فصل من كتاب التأثير السيبراني: كيف يُغيّر الإنترنت سلوك البشر/ ماري آيكن
إننا نقف الآن على أبواب ثورة صناعية ثالثة. الثورة الرقمية. تقتحم فضاءً جديداً يحتاج فيه الأطفال والشباب خاصة إلى أقصى الرعاية والاهتمام لحماية براءتهم.
يواجه الأطفال والشباب مرحلة هي الأكثر تعرضاً لسلبيات الإنترنت. من الطبيعي أن يشعروا بالفضول ويريدون الاستكشاف. إنهم في عمر يكفي للتعامل بكفاءة مع التكنولوجيا. وأحياناً يكونون بارعين أكثر مما نتصور لكنهم ليسوا ناضجين بما يكفي لإدراك مخاطر وجودهم على الهواء، والأكثر أهمية، لا يفهمون نتائج التعامل مع تلك البيئة.
يتضمن الفضاء السيبراني الاحتكاك ببعض الناس الخطرين، وهؤلاء كثيراً ما يخضعون للمراقبة. الإنترنت كساحة لعب للبالغين كثيراً ما يُقارن بالغرب الأمريكي المتوحش، وهو كساحة لعب للأطفال مجال غير مناسب لبراءتهم. وسط تيار الاندفاع المسعور باتجاه التكنولوجيا الجديدة، يتعرض أطفالنا للإهمال.
– يفسّر كتاب “التأثير السّيبراني” لأشهر عالمة في مجال السيكولوجيا السيبرانية والأدلة الحِمَائية الدكتورة “ماري آيكن” كيف تتغير سلوكيات الناس ومشاعرهم وقيمهم حين يكونون على الهواء وكيف يستغل المجرمون تلك التغيرات، إذا كانت من الناس الذين يستخدمون الكومبيوتر، ربما تعرف بعض الأشياء عن انتحال الهوية، التلصص، التحرش، القرصنة، فتحاول أن تجعل كلمات السر الخاصة بك آمنة قدر الإمكان، لكنك ربما لا تدرك كيف أنك تسهم في احتمالات تعرضك للخطر أو أن تصبح ضحية لابتزاز بعض الأشخاص… على سبيل المثال حين تجلس في غرفة النوم، وتخبر العالم كله (على الفيسبوك، توتير، سنابشات، أو ما شئت من البرامج والتطبيقات)، بكل شيء فعلته في ذلك اليوم. لكن إذا كنت في الحافلة، هل ستخبر أي غريب تقابله وجهاً لوجه، بكل تلك الأشياء؟ أنت تنسى نفسك في لحظات وربما تطلع ملايين الغرباء على خصوصياتك بسبب تأثيرات عدم الإحساس بالتحفظ على الهواء.
– يصف الكتاب كيف يمكن أن يتعرض طفلك وهو يمارس الألعاب على الهواء للمضايقات والمخاطر دون أن تنتبه إليه. ويتطرق إلى مختلف نواحي الفضاء السيبراني، من الانفتاح على الإباحية ومشاهد العنف واحتمالات الإدمان على الإنترنت. وما ينبغي أن تكون عليه أخلاقيات استخدام الإنترنت، وما السياسات التي تتبعها الدول الآن..
– تتطرق المؤلفة إلى عالم غامض مخيف يقبع ما وراء الإنترنت الذي نعرفه يسكنه مجرمون ولصوص وتجار مخدرات ربما لا يعرف الناس عنه أي شيء. هنا تدق المؤلفة جرس الإنذار. وتحذر من الإدمان على الإنترنت وما يرتبط به من الألعاب، ومواقع الإباحية والبحث المحموم عن معلومات تتعلق بالصحة والأمراض التي تؤدي إلى الوسواس أو ما يعرف بـ “ألسايبركوندريا”.
ننشر هنا الفصل الال من الكتاب بالاتفاق مع الناشر.
الفصل الأول: الشذوذ يتحول إلى حالة اعتيادية
منذ أن عرف الإنسان التكنولوجيا وهي تؤثر فيه وتغير سلوكه، لكن ليس هناك تأثير أعظم في الوقت الحاضر، بقدر معلوماتنا، من اختراع الإنترنت. ليس من الضروري أن تكون خبيراً بطبيعة السلوك البشري على الهواء كي تلاحظ أن شيئاً مستمداً من الفضاء السيبراني يدفع الناس للمغامرة.
من الأوهام تصوّر أن البيئة السيبرانية أكثر أماناً من الحياة الواقعية – أو أن التواصل مع أشخاص آخرين على الهواء يتضمن مخاطر اقل مما يحصل لدى الاتصال معهم وجهاً لوجه. لكن غرائزنا تدربت وصقلت على العالم الواقعي، ومع غياب هذا الواقع وزوال جوانب أخرى من المعلومات – تعبيرات الوجه، لغة الجسد، فضاءات مادية – لن نتمكن من اتخاذ قرارات استناداً إلى معلومات كاملة. ولأننا لا نواجه الآخر مباشرة أثناء التواصل والتفاعل مع الآخرين على الهواء، ربما نتصور أن هويتنا مجهولة، أو بالأحرى نشعر بأننا غير مرئيين. كما ناقشنا في التمهيد، نحن نشعر بشيء من التحرر والجسارة حين نكون على الهواء. يمكن أن يتخلى الناس عن الأشياء التي تكبح تصرفاتهم وبطريقة ما «يتصرفون كأنهم سكارى» بالنسبة للبعض فإن الوجود ضمن بيئة سيبرانية قد يُفسد العقل ويشجع على التهور، وهي حالة مماثلة تقريباً لتأثير تعاطي الكحول. الإحساس بعدم وجود رادع أخلاقي يتعزز في الفضاء السيبراني – أو حين تتخيل عدم وجود رقابة، أو تتصور انك شخصية مجهولة، فضلاً عن الإحساس ببعد المسافة المادية عن الآخر.
ربما رأيت هذا من خلال تغير طقوس المجاملات والرسائل الإلكترونية الفاضحة، وفي العبارات الصريحة المتبادلة على مواقع التواصل الاجتماعي. إننا نشعر بالارتياح أكثر على الهواء فنتصرف بتحرر، وشجاعة، وعفوية. قد يتصرف احدنا بطريقة تلقائية وغير عقلانية، على العكس من التزمت المفروض عليه في الحياة الواقعية، ويتخلى عن كل الالتزامات ويتركها على الباب حين يدخل الفضاء السيبراني. لماذا؟
ضمن سيكولوجيا السيبرانية يسمى هذا السلوك المتهور «تأثير عدم التحفظ على الهواء»، وكان أول من طرح هذا المفهوم جون سولر، والآن أصبح منتشراً ومقبولاً على نطاق واسع من قبل الأكاديميين المختصين في هذا المجال. هناك عاملٌ آخر يؤدي دوره هنا، درسته شخصياً وكتبت عنه، «التصعيد على الهواء». إنها تركيبة مفاهيم تبين كيف يمكن للسلوك أن يتضخم على الهواء، مثلما جرّب الكثيرون منا بشأن التغيرات السلبية على أثر تلقي إيميلات فاضحة، أو نصوص فيها شيء من العدوانية، ورسائل بذيئة وتعليقات على أشياء يقصد بها إثارة الانفعال.
هذا لا يعني أن التكنولوجيا سيئة أو أنها تلحق بنا الأضرار – أو أنها سلبية من حيث الأساس. المشاكل تحصل لأننا نجهل تأثيرها. أغلب الناس لا يفهمون التأثير المحتمل لبيئة الفضاء السيبراني عليهم. يتصور البعض أن التأثير لا يختلف من مكان إلى آخر. ربما يتعرض الأفراد الذين يتصرفون باندفاع، أو يقاومون نزعة للتهور، لمثل هذا التأثير أكثر من غيرهم. لكن بسبب تصاعد شدة التأثير على الهواء، يمكن لأي شخص أن يندفع بتهور إلى سلوك آخر ومعايير جديدة.
