روبرتو بولانيو.. الذي هجر كل شيء
جابر طاحون
التخلف لا يحتمل غير الأعمال الأدبية العظيمة
“اهجر كل شيء”.. كان عنوان مانيفستو الحركة التي أسسها الروائي والشاعر روبرتو بولانيو.
في 1967، وقف بولانيو بشعره الأشعث، يلقي مانيفستو حركة “ما دون الواقعية”، يحث فيه الشعراء على التخلي عن كل شيء لأجل الأدب. وقال إن الشاعر الحقيقي يتوجب عليه أن يترك المقهى، وأن ينضم إلى “الصيادين، ورعاة البقر المنطوين (…) وزبائن البقالات المبصوق عليهم… وأولئك الذين لا ينتبه إليهم أحد، والآخرين الذين لا يحبهم أحد”.
وُلد بولانيو عام 1953، في سانتياجو، تشيلي،ثم غادر إلى مكسيكو سيتي مع عائلته عندما بلغ الخامسة عشر من عمره. وتوجد رواية -يشكك فيها معاصروه- تفيد بعودته بعد خمسة أعوام إلى تشيلي إثر نجاح سلفادور أليندي في الانتخابات الرئاسية، ثم غادرها بعد انقلاب الجنرال أوجستو بينوشيه، ويُقال إنه سُجن وقتها، ولكن أنقذه زميل دراسة قديم من الإعدام فخرج وعاد إلى المكسيك. وهناك أسّس مع مجموعة من رفاقه، وأهمهم ماريو سانتياجو، حركة “ما دون الواقعية” Infrarealism الشعرية، التي التزمت -كما فعلت السوريالية في بداياتها- برفض فصل العمل الفني عن الفعل الثوريّ.
بولانيو كان غزير الإنتاج ، وحش أدبي لا يقدم تنازلات، يجمع بنجاح بين غريزتين أساسيتين للروائي: الإنجذاب إلى الأحداث التاريخية، والرغبة في تصحيحها والإشارة إلى الأخطاء. من المكسيك اكتسب جنة أسطورية، من شيلي جحيم حقيقي، وفي بلانيس الواقعة في شمال شرق إسبانيا؛ عمل على التطهر من خطايا كلاهما. وأكثر ما نجح فيه بولانيو هو : نقل تعقيدات المدن الكبرى بقدر كبير من الكتابة الذكية واللاذعة.
وفي هذا الحوار الذي أجرته معه الشاعرة المكسيكية كارمن بولوسا، يتحدث بولانيو عن مانيفستو الكتابة، ونظرته عنها.
كارمن بولوسا: في أمريكا اللاتينية هناك تقليدان أدبيان يميل القارئ العادي إلى اعتبارهما متناقضين ومتعارضين، أو صراحةً: متعاديين؛ تيار فانتازيا أدولفو بيوي كاثاري، وأفضل ما قدمه كورتاثار. وواقعية فارجاس يوسا وتيريسا دي لا بارا.
تخبرنا تلك التقاليد المكرسة أن الجزء الجنوبي من أمريكا اللاتينية هو موطن الفانتازيا، في حين أن الجزء الشمالي هو مركز الواقعية. وفي رأيي أنت قد جمعت الحسنييّن؛ رواياتك وقصصك، خيالية- فانتازية- وانعكاس حاد للواقع كذلك. وباتباع ذلك المنطق؛ يمكننا أن نُرجع ذلك إلى أنك عشت على الحدين الجغرافيين لأمريكا اللاتينية؛ شيلي (في الجنوب) والمكسيك (في الشمال). لقد كبرت عند الطرفين.
هل تعترض على ذلك، أم أنه يروق لك؟ لأكون صادقة، أجده كاشفًا إلى حدٍ ما، لكنه أيضًا يجعلني غير راضيةً: أفضل وأعظم الكتاب (بما في ذلك بيوي كاثاري ونقيضه/ فارجاس يوسا) نهلا دومًا من هذين التقليدين. ومع ذلك، من وجهة نظر الشمال الناطق باللغة الإنجليزية، فإن هناك ميل إلى حصر الأدب الأمريكي اللاتيني في إطار تقليد واحد فقط.
روبرتو بولانيو: لو أنكِ تهتمين لتلك التقسيمات التي لا ينبغي أبدًا تحت أي ظرف أن تؤخذ على محمل الجد، فقد ظننت أن الواقعيين أتوا من الجنوب (وأعني بذلك البلدان في المخروط الجنوبي)، وجاء كتّاب الفانتازيا من الأجزاء الوسطى والشمالية لأمريكا اللاتينية.
المفتاح لكيمياء سردك قد يكمن في الطريقة التي تمزج بها الكراهية بالحب في الأحداث التي ترويها.
الأدب الأمريكي اللاتيني في القرن العشرين اتبع بواعث المحاكاة والتمرد، وقد يستمر في فعل ذلك لبعض الوقت في القرن الحادي والعشرين. وكقاعدة عامة، فإن البشر إما يقلدون أو يرفضون الآثار الكبرى، ولا يلتفتون للكنوز الصغيرة، يكادوا لا يرونها. لدينا عدد قليل جدًا، يكاد يكون منعدمًا، من الكتاب الذين أجادوا صنعة الفانتازيا بمعناها الدقيق، لأن التخلف الاقتصادي – بجانب أسباب أخري- لا يسمح بازدهار الاتجاهات الفنية والأدبية الفرعية. التخلف لا يحتمل غير الأعمال الأدبية العظيمة، الأعمال الأقل، في هذا المشهد الكارثي الرتيب، هي رفاهية بعيدة المنال.
بالطبع، لا يعني ذلك أن أدبنا مليء بأعمال عظيمة، بل العكس تمامًا. في البداية، يطمح الكاتب إلى تلبية هذه التوقعات، ولكن في الحقيقة؛ نفس الواقع الذي عزز هذه التطلعات يعمل على إعاقة المنتج النهائي. وأعتقد أن هناك بلدين فقط لديهما تقاليد أدبية حقيقية تمكنتا في بعض الأحيان من الإفلات من هذا المصير، الأرجنتين والمكسيك. بالنسبة إلى كتابتي، لا أعرف ماذا أقول، أفترض أنها واقعية. أود أن أكون كاتبًا للفانتازيا، مثل فيليب ك. ديك، على الرغم من أنه مع نضجي بمرور الوقت، يبدو ديك أكثر واقعية بالنسبة لي.
في قرارة نفسي – وأعتقد أنكِ ستوافقينني – لا تكمن المسألة في التمييز (في الأدب) على أساس الواقعي مقابل الفانتازي، ولكن في اللغة والبنية وطرق الرؤية. لم يكن لدي أي فكرة عن إعجابك الكبير بـ تيريسا دي لا بارا. حين كنت في فنزويلا تحدث الناس كثيرا عنها. بالطبع، لم أقرأها أبدًا.
كارمن بولوسا: دي لا بارا واحدة من أعظم الكتّاب النساء، أو أعظم الكتّاب. عندما تقرأها سوف تتفق معي على ذلك. إجابتك تدعم تمامًا فكرة أن الكهرباء التي تتدفق في عالم الأدب الأمريكي اللاتيني عشوائية إلى حد ما. لا أقول إنه تيار ضعيف، لأنه فجأة يعطي شرارات يمتد وهجها من أحد أطراف القارة حتى الطرف الآخر، ولكن فقط بين الحين والآخر.
لكننا لا نتفق تمامًا على ما أعتبره النصوص الأهم، جميع التقسيمات اعتباطية بالطبع. وعندما فكرت بالجنوب (المخروط الجنوبي والأرجنتين)، فكرت في كورتاثار، وقصص سيلفينا أوكامبو المجنونة، وبيوي كاثاري، وبورخيس (عندما تتعامل مع مؤلفين كهؤلاء، لا يهم الترتيب؛ لا يوجد هنا “رقم واحد”، جميعهم مؤلفون على نفس القدر من الأهمية). وقد فكرت في رواية ماريا لويزا بومبال القصيرة، بيت الضباب (ربما كانت شهرتها أكثر نتيجة للفضيحة التي تفجرت عندما قتلت حبيبها السابق).
وأود أن أضع فارجاس يوسا والعظيمة دي لا بارا في المعسكر الشمالي. لكن الأمور أصبحت معقدة، لأنه كلما تحركت إلى الشمال، تجد خوان رولفو، وإيلينا جارو صاحبة روايتي الملاذ الآمن وذكريات المستقبل. جميع التقسيمات اعتباطية: لا واقعية دون خيال، والعكس صحيح.
