هل نفقد العُمق أثناء القراءة الرقمية؟
هل يستوعب الطلّاب كثيراً من الأشياء عندما يقرأون من مصادر رقمية مثلما هي الحال عندما يقرأون من مصادر ورقية مطبوعة؟
بالنسبة إلى الوالدين والمعلّمين على حد سواء، فإن معرفة ما إذا كانت وسائل الإعلام القائمة على استخدام الحاسوب تُحسّن العملية التعليمية أو تُضعفها، هي مسألة تثير القلق. فمع تزايد شعبية الكتب الإلكترونية، والتعلم عبر الإنترنت، والموارد التعليمية المفتوحة، حاول الباحثون تحديد ما إذا كان الطلّاب يبلون بلاءً حسناً أيضاً عند قراءة نص معيّن على شاشة رقمية مثلما يفعلون عند قراءة النص ذاته على الورق.
ومع ذلك، فإن الإجابة عن ذلك السؤال تحتاج إلى أكثر بكثير من الإجابة بنعم أو لا.
خلال بحثي، قارنت بين الطرائق التي نقرأ بها من المصادر الورقية وعلى الشاشة. وقمت بجمع البيانات بين عامي 2013 و2015، من 429 طالباً جامعياً من خمس دول حول العالم (الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وسلوفينيا والهند).
أفاد الطلّاب في الدراسة بأن القراءة من المصادر الورقية المطبوعة كانت ممتعة أكثر من الناحية الجمالية، قائلين أشياء مثل “أنا أحب رائحة الورق” أو أن القراءة من المصادر الورقية هي “قراءة حقيقية”. وأكثر من ذلك، منحتهم القراءة من المصادر الورقية شعوراً بالمكان الذي كانوا فيه بينما كانوا يحملون الكتاب- فقد تمكّنوا من “الرؤية” و”الإحساس” بالمكان الذي كانوا فيه عند قراءة النص.
واعتقد المشاركون أيضاً أن القراءة من المصادر الورقية أسهل على العيون وأقل احتمالاً أن تُشجّع على تعدّد المهمّات. فقد اشتكى نصف المشاركين تقريباً من شعورهم بإجهاد العين من القراءة الرقمية (“عيناي تؤلماني”)، وأشار 67 في المئة إلى أنه من المحتمل أن يقوموا بمهمّات عدة أثناء القراءة الرقمية (مقارنة بنسبة 41 في المئة عند القراءة من المصادر الورقية المطبوعة).
في الوقت ذاته، أشاد المشاركون في الدراسة بالقراءة الرقمية من جوانب عدّة، بما في ذلك القدرة على القراءة في الظلام، وسهولة العثور على المواد (إمكان الوصول إلى الكثير من المعلومات بطريقة سريعة)، والحد من استخدام الورق، بل وحتى حقيقة أنه يمكنهم القيام بمهمّات عدة أثناء القراءة الرقمية.
قياس مدى التعلم
لكن السؤال الأهم هو ما إذا كان الطلّاب يتعلّمون بالقدر ذاته عندما يقرأون على الشاشة.
سعى عدد من الباحثين إلى قياس مدى التعلّم، بأن طلبوا من بعض الأشخاص قراءة نصوص، سواء كانت ورقية أو على جهاز رقمي، ثم اختبار مدى فهمهم واستيعابهم النص.
توصلت معظم الدراسات إلى أن المشاركين حققّوا النتائج ذاتها تقريباً عند القراءة من كلا المصدرين، على رغم أن البعض أشاروا إلى أن أداء الطلاب كان أفضل في الاختبارات عندما يقرأون من المصادر الورقية.
غير أن المشكلة في الدراسات التي تقوم على قياس مدى التعلّم هي أن مفهومها عن “التعلّم” يميل إلى التبسيط. قد تكون قراءة الفقرات والإجابة على الأسئلة بعد ذلك أداة مألوفة في الاختبارات القياسية، لكنها لا تخبرنا سوى القليل عن أي مستوى أعمق من الفهم.
بدأ بعض الباحثين في طرح أسئلة أكثر دقّة، بما في ذلك أحد الباحثين الذين درسوا ما يحدث عندما يقرأ الناس قصة من كتاب ورقي أو على جهاز رقمي، ثم يتطلّب منهم إعادة بناء تسلسل الحبكة. الجواب أن المصادر الورقية أسفرت عن نتائج أفضل.
يعتبر أحد الجوانب المهمة الأخرى للتعلّم هو أن نرى كيف تختلف النتائج عندما يقوم الطلّاب بالقراءة في ظروف تجريبية تقلّ فيها القيود التوجيهية. تسمح إحدى الدراسات للطلّاب باختيار مقدار الوقت الذي يستغرقونه عند القراءة من كلا المصدرين، الكتب الورقية والأجهزة الرقمية. ووجد الباحثون أن المشاركين خصّصوا وقتاً أقل لقراءة الفقرات على الشاشة – وكان أداؤهم منخفضاً في اختبارات الفهم اللاحقة.
هذا الاستنتاج ليس مفاجئاً، نظراً إلى نزعة كثيرين منا إلى الاختصار والبحث عند الاتصال بالإنترنت، بدلاً من القراءة ببطء وبعناية. في دراستي، علّق أحد الطلاب قائلاً:
“يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لقراءة عدد الصفحات ذاته من المصادر الورقية المطبوعة مقارنةً بالمصادر الرقمية”.
وشكا آخر قائلاً:
“يستغرق الأمر وقتاً أطول لأنني أقرأ بعناية أكبر”.
التفكير النقدي والقراءة
كيف ترتبط مسألة التعلم بالأهداف التعليمية؟ هناك الكثير من الجدل في الوقت الحاضر حول رغبة الطلّاب في أن يتمتّعوا بمستوى جيد في التفكير النقدي. وعلى رغم أن تعاريف هذا الهدف مُحيّرة، فمن الواضح أنها تنطوي على القدرة على فهم الأفكار المعقّدة وتقييم الأدلّة وموازنة وجهات النظر البديلة وبناء الحجج المبرّرة.
لكي يصبح الطلّاب بارعين في التفكير النقدي- على الأقل في المجتمع المتعلّم- يتعيّن على الطلّاب أن يكونوا قادرين على التعامل مع النصوص. قد يكون النص طويلاً أو معقّداً أو الاثنين معاً. وفي سبيل فهم ذلك النص، لا يمكن الطلّاب أن يختصروا أو يندفعوا إلى الأمام أو أن يتعرّضوا للتشتيت باستمرار.
إذاً، هل تساهم القراءة من المصادر الورقية مقابل القراءة على الشاشة في بناء مهارات التفكير النقدي؟
تخبرنا دراسات الفهم التي تحدّثنا عنها في وقت سابق القليل عن طبيعة القراءة التي نُقرّ بأنها ضرورية للتفكير أو التحليل الجاد. بيد أن هناك نهجاً بديلاً، على الأقل بالنسبة إلى المبتدئين، وهو يقوم على سؤال الطلّاب عن أنماط القراءة الرقمية والورقية- تماماً مثلما يسأل الأطبّاء عن التاريخ الطبّي (إلى جانب الاختبارات الجسدية والمعملية) لمعرفة ما يعاني منه مرضاهم.
على رغم أن دراستي لم تقِس مدى التعلّم بشكل مباشر، فقد سألت الطلاب حول أنماط القراءة وما يفضّلونه. وقد حملت الردود على بعض أسئلتي دلالات واضحة بشكل خاص.
عندما سئلوا عن المصادر التي يشعرون بأنهم يركّزون بشكل أفضل عند استخدمها، أجاب 92 في المئة منهم بـ”المصادر الورقية”. وبالنسبة إلى القراءات الأكاديمية الطويلة، فقد فضل 86 في المئة منهم القراءة من المصادر الورقية. وأفاد المشاركون أيضاً باحتمال إعادة قراءة المواد الأكاديمية إذا كانت ورقية.
والأكثر من ذلك، أشار عدد من الطلاب إلى اعتقادهم بأن المصادر الورقية هي وسيلة أفضل للتعلّم. وقال أحدهم، “تجعل التركيز أسهل”.
وذكر آخرون، أنهم “يشعرون بأن المحتوى يرسخ في عقولهم بسهولة أكبر”، وقالوا إنهم “يشعرون بأنهم يفهمونه بشكل أفضل”.
على النقيض من ذلك، عند الحديث عن القراءة من خلال الشاشات الرقمية، ذكر الطلاب تعرّضهم “لخطر التشتت” و”عدم التركيز”.
من الواضح أن انطباعات الطلّاب ليست مماثلة لنتائج التعلّم القابلة للقياس. ولم تقم أبحاثي بإجراء اتصالات بين أنظمة القراءة والتفكير النقدي.
ومع ذلك، فقد ظهر نمط واضح: وهو أن القراءة من المصادر الورقية برزت باعتبارها وسيلة للقيام بالعمل الجاد.
القراءة الرقمية ملائمة وأقل تكلفة
لا يمكننا في الوقت ذاته أن نتجاهل العوامل الأخرى التي تؤثر في قرارات الطلّاب حول أنظمة القراءة التي يختارونها من أجل القيام بالمهمات المدرسية.
تعتبر الملاءمة أحد الاعتبارات الكبيرة: فقد ذكر أكثر من 40 في المئة من المشاركين في دراستي، أن الملاءمة (بما في ذلك سهولة الوصول إلى المواد) هي أكثر ما يعجبهم في القراءة على الشاشة.
كما أن التكلفة المادية هي أحد العوامل المؤثرة الأخرى. فقد اتّسم الطلّاب بدرجة كبيرة من الوعي بشأن الفوارق في أسعار النسخ المطبوعة والنسخ الرقمية لمواد القراءة، ولذا كانت التكلفة المادية في كثير من الأحيان هي العامل المحدّد. كما قال أحد الطلّاب، إن “التكلفة المادية تتحكّم في كل شيء حولي”.
كشف كثيرون من الطلّاب عن عدم التوافق بين الموارد المالية والتعلم. عندما سئلوا عن أي نظام للقراءة سيختارون إذا كانت التكلفة واحدة، قال 87 في المئة منهم “المصادر الورقية” من أجل الأعمال الأكاديمية.
التكيّف مع التعلم الرقمي
من الجدير بالذكر أننا نحتاج إلى أن نضع في اعتبارنا الاتّجاه المتنامي للجامعات لتكييف مناهجها الدراسية لتتناسب مع القول المأثور “المواءمة القسرية” للعالم الرقمي – ذلك العالم المصمم خصيصاً للاختصار والفحص واستخدام خاصية “البحث” بدلاً من القراءة ببطء وبعناية.
والآن أصبح الأساتذة يتلاعبون بالتخلّي عن واجبات القراءة الطويلة أو المعقّدة لمصلحة الواجبات القصيرة (أو الأكثر وضوحاً)، والاقتراب من أنماط القراءة الرقمية عند القيام بأنشطة بعيداً من العالم الأكاديمي. هذا العالم يروّج للإصدارات المكثفة من النصوص ومواد القراءة الأقصر التي تبدأ بقطع صغيرة الحجم.
والسؤال المطروح إذاً هو كيف يمكن أن تساعد الجامعات الطلاب على قراءة النصوص بعناية، وبتلقائية، ومن دون تشتيت الانتباه، باستخدام الأجهزة الرقمية؟
يُمكن أن يكون التكيف أحد العوامل الرئيسة. إذ تشير الأبحاث إلى أن الطلّاب قد يشعرون بثقة مفرطة بشأن ما يفهمونه عندما يقرأون من المصادر الرقمية. وقد يساعد تعليمهم على الانتباه عند القراءة من مصادر رقمية (على سبيل المثال، من خلال كتابة الكلمات الأساسية وتدوين الملاحظات أثناء القراءة) في عملية التعلّم.
ثمة نوع آخر من التكيّف يحدث في مجال الأجهزة والبرمجيات الرقمية. إذ تتسبّب الشاشات الحديثة في إجهاد أقل للعين، وتستمر برامج التعليقات التوضيحية في التحسن. كما تأتي بعض أجهزة القراءة الرقمية الآن مزوّدة بأدوات تمكنها من التقريب الرقمي لكي تُماثل تقريباً طريقة تقليب الصفحات الورقية، وإمكان وضع علامات مُتعددة.
ومع ذلك، من وجهة نظري، على رغم أن القراءة الرقمية تفاعلية وقصيرة وينصبّ تركيزها على صلب الموضوع، فإن ذلك ليس نوع القراءة التي من المرجّح أن تعزّز التفكير النقدي الذي ما زلنا نتحدث عنه باعتباره العلامة المميزة للتعليم الجامعي.
هذا المقال مترجم عن موقع salon.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
https://www.salon.com/2018/08/12/do-students-lose-depth-in-digital-reading_partner/
درج