أنها فقط ظرفية تساعد من جديد على تسيد سلطة مستبدة ومزيد من إحكام القبضة الصحية والسياسية؟ بمعنى هل تتحول دولة الطوارئ الصحية والحجر الصحي إلى دولة طوارئ استثنائية وتكشف عن تنصيب سلطة تسخر الرابطة الوطنية السياسية لإحكام قبضتها النهائية. ما مستقبل التوازنات الدولية؟ وما هي تقاسيم الخريطة الصحية العربية وتداعيات وباء كورونا المستجد على مستقبلها في الحرية والديموقراطية.
– شخصيا، كيف عشتم الحجر الصحي؟
ج: عشته كامتحان للوعي البشري في بدايات هذا القرن وقدرته على مواجهة المخاطر والمفاجآت.
بالمقارنة مع الكوارث الانسانية التي عاشتها بعض الشعوب العربية في العقد الماضي، وحرب الابادة الجماعية التي تعرض لها السوريون لم يثر في مشاعر خطر كبير، ولم أشعر ان مشكلته منفصلة او يمكن فصلها عن المشاكل والأوبئة الكبرى التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم، من اضطرابات بيئية وتقلبات مناخية وانهيارات بالجملة ومجاعات او تهديد بالمجاعات والنزاعات المستدامة وحروب الابادة الجماعية والتطهير العرقي او الديني وأشكال المعاناة المتفاقمة للجماعات في أكثر من منطقة ومكان.
تابعت كما فعل الجميع المناقشات التي اثارها ظهوره، بين العلماء والأطباء، وكذلك تردد الحكومات في اتخاذ الاجراءات اللازمة لاحتواء انتشاره والسيطرة عليه، والطروحات المختلفة التي كانت تتردد بين من ينظر إليه كمؤامرة صينية ضد الدول الصناعية الأخرى في إطار الصراع على احتلال المركز الاول في النظام العالمي في السنوات القادمة، أو نيو ليبرالية تهدف إلى التخلص من كبار السن للتخفيف من اعباء منظومات الصحة والتقاعد، ومن يعتقد انه انتقام للبيئة التي ثأرت لنفسها من استهتار الانسان بقوانينها الفطرية. طبعا، الآن الكثير من هذه الطروحات حصل التخلي عنه، وتكونت فكرة أفضل عن منشأ الفيروس وربما سنشهد قريبا اللقاح المنشود لمواجهته. بالنسبة لي لا يختلف وباء كوفيد 19 كحدث تاريخي كثيرا عن زلزال تسونامي الذي لم يكن أحد قد رأى مثله او توقعه. والجديد في كوفيد 19 ليس الفيروس نفسه وإنما قدرته غير المسبوقة على الانتشار والتوسع الهندسي مما يجعله احد أبرز مظاهر العولمة البيئية التي يكاد يكون من الصعب السيطرة عليها مع المحاصرة في حدود ومنطق الحسابات الوطنية الضيقة.
ما يلفت الانتباه وما يستحق التأمل في الموضوع ليس ظهور الفيروس نفسه، فالطبيعة منتجة دائما بالطفرات وتسونامي كان واحدة منها، وإنما تعامل المجتمعات معه، حكومات وشعوبا، أي مع ما كان حدثا غير متوقع وما ظهر كخطر داهم يهدد بالقضاء على الآلاف من الأرواح. فجأة انقلب مزاج العالم وعادت إلى الذاكرة صور الأوبئة المريعة والكوارث التي لا يعرف الانسان كيف يواجهها. وإذا كانت الحكومات قد اظهرت الكثير من التردد والارتباك قبل ان تتخذ إجراءات العزل، وقد كانت إجراءات جريئة استدعت رصد ميزانيات ضخمة، فإن ما ميز رد فعل الرأي العام في المجتمعات المتقدمة هو الهلع بالمعنى الحرفي للكلمة. لذلك لم تحتج الحكومات حتى لإجراءات استثنائية لفرض الحظر الشامل والإغلاق شبه الكامل للنشاط الاقتصادي. كان الانضباط مثاليا، بعكس ما تميز به الوضع في البلدان النامية حيث غالبا ما ترافق استهتار الحكومات بالصحة العامة مع اضطرار الجمهور الواسع إلى الذهاب إلى أعماله للحفاظ على المرتب الشهري الذي يعيل أسره بغياب اي دعم من قبل الحكومة.
– بوصفكم أحد مؤسسي علم الاجتماع النقدي العربي، كيف يواجه عالم اجتماع ومختص في الفلسفة الاجتماعية والعلوم السياسية تداعيات وباء كوفيد-19؟ وهل الإشكاليات التي طرحتها قضية الجائحة الفيروسية ستطغى على القضايا الاجتماعية في العالم العربي؟ بمعنى آخر، هل عطَل الوباء تغيير الواقع والوقائع بعد أن اغتيلت طوباوية الربيع العربي وأجهضت أحلامه في الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر من ربق الاستبداد والتسلط؟ هل ثمة أمل في رفع الحجر الصحي عن أحلام الربيع العربي؟
ج: أنا أنظر إلى كوفيد 19 بمثابة إشارة تحذير تاريخية كبرى وجهتها الطبيعة للإنسان المعاصر، انسان القرن الواحد والعشرين، وريث الانتصارات والانجازات الهائلة التي شهدها خلال القرنين الماضيين من تطور الرأسمالية إلى الثورة الصناعية إلى الثورة السياسية والديمقراطية إلى الثورة العلمية والرقمية، والذي اعتقد انه نجح في النهاية، في السيطرة على الواقع والطبيعة والتاريخ والمجتمع أيضا، وأصبح بإمكانه الاتكال على انجازاته التي لاشك في عظمتها والعيش في سعادة خالدة. بمعنى آخر فتح الوباء الجديد ثغرة عميقة في اليقينيات أو العقل اليقيني الذي سيطر على المجموعة الانسانية بخصوص المعرفة والعمل والحكم الديمقراطي والصناعة والتوسع المضطرد لأسواق الاستهلاك واقتصاد الربح والتراكم الرأسمالي اللامتناهي، أي عوامل القوة والتقدم للعالم الحديث. وهذا يعني فتح الباب من جديد امام الشكوك والهواجس والخوف الذي ما فتىء يلاحق الانسان ويدفعه الى تغيير بيئته واعادة بناء الطبيعة التي هو جزء منها على حسب ما يوفر له السعادة، ومن ثم الشك في حقيقة هذه السعادة نفسها.
والواقع هذا الوهم في السعادة الناجم عن الاعتقاد بسيطرة الإنسان على مصيره وسيرورة تطور مجتمعاته، لم يكن مزدهرا في المجتمعات المتقدمة فحسب ولا اقتصر على طبقاتها الميسورة وإنما شاركت فيه المجتمعات في كل بقاع العالم بما فيها المجتمعات والطبقات الفقيرة التي كان تعيش على أمل التغيير بالثورة او من دونها.
بمعنى آخر ما فعله الوباء كوفيد 19 هو زعزعة الحلم او اسطورة السعادة المحسومة والتي ينتظر الجميع تعميمها المرتبطة بتطور التقنية والآلة الانتاجية والعلوم التطبيقية وما تؤدي إليه من سيطرة مضمونة على المصائر الطبيعية والمجتمعية. لا أقول إن الانسان المعاصر فقد الأمل، فهو لا يمكن أن يعيش من دونه، لكنه فقد اليقين. وهو سيعيش منذ الآن هشاشته الروحية والجسدية والمجتمعية بشكل أكبر وأعمق من دون شك. لقد عادت الطبيعة او البيئة الخارجية التي نعيش فيها وهي جزء من كون بالكاد تعرفنا على ملامحه الكبرى، لتفرض أسبقيتها من جديد على الذكاء الانساني.
لكن لا ينبغي أن نخرج من هذا التحليل بالاعتقاد أن الإنسان سوف يتخاذل وينكفيء على ذاته ويقبل بما قسم له. هو أعند من ذلك بكثير، وسوف ينظر إلى وباء كورونا بوصفه تحديا إضافيا له ليزيد من هوسه المعرفي وتمسكه بالحياة ووهم السعادة الشاملة والأبدية. مما يعني ان الوباء لن يدفع المجتمع الإنساني المعاصر الى التراجع عن خط سيره الراهن في شؤون الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة ولكنه سوف يحثه على التفكير المتجدد في طرق تكيف أفضل، والتعامل بشكل أكثر حذرا مع الطبيعة التي تختزن دائما اسرار أعمق. وليس من المؤكد أن المجتمع الإنساني الراهن سوف يحتفظ لوقت طويل بصدى هذا التحذير التاريخي الكبير ويدرك المغزى العميق له أيضا. يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير.