كارمن بولوسا: في قصصك ورواياتك، وربما في قصائدك أيضًا، يستطيع القارئ أن يكتشف تصفية الحسابات (وكذلك التبجيل الذي تبديه)، وكلاهما يشكل لبنات مهمة في الهيكل السردي. لا أعني أنك تكتب روايات مشفرة، لكن المفتاح لكيمياء سردك قد يكمن في الطريقة التي تمزج بها الكراهية بالحب في الأحداث التي ترويها. كيف يعمل، الكيميائي الفنان، روبرتو بولانيو؟
روبرتو بولانيو: لا أعتقد أن هناك تصفية حسابات في كتاباتي أكثر مما يرد في مؤلفات أي كاتب آخر. وأنا أصرّ -رغم المخاطرة بأن يراني الناس متحذلقًا ومبالغًا في التدقيق، وأنا كذلك بالفعل أحيانًا- عندما أكتب، أن يكون الشيء الوحيد الذي يهمني هو الكتابة نفسها؛ بمعنى الشكل والإيقاع والحبكة. أضحك على بعض المواقف، على بعض الناس، على بعض الأنشطة والمسائل ذات الأهمية، ببساطة لأنك عندما تواجه هراء تلك الذوات المتضخمة فليس أمامك خيار سوى الضحك.
الدوام وهم، والعقل مجرد سياج هش يمنعنا من الانزلاق إلى الهاوية.
كل الأدب، بطريقة ما، سياسي. أعني، أنه أولًا تعليق على السياسة، وثانيًا، يمثل الأدب في ذاته برنامجًا سياسيًا. النوع الأول من الأدب يُلمِح إلى الواقع – إلى الكابوس أو الحلم الخيّر الذي نسميه الواقع – الذي ينتهي، في كلتا الحالتين، بالوفاة والطمس، ذلك الطمس لا يقتصر على الأدب فحسب، بل يمتد للزمن كذلك. النوع الثاني [البرنامج السياسي] يشير إلى الفتات الذي يبقى. على الرغم من أننا نعلم، بالطبع، أنه في النطاق البشري للأشياء؛ الدوام وهم، والعقل مجرد سياج هش يمنعنا من الانزلاق إلى الهاوية.
لكن لا تولي أي اهتمام لما قلته للتو. أفترض أن الواحد يكتب بسبب الاضطراب. هذا هو كل شيء.
ولماذا تكتبين؟ من الأفضل عدم إخباري – أنا متأكد من أن إجابتِك ستكون أكثر وضوحًا وإقناعًا من إجابتي.
كارمن: تمام، لن أخبرك، وليس لأن إجابتي ستكون مقنعة أكثر. ولكن يجب أن أقول إنه إذا كان هناك سبب ما يجعلني لا أكتب، فهو الاضطراب. بالنسبة لي، الكتابة تعني غمر نفسي في منطقة حرب، هي كفتح البطون، تنافُسٌ مع بقايا الجيف، ثم محاولة الحفاظ على ميدان القتال (المنتج الأدبي) دون أضرار. وما تسمونه “تصفية الحسابات” يبدو لي في إنتاجك الأدبي، أشرس مما هو عليه في كتابات روائيين لاتينيين آخرين.
في عيون القارئ، ضحكتك أنت أكثر من مجرد إيماءة. إنها عملية تدمير. في كتبك، تختمر الرواية داخليًا بالطريقة الكلاسيكية؛ كخرافة، خيال يجذب القارئ، وفي الوقت نفسه يجعله متواطئًا في فضّ شفرة الخلفيات التي كنت أنت، الروائي، ترويها بإخلاص شديد. لكن دعنا نترك ذلك في الوقت الحالي.
لا أحد من قرائك يمكن أن يشك في إيمانك بالكتابة، إنه أول ما يجذب القارئ. ومن يبحث عن شيء آخر كالشعور بالانتماء إلى شيء مثلا، كأن يشعر من القراءة أنه ينتمى لتجمع أو رفقة معينة؛ هذا الشخص لن يجد ما يرضيه في رواياتك أو قصصك. وعندما أقرأ لك، فأنا لا أبحث عن التاريخ أو إعادة سرد حدث قديم أو قريب وقع في أحد أركان العالم. قلة من الكُتَّاب يضمنون تفاعل القارئ -كما تفعل أنت -من خلال كتابة مشاهد قوية مؤسسة جيدًا، هذه المشاهد نفسها ستكون خاملة وجامدة في أيدي مؤلفين “واقعيين”.