في فصلٍ لاحق نتناول بعض الحكايات الرومانسية من الحياة السيبرانية، ونناقش الطرق الجديدة التي يتبعها الناس في عقد صداقات، وتكوين تجمعات، وإيجاد علاقات شخصية مفيدة على الهواء. لكننا في هذا الفصل سوف نستكشف تأثير التكنولوجيا على شريحة محددة من الناس، وعلى وجه التحديد أولئك الذين لديهم نوع من الانحراف في إشباع رغباتهم الجنسية – أو ما يمكن اعتباره شذوذاً. لماذا نهتم بمراقبة سلوك كيان اجتماعي محدد على الهواء؟ من خلال دراسة التأثيرات البالغة للتكنولوجيا على سلوك هامشي أو غير سوي، نرى بوضوح مضامين وتأثيرات البيئة السيبرانية علينا جميعاً. كاختصاصية في سيكولوجيا السيبرانية ضمن مجال الأدلة الجنائية، رأيتُ بنفسي كيف يتجلى هذا مرة بعد أخرى: كلما لامست التكنولوجيا نزعة كامنة في النفس البشرية، أو ميولاً محددة، ربما أدى ذلك إلى تضخم السلوك وتصعيده أكثر.
يمكن القول إن الميول ونقاط الضعف التي تشكل مصدراً للقلق في الحياة الواقعية يمكن أن تتحول إلى ما يشبه الصراع النفسي على الهواء. ذلك ينطبق على أي نوع من السلوك البشري.
إذا كانت هذه الميول عادية ولا تشكل خطراً، فإن تأثيرها يكون إلى حد ما مقبولاً. إذا أحب شخصٌ الاطلاع مثلاً على منتديات هواة الحدائق والبستنة، فلا توجد ثمة أشياء ربما تؤثر سلبياً على النفس. لكن هناك الكثير من أنواع السلوك الأكثر خطورة على الهواء، خصوصاً السلوك المرضي والإجرامي. إليكم هذا المثال الذي يوضح ما أعنيه: الشخص الذي يطارد الآخرين في العالم الواقعي يركز اهتمامه في العادة على ضحية واحدة في وقت محدد، أما من يقوم بالمطاردة والتلصص السيبراني فقد يلاحق عدة ضحايا في آنٍ واحد لأن التكنولوجيا تتيح له ذلك. تعتبر المطاردة السيبرانية تطوراً لسلوك إجرامي موجود في العالم الواقعي. الفضاء السيبراني أرضٌ خصبة لولادة مثل هذه التحولات والطفرات. وينتقل هذا السلوك من العالم الواقعي ويتصاعد أو يتسارع حين يكون على الهواء. وربما تكون له أحياناً نتائج خطيرة على العالم الواقعي.
حالة اعتداد بالنفس
كانت الأحلام تراود جوردون هاسكنز عن ضرورة تغيير حياته الرتيبة التي كان يعيشها في بلدته الصغيرة ساغيناو كاونتي، ميشيغان، بمنازلها القديمة المبعثرة هنا وهناك. وصف ذلك الرجل الشاحب الأنيق الذي في الثالثة والعشرين من العمر نفسه قائلاً إنه «لا يكاد يعرف شيئاً عن الحياة، فهو بلا عائلة، محروم من الحرية، وغير ملتزم بالدين». في صيف عام 2014، بينما كان طالباً في جامعة ماراناثا المعمدانية، صرّح لبعض الأصدقاء أنه يسعى للحصول على منصب سياسي، على أمل أن يخدم كممثل للمقاطعة 95 من ميشيغان. والتقط صورة لكي يضعها في الموقع الإلكتروني لحملته الانتخابية وبدت على وجهه أفضل ابتسامة استطاع رسمها على شفتيه، وظهرت صورته مصممة بشكل رائع على خلفية متموجة من العلم الأمريكي، ووثيقة إعلان الاستقلال، وصلبان ثلاثة ترمز للفروسية بخطوط داكنة.
قال المرشح الجمهوري إن حبه للتاريخ، والفلسفة، واللاهوت، والسياسة هو الذي دفعه لترشيح نفسه لنيل المنصب – وكان يريد أن يخدم المجتمع. لقد أدرك أخيراً أن موهبته يمكن أن تنفع الحكومة.
«أخيراً وجدت موقعي المناسب»، قال، «وجدت ما اطمح إليه».
