الفجائع السورية.. المتكررة/ نهلة الشهال
هل كان مقصوداً او مدروساً ذلك “الهدوء” في الإعلان عن “وفاة” آلاف الاشخاص المعتقَلين في سجون السلطة السورية – من كان منهم موقوفاً بشكل رسمي، ومن كان مختفياً وغير مُعترفٍ باعتقاله؟ جرى إخراج الأمر وكأنه خبر “عادي”، أو وفي أحيان أخرى، جرى تسريبه كمعلومة. هل كانت تلك هي الطريقة التي وجدها هؤلاء الاوغاد، القيّمون على السلطة السورية، للتخفف من عبء الجريمة المرتكَبة؟ قرارٌ بالافصاح عن هذا بدلاً من الاستمرار في الصمت والتجاهل التامين اللذان (قد) تترتب عليهما تبعات مثل المطالبة والملاحقة وضغط المنظمات الدولية الخ.. أم كان هذا شكلاً مُنتقى لتوجيه ضربة قاضية للناس، للقول “نحن من إنتصر”، وهاكم، ونفعل ما نشاء قبلاً وبعداً، ومن تنتظرونهم لم يعد لهم وجود. وهذا إعلان عن قطيعة إضافية، تأتي بعد سواها مما مورس طوال هذه السنوات الست ونيف (ومنها الاغتصابات، وهي شكل الاستباحة الأعلى والذي يتجاوز حتى القتل)، لترسِّخ في الاذهان علامات على أنه لا تَعقّل ولا تسوية، وانه “يا قاتل يا مقتول”؟
ليست الاسئلة هنا للتفنن بالبلاغة، ولا للتسلية والفضول. بل أن الاجابة عليها هي جزء هام من الضرورة (غير المُلبّاة حتى الآن) المتعلقة بادراك عقلية النظام. لا يكفي اختصار الأمر بمجرد نعته بالاجرام والدموية والسادية الخ.. واستنكار ذلك حتى بأشد العبارات. بل القصد فهم الحدث باعتباره جزء من طريقته هو بإدارة المجتمع، وما يراه فعالاً ومؤثراً من ضمن سجل الإجرام نفسه. هذه معرفة تنقص كل الحركات التغييرية (حتى لا نكتفي بتلك “الثورية”، إدعاءً أو صدقاً).
وليس من المخاطرة الزعم أن الأنظمة تعرف مجتمعاتها أولاً، وتعرف تلك الحركات بكل تفرعاتها وتلاوينها ثانياً، وذلك بشكل أفضل بكثير من المعرفة المعاكسة. وهذا يصح عموماً، ولكنه ينطبق على سوريا بشكل خاص أكثر من أي مكان آخر لأسباب كثيرة ومتداخلة، ليس أقلها أن أجهزة الامن المتعددة والمتنافسة والمتقاطعة قد إنتهى بها المطاف الى مراكمة كمٍّ مهول من المعلومات عن كل شخص، صغر أو كبر، في كل مكان. حرفياً. عن كل ما يجري، مهم أو تافه، عن كل كلمة ونأمة.. بحيث يقال إن الامن هو “ذاكرة” البلد وأرشيفها الفعلي. وخلال الانقلابات والتغييرات التي عرفها تاريخ سوريا الحديث، حافظت الاجهزة على الملفات، بغض النظر عن عدائها لما ولمن سبقها. ورث البعث المتعاقِب أرشيف عبد الحميد السراج.. وهكذا الى اليوم!
ويمكن افتراض أن تلك الذاكرة لا تكفي، بل وأنه لا يمكن حقاً توظيفها بسبب حجمها والتضاربات فيها، ولكنها بالتأكيد تشكل أساساً. يلي ذلك الأساس أن خاصية جنوح سوريا الى التقلب وعدم الاستقرار، وميل مدنها الى التنابذ والتنافس، وكأن كل واحدة منها مدينة – دولة (وبالاخص حلب ودمشق) – وهو نتاج سياقات التاريخ والوظائف – وهامشية أريافها.. قد حدا بنظام حافظ الاسد الى التنبه الشديد لهذه الخاصية والاشتغال على ثبات السلطة في مكانها متوسلاً كل السبل، ببرغماتية ملفتة. وهو أدار معركة 1979 – 1982 (التحدي الابرز بعد عشر سنوات من وصوله الى الحكم) بناء على إدراك عميق لخاصيات البلد. ولولاه لما بقي ممسكاً بالسلطة.
لم ينتصر الاسد بفضل مجزرة سجن تدمر (وسواها الكثير) فحسب أو خصوصاً، بل لأنه أجاد وضع دمشق من جهة وحلب وسائر المدن المتمردة من جهة ثانية، في تضاد، وتفاوض مع بازارها ووجهائها ومتموليها وشخصياتها وعرض عليهم تسويات ومكاسب تهمهم، ونفّذ بعضها إن لم يكن معظمها. وجاءت مجزرة حماه بلا وظيفة فعلية او ميدانية حقاً بل كإعلان انتصار نهائي. وهو قبلاً دخل الى لبنان بناء على اتفاق مع واشنطن (وبرضا إسرائيل) لتصفية المقاومة الفلسطينية أو لاحتوائها على أقل تقدير. وكانت تلك خدمة لا تقدر بثمن، بينما كانت بعض الاصوات تعلن أن “طريق القدس يمر من جونية” وتهدد بتشكيل قاعدة ثورية متفلتة في البلد. وهو بعدها اشترك في “التحالف الدولي” الذي تشكل بزعامة واشنطن لتحرير الكويت في 1990، واتخذت قواته موقعها في حفر الباطن “لحماية السعودية” كما قالت البيانات الرسمية السورية حينذاك، وتحت إمرتها. وفي كل هذه، ظلت سوريا حليفة للاتحاد السوفياتي الذي كان يرى فيها وسيطاً معقولاً لتدبر مصالحه…
حسناً، قد يمكن القول أن ما جرى في السنوات الست ونيف الماضية كان في جزء منه إعادة (Remake) لواقعة 1979 – 1982 (مضروبة بألف). ولكن ليس فحسب. فالمعطيات في المنطقة والعالم كانت كذلك قد تغيرت عميقاً. وفي هذا الإطار حدث تدويل الصراع في سوريا وعليها بعد أسابيع قليلة من بدء ما انطلق كحركة مطلبية / سياسية شبيهة بسائر حركات الربيع العربي آنذاك. فلو أن السلطة إرتبكت حيال المد الكبير للحركة الاحتجاجية، فقد حدث ذلك بشكل خاطف. ولعل أولى مخططاتها، مع تكشيرها على أنيابها، كانت في استدارج الحركة المعارِضة الى السلاح. ثم تكفّلت الصراعات الاقليمية بالباقي، وهي كلها كانت ترتكز الى القوى الدولية العظمى، حتى من قَبْل أن تتدخل هذه بشكل مباشر في الميدان عبر إرسال “خبرائها” ومجموعاتها العسكرية الخاصة، وطيرانها.. وقد رافق كل هذا فصل “الدولة الاسلامية”، ثم كل ما هو معروف كأحداث، ومنها القواعد العسكرية الروسية والايرانية التي استقرت علناً في البلاد، وحضور الجيش التركي في شمالها الخ.
فأين كانت قوى المعارضة، العلمانية واليسارية والاسلامية على حد سواء، من كل هذا؟ هل كانت تنوي إعقاله وتقييمه ووضع استراتيجياتها – وإن المختلفة – للتأثير فيه؟ أم أنها اندرجت تحت إبط هذه أو تلك من الدول، كلٌ بحسب أهميتها، وامتهنت التمثيل في المؤتمرات (وهذا كلام مهذب لوصف حركتها). ومنها اليوم من يسعى للتفاهم مع السلطة على اعتبار أنه من الواضح انها باقية (معلومات وليست تكنهات)، وهو نفسه سعيٌ مؤطَر من قبل “معلميها”، وقد يلقى بالطبع قبولاً لدى النظام.
وحده المناضل عبد العزيز الخيّر (ومجموعة من الشخصيات حوله) سعى منذ اللحظات الاولى الى استشراف الاحتمالات، لتغليب ما هو أقلها سوءاً، بعيداً عن العنتريات اللفظية والمزايدات، وكثيرها مدفوع الثمن. وهو لذلك مَثّل احتمالاً مرعباً للنظام، كما هاجمته بشدة المعارضات. فقد كان خارجاً عن الميكانيزمات القائمة! “نوتة” تزعزع الايقاع الموزون لما يجري، شيء للشطب من قبل النظام كما من قبل المعارضات.
وأخيرا، فهذا الكلام لا ينسحب على الناس. لا دخل لهم بهذه اللوحة القاتمة التي طبعت قيادات الحركة المعارِضة، بكل اتجاهاتها وتكويناتها ومناطقها، وبغض النظر عن التفاوت في الدرجة والظروف، بل وحتى عن وجود بؤر لتجارب منيرة. الناس ساروا في مطالباتهم بكل صدق. ودفع من بينهم المناضلون والمثقفون الثمن، ودفعت المدن التي دُمِّر ما يقدر أنه 70 في المئة من كل واحدة منها الثمن، قصاصاً أو انتقاماً من قبل النظام، وليس لتحقيق الغلبة فحسب. وتهجرت أرياف كثيرة. وصار نصف الشعب السوري على الطرقات داخل البلد وخارجه، وخسر معظمهم القليل الذي كان يملكه، وهو ما زال يخسر مع التدابير البشعة المقرة لجهة تثبيت الملكيات مثلاً.
هذه واحدة من أكبر الكوارث المشهودة اليوم. هل يعني ذلك أن مَن تمرد أخطأ، وأنه لم يكن “يجب”؟ بالتأكيد لا، كما أن التاريخ لا يسير على أية حال وفق هذه الحسابات. ولكن المدهش أن الاعطاب تلك الموصوفة هنا – وهي لها نصيبها من النتيجة الحالية – ما زالت كلها قائمة بلا تردد، ولا أدنى تغيير.
السفير العربي