حدود التفويض الدولي لروسيا في سورية/ منير شحّود
مرّت السياسة الروسية “المسلحة” في سورية بمحطات كثيرة، منذ بدء التدخل العسكري الجوي خريف عام 2015، وكان عليها أن تُرضي أو تُنافس أو تُزيح مختلف القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في القضية السورية التي خرجت من أيدي السوريين على نحوٍ شبه نهائي. في ذلك، لم تكن روسيا مطلقة الحرية، ولا مقيَّدة، وكان عليها المرور عبر مطبّات دبلوماسية وعسكرية، لم تخلُ من أحداثٍ حرجة، مثل إسقاط تركيا الطائرة الحربية الروسية نهاية عام 2015، والضربة العسكرية الأميركية لقوات روسية شبه نظامية في مدينة دير الزور في فبراير/ شباط 2018.
بدخولها إلى سورية، استهدفت روسيا أساسًا المعارضة السورية المسلحة، و”الخلطة” الجهادية المرافقة، إلى جانب الضغط على الدول الإقليمية الداعمة، بخاصةً تركيا. ومثّل ذلك نقلًا لمركز التحكّم بالملفّ السوري من المستوى الإقليمي إلى المستوى الدولي، خطوة متقدّمة لإخراج سورية من التجاذبات الإقليمية المذهبية، السنية – الشيعية. لكن أهم ما حقّقته السياسة الروسية النشطة هو جمع الدولتين المتنافستين الرئيستين في سورية، تركيا وإيران، في مؤتمرات تحالف “أستانة” ومن ثم “سوتشي”، مستغلّةً العلاقات الصعبة لهاتين الدولتين مع الولايات المتحدة، ثم تحوّلت روسيا، بمساعدة إسرائيل، إلى الضغط على حليفتها إيران، وإزاحتها إلى خلفية المشهد.
وإلى جانب التدخل في كل شاردة وواردة في سورية، وتوقيع اتفاقياتٍ عديدة تغطي حيزًا واسعًا من الأنشطة الاقتصادية، تابعت روسيا ملفات الوجود المسلّح المعارض والقوى المصنَّفة إرهابيةً، وتوقّفت حاليًا على حدود إدلب، المحطة الأخيرة في هذا الصدد، وأمهلت تركيا حتى السابع من سبتمبر/ أيلول المقبل، موعد انعقاد القمة الرباعية، الروسية – الفرنسية – الألمانية – التركية، لمعالجة موضوع المسلحين والسلاح في هذه المحافظة.
لا يمكن لتركيا الإفلات من القبضة الروسية بسهولة، وعليها تنفيذ التزاماتها المُتَّفق عليها في مؤتمرات أستانة، وقد باشرت العمل بالفعل على تنظيم العمل المسلح، من خلال توحيد معظم الفصائل، واستقدام قوات عسكرية جديدة، لفرض إجراءاتها هذه إن اقتضى الأمر، وبقي عليها معالجة موضوع جبهة النصرة، العقدة الشائكة في هذا المجال. يحدث ذلك في وقتٍ تمرّ فيه العلاقات الأميركية – التركية بمنعطفٍ حرجٍ آخر، بعد العقوبات الأميركية الأخيرة بحق وزيري العدل والداخلية التركيين، بسبب استمرار السلطات التركية باعتقال القس الأميركي، أندرو برونسون، أعقب ذلك حدوث انهيار جديد في قيمة العملة التركية.
من ناحيةٍ أخرى، نشطت الدبلوماسية الروسية في موضوع إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، واقترحت على الولايات المتحدة التعاون في هذا الشأن، وفي إعادة إعمار سورية، وذلك بُعيد انتهاء القمة الروسية – الأميركية في هلسنكي أواسط الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، في محاولة منها لاستغلال أجواء الانفراج التي رافقت انعقاد القمة. في هذا الصّدد، أعلنت روسيا عن افتتاح عشرة مراكز لاستقبال اللاجئين العائدين، وتقديم المساعدات لهم وضمان عدم ملاحقة السلطات الأمنية السورية لهم.
كما وصل الدور الروسي إلى حدود الجولان، حيث تساعد الشرطة العسكرية الروسية قوات الأمم المتحدة على استعادة مهامها على خط الهدنة، فضلًا عن إجراء مفاوضات مع قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ما يوحي بتسلُّم هذا الملفّ من الولايات المتحدة بعد قمة هلسنكي. من جانبٍ آخر، ووفقًا لمرجع ديني درزي، تتفاوض روسيا مع “داعش” لإطلاق سراح مخطوفات السويداء.
يمكن القول إن روسيا تحاول تدشين “عصر روسي” جديد في سورية، يتجاوز، إلى حدّ كبير، المستوى الذي وصلت إليه العلاقات في العهد السوفييتي، وإقناع الأوروبيين والأميركيين بأنها انتصرت في سورية، وعليهم التعاون معها، في حين يصرّ الغرب على ضرورة البدء بعملية الانتقال السياسية، قبل البحث في موضوعي عودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
مهما يكن، لم يكن ليصل الدور الروسي إلى هذا المستوى من الهيمنة في سورية، لولا الضوء
الأخضر المُعطى من القوى الفاعلة، في مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل، وسيسحب هذا التفويض، جزئيًا على الأقل، ما إن تنتهي مرحلة تنظيم السلاح المليشياوي واستيعاب المجموعات المسلحة، الموالية والمعارضة، باستثناء ما انضوى منها تحت الهيمنة الروسية المباشرة، وساهم في مشروعها الخاصّ لإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية على طريقتها. وحتى لو لم يكن ثمة اتفاق بشأن هذه المهمة الروسية، فإنّ الرغبة الروسية الجامحة لبسط النفوذ في شرق المتوسط تساوقت مع الرغبة الأميركية في عدم الغرق في المستنقع السوري، والاكتفاء بإدارة الأزمة عبر وسطاء آخرين، فيما كانت إسرائيل ممتنّة لحليفها الروسي الذي لم تختلف معه يومًا طوال هذه السنوات السورية العِجاف، وتحبّ أن ترى سورية في أضعف صورة ممكنة، بحيث تصبح المطالبة بعودة الجولان يومًا ما نسيًا منسيًّا.
واضح أنّ هدف السياسة الروسية على المدى القريب إعادة إنتاج النظام وتحديثه بصورة ما، من خلال بعض التعديلات الدستورية التي لا بدّ أن تتمخّض عن درجة محدّدة من الحوكمة وإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية. ومن نافل القول بأن عودة النظام إلى صورته السابقة باتت شبه مستحيلة بفعل حركيات التغيير التاريخية المستمرة في سورية والمنطقة ككل.
وربما تجد روسيا نفسها في مأزقٍ حقيقي بعد انتهاء العمليات العسكرية، فلا هي قادرة على استكمال عملية ديمقراطية حقيقية لا تمتلك مفاتيحها أصلًا، ولا هي قادرة على دفع التكاليف الهائلة لإعادة الإعمار. العامل الغائب هنا هو العامل الداخلي، الذي قد يظهر فجأةً وبقوة بعد انتهاء الحرب، ويجبر الجميع على إعادة حساباتهم، مدفوعًا بمجمل الأوضاع البائسة وخيبات الأمل في المناطق جميعها، ما قد يفجِّر احتجاجاتٍ يصعب التنبؤ بمداها وعمقها.
العربي الجديد