الحزب السوري القومي الاجتماعي… من النازيّة إلى الأسديّة/ محمد أمير ناشر النعم
في ظلّ الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع، لم يعرف معظم أفراد الشعب السوري شيئاً عن “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، بل لم يسمع باسمه كثير منهم، إلى أن قيّض الله لهذا الشعب المهمّش مسلسل “حمّام القيشاني” بأجزائه الخمسة، الذي تناول عرض حياة الأحزاب السياسية السورية في فترة تشكّلها في الأربعينات.
بُثَّ الجزء الأول في سنة 1994، والجزء الخامس في سنة 2003. يومها تعرّف الشعب السوري هذا الحزب من خلال شخصية سهام التي مثّلتها أولاً أمل عرفة في أجزائه الثلاثة، وبرعت في أداء الشخصية أيَّما براعة، ثم ديما الجندي في جزأيه الأخيرين، ومن خلال شخصيّة الضابط القومي السوري فارس سليم، الذي أدّاه بإقناع وتمكّن الممثِّل عباس النوري.
سيتخلّق هذا الحزب منذ هذه الإطلالة، بشبّانه الوِسَام، وفتياته الجميلات الأنيقات، نقياً رومنسياً حالماً.
وسوف يتمنى كثير من الشبّان والشابّات الانتساب إليه، وسيسعون للاطلّاع على تراثه، ووثائقه وأدبيّاته، وسيكتشفون ألمعيّة مؤسّسه، وشمول فكره، لكن ستدرك فئة منهم، أن ورطة المؤسّس كانت في هذه الألمعيّة التي تاهت به ما بين حدود السياسة والفلسفة والاجتماع والدّين والنقد الأدبي، حتى غدا كأنه نبيٌّ قوميٌّ حديث، مطلوب منه أن يُقدّم نظريّة تسعى لتفسير كل شيء، وتتدخّل في كل شيء! ولن يخطئ بصرهم تلك المسحة النبوية التي تمظهر بها المؤسّس، فـ “المسيحية ابتدأت بفرد، وكذلك المحمدية، وكذلك القومية الاجتماعية”، ولا ذلك الاختيار للمصطلحات والرتب التي تفتّق عنها ذهنه، فهو يسمِّي نفسه في الدستور الذي كتبه بـ “الشارع” أسوةً بالاستخدام الأصولي والفقهي الذي يُطلق في العادة على الله أو النبي بوصفهما مصدري الشريعة والتشريع، ويطلِق على نفسه كذلك لقب “صاحب الدعوة”، وعلى أتباعه لقب “معتنقي الدعوة”، ويتحدّث عن “العقيدة القومية”، ويطلق لقب “الناموس” على متولّي مهمّة “السكرتير”، وسيلاحظون ذلك التغنّي بالشهادة والشهداء الذين قدّمهم الحزب، وسيشعرون أنهم يقرؤون كتاب علي سامي النشار: “شهداء الإسلام في عهد النبوة”.
لن يخطئ نظرهم كذلك تلك المسحة بل الدمغة الديكتاتورية المثبتة في أول سطر في دستور الحزب التي تنصّ على أبدية زعامة المؤسِّس للحزب مدى الحياة، وسيلحظون في الفقرات التالية كونه القائد الأعلى لقوّات الجيش، وأنه بالحرف الواحد: “مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية”!
وسيقرؤون تلك المقالات التي تبرهن أن هذا الحزب ما هو إلا نسخة عربية من الحزب النازي، أو سوف يكتشفون ذلك بأنفسهم حين يطابقون بينهما في كل شيء، بدءاً من التسمية، والرؤية، والمنطلقات، والمبادئ، والشعار، ومركزية الزعيم، وتفوّق السلالة “الألمانية، والسورية”، ومعاداة اليهود، وسيقرأون عن زيارة الزعيم في سنة 1938 لروما، وبقائه فيها لمدّة شهرين، ثم زيارته لبرلين، واجتماعه مع بعض قادة الحزب النازي.
لكن المتتبّع من هؤلاء الشباب سيقرأ أيضاً ردود أنطون سعادة نفسه، وردود حزبه على هذه التهمة، وسيقتنع بها بعضهم، وسيبقى منها شيء في نفوس بعض آخر.
وسنسلّم جدلاً بنفي هذه التهمة، وسنضرب صفحاً عنها، لأن المسار التاريخي لهذا الحزب أثبت فعلاً أنه تجاوز الفاشية والنازية، والتحق بركب البعثية الأسديّة، من دون أن يشعر بأي وخز في مبادئه أو أخلاقه! ومن غير أن تصدّه أي معوّقات من ضميره.
ورغم أن حافظ الأسد حاصر هذا الحزب لمدّة ثلاثين سنة، فإن الفرع اللّبناني عقد عهداً وحلفاً معه يحاكي حلف فاوست مع الشيطان، بكل لوازمه واستتباعاته، بما فيها مدّ اليد لحزب الله القائم على خلط الدّين بالسياسة من جهة، وعلى الولاء لدولة أجنبية خارج إطار “السورية”، بل و”العروبة” من جهة أخرى، تحت ذريعة النضال المشترك ضد إسرائيل الباغية المعتدية، أو التحالف مع إيلي حبيقة مجرم صبرا وشاتيلا، لأنه فقط غدا حليف الأسد بعد تلك المجزرة المروّعة. ناهيكم عن التحالف مع القذافي النموذج الأبرز لكل معرّة ونقيصة.
وسينتظر هذا الحزب موت حافظ الأسد ليُتاح له لأوّل مرة أن يغدو مجرّد عضو مراقب في الجبهة الوطنية التقدّمية في سنة 2001، ثم لتتاح له الشرعية في سنة 2005، وما كان للنظام أن يقدّم هذا التنازل لولا الزلزال الذي تعرّض له بعد مقتل الحريري، وخروج الجيش الأسدي من لبنان.
ولا أدري إن كان أعضاء هذا الحزب يؤمنون بالتناسخ، لأنه يبدو أن روح حافظ الأسد حلّت فيه، بعيد وفاته مباشرة، وسوف يتقمّصها الحزب ويدّرعها، ويتسربلها، وسوف ينتقل في اختيار أعضائه من الكيف إلى الكمّ في تتبّع حرفي لخطوات البعث في اختياره، ليحكي انتفاخاً صولة الأسد، وعندما سيصدر قانون التعدّدية الحزبية في 2012، والذي سينصّ على منع أن يكون لأي حزب سياسي فصائل مقاتلة، سيشمس حزبان فقط، وسيرفضان الانصياع للقانون: البعث الذي سيشكّل “كتائب البعث”، والسوري القومي الاجتماعي الذي سيشكل “نسور الزوبعة”، وستتحاذى صورتا سعادة والأسد، لتحكيا عن التصافي الذي انتسج بينهما، وانتهج عندهما.
وسينخرط الزوبعيون والبعثيون في معارك الجيش الأسدي ضد الجيش الحر الممثّل الوحيد لثورة الشعب السوري، في وقت لم يكن ثمة فصائل مسلّحة إسلامية، ثم برفقة الكتائب والألوية والفرق الأمميّة التقدّمية التحرّرية من إيران وأفغانستان وباكستان والعراق ولبنان: “حزب الله”، و”فاطميون”، و”زينبيون”، “وأبو الفضل العباس”، و”سرايا طليعة الخراساني”، و”حركة النجباء”، و”جيش الإمام المهدي”، و”لواء اليوم الموعود”، و”عصائب أهل الحق”، و”لواء أسد الله الغالب”، و”ولواء ذو الفقار”، و”كفيل زينب”، إلخ. برفقة كل هؤلاء سيقاتلون ويتصدّون للفصائل الإسلامية الظلامية الرجعية المتحجّرة المتفجّرة، وفي غمرة هجومهم على هذا التوحّش (الإسلامي العدمي)، سيدافعون عن توحّش أفظع وأفدح (البعثي الأسدي).
وسيضخّ الزوبعيون في لائحة أسماء شهداء الحزب القدامى أسماء معاصرة غضّة طريّة، لشباب لم يقرؤوا يوماً كتاباً للزعيم، ولا حتّى مذكّرات الأمينة الأولى جوليت ألمير! شهداء في سبيل إقامة “مزيج سلالي متجانس”، يصطفي “السلالة الثقافية”، ويخلّصنا من “السلالة المنحطّة”، كما نظّر لذلك الزعيم في يوم ما في “نشوء الأمم”.
لقد كانت سعادة السوريين القوميين لا تدانيها سعادة حين سمعوا بشار الأسد “يقتبس” عن الزعيم سعادة، ويتكلّم عن مفهوم “التجانس”، ويتبنّاه، بغضّ النظر عن وسائل تحقيقه الكلاسيكية من تهجير وتشريد، والمبتكرة من كيماوي وبراميل وصواريخ.
وفي7 آب/أغسطس 2018، سيكثّف الزوبعيون مجد اللّحظة الحاضرة! وسيقبضون في السويداء على شخص قيل إنه من داعش وكان يستعد لتفجير نفسه. سيسوقونه إلى الساحة الرئيسية في المدينة عند القوس الروماني التاريخي، وسيعود هؤلاء العناصر إلى ما قبل العهد الروماني، إلى عهد الإله الكنعاني “مولوخ” إله القرابين البشرية المحاط بعظام الموتى، وسيحتفلون بأسراره المخيفة، في كوكتيل من سلطان الكهنوت الدموي، والحركة القومية، والنزعة العلمانية، وسيرفعون هذا الداعشي البائس إلى أعلى القوس، وسيعلّقون الحبل في رقبته، ثم سيرمونه من القوس المرتفع، وسط الصراخ والتصفيق والصفير لمجموعات فضولية محتشدة ساقتها غريزة القطيع وحب الفرجة، ثم سيقتربون من المشنوق، من دون أن يستبينوا موته، وسيمزّقون بطنه بالحراب، وستندلق مصارينه وأمعاؤه، وهو يتأرجح يمنة ويسرة، ثم سيغرزون في البطن المشقوق علم الزوبعة بزواياها الأربع التي ترمز إلى: “الواجب ــ النظام ــ القوة ــ الحرية”، وسيرقصون للإله مولوخ، الذي سيرضى عنهم بكل تأكيد. وبعد ساعة من ذلك سينزلون الجثة، وسيحزّون رأسها حزاً إلى أن يفصلوها عن الجسد، وسيمدّدون الجسد، وسيضعون الرأس فوقه، وسيصبون عليه، في حفلتهم المناقبية، المازوت والبنزين، وسيضرمون النار في الجثة! وفي هذه الأثناء سيعمد بعضهم إلى نزع أحزمة بنطالاتهم، وسيتابعون بكامل الحماسة والعنفوان جلد الجثة التي كانت في تلك اللّحظات تحترق وتطقطق.
لقد افتخر الزعيم سعادة بأنه أولّ من أدخل كلمة “مناقبية” في الاستخدام العربي المعاصر، ولكنه ما كان ليفتخر بمناقبية الزوبعيين اليوم، ولا بتمثّلهم للروح البعثية الأسدية، ولا بتشبّههم بهم، ولا بتكثير سوادهم.
يقول الكتاب المقدس: “لقد حملتم خيمة مولوخ، وكوكب إلهكم ريفان، وهما التمثالان اللّذان صنعتموهما لتسجدوا لهما، لذا سأجليكم إلى وراء بابل” أعمال الرسل 7: 43.
كاتب سوري
درج