الأسد واستقلالية الدروز/ عمر قدور
عندما تدخل جرمانا الملاصقة لدمشق، وهي المركز الدرزي الأضخم خارج محافظة السويداء، ستكون الساحة الأبرز التي تصادفها أولاً باسم “ساحة الرئيس” وفيها تمثال حافظ الأسد، يتفرع عنها يميناً شارع الباسل، والباسل كانت قد أصبحت التسمية المعتمدة في عموم سوريا اختصاراً لباسل الأسد. عليك أن تمضي في الشارع العام قبل أن تنحرف يساراً في ما يُسمى شارع الروضة، وبعد أن تقطع الساحة التي تحمل الاسم نفسه قد لا تنتبه إلى لوحة معدنية كُتب عليها: شارع الشهيد كمال جنبلاط. في مسافة قصيرة مشياً تكون قد مررت باسم القاتل وابنه، ثم اسم القتيل، وإذ يعكس وجود الاسمين الأولين ثقل السلطة الجاثم فإن وجود اسم الشهيد القتيل يعكس ذلك الوجدان المجبر على التواري.
في لعبة الساحات والتسميات أيضاً؛ يُذكر أن حافظ الأسد كان قد أمر بإنشاء صرح تذكاري لشهداء الثورة السورية ضد الفرنسيين، ليضم رفات القائد العام لها في بلدته القريّا. النصب التذكاري دُشّن في مناسبة عيد الجلاء عام 2010، أي بعد نحو ثلاثة عقود من وفاة سلطان باشا الأطرش وعقد من وفاة حافظ الأسد، في وقت كانت فيه تماثيل حافظ وابنه باسل تغزو المدن والبلدات والقرى مثل الجراد، وتُنجز بسرعة مدهشة أحياناً. حافظ الأسد نفسه كان عليه انتظار وفاة السلطان حتى يقوم بزيارة السويداء، وربما كان إلقاؤه نظرة الوداع على جثمانه نوعاً من التأكد الذي طالما تمناه من غياب الشخصية السورية الوحيدة الباقية على قيد الحياة في سوريا، وهي تحمل إرثاً رمزياً ضخماً لا يمكن مقارعته. في تعبير عما يكنه الأسد من امتعاض تجاه الفقيد لم تذكر صحيفة البعث آنذاك لقب قائد الثورة السورية، واكتفت بوصفه بالرمز الكبير من رموز الكفاح الوطني.
كان جمال عبدالناصر قد زار سلطان باشا الأطرش أيام الوحدة، هذا ما لا يفعله حافظ الأسد. ومن المرجح أن الأخير ما كان ليغفر للأطرش برقية الإنذار التي أرسلها لحافظ الأسد وزملائه في السلطة نهاية عام 1966، وفيها يشير إلى الضباط والعناصر الدروز المعتقلين إثر محاولة الانقلاب التي كان قد قادها سليم حاطوم، حيث عمد فريق صلاح جديد/الأسد إلى عملية تطهير طائفية في الجيش استهدفت وقتها على نحو خاص الضباط الدروز. يقول الأطرش في برقيته: “لقد اعتاد الجبل وما يزال أن يقوم بالثورات لطرد الخائن والمستعمر، ولكن شهامته تأبى عليه أن يوجه سلاحه ضد أخيه. هذا هو الرادع الوحيد”.
باكراً، قبل غيرها من المدن السورية، كانت السويداء قد تلقت الرسالة التي تعبّر تماماً عن حافظ الأسد. فأثناء محاولة انقلاب سليم حاطوم، حيث قام باحتجاز صلاح جديد والأتاسي اللذين ذهبا لامتصاص النقمة على خلفية تسريح الضباط الدروز بعد انكشاف جناح اللواء فهد الشاعر الذي كان ينسّق مع مجموعة حاطوم، في هذه الأثناء أرسل حافظ الأسد الطائرات لتحوم فوق المدينة مهدِّداً بقصفها، وحينها أدرك حاطوم أن معركته خاسرة، ففرّ لاجئاً إلى الأردن. ينبغي ألا نغفل دور كبار مشايخ الدروز في إنقاذ صلاح جديد، إذ رفضوا أن يتعرض للأذى من يُعتبر في ضيافة الجبل. هذا السلوك الشهم “والساذج سياسياً” سيكمله حاطوم في ما بعد، ففي اليوم السادس من حرب حزيران 1967 سيعلن عودته إلى سوريا للمشاركة في القتال ضد إسرائيل، وهكذا سيجد ضباط المخابرات في انتظاره ليمثل أمام محكمة عسكرية بتهمة العمالة لإسرائيل، ويُنفّذ حكم الإعدام بعد تكسير أضلاعه يوم 26 حزيران بينما كان وزير الدفاع حافظ الأسد قد أمر قواته بالانسحاب من القنيطرة وسواها من الأراضي قبل تقدّم القوات الإسرائيلية إليها.
عملياً أدت محاولة انقلاب حاطوم الفاشلة إلى كسر التحالف الذي كان يُعبَّر عنه اختصاراً بكلمة “عدس”، حيث تشير أحرفها على التوالي إلى علوي-درزي-سمعولي “إسماعيلي”. رجل السلطة القوي المنحدر من الطائفة الإسماعيلية عبدالكريم الجندي كان يشغل منصب رئيس مكتب الأمن القومي الذي يُفترض أن يضم أجهزة المخابرات، إلا أن وزير الدفاع حافظ الأسد رفض ضم المخابرات العسكرية إليه وأحدث فرعاً جديداً هو المخابرات الجوية التي سيذيع صيت وحشيتها في الثورة الحالية. بحسب الرواية المتداولة سينتحر الجندي في آذار 1969، وفياً لصلاح جديد ومحذِّراً من طموحات الأسد، لكن قبل ذلك ستتحمل سمعته وصمة التنكيل بحاطوم الذي كان بدوره قد وجّه للجندي أقذع الإهانات والشتائم من بين جميع رفاقه السابقين، ولا يُستبعد أن تكون سبب نقمة حاطوم القرابةُ المذهبية التي يُفترض بها وضع الجندي معه في الخندق ذاته.
كما نعلم سيكون مصير صلاح جديد “العلوي” السجن مع انقلاب الأسد عليه، وسيكون مصير اللواء محمد عمران “العلوي أيضاً” الاغتيال في طرابلس اللبنانية بعد نحو عامين من ذلك التاريخ. كانت الأسدية تتقدم حثيثاً لاحتكار السلطة، لكن في خضم ذلك لم ينسَ حافظ الأسد توجيه رسالة صغيرة “بأسوأ دلالات الصغر” للسويداء بغية التبرؤ من إعدام حاطوم، فاستقبل زوجته ومنحها راتباً. ويُذكر أن الطلب الذي تقدّم به حاطوم قبل إعدامه هو عدم فصل زوجته من وظيفتها كمعلمة، كي يتبقى لها ما تعيل به أطفاله، إدراكاً منه لوضاعة انتقام رفاقه السابقين.
في آذار 1977 سيقوم الأسد باغتيال كمال جنبلاط، ليست مهمة في هذا السياق الاتهامات التي تشير إلى رفعت الأسد، إذ من المؤكد أن شقيقه حافظ كان متلهفاً للتخلص من الزعيم الراحل. غالباً تؤخذ عملية الاغتيال تلك ضمن ظروفها اللبنانية فقط، فلا تؤخذ في الحسبان مكانة جنبلاط كأقوى زعيم درزي وهذا مصدر إغراء كبير لتصفيته من قبل الأسد الذي لا تغفل عيناه عن دروز سوريا، ولا يريد أن يكون لهم أي عنوان سياسي بارز. على الصعيد الشخصي قُيّض للزعيم المغدور مؤهلات وكاريزما لا يصعب أن تُشعر ضابطاً بعثياً مثل حافظ الأسد بصغره، ولندع هنا كاريزما الأخير المفتعلة التي ساهمت في اصطناعها لاحقاً كتب مثل “السلام المفقود” و”الأسد والصراع على الشرق الأوسط” لكريم بقرادوني وباتريك سيل. على الصعيد الأيديولوجي لم يكن لحافظ الأسد منافسة كمال جنبلاط على جانبين شديدي الأهمية آنذاك، فجنبلاط لا تخترقه الشكوك كصاحب فكر عروبي، وتحالفه العملي مع المقاومة الفلسطينية لا يُقارن مع اتجار الأسد بالقضية، حتى إذا أهملنا ما هو متداول عن تسهيل قوات الأسد مجزرة مخيم تل الزعتر قبل اغتيال جنبلاط بحوالي سبعة أشهر.
