سورية.. الثورة المغدورة/ وائل السواح
أطلق تروتسكي اسم “الثورة المغدورة” على الثورة الروسية التي قام بها البلاشفة في عام 1917، وكان تروتسكي بينهم آنذاك، قبل أن يبدأ قائدها الأول لينين بحرفها عن مسارها، وقبل أن يتمّ ستالين ما بدأه لينين، ولكن بوحشية وبربرية أدّتا إلى قتل ملايين الروس الأبرياء وإفقارهم وتشريدهم، تحت مسمّيات متعدّدة، منها مناهضة الثورة والخيانة والتعامل مع البيض (يعني البورجوازية الروسية) وغير ذلك. بيد أن هذا الاسم يمكن أن يعبّر، وبصدق أكبر، عن الثورة السورية التي انطلقت قبل سبع سنوات بحلم تغيير سورية من بلد يحكمه نظام دكتاتوري، طائفي، فاسد، إلى بلد تسود فيه مبادئ المواطنة والعدالة وسيادة القانون، وتحترم فيه الحريات الأساسية، باعتبارها مسألة فوق الدستور.
حققت ثورة أكتوبر 1917 في روسيا انتصارها على القيصر، وكلّ من وقف في وجهها، بعد حربٍ أهلية مريرة. الغدر الذي أحاق بالثورة كان من داخلها، من قياداتها وكوادرها. أما في سورية، فقد جاء الغدر في أوج نهوضها، ومن داخلها وخارجها على حدّ سواء، ما أدى إلى وأدها واندحارها بالشكل المؤسف الذي نراه الآن. وقد جاء الغدر بالثورة السورية من أطراف عديدة ومتنافرة، لم يكن يجمع بينها جامع. ولن أقترب هنا من نظام بشار الأسد البربري والهمجي، فالرجل كان يدافع عن “ملكٍ” أورثه إياه والده، ولا من نظام الملالي في إيران، فهؤلاء يعملون على استعادة مُلكٍ قديم، حرمتهم منه جماعات من البدو قبل أربعة عشر قرنا. أما نظام بوتين في موسكو، فكان يتصرّف للثأر من الإهانات المتعدّدة التي وجهها إليه الغرب، وخصوصا حين جعله يوافق على ضرب ليبيا، ثمّ أخرجه من المولد بلا حمّص.
سأركّز بالأحرى على الغدر الذي جاء ممّن كان يفترض أنهم أصدقاء السوريين وداعموهم
“لعبت حكومات المنطقة دوراً كبيراً في الغدر بالثورة السورية من خلال التلاعب بها” وحُماتهم. وأول هذه الأطراف الإدارة الأميركية التي لم تفتقد فحسب استراتيجية سورية واضحة ومميزة، تحت إدارتي الرئيسين، الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري دونالد ترامب، بل افتقدت أيضا كلّ حسّ أخلاقي وإنساني تجاه معاناة ملايين السوريين الذين فقدوا أحباءهم، ودُمِّرت بيوتهم، وفقدوا أعمالهم ووجدوا أنفسهم لاجئين أو نازحين يعتمدون على سلّة الغذاء، وعلى محسنٍ يحضر لأبنائهم أطرافا اصطناعية بدل أطرافهم التي فقدوها في القصف تحت التعذيب.
كان أوباما واضحا، في مطلع شهر فبراير/ شباط 2011، حين خاطب الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، أن “وقت التغيير قد حان”، وأن المصريين “لم يعودوا يريدون خطبا. إنهم يريدون أن يروا إجراءات ملموسة من حكومتهم، وأعتقد أن هذا ما ينتظره العالم الآن”، مضيفا عبارته الشهيرة “الآن يعني الآن”.
وبشأن سورية، في المقابل، كان الموقف الأميركي يرتفع ويهبط، وفقا لأهواء مجموعة من مساعدي أوباما المرائين الذين كانوا يخشون من سقوط بشار الأسد، وارتداد ذلك على المنطقة، لكنهم لا يمانعون مع ذلك في إضعافه. في يوليو/ تمّوز 2011، زار السفير الأميركي آنذاك في سورية، روبرت فورد، مدينة حماة، ليرى بأم عينيه، كما قال، أن الثورة كانت ثورة سلمية، وغير مسلّحة. واستقبله السوريون في حماة بالورد والرز، لكنه حين عاد إلى دمشق، قال لمساعديه إن “القاعدة” قادمة إلى سورية.
واستفاد الأميركيون من الكرد السوريين في مقاتلة تنظيم داعش، لكنهم ما إن أنهوا مهمّتهم حتى تخلى الأميركيون عنهم في منبج، وهم بصدد الانسحاب من شرق الفرات، تاركين الكرد لمصيرهم. وفي جنوب البلاد، لم يجد الأميركيون أي بأس في إخبار السوريين هناك أن عليهم ألّا يعوّلوا على دعم واشنطن في التصدّي لهجوم تشنّه القوات الحكومية، لاستعادة مناطق تسيطر عليها المعارضة جنوبي سورية. وجاء في نصّ رسالةٍ تمّ تسريبها إلى وسائل الإعلام “أن الحكومة الأميركية تريد توضيح ضرورة ألّا تبنوا قراراتكم على افتراض أو توقع قيامنا بتدخل عسكري”. وقد راهن كثيرون ممن كان إحباطهم من مواقف الرئيس أوباما كبيرا على الرئيس دونالد ترامب، لكنّ مواقف الأخير لم تكن في أي حال أفضل من سابقه، بل على العكس، كان ترامب هو الذي أطلق رصاصة الرحمة على الثورة السورية، بتخليه عن جنوب سورية.
ولكن الولايات المتحدة ليست وحيدة في خذلان السوريين، فحكومات المنطقة بدورها لعبت دوراً كبيرا في الغدر بالثورة السورية، من خلال التلاعب بها وتجاذب فصائلها وتشجيع التيارات الأكثر راديكالية بين فصائل المعارضة، وإغفال تقديم الدعم للفصائل السياسية ومنظمات المجتمع المدني. وكان الدور الأبرز لهذه الحكومات هو في إرغام المعارضة السورية على تغيير خطابها السياسي في مؤتمر الرياض 2، الذي أدى إلى تغييرٍ في قيادة المعارضة السوري، وفي خطابها السياسي، حين عبّدت الطريق أمام القبول ببقاء بشار الأسد أمرا واقعا، لا يمكن تجاوزه.
ومع ذلك، لا يمكن تحميل أسباب الفشل جميعها للعوامل الخارجية، فالسوريون أنفسهم يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية، وهم (أو بعضهم) بالتالي مشاركون في الغدر بالثورة السورية. ولعلّ أول المشاركين هم “نحن” الذين تركنا البلاد بحثا عن الأمان لنا ولأطفالنا، فتخلّينا عن
“الفساد والمحسوبية والسعي الرخيص للمكاسب المادية والسلطة وتحوّل الثورة إلى مؤسسات فاسدة.. هذا من أسوأ ما جرى لنا ومعنا” الساحة للسوريين الأكثر تطرّفا وللمهاجرين الذين جاءوا من كلّ أصقاع المعمورة، ليحوّلوا سورية إلى دولة إسلامية فاشية. كما لعبت المعارضة السياسية دورا سلبيا من خلال تنافس فصائلها وقياداتها وتجاذباتهم وانقساماتهم وتجاوبهم مع الضغوط الإقليمية والدولية، لاتخاذ مواقف تخالف مصلحة السوريين. ولم يرَ قادة المعارضة بأسا في أن يُحسب أحدهم على هذه الحكومة أو تلك، ولم يأبهوا في أن يتمّ تصويرهم رجال أطرافٍ خارجيةٍ، أكثر منهم قادة للسوريين عموما.
وفشلت المعارضة في استقطاب كلّ مكونات الأمة السورية القومية والدينية والمذهبية، وارتفع الخطاب الطائفي، من دون أن تحاول المعارضة بكل تلاوينها أن تدينه أو تفضحه أو تنبّه من خطورته.
أما الفصائل المسلّحة، فانشغلت في اكتساب مزيدٍ من الأراضي السورية متقاتلةً فيما بينها أكثر من قتالها مع قوات النظام وحزب الله والمليشيات الإيرانية الدخيلة. وانشغل قادة الفصائل في تعديد مصادر التمويل ومراكمة الثروات والعمل في مجالات غير مشروعةٍ، كالتهريب وتجارة السلاح والخطف والاتجار بالبشر لتعزيز ثرواتهم تلك. في المقابل، كان قادة الفصائل الشرفاء يلقون حتفهم، غالبا على يد رفاقهم، كما حدث مع العقيد أبو فرات، مثلا. ولكن العسكرة ليست أسوأ ما جرى معنا. الفساد والمحسوبية والسعي الرخيص للمكاسب المادية والسلطة وتحوّل الثورة إلى مؤسسات فاسدة، النخر الروحي الداخلي لدى السوريين، هذا هو أسوأ ما جرى لنا ومعنا.
قلت أكثر من مرة إن الثورة بالعموم هي شرّ، لكنه شرّ لا بدّ منه، هي وسيلة شرّيرة للتخلص من شرٍ أكبر. ومع ذلك، يحلو لي أن أتوهّم أن ثورتنا كانت من أنبل الثورات وأنظفها، قبل أن تبدأ يد الغدر بتناولها، بدءا منا، نحن السوريين، وانتهاء بمن يجلس اليوم في مكاتب الحكم في العالم بأسره