إذا كنت تنتمي إلى مدرسة كتابة معينة، فماذا ستسميها؟ أين هي جذور شجرة نسبك الأدبية؟ وفي أي اتجاه تنمو فروعها؟
روبرتو بولانيو: الحقيقة أني لا أومن بالكتابة إلى هذا الحد. لأبدأ بنفسي، فإن كون الواحد كاتبًا هي مسألة ممتعة – لا، ممتعة ليست الكلمة المناسبة- الكتابة نشاط له نصيبه من اللحظات المسلية، ولكني أعرف أشياءً مُسليةً أكثر، تسليني بنفس القدر الذي يبهجني به الأدب. سرقة البنوك مثلًا، أو إخراج الأفلام. أن يمارس المرء الجنس مع النساء مقابل المال، أو أن يعود طفلًا ويلعب الكرة في فريق بائس لدرجة كارثية. ولكن، لسوء الحظ، فالطفل يكبر، وسارق البنك يُقتل، والمخرج يُفلس، وممارس الجنس التجاري يمرض، ومن ثَم لا يوجد أمامي خيار آخر غير الكتابة.
بالنسبة لي، فكلمة كتابة هي المقابل الدقيق لكلمة انتظار. بدلًا من الانتظار، هناك الكتابة. ربما أكون مخطئًا، ويحتمل أن تكون الكتابة شكلًا آخر من الانتظار، من تأجيل الأشياء. أحب أن أفكر أن الأمور ليست كذلك، ولكن كما قلت ربما أكون مخطئًا.
وبالنسبة لفكرتي عن الكتب المؤسِّسَة، فلا أعلم. أنا في هذا مثلي أي شخص آخر، أنا تقريبًا مُحرَج من أن أخبرك، لفرط الوضوح والعادية؛ فرانسيسكو دي ألدانا، خورخي مانريك، سيرفانتس، كاتبو سجلات الإنديز، خوانا إينيس دي لا كروث، راي سيرفاندو، تيريزا دي مير، بيدرو إنريكث أورنيا، روبين دارييو، ألفونسو رييس أوتشوا، بورخيس.
هذا بعض قليل مما أراه أدبًا مؤسسًا، ودون الخروج عن عالم اللغة الإسبانية. بالطبع، أود أن أنسب نفسي لماضي أدبي، لتقليد أدبي مختصر به اسمين أو ثلاثة وربما كاتب واحد، وهو تقليد أدبي مذهل ينبني على تيه الذاكرة. ولكن من ناحية، أنا أكثر تواضعًا تجاه عملي. ومن ناحية أخرى، لقد قرأت كثيرًا (والعديد من الكتب جعلتني سعيدًا) بدرجة تجعلني لا أنغمس في فكرة سخيفة مثل هذه.
كارمن: ألا يبدو اعتباطيًا ذكر أسلافك الأدباء الذين كتبوا بشكل حصري باللغة الإسبانية؟ هل تدرج نفسك ضمن صنف أدبي إسباني، في تيار ينفصل عن اللغات الأخرى؟ إذا كان جزء كبير من الأدب الأمريكي اللاتيني (خاصة النثر) مشتبكًا مع أجناس أدبية أخرى، فربما بمقدوري القول إن هذا يتضاعف في حالتك.
روبرتو بولانيو: ذكرت لكِ أسماء مؤلفين كتبوا بالإسبانية من أجل تحديد قائمة من الأسلاف. وغني عن القول، أني لست واحدًا من هؤلاء الوحوش القوميون الذين يقرأون فقط ما ينتجه بلدهم الأصلي. أنا مهتم بالأدب الفرنسي، بـ باسكال، الذي أمكنه أن يتنبأ بموته، وكتب أثناء كفاحه ضد الكآبة، والذي يبدو لي أكثر إثارة للإعجاب الآن أكثر من أي وقت مضى. أو السذاجة الطوباوية من فورييه. وكل النثر، المجهول عادة، للكتاب المتملقين (بعض المثاليين النهضويين وبعض علماء التشريح) والذي يغرقنا في دهاليز منتهاها الماركيز دو ساد. أنا مهتم أيضًا بالأدب الأمريكي في ثمانينيات القرن التاسع عشر، خاصةً توين وملفيل، وشعر إميلي ديكنسون وويتمان. عندما كنت مراهقًا، مررت بمرحلة كنت فيها أقرأ بو فقط. أنا مهتم بالأساس بالأدب الغربي، وأنا على دراية كاملة بكل ذلك.
