الحلف الثلاثي الرجعي: موسكو وأبو ظبي والقاهرة/ جلبير الأشقر
انتقلت موسكو من قرن إلى آخر وهي تنتقل، في السياسة الدولية، من يسار الطيف إلى يمينه، وفي سياستها العربية، من مساندة الأنظمة التقدمية (ومعظمها دكتاتوري بالطبع، والحال أن حكم الاتحاد السوفييتي ذاته كان دكتاتورياً، بل فقدت الأنظمة المقصودة طابعها التقدمي في السبعينيات) إلى مساندة الأنظمة الرجعية (ومعظمها استبدادي بصورة دائمة). وليس من نتيجة لهذا الانتقال في المنطقة العربية أخطر من الحلف الرجعي القائم بين روسيا والإمارات المتحدة والحكم المصري.
هذا التحالف هو نتاج رئيسي للتدخّل الروسي في الحرب الدائرة في سوريا، الذي هو بدوره نتاج للموقف المتخاذل الذي وقفته إدارة باراك أوباما إزاء الساحة السورية. فلمّا رأى بوتين أن تدخّل إيران المباشر ذاته لم يؤدِّ إلى تحرّك واشنطن ضده بحدّ أدنى من الحزم والفعالية، بل بدت وكأنها راضية عنه، قرّر الانخراط بدوره في المعمعة. كان ذلك قبل خمسة أعوام، على خلفية انشغال إدارة أوباما بمحاربة داعش وانشغال أوروبا بتدفّق اللاجئين السوريين. وفي منظور التاريخ، سوف يظهر بجلاء كيف كان لتدخّل النظام الإيراني في إنقاذ النظام السوري دورٌ رئيسي في وقفِ المدّ الثوري الذي انطلق من تونس قبل عشر سنوات وفي قلبه إلى جَزرٍ معمّم، كانت محطّته اللاحقة استيلاء عبد الفتّاح السيسي على الحكم في مصر، ومن ثم تحوّل ليبيا واليمن إلى ساحتي حرب.
ولمّا اختار أوباما أن يواكب المدّ الثوري الذي عُرف باسم «الربيع العربي» في محاولة لاحتوائه، وذلك بإرساء تعاون مع الإخوان المسلمين الذين انتهزوا فرصة الانتفاضة الإقليمية، وبتدخل محدود في ليبيا إلى جانب الانتفاضة المحلّية أملاً بالتحكّم بها، رأى بوتين أن يتبنّى الموقف المعاكس في دعم الأنظمة القائمة ومواكبة القوى المضادة للثورة. وكان حجر الزاوية في هذه السياسة الرجعية دعمه لتصلّب النظام السوري سياسياً وعسكرياً، وإن لم يزجّ بقواته مباشرةً في النزاع سوى بعدما اقتنع بأن خطر ردّ فعل أمريكي محدودٌ للغاية، وقد تبع ذلك ترحيبه بانقلاب السيسي عندما كانت إدارة أوباما تُبدي تحفّظاً إزاءه. فكان طبيعياً في هذا السياق أن تلتقي موسكو مع أبو ظبي على قاسم مشترك عريض يقوم على معاداة التغيير الثوري في المنطقة، ومعاداة الإخوان المسلمين ومخاصمة من يحتضنهم.
وبعد أن حلّ دونالد ترامب محلّ أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية بموقف متعاطف مع بوتين ومعادٍ للإخوان بما أثّر بدوره على الموقف السعودي، رأت أبو ظبي أن تمضي قدماً في علاقتها بموسكو. فقد تكرّست العلاقة بين الدولتين في المعاهدة التي أبرمها متولّي العهد الإماراتي محمّد بن زايد مع بوتين في موسكو في حزيران/ يونيو 2018، في زيارة للعاصمة الروسية كانت السابعة (أجل، السابعة) التي يقوم بها بن زايد إلى روسيا منذ انعطاف الأوضاع العربية باتجاه رجعي في عام 2013. وقد تكرّس منذ ذلك الحين حلفٌ ثلاثي إقليمي رجعي، قوامه روسيا والإمارات ومصر السيسي، تربطه بالمملكة السعودية علاقة تتراوح بين التعاون والمنافسة.
وقد تجلّى التقارب بين الأطراف الثلاثة في تصاعد المشتريات العربية، لاسيما الإماراتية، من الأسلحة الروسية، وفي تعاون الحلف في ساحات إقليمية شتّى: في سوريا، بدعم أبو ظبي والقاهرة لأحد أحجار الشطرنج التي تحرّكها موسكو في الساحة السورية؛ في اليمن، بتحوّل موقف موسكو من مساندة الحوثيين إلى ما يناسب المناورات الإماراتية المحلّية؛ في ليبيا، بتمويل أبو ظبي لتدخل «المرتزقة» الروس شبه الرسميين إلى جانب قوات خليفة حفتر المدعوم من القاهرة؛ في فلسطين، بتعزيز تعاون الحلف الثلاثي مع الحكم الصهيوني، الذي تصاعد مع انتقال الإمارات إلى علاقة مكشوفة بدولة إسرائيل. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن لمحمّد دحلان، مستشار محمّد بن زايد فلسطينيّ الأصل، دورٌ هام في هذا المجال كما في مجالات أخرى، بما فيها المجال السوري.
أخيراً وليس آخراً، تجلّى نشاط الحلف الثلاثي في السودان، حيث إن أبو ظبي، الوصيّة على العسكر، قد توسّطت بين هؤلاء وبين روسيا، بعد توسّطها بينهم وبين واشنطن والدولة الصهيونية. وكانت النتيجة أن السلطة العسكرية السودانية منحت موسكو إذنَ بناء قاعدة بحرية على الشاطئ السوداني للبحر الأحمر، ترى فيها أبو ظبي والقاهرة رادعاً لتركيا التي بنت قاعدة بحرية على الشاطئ الصومالي، كما لها قاعدة في قطر. ولا يُخفى على أحد أن الحلف الثلاثي ينازع الحكم التركي في كافة الساحات المذكورة أعلاه، وفي غيرها أيضاً كالقوقاز، بينما يستمرّ الرئيسان الروسي والتركي بالتظاهر بالمودّة المتبادلة على طريقة رجلين يتعانقان بينما يطعن كل واحد منهما الآخر في الظهر.
ومن الواضح أيضاً أن أبو ظبي سرّعت الأمور في «التطبيع» بين السودان والدولة الصهيونية وفي تسهيل منح الخرطوم لتسهيلات عسكرية لموسكو، استباقاً لخروج ترامب، صديق بن زايد وبوتين والسيسي، من الرئاسة الأمريكية، ومعه مهندس سياسته الخارجية مايك بومبيو، شديد العداء للحكم التركي. وبذلك، يكون الحلف الثلاثي قد وضع واشنطن أمام أمر واقع ذي أهمية استراتيجية خطيرة في حين تراهن دول الحلف الثلاثي على أن تواصل إدارة جو بايدن السير على نهج أوباما المتخاذل بحيث لا يؤثر ذلك تأثيراً كبيراً على مساعيها.
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي»