النكات السيّئة: علامات على خلل العالم/ عمّار المأمون
الكثيرون منا أُحرجوا، بعد أن قالوا نكتة ظنّوا أنها مضحكة، ولاحظوا بعدها الصمت الغريب، والأعين المركّزة عليهم باستهزاء أو استغراب، ليأتي أحدهم ويكسر الصمت بقوله “بايخة!” أو “لم أفهمها؟”
هذا الصمت، يستبدل أحياناً بنوعُ من الضحك المبتذل، هدفه المجاملة أو منع الإحراج أو الشفقة، وكأن الجميع يشير بأصابعه نحو صاحب النكتة السيئة، متهكماً من سذاجته وعدم قدرته على الإضحاك.
لماذا ضحكت سارة
الإشكاليّة الأولى المرتبطة بهذا الصمت أو الضحك المبتذل، لها علاقة بتكوين النكتة الرمزيّ، أي مجموعة الجهود اللغويّة والأسلوبيّة لخلق المفارقة المضحكة، فجهود التشفير التي يبذلها صاحب النكتة يجب أن تتوافق مع قدرة المستمع على فك التشفير، فكي يحدث الضحك، لابد لكلا الشخصين، امتلاك ذات معاني الكلمات والعوالم التي تمثلها.
هنا تبرز خطورة النكتة، فعدم الضحك، يعني أن هناك اختلاف معرفي بين الطرفي، وخلل في التكوين الرمزيّ للعالم. أو أن قائل النكتة لا يمتلك المهارة الكافية لتكوين اللامعقول بصورة منطقيّة، وكأن النكتة السيئّة، هي عجزٌ عن اختزال العالم رمزيّاً بصورة لا واقعيّة أو مشوهة، هي سوء تعبير عن الاحتمالات المستحيلّة.
هذه النكتة السيّئة، المخالفة لتكوين العالم، والضحك الساخر من قائلها، نقرأها في واحد من أقدم النصوص، إذ نطالع في العهد القديم:
وقالوا له: “أين سارة زوجتك؟” فقال: “ها هي في الخيمة!” فقال: “سأرجع إليك في مثل هٰذا الوقت من السّنة القادمة، وها إنّه يكون لسارة زوجتك ابنٌ”.
وكانت سارة تسمع عند باب الخيمة، الّتي وراء الرّجل. وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدّمين في الأيّام. وقد انقطع عن سارة طمثها فضحكت سارة في باطنها، قائلةً: “أبعدما فنيت يكون لي سرورٌ، وسيّدي قد شاخ؟” فقال يهوه لإبراهيم: “لماذا ضحكت سارة، قائلةً: ‘أحقًّا ألد وأنا قد شخت’؟ هل يستحيل شيءٌ على يهوه؟ في الوقت المعيّن أرجع إليك، في مثل هٰذا الوقت من السّنة القادمة، ويكون لسارة ابنٌ”.
نلاحظ في الحكاية السابقة، أن سارة تضحك في سرّها، ولا ندري كيف اكتشف يهوه ضحكها وهي تقف وراءه، ما يهم، أننا أمام نكتة سيئة، ومنطقين متضادين، الأرضي الطبيعيّ المحكوم بشروط البشر والذي تعرفه سارة، وذلك الإلهي المتخيّل ذو القدرة الكليّة المتمثل بيهوه.
هذه المفارقة لم ترها سارة كدليل على قدرة “يهوه”، بل كنكتة ساذجة، “فضحكت في باطنها”، ربما دلالة على الشفقة، فكتمت ضحكها كي لا تحرج محدثها، والأهم في ضحك سارة هو وعيها المبدئيّ بعدم إدراك يهوه/ صاحب “النكتة” بأن ما يقول لا يتماشى مع قوانين العالم وسيره الطبيعي، “أحقّاً ألدُ وأنا قد شِخْتُ؟”
ما حصل لاحقاً، أن إسحاق وُلدْ، واسمه يعني “الضاحك”، في دلالة لضحكة والدته سارة، التي ظنت أن الأمر نكتة، وهنا تأتي خاصية أخرى مرتبطة بالنكتة السيئة والقدرة على الإضحاك، وهي الجديّة، فعدم معرفة موقف وجديّة المتحدث، تجعل النكتة السيئة تكشف عن احتمالات خفيّة في العالم، لم تكن في الحسبان، وهذا ما يفسر كيف عرف يهوه أنها ضحكت في سرها، وكيف كان حديثه عن الولد القادم جدياً، وهذا ما لم تدركه سارة إلا بعد تسعة أشهر.
أقوال جاهزة
ما يفعله القائمون على البرنامج لتفادي النكات السيئة، قائم على أساس عملية رياضيّة وحسابيّة، تحكمها مجموعة من الحقائق والعلاقات المنطقيّة كثوابت تخلق المفارقة والضحك
لن أكون رئيساً للولايات المتحدة
اللاجديّة التي واجهت فيها سارا يهوة، مرتبطة بـ”لا أدائيّة” النكتة، أي من المفترض أن الكلمات التي يقولها صاحب النكتة، لا تمتلك تأثيراً واقعياً في العالم.
مثلاً، كنا نضحك حين نقرأ أن دونالد ترامب سيصبح رئيساً، وأنه سيمسك النساء من فروجهن، وسيطرد كل المهاجرين، الضحك الجديّ هنا نابع من اللاجديّة التي تمتلكها تصريحات ترامب، إذ لا أثر لها في الواقع كونه لا يمتلك سلطة تحقيقها، لكن، هذه “التصريحات: تحولت إلى نكات سيئة حين أصبح رئيساً، ذات الكلمات المسيئة التي كانت مضحكة من قبل، فقدت قدرتها على الإضحاك، كونه أصبح قادراً على إعادة صياغة “الواقع” ثقافياً ومادياً، وجعل مفارقاته “المضحكة- اللامنطقيّة” حقيقة مأسويّة.
ما سبق يجعل النكتة السيئة وليدة سلطة قائلها، ليتحول سؤال “ماذا لوّ .. ؟” من فاتحة للخيال، إلى جهد ماديّ لتخريب العالم، فعبارة سأقلع عينيك وأطعمك إياهما، مضحكة حين نسمعها كتهديد مهرج لآخر، لكنها تفقد قيمتها الكوميديّة حين يقولها ضابط يقوم بتعذيب المعتقلين في أي سجن سياسيّ.
النكتة كنشاط منطقيّ
تتجلى النكتة السيئة بعجزها عن خلق المفارقة بين عناصرها المختلفة، ولا نتحدث هنا بالضرورة عن المقاربة الكرنفاليّة، وتداخل الراقي مع المبتذل، والرفيع مع الوضيع، بل المفارقة بوصفها عنصراً منطقياً من عناصر الإضحاك، فمنطق سير الأحداث لا يمتلك اتساقاً داخلياً ضمن النكتة السيئة، ولا صلة واضحة بين طرفي النكتة ونتيجتها.
يُخلق “الاتساق الداخليّ” عبر المفارقة الساخرة، والعلاقات الجديدة بين المكونات السرديّة المختلفة للنكتة، والتي تقترح احتمال صحّة المفارقة. هذا ما نراه في آلية كتابة النكات لبرامج التلفزيون اليوميّة، والتي نسمع فيها مئات النكات، أغلبها مضحك نوعاً ما.
ما يفعله القائمون على البرنامج لتفادي النكات السيئة، قائم على أساس عملية رياضيّة وحسابيّة، تحكمها مجموعة من الحقائق والعلاقات المنطقيّة كثوابت، تجمع بينها تحولات وعلاقات لا منطقيّة أو خفيّة، تخلق المفارقة والضحك.
مثال ذلك في الجدول التالي، إذ يمكن استخراج نكتة وبنائها عبر محاولة إيجاد علاقة بين الحدثين، الأول، المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى في تونس، والثاني، انتقاد الأزهر لهذه القرارات.
هذه العلاقة أساسها مجموعة من الحقائق القريبة والبعيّدة والروابط المنطقيّة بينها.
يمكن من المتغيرات السابقة استخراج مجموعة من النكات، كما فعلت الحدود في إحالة للأزهر: “طرد تونس من الوطن العربي بعد إفسادها المجتمع باعتبارها المرأة بشراً”، ونترك لكم حرية اللعب وإيجاد النكتة بين “تجريم ختان الذكور” و”إرضاع الكبير”.
ثلاثة تعميمات قابلة للتسفيه
لا كوميديا بدون لغة، ولا نكتة بدون وعي بها، لكن، يمكن خلق الضحك بدون كلمات، هذه التعميمات ترتبط بنظرية الكوميديا وعلاقتها مع الظاهرة البشريّة، إذ نقرأ في “نكتة فقط يمكن أن تنقذنا- نظرية الكوميديا” لتود ميكغوان “إن الحيوانات التي لا تستطيع الكلام قادرة على أن تكون لعوبة، لكن لا يمكن أن تكون كوميدية”، ما يمكن أن نطرحه بناء على ما سبق، هل يمكن أن نقول نكتة بدون كلمات؟
حقيقة، نعم، من الممكن “ٌقول” نكتة بدون كلمات، وخلق الضحك والتأثير النقدي للنكتة، وهذا ما يمكن تلمسه في رواية ميلان كونديرا الأخيرة، حفلة التفاهة، إذ نقرأ عن “كاليبان” الممثل، الذي يدّعي أنه باكستانيّ، ويخترع لغة خاصة به يفهمها هو وحده، ويستخدمها حين يعمل كنادل، النكتة هنا وليدة الموقف ذاته، لا كلمات كاليبان غير المفهومة، هي تكمن في المفارقة، من معرفتنا أننا نعلم كذبه اللغوي أمام صدق لغة جميع من حوله.
العكس صحيح أيضا، هناك نكات كبرى، نكات جديّة ذات كلمات لا تحصى، تحوي الكثير من المعاني، لكن قليلون يضحكون منها، ويعتبرونها “نكات سيئة”، بالرغم من أنها لا جديّة، ولا سلطة لمن يقولها، ولا تحوي منطقاً داخلياً، لكن لا قهقهة أمامها، بل صمت وتسليم بـ”جديتها”، علماً أن سردياتها، وتكويناتها اللغويّة، ونصوصها الهائلة تحوي مفارقات من مختلف الأنواع، منها أن نقول “أمة عربيّة واحدة” أو “القائد الخالد” أو الأهم، تلك التي نَشهدُ فيها ونَستثني.
رصيف 22