كارمن: قرأت بو فقط؟ أعتقد أن بو كان فيروس متفشي في جيلنا – كان معبودنا، ويمكنني أن أراك بسهولة كمراهق مصاب به. لكنني أتصورك كشاعر، وأريد أن أنتقل إلى رواياتك. هل تختار الحبكة أم أنها تلاحقك؟ كيف تختار الحبكة، أو كيف تختارك الحبكة؟ وإذا لم يكن أي من ذلك صحيحًا، فما الذي يحدث؟ مستشار بينوشيه للماركسية، الناقد الأدبي التشيلي الكبير سباستيان أوروتيا لاكروا، الكاهن وعضو حركة أوبوس دي، أو المعالج الذي يمارس الإبهار، أو الشعراء المراهقين المعروفين باسم “رجال التحري المتوحشون” – كل هذه الشخصيات الخاصة بك لها نظراء في التاريخ. لماذا هذا؟
نعم، الحبكة مسألة غريبة. أعتقد أنه على الرغم من وجود العديد من الاستثناءات، إلا أن القصة في وقت معين تختارك ولن تتركك في سلام. لحسن الحظ، هذا ليس مهمًا جدًا – القالب، والبناء، ينتميان لك دومًا، وبدونهما لا يمكن أن نسمي هذا المُنتج كتابًا. أو على الأقل هذا ما يحدث في غالب الأحيان.
لنفترض أن القصة والحبكة ينشآن عن طريق الصدفة، وأنهما ينتميان إلى عالم الصدفة المحكوم بالتشوش أو الفوضى، أو إلى عالم في حالة اضطراب مستمر (يطلق عليه البعض اسم ما بعد القيامة). من ناحية أخرى، فإن قالب/ شكل الكتابة، هو اختيار يتم من خلال الذكاء والمكر والصمت، وكل الأسلحة التي استخدمها يوليسيس في معركته ضد الموت. الشكل يسعى إلى حيلة؛ تسعى القصة إلى شفا هوة. أو استخدام استعارة من الريف التشيلي (استعارة سيئة كما سترون): لا يعني ذلك أنني لا أحب المنحدرات، لكني أفضل رؤيتها من فوق كوبري.
كارمن: الكاتبات ينزعجن باستمرار من هذا السؤال، لكنني لا أستطيع تجنب أن ألقيه عليك – فقط لأنه بعد أن سألته مرات عديدة، فأنا أعتبره طقسًا حتميًا، وإن كان غير سار: إلى أي مدى تنطوي كتاباتك على سيرة ذاتية لك؟ إلى أي مدى تعكس حياتك أنت؟
بولانيو: صورة ذاتية؟ ليس كثيرًا. تتطلب الصورة الذاتية نوعًا معينًا من الأنا، الرغبة في النظر إلى نفسك مرارًا وتكرارًا، اهتمامًا واضحًا بما أنت عليه أو ما كنته من قبل. تاريخ الأدب مليء بالسير الذاتية، بعضها جيد جدًا، لكن الصور الذاتية تميل إلى أن تكون سيئة للغاية، بما في ذلك الصور الذاتية في الشعر، والتي قد يبدو في الوهلة الأولى جنسًا أدبيًا أكثر ملاءمة للتصوير الذاتي من النثر.
هل عملي هو سيرة ذاتية؟ أعني، كيف يمكن ألا يكون؟ كل عمل، بما في ذلك الملحمة، هو بطريقة ما سيرة ذاتية. في الإلياذة، نتأمل مصير تحالفين، مدينة، وجيشين، لكننا نتأمل أيضًا مصير أخيل وبريام وهيكتور وكل هذه الشخصيات، كل هذه الأصوات الفردية، تعكس صوت المؤلف.
