سوريا.. الدوّامات الكيانية نفسها/ محمود الزيباوي
ما الذي تغيّر منذ العام 1925، تاريخ إنشاء الدولة السورية الأولى؟
ما يجري الآن في سوريا، يعيد إلى الأذهان الظروف التاريخية والسياسية والمجتمعية والدينية التي أحاطت بقيام الجمهورية السورية الأولى، بعد مخاض عسير شهدت خلاله هذه البلاد نشوء عدد من الدول والحكومات في مرحلة قصيرة من الزمن.
في العام 1920، أنشأ الفرنسيون في أول عهد انتدابهم على سوريا، خمس دويلات، هي: دولة دمشق، دولة حلب، دولة الاسكندرونة، دولة العلويين، ودولة جبل الدروز. وفي 28 حزيران/ يونيو، أنشأوا “الاتحاد السوري”، الذي ضمّ ثلاثة كيانات هي دولة حلب ودولة دمشق ودولة العلويين، وشمل كل مناطق الجمهورية السورية الحالية باستثناء محافظة السويداء. في العام 1925، عادت السلطة المنتدبة وحلّت هذا الاتحاد الفيدرالي وأنشأت “الدولة السورية”، وضمّت هذه الدولة دولة دمشق ودولة حلب مع مقاطعة الجزيرة، دون حكومتي اللاذقية والسويداء.
استمرّت الدولة السورية حتى تأسيس ما يُعرف بـ”الجمهورية السورية الأولى”، وشهدت “الثورة السورية الكبرى” التي أدّت إلى إجراء أول انتخابات تشريعية في تاريخ سوريا الحديث العام 1928. أفرزت هذه الانتخابات جمعية تأسيسية تولّت وضع دستور 1930، ومع إقرار هذا الدستور، تأسّست الجمهورية السورية الأولى العام 1932. في تلك الحقبة، برز حزب “الكتلة الوطنية” الذي قارع سلطة الانتداب الفرنسي، ودعا إلى الإضراب في نهاية العام 1935. استمر هذا الإضراب ستين يوماً، وعُرف بـ”الإضراب الستيني”، ودفع فرنسا إلى القبول بالتفاوض مع رئيس الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي في مطلع شباط 1936. أفضت تلك المفاوضات إلى إرسال وفد كتلوي إلى العاصمة الفرنسية لعقد معاهدة الاستقلال، واتُفق على استقالة الحكومة المعيّنة وتشكيل حكومة جديدة محايدة تشرف على الانتخابات.
رافقت الصحافة اللبنانية هذا الحدث، ونشرت صحيفة “المعرض” تحت عنوان “أتكون القضية السورية في مرحلتها الأخيرة؟”، وهي مقالة تطرّقت فيها إلى نهاية “الإضراب الستيني”، وقالت: “استقبلت سوريا بعد انتهاء المفاوضات، زعماءها الذين عادوا من المنفى، بمظاهر الفرح ومهرجانات الغبطة، وفتحت أسواقها، وعادت الحركة إلى حياتها العملية. وهي اليوم تنتظر أن تكلل جهادها بالفوز الأخير في تحقيق وحدتها وحياتها الدستورية وسيادتها التامة في جامعة الأمم إلى جانب الشعوب الحرة”. نشرت “المعرض” صورة لرجال “الكتلة الوطنية” ظهر فيها هاشم الأتاسي رافعاً يده بالتحية يوم افتتاح الأسواق في دمشق، برفقة جميل مردم بك، فائز بك الخوري، شكري القوتلي، وفوزي بكري. ونشرت صورة أخرى تمثل “وفد اللاذقية من نواب وزعماء وأعيان العلويين الذين قدموا بيروت يحملون إلى العميد السامي مطالب العلويين بالانضمام إلى الوحدة السورية”.
وُلدت دولة العلويين بقرار من المفوض السامي الفرنسي في أواخر صيف 1920، وتألفت يومها من “لواء اللاذقية” العثماني الذي يضم أقضية صهيون وجبلة وبانياس، وقضاء حصن الأكراد وصافيتا من “لواء طرابلس”، وطرطوس ومصياف من أعمال حماه. بعد سبع سنوات، باتت هذه الدولة مؤلفة من سنجقين. ضم السنجق الأول اللاذقية، صهيون، جبلة، بانياس، ومصياف. وضمّ السنجق الآخر طرطوس وصافيتا وتل كلخ. هكذا امتدت دولة العلويين من وادي النهر الكبير جنوباً، إلى النهر العاصي شرقاً وشمالاً، والبحر الأبيض المتوسط غرباً، وكان لها عَلَم خاص أبيض تتوسّطه شمس صفراء، وتحدّه أربع زوايا حمراء. لم تقتصر هذه الدولة على العلويين، إذا كان من سكانها سنّة ومسيحيون واسماعيليون. في تلك الحقبة، صدرت في اللاذقية صحف يومية عديدة، منها “جريدة دولة العلويين” الرسمية، و”الصدى العلوي” التي عمل على إصدارها وتحريرها إبراهيم جمال. في 1930، تحولت دولة العلويين إلى حكومة اللاذقية، وفي نهاية 1936 ضُمّت هذه الحكومة إلى حكومة دمشق بقرار موقّع من المفوض السامي للجمهورية الفرنسية، وذلك بعد ثلاثة أيام من صدور قرار يقضي بضمّ جبل الدروز.
نقع في الصحافتين السورية واللبنانية على طائفة من الأخبار التي تشهد لرغبة جزء كبير من العلويين في الوحدة، ومنها الخبر المنشور في “المعرض”. في المقابل، نقع على أخبار تعبّر عن الرأي المعاكس، أشهرها وثيقة رفعها ستة من زعماء العلويين إلى رئيس الحكومة الفرنسية ليون بلوم في منتصف عام 1936، ومطلعها: “ان الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة، بكثير من الغيرة ومن التضحيات الكبيرة في النفوس، هو شعب يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم السنّي، ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة مدن الداخل”. حملت هذه الرسالة توقيع كلٍّ من عزيز آغا الهواش، محمد بك جنيد، سليمان المرشد، محمود آغا جديد، سليمان أسد، ومحمد سليمان الأحمد. وقد نشرها الباحث ستيفن همسلي لونغرينغ في كتابه “تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب”. إلى ذلك، نقع على أخبار أخرى تتحدّث عن موقف ثالث ينادي بالوحدة، مع التمسّك باللامركزية، كما يتّضح عن مراجعة الصحافة الخاصة بتلك الحقبة المتقلّبة.
في الواقع، يبدو هذا السجال جزءاً لا يتجزّأ من مسألة شغلت أهل السياسة والفكر في الأمس كما في يومنا هذا، وهيمنت من دون أدنى شك مسألة الطائفية المزمنة. في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1936، كتب ميشال أبو شهلا افتتاحية احتلت الصفحة الأولى من مجلة “الجمهور”، عنوانها “الأقليات والحقوق الطائفية”، واستهلّها بالقول: “عندما كان الوفد السوري يفاوض في باريس، أبى أعضاؤه، وأبت من ورائهم سوريا بأجمعها، أن تقرّ المعاهدة مبدأ حماية الأقليات، ولقد كان للصحف وللألسن وللأسلاك ضجة ملأت العالم في الاحتجاج على مثيري فكرة الأقليات وتسفيه مساعيهم. وكان النصر أخيرا حليف الأمة التي أرادت نفسها جسماً واحداً وكياناً مجتمعاً لا أقلية فيه ولا أكثرية، واقتصر الأمر بين المتفاوضين بعد مشادة طويلة وعنيفة، على مراسلة أُلحِقت بالمعاهدة يؤكد فيها رئيس الوزارة السورية للمفوض السامي تأمين بقاء الضمانات الموضوعة في الدستور السوري لحقوق الأفراد والجماعات. وأقصى ما يصل إليه مفعول هذا التأكيد ان لا يعبث المستقبل بتعديل هذه النصوص الدستورية”.
سخر ميشال أبو شهلا من بعض اللبنانيين الذين يدينون الطائفية في سوريا ويتمسّكون بها في لبنان، وقال: “لقد هلّل الوطنيون لهذه النتيجة التي ضمنت وحدة الأمة، ولكن زعماء هذه الأيام يأبون الاّ تصبح الوطنية شيئاً نسبياً يتبدّل عياره بتبدّل الجو، ويختلف مدلوله باختلاف البلد واختلاف السكان. لذلك رأينا رجال الوطنية أنفسهم الذين حاربوا بالأمس، مبدأ الأقليات في المعاهدة السورية، يقترحون اليوم تقريره في المعاهدة اللبنانية، ويحاولون ان يجعلوا من لبنان باسم الحقوق الطائفية، مجموعة أقليات تقف تجاه أكثرية واحدة، وتفتح للتدخل الأجنبي عشرات الأبواب. وهكذا بينما تجد عنصر الشباب في لبنان، في هذا الساحل التعس، يتحفّز لمحاربة الطائفية وقتلها وانتزاع البلد اللبناني من مخالبها، تجد على الضفة الأخرى زعماء الوطنية ومحتكري ألقابها يشيدون للطائفية قصورا جديدة ويفرشون لها المهد الوثير. فهم لا يقنعون بما في النصوص الدستورية من ضمانات، بل يريدون ان تكون الطائفية في ضمان المعاهدة وفي ذمة الفرنسيين. وعلى هذا يريدون أن تبقى الطائفية، مرض البلاد القتال، مؤبّدة في جسم هذا الوطن تنخر عظام الاتحاد وتقضي على كل سيادة. والويل بعد ذلك لمن يقول لهؤلاء الزعماء الوطنيين انهم يخطئون في فهم الوطنية وفي خدمة الاستقلال. نحن نفهم ان الوطنية حيثما هي فكرة وعقيدة فلا يسعنا ان نفهمها غير ذلك. ولا يسعنا في الوقت نفسه ان نضاعف الشخصيات، فنجعل من الواحد في آن واحد وطنيا في سوريا ولا وطنيا في لبنان”.
تطرّقت “الجمهور” إلى هذه المسألة في الأعداد التالية، ونشرت في 12 كانون الأول/ديسمبر مقالتين متقاربتين تدينان الطائفية بوجوهها المتعددة في سوريا ولبنان. حملت الأولى توقيع أمين الريحاني، ومطلعها: “في ضعف الطوائف قوة الوطن. في التفكك الطائفي، تحقيق الآمال القومية. الحكومة المؤسّسة على الطائفيات هي حكومة ظالمة مظلومة، كفاءتها ضائعة، وعدلها مقيّد بقيود أرباب الأديان. الحكومة الطائفية تظلمها الطوائف، وهي تظلم عندما تستطيع نكايةً وانتقاماً. الحكومة التي تقيس عدلها بمقياس طائفي، لا بمقياس العدل والكفاءة، هي حكومة بائدة، وان طال يومها أو نومها. الطائفية هي لفظة أخرى لحب الذات. الطائفية هي نوع من الخيانة الوطنية. في ضعف الطوائف، قوة الوطن. في التفكك الطائفي، تحقيق الآمال القومية”.
حملت المقالة الثانية توقيع الأستاذ رفيق بيطار، وهو بحسب تعريف المجلة “صوت من العلويين”، وموضوعها مصير “دولة العلويين” في زمن الجمهورية السورية الوليدة. دخل الكاتب مباشرة في صلب هذا الموضوع الشائك، وقال: “كثرت الأحاديث في هذه الأيام، وراجت بضاعة المذكرات السياسية حول الوضع الحكومي المنتظر لدولة العلويين، وتضاربت فيها الآراء. فهذه فئة لا تزال متعلقة بأذيال الوضع الحاضر. وهذه فئة تريد وحدة لا مركزية واسعة على أساس طائفي صريح، وهاتان الفئتان تعتبران ان الانضمام المطلق إلى سوريا هو تبديل الانتداب الفرنسي بانتداب سوري قد يكون أشد خطراً، وان المصلحة الفردية يجب أن تتقدم على مصلحة الجموع. وهذا فريق من الشباب يقول بفكرة قومية جديدة ترمي إلى تدمير الطائفية وتوجيه الأفكار والميول والنزعات السياسية إلى هدف واحد هو إصلاح المجتمع ومكافحة الجراثيم الفتاكة والأمراض الخطرة التي تنهش منذ مئات السنين في جسم هذه الأمة. ولا يسعنا، والناس في غمر هذا العراك، الا ان نشجب عمل القائلين بالانفصال والوحدة والطائفية اللامركزية على السواء، لأن الفكرتين وان كانتا متباينتين ظاهرا فهما في الواقع جوادان يتسابقان في ميدان هدم كيان البلاد وتمزيق وحدتها القومية”. واصل رفيق بيطار الحديث، وحلّل مبدأ الدولة اللامركزية وطبيعتها، ورأى أنها لا تخدم إطلاقا الوحدة السورية، وقال في الختام: “لهذا نودّ ان نحذّر المسؤولين من رجال الحكومة السورية المقبلة، إذا ما وضعوا شكل الحكم لهذه المنطقة، من توسيع اللباس اللامركزي الذي فصّلته المعاهدة لنا. ونحذّرهم من صبغه بلون طائفي لئلا تكون الطائفة السبب الأول والأخير في تدمير هذه البلاد التي حان ان ترتفع إلى العلاء الجبين”.
في هذا السياق، جال زعيم الحزب القومي السوري الاجتماعي أنطون سعادة في المناطق الخاضعة لـ”حكومة العلويين”، ونقلت “الجمهور” وقائع هذه الجولة في تقرير مفصّل نُشر في 2 كانون الثاني/يناير 1937. بعد أسبوعين، نقلت المجلة خبر انضمام حكومتي العلويين وجبل الدروز رسميا إلى سوريا، ونشرت صورة للسيد مظهر رسلان “نائب حمص الذي انتدبته الحكومة السورية محافظاً ممتازاً على العلويين”، وصورة للسيد نسيب البكري “نائب دمشق والمرشح المختار لاشتغال منصب محافظ ممتاز لجبل الدروز”. وفي 20 شباط/فبراير، أغلقت “الجمهور” هذا الملف، ونشرت تحت عنوان “حاكما الدروز والعلويين تُلغى وظيفتهما رسميا” إعلانا قصيرا يقول نصّه: “أصدر العميد السامي قرارين يكف بموجبهما مندوبي المفوض السامي لدى حكومتي جبل الدروز والعلويين عن ممارسة وظيفتيهما كحاكمي المنطقتين”.
هكذا دخلت دولتا العلويين والدروز سريعاً في النسيان، غير أن الأسئلة التي رافقت إنشاءهما ثمّ حلّهما، ظلّت معلّقة كما يبدو اليوم. ترى، ما الذي تغيّر منذ العام 1925، تاريخ إنشاء الدولة السورية الأولى، حتى العام 2018 هذا، سوى أننا لا نزال ندور في الدوّامة الطائفية نفسها، وفي الأزمات نفسها، والتحديات والإشكاليات الكيانية والمصيرية نفسها؟
المدن