“البناديق” أشخاص خطرون موجودون في حياة كل منا/ هيثم حسين
تكون اللهجات العامية من الثراء بحيث تمنح اللغة شساعة ورحابة، وتتحرّر من قيود اللغة الفصيحة بحيث تفتح لها آفاقا جديدة، وتخلق معاني تضيفها إلى قاموس المعاني، ومعجم الحياة الواسع الذي يكون أساس المعاجم، لأنّ اللغة ككائن حيّ تتجدّد عبر الاستخدام، ولكلّ كلمة طبقات، حيث التحقيب الزمانيّ والمكانيّ والتاريخيّ يصنّفها في خانات متعدّدة، ويجعلها مستودعا مفتوحا للمعاني ومنطلقا لها في الوقت عينه.
هل يمكن توصيف “البندقة” باللعبة الممجوجة، المفضوحة، أم أنّها صراع تاريخيّ يستمدّ عوامل استمراريّته من تبدّل الظروف، واضطرار كثيرين للّجوء إلى الانتهازية لتمرير مصالحهم، والإبقاء على امتيازاتهم، أو تحصيل المزيد منها؟
“البندقة”، والتي تشير إلى سلوك حرباويّ زئبقيّ يعتبره صاحبه فهلوة وشطارة وذكاء، في حين أنّه نوع من الممارسة الانتهازية المكشوفة والتي تكون موضع ازدراء واستهجان، لا تنتمي إلى نسبها اللغويّ الذي اشتقّت منه، ولا تمتّ إلى ثمار البندق بصلة واقعية، ولا إلى الفعل المشتقّ من البندقية أيضا بأيّ علاقة مقنعة، لأنّها على النقيض منهما.
إن الثمرة مشتهاة، والبندقية أداة دقيقة الاستعمال لا تحتمل التورية أو التلوّن، يمكن أن تكون دفاعية أو هجومية، يمكن أن تقتل أو تحمي من القتل، ولها استعمالات عديدة تصبّ في إطار الدفاع والهجوم والحماية والاستقواء وغير ذلك.. في حين أنّ البندقة المقصودة، ترمز إلى سلوك منفّر يلجأ إليه بعض الأشخاص الذين يعتقدون أنّهم أذكياء جدّا وأنّهم يتلاعبون بالآخرين وينصبون عليهم، وينصبون لهم فخاخا بهذه الصيغة أو تلك..
بعيدا عن المعاني المعجمية الفصيحة للكلمة، فإنّها في اللهجات المحلّية، وبخاصة لهجات بلاد الشام، ترمز إلى فعل التذاكي، وما يرتبط به من “حربقة”، حيث البندوق يوصف بالحربوق الذي لا يردعه رادع في سبيل تحقيق مكاسبه وأطماعه، والغاية عنده تبرّر الوسيلة، وتجمّلها كثيرا بشكل يقنع به نفسه، ولا يجد نفسه مضطرّا لتبرير ما يتعلّق بما يقدم عليه من انبطاح أو حتّى خيانة، أو غدر، لنفسه أو لغيره، لأنّه ينطلق من نقطة أساسيّة تتمثّل في محافظته على مصالحه بغضّ النظر عن أيّ مبدأ أو قناعة أو قيمة أخلاقية مفترضة.
لا يرتبط هذا السلوك بمدينة بعينها، وإن كانت تُحال أحيانا إلى مدن كبرى في الشرق والغرب، لأنّ البندوق، وجمعه بناديق، لا ينتمي إلّا إلى انتهازيّته، ومن الخطأ تشويه اسم مكان وإلصاق هذه الصفة بأهلها بإطلاق، لأنّ تعميم الإثم تجريم في غير موضعه، وسلوك انتهازيّ، أو عدد من الانتهازيين، لا يعكس طباع الأمكنة ولا خصال أهلها.
يصف البندوق نفسه بالعمليّ، والمرن في غالب الأحيان، يقنع نفسه بأنّه بهذه الأساليب يتفوّق على غيره، ويشعر بالرضى ولا ينتابه أيّ شعور بأيّ تأنيب للضمير لأنّه يدور في دائرة التلهّي والهروب إلى الأمام، ليكون قادرا على التصالح مع نفسه، ويختلق العيوب للجميع من دون استثناء ليثبت أنّهم لا يختلفون عنه، أو ليسوا بأحسن منه، وأنّ الكلّ سواسيّة في ميدان الارتزاق والانتهازية.
يظنّ البندوق أنّه خارق في شطارته، وأنّه يتلاعب بغيره، أو يبيعهم السمك في الماء، أو يعمل لهم من البحر طحينة، أو يلعب بالبيضة والحجرة، ولا يعدم الحيلة والوسيلة لتحقيق مآربه سائرا على أكتاف غيره، وبانيا لنفسه “مجدا” يعتبره إنجازا مستحقّا له لأنّه يصل إليه بذكائه وحربقته.