كارمن: عندما كنا شعراء صغار، مراهقين، وتشاركنا نفس المدينة (مكسيكو سيتي في السبعينيات)، كنت قائد مجموعة من الشعراء، “ما دون الواقعية”، الذين أشرت إليهم في روايتك، رجال التحري المتوحشون. أخبرنا قليلاً عما عناه الشعر لهم. أخبرنا عن مكسيكو مدينة كتاب هذا التيار.
بولانيو: كان تيار ما دون الواقعية نوعًا من الدادائية. في وقت من الأوقات كان هناك الكثير من الناس، ليس فقط الشعراء، ولكن أيضا الرسامين وخاصة المتسكعين والمتطفلين، الذين يعتبرون أنفسهم ضمن التيار. في الواقع لم يكن هناك سوى اثنين من الأعضاء، ماريو سانتياجو وأنا. وذهبنا-كلانا- إلى أوروبا في عام 1977، وفي إحدى الليالي، في روسيلون، فرنسا، في محطة قطار بورت فيندريس (القريبة جداً من بربينيان)، بعد أن عانينا من بعض المغامرات الكارثية، قررنا أن الحركة، على حالها هذا، قد وصلت الى نهايتها.
كارمن: ربما انتهت بالنسبة لك، لكنها ظل حية في ذاكرتنا. كلاكما مثل مصدر رعب في عالم الأدب. في ذلك الوقت، كنت جزءًا من حشد جاد ورسمي – كان عالمي مفككًا وبلا ملامح لدرجة أنني احتجت إلى شيء آمن لأتمسك به. أعجبتني الطبيعة الاحتفالية للقراءات الشعرية وحفلات الاستقبال، تلك الأحداث السخيفة المليئة بالطقوس التي ارتبطت بها سريعا بشكل ما، وكنتما أنتما من يعطل هذه التجمعات.
قبل قراءتي الشعرية الأولى في مكتبة غاندي عام 1974، صليت إلى الله – ليس لأنني آمنت حقا به-لكني احتجت إلى من يمكنني اللجوء إليه – وتوسلت: “أرجوك، لا تدع بولانيو وصديقه يأتون”. كنت مرعوبة من فكرة قراءة شعري علانية، لكن القلق من خجلي لم يكن شيئًا يذكر مقارنة بالذعر الذي شعرت به عند التفكير في أن أحدكما سيسخر مني في منتصف القراءة، سينفجر واحد من أبناء تيار ما دون الواقعية فيّ ويدعوني بالحمقاء.
لقد كنتم موجودين لإقناع العالم الأدبي بأنه لا ينبغي لنا أن نأخذ أنفسنا على محمل الجدية بينما لا ننتج أدبًا يستدعي هذه الجدية. وأنه مع الشعر ( على العكس من ذلك المثل الشيلي الذي ذكرته) فالنقطة المهمة فعلا هي أن تلقي بنفسك في الهاوية، لا أن تحدق فيها من فوق جسر آمن.
لكن دعني أعود إلى بولانيو وعمله. أنت تتخصص في الروايات، ولا أستطيع تخيل أي شخص يصف رواياتك بأنها”غنائية”، ومع ذلك فأنت أيضًا شاعر، شاعر نشط. كيف توفق بين الاثنين؟
بولانيو: يقول نيكانور بارا إن أفضل الروايات هي المكتوبة على الوزن (الشعري) تمام. ويقول هارولد بلوم إن أفضل شعر في القرن العشرين مكتوب بطريقة نثرية. أنا أتفق مع كليهما. لكن من ناحية أخرى، أجد صعوبة في اعتبار نفسي شاعرًا نشطًا. أفهم أن الشاعر النشط هو الشخص الذي يكتب القصائد، لقد أرسلت إليكم (مجلة BOMB) أحدث ما لدي، وأخشى أن تكون القصائد مريعة، على الرغم من أنه بالطبع، وبدافع اللطف والاعتبار، قد تكذبين.
أنا لا أعرف، هناك شيء يتعلق الشعر. ومهما يكن الأمر؛ فإن الشيء المهم هو مواصلة قراءته، هذا أكثر أهمية من كتابته، ألا تعتقدين ذلك؟ الحقيقة هي أن القراءة دائما أكثر أهمية من الكتابة.