يمكن اختصار القصة بأن الأسد كان يخشى دائماً وجود زعامة قوية تكمل ما يراه عصبية درزية يصعب تفكيكها، رغم أن مخابراته لن تقصّر لاحقاً في اختراق ذلك المجتمع الصغير، والعمل خصوصاً على اختراق مشيخة العقل، مثلما لم تقصّر في محاولة اختراق المجتمع الدرزي في لبنان عبر تيار التوحيد، ورئيسه الذي سيلعب فيما بعد دوراً كمبعوث للأسد إلى دروز سوريا. وإذا كان الأب قد امتحن قدراته في التطويع فإن الابن الوريث سرعان ما سيختبرها في مستهل حكمه، إذ سيفلت قواته ومخابراته لتقمع بقسوة مفرطة احتجاجات السويداء في خريف عام 2000، وكانت الاحتجاجات قد اندلعت على خلفية تعدّي البدو بالرعي على مزارع تعود لأبناء المحافظة، وطريقة التعدّي توحي بأنها مدبّرة ومحمية من قبل قوات الأسد التي حين تدخلت أطلقت النار بشكل عشوائي على المحتجين، وفوق المجزرة ستحظى المحافظة بحضور لفرع المخابرات الجوية لم يكن موجوداً من قبل.
في منتصف آذار عام 2011، وبينما كانت الدعوات إلى الثورة قد بدأت، سيزور بشار الأسد السويداء، ولن يتأخر إطلاقاً في طرح نفسه حامياً للأقليات. كان قبل ذلك في عام 2006 قد زار السويداء على نحو لا يخلو من المغزى بعد إجبار قواته على الانسحاب من لبنان، ووقوف وليد جنبلاط في مقدمة انتفاضة الاستقلال اللبنانية التي تلت اغتيال الحريري. لن يتورع بشار في كلمته عام 2006 عن الإشارة إلى تحالف كان يربط بين أبيه وسلطان باشا الأطرش، مطالباً باستمرار ذلك التحالف المزعوم بينه وبين أحفاد الأطرش! لن يتخلف بشار بعد نحو سنة من الثورة عن الذهاب إلى السويداء للتعزية بشيخ العقل أحمد سلمان الهجري، مرة أخرى في سياق من الضعف والحاجة إلى العزف على الوتر الأقلوي.
ذلك التودد لن يمنع بشار من تصفية الشيخ وحيد البلعوس قبل نحو ثلاث سنوات من الآن، والحق أنه هذه المرة استقوى على البلعوس بمشيخة العقل الموالية له التي كانت قد أصدرت بياناً ينص على إبعاد البلعوس دينياً. جدير بالذكر أن حركة “مشايخ الكرامة” التي أسسها البلعوس تبدو كأنها تستأنف جانباً من الإنذار الذي كان سلطان باشا الأطرش قد وجهه إلى حافظ الأسد ورفاقه، وذلك في تأكيد الحركة على رفض التجنيد الإلزامي الذي بات يعني المشاركة في قتل سوريين آخرين؛ الحق أن علاقة بشار بالبلعوس هي أفضل تمثيل لذلك التحالف المزعوم بين أبيه وسلطان باشا الأطرش.
ليس الدروز وحدهم من تعرض لمحاولات إخضاع واستيعاب من قبل السلطة الأسدية، إلا أن لهم حساسية مختلفة لجهة التماسك أو العصبية التي تُعزى إلى الطائفة. التماسك الواقعي أو المتوقع للطائفة كان دائماً مصدر أرق للاستبداد الأسدي، مع التنويه بأن العصبية الدرزية منذ قرن على الأقل قامت على شقين؛ أولهما الاستقلالية والحفاظ على الهوية المذهبية، وثانيهما حمل لواء الوطنية التي تكفل الاعتبار الأول، ومن المؤكد أن للأسدية بطبيعتها عداءً مستحكماً مع الاستقلالية والوطنية.
المدن