لا يضيّع البندوق وقتا في التعمّق باكتساب أيّ علم أو معرفة، يجد ذلك مضيعة للوقت والجهد، يكتفي بالسطحية ورؤوس الأفكار والعناوين العريضة، يحصّل من خلالها المناصب والأرباح من دون أن يعاني مشقّة العلم أو تعب الحصول المستحقّ عليه.
مأساة البناديق أنّ أعمارهم قصيرة في عالم الواقع، لكنّهم يحوّلون تلك المأساة إلى نقطة لصالحهم حين ينتقلون من مكان إلى آخر، أو من شخص إلى آخر، أو من حقل تجاري أو صحافي إلى آخر، بعيدا عن أيّ التزام قيميّ، يخفّفون من المسؤوليات والالتزامات، لأنّها في نظرهم أعباء تعرقل مسيرة تطوّرهم ورحلة إنجازاتهم وامتيازاتهم.
أمّا ملهاة البناديق فتكمن في أنّ الحاجة إليهم متجدّدة بدورها، يتمّ استخدامهم وتوظيفهم وتصديرهم في بعض الأحيان للتغطية على أشخاص أو التعتيم على آخرين، بحيث يكون التحكّم بهم سهلا على مَن يستعملهم، ويترك لهم الحبل على غاربه لمرحلة مؤقّتة، أو يحرّكهم وينقلهم من محطّة إلى أخرى، مرسلا عبرهم رسائل مختلفة، قد تصل إلى التناقض حين يتبندق البندوق مع أكثر من جهة يظنّ أنّه يستغلّها في حين أنّها تستغلّه، أو هي علاقة تبادل تنفيعات ومكاسب في نظره على قاعدة “حكّ لي لأحكّ لك”.
لعلّ من الإجحاف توصيف مفاهيم أو ممارسات، كالسياسة التي تعرَف بأنّها فنّ الكذب، بأنّها فنّ البندقة، لأنّها تتعالى على استمداد سلوكيات البناديق المفضوحة، وتحتاج إلى حدّ من المصداقيّة مهما بلغت بها الألاعيب، أمّا البندقة فتستمدّ تجدّدها من حاجة الواقع لها على اعتبار أنّ البندوق وجه للقباحة من جهة، وأداة طيّعة، رغم أنّها غير موثوقة أو مضمونة، للتوجيه وضرب الخصوم.
تستغلق البندقة على التعريف الدقيق غالبا، لكنّها تشير إلى حالات مبعثرة من الأنانية والنرجسية والانتهازية والسخافة والسطحية والمياعة والخفّة، بحيث تتملّص من المحاكمة أو المواجهة، وتنسال كأيّ مفهوم سائل في عالم يشتمل على النقائض ويحتفي بمختلف الألوان والأنماط والشخصيّات والتصنيفات.
وعلى الرغم من أنّ هذا المفهوم قد يعتبر آفة، أو لعنة، إلّا أنّه في نظر أصحابه مدعاة للفخر، أو مثار إعجاب وتعجّب في الوقت ذاته، لأنّه سبيل لتحقيق المكاسب مشوب بأقنعة تتحايل على الواقع بالتشويش على تفاصيله، وخلط المفاهيم بحيث يختلط الحابل بالنابل، ويضيع البندوق بذلك في زحام الخراب الاجتماعيّ الذي يمثّل مجال انتعاش ملائما له، وبيئة خصبة للتناسل والتغلغل في مختلف مناحي الحياة.
حين ننبش في ذاكراتنا سنستدلّ على أشخاص مرّوا في حياتنا، أو ما زالوا يلعبون أدوارا قريبة منّا، بشكل أو بآخر، يمكن أن تنطبق عليهم صفات البندقة بنسبة قليلة أو كثيرة، وهي صفات قد يعزوها أصحابها إلى تبدّل العالم وتغيّر قواعد اللعب فيه، وإلى السياسة المفترضة في التعاطي مع المستجدّات، وأنّه لا يجوز التعامل بعقلية التحجّر والتقييد، لأنّ هذا يقلّل فرص تبادل المنافع، وتحقيق الأهداف المتجسّدة بسلسلة أطماع لا تنتهي.
ولا أشكّ بدوري أنّ البندقة صنو التفاهة، وتوأم السخافة، مهما تمّ تجميلها أو ترقيعها، ولا يمكن أن تصبح حقيقة وإن كانت متفشّية في الواقع بشكل مرعب، لأنّ الحياة لا تستقيم بهذه الصيغة المنحولة من التفيّؤ بالسطحيّة المجمّلة التي لا تخفي أيّ عورة..
كاتب سوري
العرب