لكن كانت لديه طموحات أخرى، كما اتضح لاحقاً. وقبل أن تبدأ حملته، وجد نفسه مضطراً للكشف عن سجله الإجرامي. وسرعان ما تبين أنه اتهم سابقاً وأدين بارتكاب أربعة اعتداءات وتجاوزات على الملكية الشخصية والعامة والاستخدام غير المشروع لسيارات حكومية خلال مدة عشرة أشهر بين سنتي 2010 و2011.
حين استجوبته الشرطة بعد اعتقاله، اعترف هاسكنز بأنه تسلل مرتين إلى ساحة إحدى الدوائر الحكومية حيث وجد سيارة وطرّاد للمأمور وقام بالعبث في أسلاك شمعات القدح وتسريب هواء الإطارات، وجلس في المقعد الأمامي للسيارة، وكان يمارس العادة السرية أثناء الإصغاء إلى صوت المحرك.
يسمى هذا السلوك «الاعتداد بالنفس» كما قال هو نفسه موضحاً للشرطة. وحُكم عليه بالسجن لمدة سنة وثمانية أشهر في 2011. وقد طبق عليه إطلاق السراح المشروط قبل احد عشر يوماً من الانتخابات. «كنت في حالة ذهنية وعاطفية مزرية حين فعلت ما فعلت»، قال المرشح لوسائل الإعلام المحلية لما سألوه سنة 2014 عن القضايا التي أدين بها. «تلك هي الطريقة الوحيدة التي بإمكاني بها تفسير الأمر».
الاعتداد بالنفس؟ ما الذي دفعه لأن يقفز على السياج نحو كراج سيارات قسم الشرطة، ويفتح باب إحدى السيارات، وباقي الأشياء التي فعلها…
«الأمر يتعلق فقط بالرغبة في المرح وحب المجازفة والإثارة»، قال هاسكنز.
«وكيف اكتشفت هذا السلوك المستهجن؟».
«قرأتُ عنه في الإنترنت».
تشريح التعويذة
خلف محلات نيو ايج ومتاجر الهيبيين، بالقرب من محلات بيع العطور والبخور والأعشاب الطبية، يلمح المرءُ رفوفاً عليها منحوتات صغيرة معروضة للبيع. إنها مستوحاة من معتقدات روحانية أمريكية قديمة وثقافات دينية من غرب أفريقيا، هذه التماثيل الصغيرة أو “التعويذات” التي تتخذ أشكال حيوانات يعتقد أنها ذات قدرات غير طبيعية، وتكمن فيها طاقات خارقة، وبإمكانها أن تجعلك تتواصل بالأرواح – أو ببساطة تجلب لك حسن الحظ. كل واحدة من هذه الأشياء تعتبر ذات إيحاءات بما يتناسب مع معتقدات المرء.
يُنسب استخدام كلمة “تعويذة” للتعبير عن رمز محفز للإثارة الجنسية إلى عالم النفس الفرنسي الفريد بنيت، الذي كان أول من ابتكر اختبارات الذكاء. في الاستعمال العادي، يتضمن مفهوم التعويذة بصورة عامة دافعاً شديداً أو رغبة جامحة بإزاء سلوك أو نشاط محدد. المرأة ربما تقول بجذل، “لدي حذاء اعتبره تعويذة”، وتقصد بذلك الإيحاء بأنها أنفقت مقداراً لا يتناسب مع دخلها على الأحذية. والرجل ربما يقول إن كعب الحذاء العالي الذي يشبه الخنجر يثير في نفسه الرغبات. في حقيقة الأمر، كثيراً ما تكون الأقدام وما يرتبط بها من الأشياء الشائعة التي ترتبط بإيحاءات جنسية. في المجال السيكولوجي، يركز هذا النوع من اضطرابات الصحة العقلية على اللجوء إلى أشياء جامدة باعتبارها مصدراً يوحي بإشباع الرغبة.
ما الذي يدفع المرء لمثل هذه الأوهام في المقام الأول؟ يقول سيغموند فرويد في مقاله الشهير لسنة 1927 إن استخدام الأشياء الجامدة وإعطائها معنى جنسياً كان نتيجة لتطور مكبوت في الجانب السيكولوجي المرتبط بالجنس. كتب فرويد يقول: «حين أعلن الآن أن استخدام شيء جامد ليكون بديلاً عن العضو التناسلي، فأنا حتماً أتسبب في إحباط بعض الناس؛ لذلك سوف أسارع فأقول إنه ليس بديلاً لأي عضو، وإنما هو بديل لعضو محدد كان يعتبر مهماً جداً في الطفولة المبكرة لكنه اختفى لاحقاً…».
من المثير أن فرويد كان يعتقد بأن هيمنة القدم والحذاء كأشياء ذات إيحاءات مرتبطة بالحالة الجنسية بالإمكان تفسيرها من خلال ذكريات الطفل الأولى عندما كان يزحف على الأرض وينظر من تحت إلى تنورة إحدى النساء.
تعرضت وجهات نظر فرويد ونظرياته للكثير من الانتقادات. العديد من علماء السيكولوجيا المعاصرين يتشككون في اتجاهه ضمن الطب العقلي، وتحليلاته النفسية، ونأوا بأنفسهم عنها. لكني كنت أعطي قيمة كبيرة لعمل فرويد لأن ذلك غالباً ما يساعدني في توضيح مسائل سلوكية معقدة، في هذه الأيام تطورت نظرية التحليل النفسي وتجاوزت أفكار فرويد. هناك اتجاهات معاصرة في التحليل النفسي تطرح تفسيرات مختلفة لاتخاذ «تعويذات» يؤمن بقدراتها البعض، تصف كيف أنها يمكن أن تحقق للأفراد على نحو ما الإحساس بالتماسك النفسي. ولكن بصورة عامة، هناك مدارس سيكولوجية أخرى الآن تعارض كل هذا، ابتداء من نظرية جان بياجيه عن التطور الإدراكي إلى نظرية ايريك ايركسون عن التطور الاجتماعي السيكولوجي. ويوجد كذلك اهتمام كبير في الوقت الحاضر بالنواحي السيكولوجية البيولوجية، وكيف تؤثر المرسلات العصبية في الدماغ على سلوكنا.
أعتقد أن فرويد لو كان حياً اليوم ربما لن يهتم كثيراً بتأثير التكنولوجيا على البشر، لأنه قال مرة إن الدوافع الجنسية تشكل جذور معظم أشكال السلوك، وأنا على ثقة من أنه سوف ينظر إلى الدوافع الجنسية باعتبارها تساهم في بعض أشكال السلوك السيبراني.
هل الدافع الجنسي يقف وراء كل أشكال الشذوذ؟ حتى فرويد نفسه يُزعم أنه قال ذات مرة، «أحياناً السيجار هو مجرد سيجار».
ومع ذلك يبدو أن تجارب الطفولة يمكن أن تفسر بعض أشكال التعويذات. مثلما كتب عالم النفس روبرت كروكز والمعالجة النفسية كارلا باور في كتابهما المنهجي (حياتنا الجنسية)، قد يربط الصبي الإثارة بأشياء لها علاقة بشخصٍ مهم من الناحية العاطفية بالنسبة إليه.(8) يشار إلى هذه العلاقة أحياناً بأنها «تحول رمزي»، حيث يُمنح موضوع أو شيء مادي له أهمية إيحائية خاصة في الخيال قدرة أو جوهراً لمن يملكه. في التحليل النفسي المعاصر يتحول ذلك الشيء المادي إلى «موضوع ذاتي»، أو يرمز إلى الآخر المهم – ربما احد الأبوين.