أما فيما يتعلق بالعالم العربي الذي حبس نفسه في قوقعة استبداد عميم عزله عن الفكر والحلم والنشاط العالمي ووضعه خارج التاريخ لعقود طويلة فلا أعتقد انه سيكون قادرا على التفكير فيه كحدث تاريخي ولا في أخذ أي عبرة منه. فحياة مجتمعاته قائمة بالأساس وحتى الآن على الإذعان للأمر الواقع، وهو يعيشها كقدر، لا حول له فيه ولا قوة، ولا يوجد فيه مكان لتفكير او لاختيار حر أو لمشاركة من أي نوع في صنع الحلم والمستقبل. على الأغلب لن يرى فيه سوى أحد مظاهر قانون القضاء والقدر، الأبدي والشامل، الذي تخضع له حياته ونشاطاته جميعها. فهو بالكاد ينجح في تصور معنى السعادة فكيف بصناعة الأمل. أخشى بالعكس من ذلك ان يفاقم وباء كوفيد 19 من حالة اليأس والإحباط التي عممها اغتيال الربيع العربي، وان يدفع المجتمعات الى المزيد من التشنج والتوتر والنزاع.
– إن دور المثقف النقدي هو تنوير الشباب وتثقيفهم بثقافة نقدية تساعدهم على فهم واقعهم وما يجري حولهم، هل ثمة انتكاسة في هذا الدور في العالم العربي بعد سيطرة التفسيرات الخرافية والقدرية والأسطورية من أصحاب العمائم المتحجرة في تفسير أسباب ظهور هذا الوباء وفي طرق الوقاية منه؟ هل انحسار الثقافة النقدية ومحاربة تدريس علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم الحقة يفسر في بعض الجوانب دخول مجتمعاتنا نفق الضعف في الوعي والغيبوبة الفكرية؟
ج: ما من شك في أن الوعي العربي، الفردي والجمعي معا، عانى من جمود وتحجر وانغلاق لعقود طويلة سابقة بالرغم من النشاطية التي أظهرها العديد من المثقفين المخضرمين والجدالات التي أثاروها بخصوص الدين والعقل والعلم والعلمانية والديمقراطية وغيرها من الأفكار المتعلقة بوعي العالم والمجتمع. ونحن نحصد اليوم آثار هذا التحجر وروح المحافظة التي سيطرت على الذهن العربي. لكن لا أعتقد ان سبب ذلك عائد إلى تقصير المثقفين او سيطرة رجال الدين المحافظين وإنما إلى الحصار الذي فرضه نظام الاستبداد الشمولي والأقل شمولية على الجدلية الفكرية والاجتماعية والسياسية، وفرض على الفرد أن يسير، ليس على ضوء ضميره وفكره، أي بنور يهديه من ذاته وبين يديه، كما ينبغي لكل إنسان، وإنما أن يتسرب عبر الأنفاق المظلمة المعدة له مسبقا، وتحت تهديد سوط السلطان ونزواته. والنتيجة الطبيعية حرمان الفرد من تطوير وتنمية أي فكر او روح اجتماعية او ضمير، وتسليمه إلى غرائزه وأهوائه الحيوية، مرشدا لا بديل عنه للحفاظ على البقاء المادي والتوازن النفسي. وفي عالم الغرائز والأهواء هذا، وفي محيطه وبيئته، نمت وازدهرت تجارة الوهم الديني، أعني بيع صكوك الغفران، ليس في صيغة القرون الوسطى المسيحية التي كانت تحجز لمن ترضى عنه الكنيسة مكانا في الجنة، مقابل ثمن يدفعه المؤمن على الأرض، وإنما في صيغة الترويع والتخويف من النار والعذاب والعقاب الذي لا يرحم ولا مهرب منه سوى اتباع ما ترسمه له “الكنيسة” الجديدة أي السلطة الدينية. والنتيجة واحدة: تحويل التدين والإيمان إلى منبع اليأس والقنوط والخوف والشك بالآخر والقطع مع من لا يقتدي ولا يقلد ولا يتقيد بما يطلبه رجال الدين، بدل أن يكون منبعا للألفة والمحبة والسيادة وحافزا للانفتاح على الآخر واقامة العلاقات الاجتماعية، أي المودة والانطلاق في العالم الفسيح من دون خوف، والمغامرة في المجهول كما فعل قدماء المسلمين الذين انتشروا في كل بقاع الأرض.
بعبارة أخرى لا تتطور ثقافة العقل والنقد إلا في عالم ومجتمع وأفراد ذوات، يمتلكون الحد الأدنى من روح الثقة بالنفس والشعور بالحرية والقدرة على بناء علاقات ايجابية مع أقرانهم ومن ثم مع مجتمعهم، وهم وحدهم الذين يستهلكون او لديهم طلب على الثقافة والمزيد من التفكير والتأمل في الواقع الاجتماعي والطبيعي، فهذا هو غذاؤهم الطبيعي، وهو ما يدفعهم إلى إغناء تجربتهم باستمرار. أما عالم الغرائز والأهواء الذي فرض على الفرد البقاء منعزلا فيه، فهو لا ينتج ذوات فردية واعية لذاتها وقادرة على تدبير أمورها بنفسها وتحكيم عقلها، ولا يسمح حتى بنشوء عواطف ايجابية متبادلة فيما بينها، ولا يمكن للمجتمع ان يستقيم امره فيها إلا بوجود رادع لكل فرد من خارجه، ولجام يكبح غرائزه وأهواءه، وهذا هو الدور الذي يراهن على توظيفه رجال الدين المحافظين، وهو الذي يفسر ازدهار تجارتهم وتنامي نفوذهم.
وليس للوهم وتجارته علاقة بالدين. فالوهم دين أفرغ من مضمونه ونزعت منه بذور الرحمة الألفة والمحبة والأخوة التي تحرر الانسان وتعزز ثقته بالآخر، وتقربه منه، وتصالحه مع العالم والزمن، وتمكنه من الاستقلال بنفسه وفكره وتجاوز قيود الوصاية والتبعية والعبودية لغير خالقه. بيع الوهم يعني اقناع الناس بأن الخلاص لا يكمن في ترقية مشاعرهم وفكرهم وعاطفتهم وعلاقاتهم الاخوية مع أقرانهم وإنما بالتسليم لغيرهم والطاعة لأولي الأمر منهم والانقياد لمن يرون فيه نقيضا لهم في العلم والمعرفة، من الأوصياء عليهم وعلى الدين ذاته. مجتمع الغرائز والأهواء لا يعيش إلا بعقل من خارجه، أي بوصاية دينية، هي التي تحول الدين من إيمان شخصي ونور يهتدي به من داخله وبذاته المؤمن، بما يبعثه من علاقة مباشرة مع مصدر الوحي والإلهام، إلى لجام وكابح وقيد على الوعي والشعور من خارجهما، حيث تزدهر تجارة الوهم، أي التفسيرات الخرافية والقدرية والأسطورية لمرشد روحي مقدس “غورو” كما يفعل بعض أصحاب العمائم المتحجرة كما تقول. وبالعكس تماما لا يعيش مجتمع الفردية الحرة والإرادة المستقلة والضمير الحي إلا بالعقل والنقد والمحاكمة ولا يزدهر إلا بالمناظرة التي تعني ب وتنظم التفاعل بين العقول الحرة الفاعلة والمستقلة.
– اجتماعيا، كيف تفسرون سيطرة وانتشار الجهل والتفسيرات القدرية والأسطورية في مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص الوباء، هل هذا يثبت في نظركم بأن الأنظمة التعليمية والتربوية في العالم العربي سقطت سقوطا ذريعا ما دامت الذات العربية الحرة والمستقلة والنقدية، تعاني فجوات ونواقص كثيرة من جراء سيطرة أفكار متعفنة وقدرية في المنهج والأسلوب؟ في نظركم ما هي طبيعة المشكلة التي ما زالت تلازم << اغتيال العقل العربي>>؟ هل تتجلى في سيطرة أصحاب العمائم على الساحة الثقافية والفكرية واستمرار تسخير الدين في خدمة السياسة. هذا في غياب المثقفين و أصحابا الياقات البيضاء عن الحلبة الفكرية وانسحابهم من أتون الساحة السياسية؟
ج: ما زلت اعتقد ان المشكلة في مجتمعاتنا العربية لا تكمن في وجود رجال دين، حتى محافظين، كما لا تكمن في تسخير الدين لخدمة السياسة، بالرغم من اعتقادي بأنه لا مهرب من تحييد الدولة العقائدي إذا أردنا حياة سياسية وأخلاقية سليمة ومنتجة للأمان والسعادة في مجتمعاتنا. فالظاهرتان كلاهما نتيجة لعوامل أخرى وليستا سببا لها. كما أنني أميل بشكل أكثر اليوم إلى عدم المبالغة في إيلاء المثقفين دورا أكبر مما يمكن أن يقوموا به في مجتمع محاصر من الداخل، بالسلطة الاستبدادية الخاصية، اي التي تقوم بإخصاء الفرد، ومحاصر من الخارج بسيف العزل والاتهام المسبق والتحقير والعنصرية في عالم يخضع للإمبريالية الثقافية العالمية التي اصبحت اكثر فتكا من الامبريالية الاقتصادية. هنا تكمن المشكلة الحقيقية المنتجة لجميع المشاكل الأخرى، وفي مقدمها اعاقة النمو أو ضعفه، وبطء التنمية أو بالأحرى الكساح الاقتصادي الذي ينجم عنه بالضرورة سوء التغذية الحضارية والثقافية، والشك بالنفس واحتقار الذات والقزمية الأخلاقية والنفسية، أي هشاشة البنية الانسانية المدنية في المجتمعات المهمشة او الهامشية التي كنا نسميها البلاد النامية او بلدان الجنوب، وتمثل الانسان فيها لذاته بوصفه ناقصا ومتخلفا وضعيفا وفي حاجة دائما، كالأعمى والضرير، إلى من يرشده ويقوده ويوجهه من خارجه.
باختصار هذا هو النظام الذي ينتج روح الوصاية او الطلب على الوصاية سواء أكانت وصاية رجل الدين المعمم أو وصاية المثقف أو رجل السلطة وأجهزة الامن، أعني نظام حصار الفرد وخنقه من داخله وخارجه.
فسيطرة رجال الدين، او بالأحرى توسع دائرة نفوذهم بالمقارنة مع المثقفين، على مستوى رواج أو تداول القصص والأوهام في سوق الأفكار والمعاني، هو ناتج طبيعي وحتمي لنظام الوصاية وأساسه نظام الحصار هذا. ولا يمكن تصور انحساره بضخ أفكار حديثة أو مختلفة في سوق الثقافة لأنها ببساطة لن تجد من يشتريها. العمل ينبغي ان يكون على المستهلك، أي على الإنسان، وعلى المجتمعات التي تشكل الناس، الفرد والروابط التي تجمعه مع غيره من الأفراد. لا يمكن للفرد، المواطن الحر، المؤمن بنفسه ودوره وسيادته ومساواته بالآخرين في ظل القانون، أي الشاعر حقيقة بكرامته وشرفه، أن يستهلك الأوهام ذاتها والاحلام والأساطير التي يستهلكها رجل مقيد الساقين والذراعين مرمي في زاوية غرفة مظلمة تحت الأرض ويخضع صباح مساء لسوط الجلاد وتهديده وتحقيره. غذاء المواطن الحر وطلباته من السوق الرمزية تتركز على ما ينعش شعوره بالحرية وما يغذيها ويوسع دائرتها ومعانيها، وغذاء المستعبد والمذل والمهان ومطالبه تتركز بالعكس على بضاعة الشفقة والرحمة وكلمات الترجي والتوسل والتذلل للجلاد والشكوى لمن هو أقوى وأسمى وأكبر، أي لله رب العالمين، والتمسح بأذيال من يسمون أنفسهم رجاله وممثلي عقيدته ودينه.
أما فيما يتعلق بالدين والسياسة فلا يوجد في التاريخ رجال دين لا يسخرون دينهم لخدمة السياسة. فالسياسة نشاط اجتماعي واسع يدخل فيه تداول الأفكار والقيم والمعايير والدين جزء من عالم هذه القيم والمعايير أيضا. لكن السؤال هو: تسخير الدين لخدمة أي سياسة؟ وهنا تكمن أيضا المشكلة. في المجتمعات الحرة أو شبه الحرة ينحسر دور رجال الدين بالضرورة وتضعف تجارتهم في سوق الأفكار والمعاني القائم فيها، كما ذكرت، وربما انقسموا بين من يستمر في بيع الوهم لطالب الوصاية والعكازة للسير في الحياة، ومن يسخر الدين لخدمة الأيديولوجية السائدة والمرتبطة بشرعنة السلطة القائمة مهما كانت، وقد يقف مباشرة في صف الدفاع عن الحريات والكرامة الانسانية، كما هو حال نشطاء لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وما هو اليوم وضع الكثير من رجال الدين المسيحي الذين وجدوا في الاعمال الإنسانية دورا جديدا يقربهم من الله في المجتمعات الحرة.
أما غلبة فئة رجال الدين التي تسخر العقيدة المقدسة لشل إرادة الأفراد وتعقيمهم ضد روح الكرامة والحرية والسيادة الشخصية التي تسكنهم، وتكبيلهم بالخوف الدائم من ارتكاب المعاصي، والتحوط ضد التفكير الحر، والتي تراهن على تنمية الشعور بالذنب الدائم والخطيئة، وتصوير كل فعل تحرر معصية تستوجب التكفير عنه أو توقع الانتقام، وخوف المؤمن من نفسه وحريته، واصطفافه وراء القطيع، أي باختصار التعقيم الذاتي للعاطفة والعقل والضمير، وما ينجم عن ذلك من رواج تجارة رجال الدين البائعين للوهم مقابل هؤلاء رجال الدين التقاة والقانتين، فكل ذلك منبع واحد هو تزايد الطلب على هذا النوع من القيم المحافظة، أولا من جانب النظم الاستبدادية التي تخشى من تحرر الأفراد وما يتبعه من مطالب واصلاحات وتعديل في موازين السلطة وتوزيع الثروات المادية والمعنوية، وثانيا من جانب الجمهور الشعبي الذي يجد نفسه في كل الأمور، أي في شأن تأمين شروط بقائه المادية، وشروط تأمين احترامه والتعامل معه كإنسان، أي حفظ كرامته، في طريق مسدود، وامام جدار صلد لا يمكنه اختراقه، لا يبقى له إلا التسليم بالأمر الواقع وجعل هذا الأمر الواقع أمرا طبيعيا ومقبولا، وخيارا غير مباشر يقوم به عنه ولاة الأمر والأوصياء على إيمانه ومكانته الاجتماعية ومصيره الأخروي وربما أيضا الدنيوي. لا يوجد بديل لهذا الاستسلام الارادي أو الاختياري إلا استبطان احتقار الذات أو الانتحار.
– هل أجبر وباء كورونا الجميع على بدء تغيير النظرة للعالم والبحث عن تفاسير ورؤى جديدة؟ هل يصدق تحذير أولريش بيك حول ما يحيط ما سماه: <<مجتمع المخاطرة>> أو أخطار العولمة؟ وهل بهذا المعنى دخل العالم أعتاب مرحلة <<قلق الحضارة>> التي تحدث عنها فرويد بعد الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية الكبرى؟ ما توصيفكم لما يجري ويدور؟ بودي أن أسألك أين تجد نفسك كمفكر في هذه التفسيرات القديمة/ الجديدة، هل نحن إزاء أزمة مختلفة؟ هل لنا أن نعرف معنى ما يجري ويدور؟
ج: أعتقد أن وباء كوفيد 19 قد شكل هزة عميقة زلزلت الكثير من القناعات كما ذكرت في الجواب على سؤالك الأول، لكنني لا أعتقد انه سيكون له مفعول الزلزال في اي مستوى من مستويات التفكير والممارسة الاجتماعية والعالمية او العولمية. الحربان العالميتان اللتين ذهبت ضحيتهما عشرات ملايين الأرواح ودمرت فيهما قارة كاملة، وانتجت حالة من اليأس والاحباط والسخط لا مثيل لها، لم تغير كثيرا من أسلوب حياة البشر، حتى في هذه القارة، لكنها ساهمت في تطوير جيوسياسية جديدة في أوروبا قائمة على العمل من اجل الاتحاد وتجاوز أسباب الفرقة والحرب كان تشكيل الاتحاد الأوروبي ثمرتها الرئيسية والهامة ايضا. لكن الحروب لم تلغ من العالم. والاتحاد نفسه يمكن أن يلاقي صعوبات وتهديدات في المستقبل على ضوء التحولات الراهنة والقادمة. وفي اعتقادي لم يكن مفعول إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناكازاكي أقل زلزلة للوعي والضمير الانسانيين من مفعول كوفيد 19، بل ربما كان أكبر. لأول مرة مدينتين كاملتين تبادان في ثوان من قبل بشر لا من قبل الطبيعة، وهذا اعنف بكثير على الضمير. ومع ذلك استمر السباق النووي وتكيف العالم مع احتمال ومخاطر صدام نووي في يوم ما بالرغم من النظريات التي تزعم غير ذلك.
– العالم يتغير بوتيرة وبسرعة قياسية لم يشهدها من ذي قبل، كيف تنظرون إلى ما يجري من منظور علم الاجتماع السياسي والعلاقات الدولية، هل نحن بالفعل على أعتاب مرحلة جديدة يتوحد في الزمان والمكان بفعل تكنولوجيا التواصل تجنبا للمخاطر؟ هل هذه المرحلة تاريخية بالفعل، وأنه للمرة الأولى بدأنا نعي بالفعل أن كل ما قيل حول العولمة كان أضغاث أحلام وأن معطيات الفيروس تغيرت كل شيء داخل الدول وخارجها وفيما بينها؟
ج: المشكلة أن العالم ليس جامدا وكذلك احداث التاريخ الطبيعي والاجتماعي الإنساني. وما أن تحصل هزة طارئة جديدة تمس وجود الانسان أو حياته أو شروط وجوده حتى تشد الانتباه إليها وتركز الانظار عليها فتمحو أو تهمش وتغيب الأزمة السابقة. لكن الإنسان المعاصر، وأعني هنا السلطة العالمية الممثلة بالسبع الكبار الممسكين بأجندة السياسة الكوكبية، أو العولمية، سرعان ما يعود إلى عهده وما تعود عليه، أي إلى حلمه المحرك الدائم في البحث عن السعادة، والتي تكاد تتطابق اليوم في مدنيتنا الراهنة بزيادة الاستهلاك، وإن لم تكن السعادة أبدية فلا مانع من أن تكون مؤقتة وزائلة، لكن حقيقية. ومن المحتمل أكثر في ظني ان التنافس على خيرات المدنية وعلى المصالح، أي على رفع مستوى الحياة المادية والدخل السنوي للفرد، الذي يترجم بزيادة الاستهلاك، سوف يتفاقم ومعه سوء الأحوال الانسانية العامة أيضا.
لكن لا ينبغي أن نستبق الأمور أيضا. لا نزال لم نعرف بعد مصير سيطرتنا على وباء كوفيد 19. فلو حصل اننا فشلنا في ذلك، وان الوباء تطور وأصبح خارج السيطرة ولو في مناطق ليست مركزية مثل أوروبا والولايات المتحدة، وذهب ضحيته الملايين، سوف يختلف رد الفعل بشكل كبير. وربما دفع الإنسان الى تغيير سلوكه تجاه مفهوم السعادة الذي ارتبط بتكثيف الخيرات المادية والاستهلاك والصحة والتنعم بالحرية وتجاه علاقته بالطبيعة وعدم شكه في قدرته على السيطرة عليها من خلال الكشف عن قوانين عملها، وتجاه ذاته، أي علاقات المجتمعات فيما بينها وما تستند إليه من معايير التضامن والعدالة والتعاون بدل التنافس والتشاحن السائدة اليوم، والتي تبدد الانسانية من خلالها أكثر مما تستهلكه من الموارد الطبيعية والاجتماعية.
باختصار لا يوجد هنا خيار واحد وإنما خياران: خيار إصلاح النظام الراهن القائم على التنافس بين الدول على زيادة الثروة المادية مع تعديلات ضرورية لمنع الصدام والتخفيف من تلقي العنف من الجانب الخاسر، أو خيار تغيير النظام وإعادة بنائه على أسس مختلفة، عالمية او عولمية بالفعل، تأخذ بالاعتبار سعادة البشر ككل وتعمل في هذا الاتجاه لصوغ اجندة سياسية عالمية مرشدا للأجندات الوطنية. والملاحظ ان هذه الازمة بمقدار ما أظهرت الطابع العولمي للوباء الجديد، الذي لا دواء له سوى بالتنسيق العالمي، فاقمت من انكفاء المجتمعات على نفسها وإغلاق حدودها. هاهنا يوجد نموذج لتنازع الاختيارين المذكورين: السير الجدي نحو سياسة عالمية متسقة أصبحت شرطا لأي تقدم مدني قادم، أو الانكفاء نحو حلول وطنية أو إقليمية، وترك مسؤولية معالجة عواقب العولمة غير المأخوذة جديا بالاعتبار على المجتمعات والشعوب الأكثر فقرا والأقل قدرة على مواجهتها.
– من بين فقدان البوصلة التي نجمت عن تداعيات هذا الوباء، هناك هذا الإحساس بأن التاريخ لم يتوقف ولن يتوقف، وهو مستمر، لكن الزمن التاريخي علّق الزمن السياسي والنظام العالمي الحالي، كما أن كل حالات الفزع والرعب الذي أحدثها الوباء تعد مثالا عن انكسار السياسة؟ هل هذا صحيح؟ وكيف ترون لهذا الأمر بعد عودة العلماء والمثقفين والأطباء إلى الحلبة الإعلامية والثقافية من جديد؟
ج: نستطيع ان نقول إن إشارة الاستفهام أو التحذير التاريخية التي مثلها او شكلها انبثاق كوفيد 19 المفاجئ قد أعادت بعض التوازن بين قوة الطبيعة وموقعها وقوة المجتمع الانساني اي الحضارة الانسانية المنظمة التي اخضعتها وسخرتها لخدمة الانسان. فقد الانسان شيئا من غطرسته وسطوته وثقته بقدراته الإبداعية اللانهائية ومن ثم بنظمه السياسية والاقتصادية والمعرفية. لكنه لم يفقد قدرته لا على المبادرة ولا على المناورة، ولا مهاراته التي شحذتها تجاربه الطويلة. لن يكون هذا الوباء المستجد منعطفا لفتح فصل جديد في تاريخ النظم البشرية، أي في التاريخ الاجتماعي، مختلف تماما عما سطره المجتمع الإنساني في القرون السابقة. سيحفزه بالعكس على التوسع في سبر الكون وإصلاح المناهج التي استخدمها حتى الآن للنفاذ إلى أسراره والتفاعل معه، وجعلها أكثر دقة وحذاقة. وإذا لم تحصل مفاجآت كتلك التي ذكرتها للتو، أي خروج الوباء الكوروني عن السيطرة، وتسببه في أعداد كبيرة من الموتى وإجباره المجتمعات على الإغلاق والحجر الصحي من جديد، وبالتالي تفجير الأزمة الاقتصادية، فلن يكون لكوفيد 19 نتائج تاريخية، او يمكن وصفها بالتاريخية، وربما لن يدفع حتى لإعادة النظر في المنظومات الصحية. أما في البلاد الفقيرة البائسة التي تعيش انهيارات عميقة في كل المجالات قبل ان يصلها الوباء، فسوف تبقى مصارعته آخر اهتماماتها، وسوف يرى كثير من الناس في الموت الذي يحمله في معطفه نافذة خلاص من حياة فقدوا فيها أي أمل بالسعادة واصبحت محنة في ذاتها أقسى على الفرد من الموت بكثير.
– هل أصيبت الخيارات النيو ليبرالية المتوحشة الساعية لتحقيق مزيد من الربح والتراكم والاحتكار واستغلال العمل وتسليع جميع الأنشطة الإنسانية بأزمة كبرى، هل في نظركم أن الوباء سيساعد في كشف زيف الشعارات التي حملتها وسوقتها، بخاصة أن نتائج ما قامت به من خصخصة التعليم والصحة وانهيار قيم التعاضد والتضامن هي الآن عارية أمام الجميع لا تستطيع ستر عورتها؟ أم أن النظام الحالي سيستفيق مجددا، ويعتبر الأمر مجرد كبوة ستعود معها قوى الرأسمال من جديد لامتصاص تداعيات الأزمة وتسخيرها لصالحها كما فعلت مع الأزمة المالية في عام 2008؟
ج: أعتقد ان الرأسمالية الليبرالية التي تحدث عنها كارل ماركس في رأس المال لم يعد لها وجود. وأننا نعيش اليوم في نمط جديد من الرأسمالية المنفلتة التي أصبح العالم بأجمعه مسرحا لها، كما اصبحت الحرب والتوازنات الجيوسياسية هي الأكثر تحكما بها من حسابات الرأسماليين القدماء الشخصية والوطنية البسيطة لزيادة نسبة الربح في فائض القيمة على حساب الأجور. هناك عودة بالأحرى، ولكن بطريقة مواربة ومختلفة طبعا، لما سماه ماركس مرحلة التراكم البدائي الذي كانت الظاهرة الاستعمارية أحد اهم ابتكاراتها. أكثر من أي حقبة سابقة أصبح من الممكن القول ليس للرأسمال بالتعريف وطن ولا دين سوى دين التراكم وتنمية نفسه على صعيد المعمورة، ولو بوسائل وسياسات مافيوية ومضاربات وتغيير الحدود والتوازنات الدولية والجيوسياسية. وهو مستعد لاستثمار اي نافذة فرص، حتى الحروب الوحشية والأزمات الانسانية الصحية وغير الصحية لتحقيق غايته، من دون النظر لا إلى الخلف ولا إلى الامام. بل ليس من المبالغة القول إن رأس المال لم يعد يأمل في أن يزدهر ويتراكم إلا في شروط الأزمة كما هو حال أثرياء الحرب، وكثيرا ما يسعى هو نفسه إلى تفجير هذه الحرب عندما يشعر بالركود او الجمود او التباطؤ الشديد في معدلات التراكم نتيجة تراجع أسواق الاستهلاك والاستثمار وتضاؤل معدلات الربح المنتظر. وما نشهده من تمديد أجل الحروب في المشرق اليوم يعود في جزء مهم منه إلى هذا التطور اللافت في استراتيجيات رأس المال المعولم وتنامي إرادة السطو على الموارد العالمية على الطريقة الاستعمارية القديمة، وتقاسم الغنائم على حساب تدمير البلدان وقتل الشعوب وعصرها كما تعصر ليمونة ناضجة. هذا هو الوضع في سورية وليبيا اليوم بالتحديد.
– في كتابكم <<نقد السياسة: الدولة والدين>>، طرحتم مفهوم الدولة والدين في مجتمعاتنا وكشفتم أسباب النزاع حول الدولة والدين، وأثبتت الوقائع بعد ذلك تجيير الإسلام لصالح السياسة وبذلك أخطر الخلافات التي يواجهها مجتمعنا في فكره السياسي المعاصر. أما اليوم بتنا نشهد عودة الدولة بقوة، أقصد عودة الدولة- الراعية للخدمات العمومية والموجهة والأبوية والتي يداعبها أحيانا نزعة التسلط في بعض البلدان، هل تعتبرون ذلك مؤشرا عن عودة القوة إليها واستعادة عافيتها، وهي بذلك دلالة مبكرة على استعادة أدوارها الحقيقية وأدوارها التاريخية، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ضرورة أملتها الحاجة الحالية؟ كيف تنظرون لمستقبل طبيعة الدولة العربية وإشكالية اندغام السلطة بمؤسسات الدولة؟ لا أتكلم عن الدولة بلباس الشرطة وشخوص من يملكون سلطة الإكراه فقط، أود أن أثير انتباهكم للإشكاليات التي تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو وعالم الاجتماع بيير بورديو حول السلطة كنظام رمزي، والسلطة كعملة انضباط جزري متخفية وغير متخفية أحيانا، أين فهم البروفيسور غليون لما يجري في العالم العربي في ظل الوباء وبعده؟
ج: ما أراه في بلادنا العربية عموما، أي من دون أن أخصص بلدا بعينه، هو العكس تماما. إنه الانهيار العميق في بنية الدولة ودورها وموقعها في السلطة من حيث هي علاقات رمزية وخفية بنيوية تحكم وتنظم التراتبية بين الأفراد والجماعات على مستويات مختلفة من النشاط او الحياة الاجتماعية. وهذا يعني أنها تفقد دورها كسلطة شرعية، وبالتالي أسبقيتها على جميع اشكال السلطة الرمزية الاخرى، كما تفقد القدرة على الوفاء بالتزاماتها والقيام بوظائفها الطبيعية، وتفقد السيادة في علاقاتها مع الدول الأخرى والبيئة العالمية ومن ثم احترامها والاعتراف بمركزيتها في داخل حدودها وخارجها، كما تفقد اعتبارها ووزنها في تعامل الدول الأخرى الكبرى والمتوسطة معها. وهذا ما يفتح المجال لاستعادة السلطات الأهلية الطائفية والاثنية والمناطقية حيويتها، ولاستسهال القوى اللادولوية والمنظمات الإرهابية اختراقها والتجرؤ على التوطن فيها وبناء قواعد ثابتة لها، بما في ذلك الطموح إلى بناء دولة خاصة بها تقتطعها من لحم الدولة السياسية الوطنية كما فعل تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” في محافظة الرقة السورية، وتسعى إلى فعله في بلدان أخرى.
ولذلك تشهد هذه الدولة اليوم هجوما عليها من كل الاطراف والاتجاهات: من الجمهور المشرد اي الفاقد لمرجعية دولة تعنى بشؤونه وتمثل إرادته وتطلعاته نحو الحياة السعيدة والكريمة، ومن القوى الانفصالية او الاثنية والقومية الباحثة عن مهرب لها او بالأحرى عن نافذة تستطيع من خلالها نخب صغيرة مسحوقة او مهمشة ان تصبوا وتطفر الى كيان نخبة دولة، وتتحول الى نخبة سيدة ومطاعة، ولو على حساب مصالح الشعب أو القومية التي تنتمي إليها. ومن الدول الأخرى التي لا تتردد في اقتطاع ما تستطيع من اراض او موارد أو غنائم من الدول الأضعف عندما تسنح لها الفرصة من دون ان تتقيد بأي مبادئ او قانون دولي او عرف إنساني، ومن دون ان تثير اي ردود عليها من قبل الدول الكبرى التي تعتبر نفسها وكيلة على تطبيق المواثيق الدولية. والمثال الأوضح على ذلك شرعنة الولايات المتحدة لحركة الاستيطان والاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية من دون حاضر ولا دستور، كما نقول في المثل العامي، وضد إرادة الجميع وفي تحد سافر للمجتمع الدولي بأكمله.
ما أشعر به وأفهمه مما يجري اليوم على صعيد الدولة والعلاقات بين الدول هو نوع من التخلي عن إرث التحرر الإنساني الذي انبثق ردا على ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية وما ارتبط به من مفاهيم حق الشعوب في تقرير مصيرها، والتعاون على نزع الاستعمار وتحقيق العدالة والمساواة في العلاقات الدولية، وتأكيد أسبقية القانون الدولي الذي يعني التضامن مع الشعوب الضعيفة والمقهورة، او الجماعات التي تتعرض لظلم او تمييز واضحين ضدها. هكذا تجري اليوم حروب إبادة جماعية وتطهير عرقي في أكثر من قطر ويضحى بجماعات دينية وعرقية لأهداف سياسية، سواء من قبل دول او ميليشيات مرتبطة بدول كبرى وتعمل في خدمة استراتيجيتها منذ عقود، من دون أن تتخذ اي إجراءات جدية لوقفها أو أن يعمل على تطوير وسائل وأدوات تسمح للأمم المتحدة أن تتدخل لمنعها. هناك استسلام متزايد ومؤسف جدا لقانون القوة وحكم الغطرسة ومكافأة محفوظة ومبررة لاستخدام العنف او التجرؤ على استخدامه ضد أهداف لا تعني كثيرا مصالح الدول الكبرى إن لم تكن هي ذاتها التي تقوده من وراء الستار وتنفخ في ناره.
ازدهار الدولة كسلطة سياسية قانونية مركزية تشكل مرجعية لجميع السلطات الأخرى وتنظم استخدام العنف وتقنينه، أي ترعى أصول الشرعية، لا يمكن ان ينفصل عن ازدهار المنظومة الدولية وتنظيم علاقات الدول داخل هذه المنظومة على أسس قانونية وشرعية. والحال ان العقدين الماضيين كانا كافيين ليبرزا، بدءا من حرب العراق عام 2003 وحتى غزو سورية وليبيا في هذا العقد، تهافت المنظومة الدولية كمنظومة قانونية، ومن ثم كمصدر للشرعية في العلاقات الدولية، وفي موازاتها تهاوي الدولة كمصدر شرعية وعنف مقنن قادر على تنظيم شؤون المجتمعات والجماعات والمساعدة على بسط الأمن والسلام في ربوعها وبين قاطنيها، وبالتالي تحويلهم والتعامل معهم كمواطنين لهم حقوق وواجبات، متساوية، لا أتباع وأقنان وأدوات وخدم لطبقة أوليغارشية او مافيوية لا مبدأ ولا دين ولا غاية لها سوى ما تتمتع به مافيات الجريمة المنظمة.
– سياسيا، يقرأ بعض المحللين بأن هذه الأزمة الصحية العارمة، يمكن أن تقوم بإطلاق عفاريت التطرف ودعاة التطييف والانغلاق على الذات والشعبوية من قمقمها، في نظركم كيف ترون سبل مواجهة ذلك إذا كان هذا التقدير صحيحا في نظركم؟
ج: جميع ما ذكرته من مخاطر وتهديدات قائم قبل ظهور كوفيد 19 والأزمة الصحية وما واكبها من تعطل الانشطة الاقتصادية بسبب الإغلاق والحجر الصحي والتباعد الاجتماعي. وفي اعتقادي لن يؤثر الوباء في سلوك النخب العربية الحاكمة ولا سلوكها. ما سوف يغير الأحوال، ولا نعرف بعد في أي اتجاه، وما هو المآل النهائي للتغيير، هو الانتفاضات التي كانت تنتشر قبل الإعلان عن قدوم الوباء والتي جاء الوباء ليكبحها كما لو كان في تواطؤ مع النظم المستبدة. لكن في الحقيقة لم يعمل الوباء إلا على إضافة بعد جديد لأزمة بنيوية وتاريخية انفجارية. فما تجلى من العجز عن الاستجابة للتحدي الصحي ومخاطر انتشار الوباء أضاف بعدا جديدا لها، وزاد من توتر المجتمعات وغضبها وإحباطها.
– الكارثة الصحية التي ألمّت بالقوى الكبرى عطلت قوى الاحتجاج، حتى بات البعض منا مقتنعا بأن نهاية العالم أقرب من نهاية الرأسمالية المتوحشة؟ هل ترون أن نفس الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقنية ستستمر في إدارة العالم بنفس الطريقة والرؤى القديمة، أم أن الوقفة الحالية منعطف لطريق آخر لم تتحدد بعض ملامحه بعد؟
ج: في اعتقادي ان أكثر ما ميز استجابة المجتمع الدولي لخطر الوباء وأساء لها هو غياب أي رد عالمي متسق ومنظم، وضياع الحكومات في استجابات عفوية ومتباينة ومتباعدة، مع العلم، وهذا ما يؤكده الواقع، أن مقاومة الفيروس المستجد والقضاء عليه، وبالتالي الخروج من الأزمة الصحية العالمية التي أثارها، تستدعي ردا موحدا وشاملا يشارك فيه جميع أعضاء المجتمع الدولي. والحال أن ما حصل ولا يزال يحصل هو العكس. فالبلدان الغنية نجحت إلى هذا الحد أو ذاك في السيطرة على الوباء بما كانت تملكه من موارد او تستطيع ان تنشأه من أدوات تمويل خاصة، بينما تركت البلدان الفقيرة لنفسها، تتخبط في البحث عن حلول وموارد وحتى أطر صحية غير موجودة. لقد أظهر العالم الراهن بهذه المناسبة انقسامه وشرذمته وافتقاره للوحدة والتعاون والخطط المنهجية والمنظمة أمام الأوبئة والجوائح والأزمات الاقتصادية ايضا. وأخشى ان ما سيبقى من هذه التجربة المرة هو الذهاب أكثر في طريق التباعد والأنانية ومبدأ “دبر راسك” أي اهتم بنفسك ولا تسأل عن أحد، بدل الذهاب بالعكس نحو مزيد من التنسيق والتعاون والتضامن كما يقتضي الموقف، وتقتضي مواجهة المشاكل الخطيرة القادمة والتي ستكون بالضرورة ذات طابع عالمي لا تفيد فيها الحلول الجزئية او القطرية.
– هل سيغير وباء كوفيد-19 من معطيات الشرق الأوسط في ظل احتدام الصراع فيه وتهاوي أسعار البترول واختلاف تدابير الجائحة بين دوله؟ ما هي في نظركم التحديات الاجتماعية والسياسية التي كشفت عنها هذه الأزمة الصحية؟
ج: يقول العرب: المصائب لا تأتي فرادى. وهذا هو الحال اليوم بالنسبة للعالم العربي الذي يواجه في الوقت نفسه أزمة سياسية متفجرة نتيجة تدهور فاعلية الدول وشرعية السلطة، وأزمة اقتصادية بسبب تراجع وتائر التنمية، وازمة اجتماعية لا تقل تفجرا نتيجة التركيز المفرط للثروة وتفاقم التناقضات الاجتماعية، وأزمة معنوية ونفسية أو أزمة هوية يغذيها الشك بالذات، وفساد النخب الاجتماعية المخزي، والشعور بالعجز أمام التاريخ المعادي، والنقمة على العالم الفاقد لأي شكل من التعاطف والتضامن، بل السائر اكثر فاكثر نحو تكبيل العرب والتمييز العنصري او شبه العنصري المتزايد تجاههم، وتنمية المخاوف من مجتمعات عربية لا تكف في الوقت نفسه عن ارسال موجات المهاجرين والرساميل الباحثة عن مأوى آمن بمئات المليارات، وتصدير التطرف والارهاب للخارج، وانتاج البطالة المعممة والفقر في الداخل. لم تضف ازمة كورونا سوى مزيد من السواد على هذه الصورة التي تظهر شعوبا عربية متروكة لمصيرها وهائمة على وجهها من دون قيادة ولا دليل ولا مستقبل، ونخب حاكمة وطبقات سائدة لا تهتم إلا بنفسها، بينما سفينة العرب الجانحة تتحطم على صخور شاطئ اعتقدت دائما انه ملكها وأنه شاطئ السلامة والأمان.
– صمت مريب في كواليس الجامعة العربية وعجز صارخ عن بلورة موقف أو توصيات أو حتى بيان يدعو إلى صندوق عربي لمواجهة الوباء، وتجنيد جميع الموارد العربية للتخفيف من آثار الأزمة الحالية؟ هل دفن وباء كورونا المستجد عهدا بأكمله في العالم العربي؟ لأي شيئ تصلح الجامعة العربية إذا لم يجتمع العرب على طاولة يقررون فيها أنهم سيوحدون جهودهم لمواجهة تداعيات هذا الوباء وأن الحل ليس إغلاق الحدود بل مزيد من التعاون في هذا الوقت العصيب؟
ج: خسر العرب قرنا كاملا من دون تحقيق أي إنجاز على الاطلاق: لم يبنوا دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي دولة قانون وحريات فردية ومواطنة، ولا طوروا اقتصادا حديثا، ولا صناعة، ولا جامعات تؤهل الأطر التي تحتاجها مجتمعاتها، ولا مراكز بحث علمية وتقنية منتجة وفاعلة، ولا عنوا بتطوير ثقافة شعوبهم وإخراجها من الامية الكتابية والثقافية. أنفقوا جل أموالهم على مشاريع الأبهة، وشراء السلاح وتخزينه، وتشييد مراكز التجارة الاستهلاكية والابراج والأبنية الفاخرة، وفي السنوات الماضية، على الحروب التي أصبحت هوايتهم المفضلة، فيما بينهم أو بالتحالف مع أعدائهم. وقد تحول جزء كبير اليوم من شعوبهم إلى جوعى وعطشى ومرضى ولاجئين ومشردين ونازحين في ديارهم وأوطانهم. وحالنا كحال الجندب الذي قضى الصيف في الغناء وجاء يطلب من النملة بعض الغذاء في فصل شتاء قارس، فبقي ينتظر على الباب.
المسؤول عن هذا الضياع العربي الذي يدمي القلب ليس الجامعة العربية، فهي بالأصل لم توجد لتوحيد العرب وإنما لقطع الطريق على اتحادهم، والتعويض عنه بهيكل عظمي ميت، يغذى وهم الاتحاد ويعوض بخطابات اعضائه المكرورة عن العمل الفعلي واللازم من أجله. لكن حتى من خارج الجامعة العربية لم تنجح او تصمد اي مبادرة ليس في اتجاه الوحدة وإنما اقل من ذلك في اتجاه التعاون المنظم والثابت، بل في اتجاه العلاقات الطبيعية بين الدول العربية الجارة. فجميع حدود العرب هي حدود مغلقة أو شبه مغلقة على بعضها وأحينا عدائية بامتياز. والسبب وراء كل ذلك هو طبيعة السلطة القائمة وثقافة النخب الاجتماعية التي تتعامل مع بلدانها على انها مزارع خاصة تتبع لها، بأرضها ومواردها وأقنانها، ولا يمكنها أن تضحي ولو بجزء بسيط من هذه الملكية أو تسمح لشعوبها أن تخرج من تحت سيطرتها ولو شبرا واحدا وتتنفس هواء غير هواءها. العرب اليوم أمة عظيمة تمر في محنة كاوية، كعزيز قوم ذل.
– في نظركم، كيف تقيمون تعامل تجارب الدول مع هذه الأزمة في محاولة منها للسيطرة على وباء كوفيد-19؟ وهل بالفعل ثمة تنافس شديد حول مسار الحضارة الإنسانية يشهد اليوم حالة انعطاف كبرى: بين نموذج تدافع عنه الحكومة الصينية وبين نموذج تمركز وقتا غير قليل في يد أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؟ ما مستقبل التوازنات العالمية المقبلة في نظركم وأثرها على النظام الدولي؟
ج: تتعرض الديمقراطية في مراكزها التاريخية، أي في أوروبا وأمريكا، لعملية حت وجرف للتربة بطيء، هنا وهناك، وفي ميدان أو آخر من ميادين الانتظام الاجتماعي والسياسي، لكنها ليست مهددة بالزوال وليس لدى المجتمعات التي تنتظم من خلالها اليوم أي بديل عنها، حتى لو تعرضت من فترة لأخرى إلى أزمة ما، كما هو الحال مع ازمة كوفيد المستجد. لكنها أزمة تشبه عطاس المصاب بكوفيد 19 أكثر مما تحيل إلى حمى قاتلة. وقد ظهرت بعض علائم الازمة هذه مع تنامي الشعبوية في العديد من البلدان وتفاقم مشاعر العداء للأجانب المهاجرين، والعودة إلى سياسات الهوية والتركيز عليها، قبل ان يظهر الوباء الجديد. لكنني لست موسوسا، كالباحثين او المفكرين الغربيين الذين يشخصون المرض لأبسط إرتفاع في درجة الحرارة، كالطفل المدلل الذي لا يكف عن التأوه والشكوى إذا صدف وتعرض لخدش في يده أو كلمة قاسية من استاذه. ولا أرى أن هناك انقلابا خطيرا يلوح في الأفق يحل فيه نموذج السياسة والإدارة الصينية الشمولية محل نموذج الديمقراطية والليبرالية الغربية. العطالة التاريخية والحضارية والاجتماعية والثقافية أقوى بكثير من تقلبات الأمزجة التي تسكنها.
من دون أدنى شك، وكما تشير الدراسات العلمية بأكملها، ان وزن الصين في الاقتصاد العالمي في ازدياد مضطرد، وأنها سوف تتفوق بقوتها ومقدراتها الاقتصادية على الولايات المتحدة وبالتالي على أوروبا وتشكل القوة الاقتصادية وربما في فترة لاحقة العسكرية الأكبر في العالم خلال عقد أو عقدين. وأن السيطرة الامريكية الاحادية على هذا العالم آيلة للانحسار، بل لقد انحسرت بالفعل منذ بداية هذا القرن، وفي أعقاب فشلها في اكثر من مغامرة عسكرية وسياسية قامت بها خارج أراضيها، في افغانستان والصومال والعراق وليبيا أيضا. لكن هذا التغير المرصود في التوازنات العالمية الجيوستراتيجية المقبلة لن يغير في نماذج المدنيات القائمة التي تبلورت عبر القرون الثلاث الماضية. لن تتخلى اوروبا وأمريكا عن نظامها الديمقراطي ولا اعتقد ان الصين سوف تسير حتما نحو نزع رداء الشمولية وتبني المنظومة السياسية والأخلاقية الليبرالية. سوف تبقى للأسف قريبة على مستوى الحياة السياسية والمدنية من نموذج ثقافتها السائدة اليوم. على الأقل في المدى المنظور، ولا يوجد هنا مجال للتفاؤل.
لكن التغيير سيظهر بعد انقلاب ميزان القوى لغير صالح الغرب، الذي سيتحول إلى قطب مهم لكن قطب في عالم متعدد المدنيات او اشكال التنظيم المدني والسياسي والثقافي، عبر ما كنا نسميه العالم الثالث أو الدول المتأخرة، التي تتأرجح اليوم بين إغراء النيو ليبرالية وإغراء النظم الشمولية التي تقوم على الضبط الشامل والمراقبة والإدارة التقنية للبشر. وعلى الأغلب هي التي ستتأثر بالصعود القادم لمكانة الصين ونموذج حكمها ومدنيتها أيضا، وتصطف إلى جانبها، كما هو الحال اليوم مع إيران التي لا نعرف بعد كيف ستتحرر من نظام السلطة التيوقراطية والعودة إلى ديمقراطية تخسر كل يوم نقاطا إضافية على الصعيد العالمي. والذي سوف يزيد من انحياز بلدان العالم الثالث الفقيرة، والمتأزمة طبعا نتيجة ذلك، إلى جانب النموذج الصيني، هو تراجع الغرب الديمقراطي ذاته عن التضامن مع هذه الشعوب وانكفائه على نفسه، سعيا لحماية مكتسباته والدفاع عنها ضد الحت الذي سيصيبها بفعل التدهور في الموقع الاقتصادي. نعم بهذا المعنى يمكن للنموذج الشمولي الصيني أن يكون على المدى المتوسط مركز جذب واستقطاب لنخب عديدة لم تنجح خلال العقود الماضية في عبور شريط السباق والدخول بأي شكل في النادي الديمقراطي الغربي العالمي. وماذا تسعى طهران الى تحقيقه سوى تكرار النموذج الكوري الشمالي، بامتلاك القنبلة النووية والمحاصرة وراءها للحفاظ على نظام الولاية الدينية إلى ما شاء الله؟
– منذ كتبك <<اغتيال العقل، الدولة ضد الأمة>> تستمر الأزمة في العالم العربي متجددة في أدواتها وتمظهراتها، كيف تنظرون لاستمرار القتال وارتفاع منسوب الصراع في عدة مناطق في العالم العربي في الوقت الذي وضعت في أغلبية البشرية في حجر صحي؟
ج: كما ذكرت العالم العربي في ازمة مضاعفة نتيجة خسارته معارك تاريخية رئيسية للحاق بركب الحضارة الحديثة والاندراج فيها والتفاعل معها، أخذا وعطاء، معركة الصناعة التي كان يحتاجها لاستيعاب الأيدي العاملة المتنامية والحد من البطالة التي هي المرض الاجتماعي المزمن في البلدان الفقيرة او التي خسرت معركة التصنيع اليوم، ومعركة التأهيل العلمي والمهني والبحث والتطوير الذي أهمله العرب كليا ولم يكرسوا له أي استثمارات تذكر، ففشلوا أيضا في استيعاب الثورة التقنية والرقمية، ومعركة الثقافة والتربية المدنية والانسانية، وأخيرا معركة الديمقراطية والثورة السياسية التي أجهز عليها وأجهض حركاتها تحالف الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، الذاتي والموضوعي. والنتيجة صراعات متفجرة من كل نوع عقائدية على القيم والمعايير والهوية، وسياسية على السلطة، وأحيانا على تقاسم الأرض وتفكيك الدولة، واجتماعية على المكانة والموارد والهرب من الهامشية القاتلة، وعلى التحالفات الخارجية والجيوسياسية. لذلك المنطقة العربية هي اليوم الأكثر استهلاكا للأرواح الشابة وللسلاح وهدرا للطاقات البشرية والإبداعية وتدميرا للحضارة والعمران.
– يواجه العالم أزمة كبرى في ظل أخطار التحولات المتسارعة الجارية، فالولايات المتحدة الأمريكية منعزلة وثمة أزمة في قيادة العالم تجلت كبيرة في ظل تحولها إلى بؤرة لانتشار الفيروس، كما أن التجربة الصينية غير مقنعة للعديد من شعوب وبلدان العالم، بينما الصين مستميتة في الدعاية لنموذجها، هل هذا التخبط في قيادة العالم عنوان عريض لظهور مزيد من الانغلاق عن الذات وإقفال الحدود وازدياد حدة العنصرية والشعبوية والشكوك في النظام الدولي العالمي، ما هي الاحتمالات الجديرة في نظركم بالدراسة؟ وما هو رهان التحديات الكبيرة وأثارها على العالم العربي أمام هذا الصراع الدولي غير المسبوق؟
ج: كما ذكرت في مستوى التحديات الراهنة لن تتعرض الديمقراطيات المركزية للخطر، ولو انها ستمر بأزمات وتقلبات وقلاقل واضطرابات بدأت قبل ازمة كوفيد 19 هي ايضا، كما تدل على ذلك حركة السترات الصفراء في فرنسا. وسوف يزداد الدافع للانغلاق ومعاداة الأجانب والمهاجرين والتخلي عن المواثيق الدولية، وتعويم المنظمات الدولية التي ولدت من معاناة الحربين العالميتين وحركات نزع الاستعمار وعكست مرحلة صعود آمال السلام والأمن والتعاون الدولي، وافراغها شيئا فشيئا من مضمونها. لكنها على الأغلب ستصمد. بالمقابل سوف يتركز الصراع في البلدان التي تشبه معظم أقطار العالم العربي في إخفاقها في الالتحاق بالثورات التي صنعت العالم والمجتمعات الحديثة والتي تحدثت للتو عنها. أما المنطقة العربية فهي منذ الآن منطقة زلازل لا قلاقل واضطرابات وعدم استقرار فحسب. وقد بينت المحنة السورية للسنوات العشر الماضية أن كل شيء ممكن فيها، من استخدام الاسلحة الكيماوية المحرمة دوليا إلى استخدام عمليات التهجير الجماعي القسري المنظم والممنهج، بالتعاون مع الدول الكبرى والإقليمية. هذه منطقة المحنة بلا ضفاف.
– ما حقيقة الوضع في سوريا اليوم بعد ما تردد بأن معتقلات النظام أصبحت أوكارا وبؤرا لانتشار كوفيد- 19 المستجد؟ هناك تعتيم كبير حول ما يجري صحيا في سوريا بعد انتشار الوباء في الشرق الأوسط، يفرض علينا أن نطرح معكم مصير سوريا التي مزقها الحرب ومستقبلها، وما هي صحة الأنباء عن نقل عشرات الآلاف من المقاتلين الإيرانيين القادمين من إيران الوباء إلى البلد؟ كل هذه الأسئلة تطرح بحدة بعد انهيار النظام الصحي السوري والصمت المريب من المنتظم الدولي؟
ج: لم يعد يوجد في سورية دولة وحكومة بالمعنى السياسي للكلمة. من يسيطر على سورية ويحكمها مجموعة من الميليشيات التابعة كل مجموعة منها لدولة اجنبية، والتي تعمل في خدمتها وتحت أوامرها، والنظام او ما يسمى بنظام الأسد تحول هو نفسه إلى ميليشيا، هي ربما الأكبر بينها، التي تعمل لصالح مافيا الدولة القديمة ولحساب طهران على الصعيد الاستراتيجي وبحماية روسيا التي تتقاسم مع الأخيرة المنافع الاقتصادية والاستراتيجية وتتنافس معها أيضا. لذلك لم يعد للشعب قيمة ولا قادة يهتمون بأمره، وهو مضطر أكثر فأكثر إلى تدبير شؤونه بوسائله الخاصة. يعيش أكثر من 12 مليون منه على المساعدات الانسانية الدولية، بينما يسعى آخرون إلى البحث عن لقمة عيشهم عن طريق المساعدات العائلية والتحويلات الخارجية للمغتربين، وقسم آخر يعيش على حافة المجاعة. والجميع في المنظمات الدولية يعترف بأن الوضع في سورية اليوم هو أكبر كارثة انسانية حلت بشعب منذ الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك ليس هناك أي حركة تضامن ولا اي مجهودات سياسية من قبل الدول الديمقراطية او العربية، لدعم كفاح السوريين من أجل الخلاص من كابوس السلطة المافيوية الفاسدة. هذا مثال على ماذكرته سابقا عن تراجع روح التضامن الدولي واحترام مواثيق الأمم المتحدة التي تنص على حماية المدنيين ودعم حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، وتغلب قانون القوة على قوة القانون.
– انصرفتم عن اللعبة السياسية المباشرة بعد تقديمكم لاستقالة اعتبرت احتجاجا على تفاقم المشاحنات والنزاعات بين الأطراف المكونة للمجلس ونقص التعاون بينهم وضعف الشعور بالمسؤولية الجماعية، وبدأتم تقيمون وضع الثورة السورية، لكن نقدكم لم يخل من تقديم نقد ذاتي بوصفكم أحد أبرز قادتها، كما لا يخل كتابكم الأخير << عطب الذات>> من نقد صارم لمسيرتها وقادتها وناشطيها وفصائلها، هل غادر البروفيسور برهان غليون حلبة السياسة بدون رجعة، وعاد إلى دوره كمصلح اجتماعي ومفكر سياسي؟ ما حدود التماس بين دوركم كمفكر نقدي ودوركم السياسي في معركة الديموقراطية والحرية في سوريا؟
ج: يتوقف الأمر على ماذا تعني بالسياسة. فإذا كان المقصود السياسة كصراع على السلطة، أعني سلطة الدولة، بهدف تحقيق برنامج سياسي، او حتى لأسباب أخرى أقل نبلا، فبالتأكيد نعم، مع التوضيح بأنني لم أكن في أي وقت مهتما بهذا الجانب من السياسة، ولم أقاربه البتة حتى عندما طلب مني أن أرأس المجلس الوطني السوري. لقد لبيت طلب نشطاء الثورة الذين الحوا علي بذلك. وبعد استقالتي لم ادخل في اي منافسة على أي مركز سياسي كان، وعدت للتركيز كما كنت أفعل دائما على رسالتي كمثقف وسائل عمله الرئيسية الكلمة او الفكرة أو التحليل أو الموقف والتوجيه والنصيحة.
أما إذا كان المقصود بالسياسة المشاركة في صياغة الخيارات السياسية العريضة والتوجهات الايديولوجية الكبرى لجماعة وطنية او إنسانية، فهذا من خصائص المثقف وما يميزه عن الكاتب والمؤلف أو الباحث أو المحرر للكتب العلمية. وفي المنعطفات الكبرى واللحظات الحاسمة، التي يختلط فيها الصراع على السلطة مع الصراع على رسم الخيارات الاستراتيجية الكبرى للجماعة الوطنية او لمجموعة انسانية، تزول في رأيي المسافة بين النشاطين، ويصبح من الصعب الفصل بين الانخراط في الصراع السياسي والصراع الفكري والأيديولوجي. وهذا هو الحال في اللحظات الحاسمة “الانقلابية” في تاريخ الشعوب، حيث تتخذ السياسة والثقافة معا طابعا ثوريا وانقلابيا، كما كان عليه الحال عند بروز الحركات الاشتراكية الثورية في أوروبا في القرن التاسع عشر، ومع انبثاق حركات التحرر الوطني في القرن العشرين في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. فقد خيض الصراع ضد النظام القديم والملكية المطلقة والرأسمالية الصاعدة والنظام الاستعماري من قبل خليط من النخب عالية الثقافة وأطر الأحزاب السياسية الاشتراكية والحركات العمالية، وشهدنا بوضوح كيف تحول مثقفون وفلاسفة إلى سياسيين وسياسيون محترفون إلى مثقفين. وهؤلاء هم من قادوا الثورات العمالية ووجهوا وألهموا ثورات حركات التحرر الوطني في أكثر بلدان العالم ونحن ندين لأعمالهم الفكرية وتنظيراتهم ومناقشاتهم النقدية بالكثير. لم يكن ماركس وأصحابه ولا دعاة التحرر الوطني من فرانز فانون إلى غيغارا ولا حتى ماوتسي تونغ الصيني ومئات غيرهم من قادة الفكر والسياسة في القرن التاسع عشر والعشرين سياسيين بالمعنى المهني للكلمة، ولا حتى بشكل رئيسي، لكنهم لم يكونوا أيضا علماء اكاديميين وحكماء متأملين في شؤون الخليقة والكون والمجتمعات. لقد كانوا خليطا من هذا وذاك. وهذه هي بالضبط رسالة المثقف النقدي ومفهومه وموقعه.
والسبب أن الثقافة والسياسة لا تعيشان ولا تمارسان في قارتين منفصلتين، إنما هما نشاطين متميزين، لكنهما متكاملين ومتفاعلين يشتغلان في إطار منظومة اجتماعية واحدة. وفي بلدان متفجرة لم تحسم أمورها بعد، ويهددها باستمرار وحش الاستبداد وسيف التسلط والسلب والنهب والاحتلال، لا يمكن أن يكون للمثقفين مهمة أكثر نبلا من تكريس جزء من وقتهم وجهدهم لخدمة مجتمعاتهم ومساعدتها على الانتظام والتحرر والسمو الأخلاقي والثقافي في مواجهة حكم مافيات المال والأعمال وتجار الحروب والمخدرات وسلطات الأمر الواقع، ولا موقفا اكثر نذالة من بقائهم في زمن الشدة وأمام حرب الابادة الجماعية على الحياد.
جريدة المساء المغربية