يقول بعض الخبراء إن التعلق بأشياء مادية ذات إيحاءات جنسية أو التعويذات يحمل بعض التشابه مع الوسواس القسري. ومثلما يحصل في الوسواس القسري OCD، حين يرسخ في النفس، تتحول التعويذة وإيحاءاتها إلى رغبة يصعب التخلي عنها – أو إلى سلوك لا يقاوم. يرى علماء النفس في العصر الحديث أن التكيف في العادة يقوي قدرات وإيحاءات الأشياء التي يتعلق بها الشواذ. مثل الكلاب الشهيرة لعالم الفسلجة الروسي ايفان بافلوف التي كان يسيل لعابها كلما رأت مساعد بافلوف في المختبر، لأنها تتوقع منه أن يقدم لها الطعام، هناك توقع الحصول على مكافأة حين ننظر إلى إيحاءات الشيء المادي أو نفكر في السلوك المرتبط به. في حالة هاسكنز المتباهي، اتضح أنه اعتقل عدة مرات في فترة الصبا على سرقة السيارات وسياقتها بتهور، ولعل هذه كانت من التجارب المثيرة التي أراد دائماً الرجوع إليها. كلما سرق سيارة، يمنحه سلوكه مكافأة – مما يعزز ويقوي تعويذته وإيحاءاتها. كلما زادت خطورة التصرفات التي يفعلها المرء في الاعتداد بالنفس، ترسخ ذلك السلوك في أعماقه. على هذا النحو يحصل التكيف.
إن تزايد أعداد المواقع الإلكترونية التي تهتم بالأشياء الجامدة ذات الإيحاءات الجنسية التي يعشقها بعض الشواذ من الناس ومنها السيارات، (مثل موقع pedalsupreme.com، الذي يقدم صوراً لـ «دواسة البنزين، عمود مرفق المحرك، وصوراً وأشرطة فيديو للساق والقدم») يدل على أن هذا الحالة في تصاعد مستمر. هناك أيضاً قناة يوتوب، pumpthatpedaldotcom، تمنح فرصاً لتحميل مواد جديدة كل أسبوع. بحسب عالمة سيكولوجيا الحياة الجنسية د. سوزان بلوك، هناك تفسير سيكولوجي محتمل لهذا السلوك وهو أن «صوت المحرك يذكرهم بغرائزهم الشهوانية».
يمكن أن تصنع التعويذة ذات الإيحاءات في المختبر أيضاً. في إحدى التجارب الكلاسيكية حول التكيف تم إخضاع مجموعة من الذكور لتجربة في المختبر، حيث عرضت عليهم صور نساء مغريات. وبين فترة وأخرى، تظهر صورة حذاء نسائي بين تلك الصور. بعد وقت قصير أحس بعض الرجال بالإثارة لرؤية صور الأحذية وحدها، وبمرور الزمن كانوا يستجيبون لصور أنواع أخرى من أحذية النساء. إذا كان يمكن أن تستخدم صورة زوج من الأحذية النسائية بهذه السهولة للإثارة، تخيل كيف أن الإنترنت بمستودعاته التي لا تنتهي من الصور بالإمكان أن تثير، وتغرس في النفس، وتحافظ على إيحاءات أشياء جامدة.
ذلك يجعلنا نرجع مرة أخرى إلى حكاية جوردون هاسكنز، الذي خسر الانتخابات عن المقاطعة 95 بعد أن انتقلت قصته كالفيروسات – وأصبحت موضوعاً للانتقاد والانبهار. «ربما لا تحترم سياساتي، أو أفكاري، لكن عليك على الأقل احترامي كانسان»، قال هاسكنز. «لكني لا أعتقد أن الكثير من الناس يحترمونني».
السياسيون والشذوذ
كانت أنواع من السلوك الجنسي غير السوي تسمى ذات مرة “منحرفة” أو “فاسدة”، حتى في المجالات الطبية. منذ وقتٍ ليس بالبعيد، انتشر مصطلح اقل قسوة واتهاماً هو “الشذوذ” لوصف بعض التصرفات غير السوية التي ترتبط بالتعلق بأشياء جامدة ذات إيحاءات جنسية. يعني الشذوذ “تجاوز الحد الاعتيادي أو المثالي”. ويتضمن هذا تلميحاً إلى حقيقة أن هذه السلوكيات لا علاقة لها بالحب الرومانسي التقليدي. إذا نظرنا إلى العدد الهائل للمواقع الإلكترونية التي تهتم بالشذوذ، ربما نستنتج أن السلوك غير السوي صار ظاهرة شائعة أكثر.
لن يضطر المرء للبحث كثيراً عن أمثلة من الحياة العادية للناس، الذين مثل جوردون هاسكنز، كانت لديهم أشياء كثيرة يخافون عليها – وقد خسروها بالفعل – حين أصبح سلوكهم الشاذ والمستهجن مفضوحاً. أتذكر الآن عضو الكونغرس الأمريكي انطوني واينر وصوره الفوتوغرافية الفاضحة التي كان يرسلها إلى نساء يلتقي بهن على الهواء ولا يتوقعن منه ذلك. وأتذكر السيناتور الأمريكي ديفيد فيتر ومطالبته باستخدام حفاضات الأطفال، الأمر الذي يتطلب تشغيل نساء مبتذلات. وأتذكر حاكم نيويورك اليوت سبايتزر، الذي كان يصرّ على ارتداء جوارب سوداء طويلة حين كان يغازل الفتيات. يبدو من المستغرب أن تبقى علاقات الزوجية لهؤلاء السياسيين سليمة حتى بعد تسليط الأضواء على شذوذهم. لكن الممثل ديفيد كاراداين، الذي وجد مشنوقاً داخل خزانة في غرفة احد الفنادق، لم يكن محظوظاً. حسب قول زوجته السابقة، كان يمر بحالة خطيرة من الإحساس بالنشوة إذا تعرض للاختناق، تضمنت ممارسات تعيق وصول الأوكسجين إلى الدماغ للإحساس بالإثارة.
تصنف أنواع الشذوذ في (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية)، الطبعة الخامسة، الذي يسمى اختصاراً DSM-5 – وهي احدث نسخة للتصنيف القياسي للاضطرابات العقلية يستخدمها المختصون بالصحة العقلية في أنحاء العالم – إلى ثمانية اضطرابات رئيسية: افتضاحي، عشق التعويذات، سحاقي، حب الأطفال، مازوخية، سادية، انحراف الملبس، التلصص على النساء. ربما ليس من الصعب على القارئ تخيل السلوك الذي تدل عليه أغلب هذه المصطلحات، حتى المفاهيم الطبية دخلت ضمن كلامنا العادي، ربما باستثناء السحاق، وفيه يستمد الشخص المتعة أو إشباع الرغبة من حك جلده، أو عورته، مع شخص آخر – ربما وسط حشد من الناس (سبب جيد يدعو المرء لتجنب الزحام).
من بين الاضطرابات الثمانية أعلاه، ربما كان أكثرها انتشاراً «المنحرف الملبس»، ويشير إلى الشخص الذي يشبع رغبته الجنسية بلبس ثياب الجنس الآخر؛ وكذلك الاضطراب الافتضاحي، وهو سلوك يمارسه شخص متهتك يظهر عورته لأشخاص غرباء لا يتوقعون منه ذلك التصرف؛ والتلصص على الآخرين، وهو مصطلح طبي لممارسة تسمى «توم المتلصص» أي الشخص الذي يتلصص خلسة على نساء عاريات؛ وأخيراً، وهو الأكثر إزعاجاً، حب الأطفال، يصف الشخص الذي يُشبع نزواته الشاذة بمداعبة الأطفال.
ربما تتجمع بعض هذه الاضطرابات لدى شخصٍ واحد، مما يعني أن الفرد يمكن أن يكون لديه أكثر من حالة شذوذ. وليس من المستغرب أن نجد عشق الأشياء الجامدة ذات الإيحاءات الجنسية، وارتداء ملابس الجنس الآخر، والمازوخية السادية معاً.
هناك عشرات الأنواع الأخرى من الشذوذ التي وصفها الباحثون – تتفاوت من الإغراء الجنسي البسيط إلى بتر الأعضاء، والانجذاب للموتى، والانجذاب للحوامل، والدمى المحشوة والشخصيات الكرتونية التي يجدها المرء في مدن الألعاب. من أكثر الأشياء ذات الإيحاءات الجنسية الشاذة شيوعاً الأحذية، وأشياء أخرى من الجلد والمطاط، والملابس الداخلية للنساء.
كيف يكون هذا شذوذاً؟ هل كان جوردون هاسكنز مجرد شخص عادي تراوده أحلام وطموحات سياسية وقاده فضوله على الهواء لاحقاً إلى وكرٍ سيكولوجي مظلم؟
مثل الكثير من أنواع الشذوذ، ربما توجد التعويذة ذات الإيحاءات الجنسية لدى الكثير من الناس، مع اختلافات في درجاتها – فتكون على شكل ميول يجري التعبير عنها في فترات متباعدة – أو سلوكيات منتظمة تنفجر بقوة. ويشاهد الكثير من الناس أو يجرّب بعضهم أنواعاً معتدلة من هذه النزوات أو «الاهتمامات» (حسب الوصف الدقيق للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية DSM-5)، مع أنها ربما لا توجد إلا في مخيلة هؤلاء الأشخاص. إذا كان لدى الفرد تعويذة محددة ويعبر عن شذوذه مع شريك آخر مستعد لذلك، أو يدمج السلوك في نشاط جنسي اعتيادي، فلا يعتبر هذا اضطراباً.
أكثر حالات التعلق بالتعويذات وإيحاءاتها الشاذة ربما لا تكون مؤذية للآخرين، لكن ربما ترتبت عليها تبعات قانونية. من المثير للاهتمام، أن الجريمة التي ترتبط أكثر من غيرها مع هذا السلوك هي السرقة – يرتكبها شخصٌ يريد إشباع نزواته بشيء مادي له إيحاءات جنسية، مثل حمالة صدر امرأة أو ملابسها الداخلية، أو يقتحم منزلاً مجاوراً ليسرق تلك الأشياء. على نفس النحو، لم يكن السبب الذي جعل جوردون هاسكنز ينتهي إلى السجن هو التباهي والاعتداد بالنفس؛ وإنما التجاوز على ممتلكات الغير وخلع شمعات القدح من محرك السيارة، الأمر الذي الحق الضرر بممتلكات حكومية. كانت التهمة التي وجهت إليه على وجه التحديد «الاستعمال غير المشروع لعجلة وتشغيل محركها».
ربما تتحول إيحاءات التعويذة إلى اضطراب إذا أثارت خيالات وهواجس متكررة أو اجبر الغير على المشاركة في حالة شاذة. عندئذ يعتبر ذلك سلوكاً يتضمن نوعاً من المتاعب في علاقة ما وربما يتفاقم الأمر فيصبح غير مسيطر عليه أو مدمراً للذات. بمصطلحات طبية، يتلخص الاختلاف بين الرغبة الجنسية العادية والميول التي تشخص على أنها منحرفة في كلمة واحدة: التعاسة.
إذا تم تشخيص الأمر على أنه حالة من حالات الشذوذ، فلا بد للمرء أن:
– يشعر بالحزن والقلق على نفسه ومصلحته الشخصية، وليس مجرد قلق ناتج عن رفض المجتمع له أو رفض أشخاص مهمين آخرين؛
أو:
– لديه رغبة شاذة أو سلوك يتضمن الحزن والقلق سيكولوجياً على شخص آخر، أو من احتمال تعرضه للأذى، أو الموت، أو رغبة في سلوكيات شاذة يشارك فيها أشخاصٌ رغم إرادتهم أو عاجزون عن إعطاء موافقة شرعية.
كثيراً ما تأتيني استفسارات عن السبب الذي يجعل بعض السياسيين والمشاهير يستسلمون لهذا النوع من السلوكيات ويمارسونها بإصرار واضح. وجوابي أن الشخصيات العامة التي تعمل ضمن مجالات يتحقق بها النجاح من خلال كثرة الظهور على الهواء يكونون مكشوفين ومراقبين أكثر من غيرهم. حين تقف على خشبة المسرح هناك جمهور من الناس يراقبونك ويرون كيف تتصرف. أعتقد أن تلك المحاولات من المشاهير تعكس ببساطة رغبات الكثير من الناس. إلا أن التكنولوجيا يمكن أن تجعل من الصعب على الإنسان التحكم بنزواته وربما تسهم في تفاقم السلوك الذي يؤدي إلى المشاكل.
تأليف: ماري آيكن
ترجمة: مصطفى ناصر
الفئة: تربية
المقاس: 17 × 24 سنتم
عدد الصفحات: 448
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون