الثورة السورية بين الهوية والوعي السياسي/ فؤاد حميرة
يعتبر مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم غموضا في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي، لتشعب مداخيله، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بشرطين: مستوى الوعي السياسي ومستوى المشاركة السياسية. وعلى هذين الشرطين، ومدى توفرهما، يتوقف الالتزام بهويةٍ ما، خصوصا مع تعدّد الهويات المعاصرة وتنوعها بين هويةٍ منغلقةٍ على الذات وأخرى منفتحةٍ على الآخر، بكل أصنافه ومستوياته. وفي هذه النقطة، تتصارع هوية (الأنا) مع هوية الـ (نحن) والآخر. وتعمد هذه العجالة إلى الفصل بين مفهوم الهوية (ومستوياتها) ومستوى الوعي السياسي، لسهولة درس الموضوع وتحليله، أما في الواقع فإن المفهومين مترابطان، إلى حد يصعب معه الفصل بينهما، حتى لأغراض البحث والدراسة.
يقول الباحث في علم السياسة، السير توكفيل، إن فقدان الاستقرار السياسي في بلد ما ناشئ بالتحديد عن فقدان توفر شرط المشاركة السياسية. وتدفع هذه المقولة إلى التساؤل عن وضع الوعي السياسي في سورية عشية انطلاق الثورة: ولماذا نتهم قيادات المعارضة بقلة الوعي السياسي والافتقاد للخبرة في العمل والتفكير السياسيين؟ وإلى أي مدى يمكن الربط بين الوعي السياسي والمشاركة السياسية. للإجابة عن هذا السؤال، تحسن عودة إلى توكفيل الذي يربط ين مستوى الوعي السياسي بالمشاركة السياسية، فيقول: “من القوانين التي تحكم المجتمعات البشرية قانون يبدو أكثر دقة ووضوحا من القوانين الأخرى، فإذا كان للناس أن يظلوا متمدنين أو أن يصبحوا كذلك، ينبغي أن ينمو مبدأ الربط بينهم، ويتقدم بالنسبة نفسها الازدياد في مستوى المشاركة السياسية”. أما صموئيل هنتغتون فيرى أن انتشار التعليم وتوسّعه وتطور الحياة الثقافية وانتشار وسائل الإعلام أمور من شأنها أن تزيد من مستوى الوعي السياسي.
وهذا بالضبط ما حدث في سورية قبيل الثورة، فلا أحد ينكر انتشار التعليم والقراءة والكتابة
على مستوى واسع في البلاد، وأن فرصة الاطلاع على الإعلام العربي والعالمي (إعلام مغاير للإعلام الحكومي المقيد) باتت سهلة للغاية مع انتشار صفات التمدن وتمركز الحياة في المدن. وقد أدى ذلك كله إلى ارتفاع مستويات الوعي السياسي، لكن ما حدث أن هذا الوعي لم يترافق مع مشاركة سياسية، بحيث أصبح التقييد الذي يفرضه النظام على الممارسة الضيقة يبدو كأنه قيدٌ لم يكن يشعر به سوريون كثيرون قبل انتشار وسائل الإعلام الجديدة، وحين كانت معارف الجماهير عن العالم مرتبطةً، إلى حد كبير، بالصورة التي تقدمها له وسائل الإعلام عن الآخر. إذاً، كان للوعي السياسي وارتفاع مستوياته الدور الأساس في انطلاق الثورة ، وليس العكس كما يحلو لبعضهم أن يرى ويفسر ويحلل. إذا يرون أن الثورة كانت عفوية وغير مدروسة، وأن الذين يقودونها الآن معذورون، لأنهم لا يمتلكون الوعي السياسي، بسبب ديكتاتورية النظام وقمعه أي عمل سياسي خارج إرادته ورؤيته. الحقيقة أن الوعي السياسي هو ما كان متوفرا، وبقوة كافية، لإعلان انطلاق ثورة على الإقصاء والتهميش، فالوعي السياسي هو ما دفع الناس إلى إعلان تمرّدهم على قمع الحريات، وعلى الحرية، وضرورتها تتأتى من ازدياد ملحوظ في مستويات الوعي السياسي، وليس العكس.
ما الذي ينقص قيادات المعارضة السورية، إذاً، للتعبير عن مستوى الوعي السياسي هذا؟ يغيب عاملان مهمان، يجب الانتباه إليهما في الإجابة عن التساؤل: الخلط بين الوعي السياسي والمشاركة السياسية، فعلاقة المفهومين ببعضهما، وإنْ بدا للوهلة الأولى أنهما متطابقان، هي علاقة السبب بالنتيجة. قدرة هذه القيادات على التعبير عن مواقفها السياسية، خصوصا وأنها وقعت، ولأسباب جد موضوعية، تحت تأثير الممولين وسياساتهم وفرض أفكارهم ورؤاهم، فتاهت هوية الثورة بين سياساتٍ منغلقةٍ وأخرى منفتحة، وفقا لرؤية المموّل ومصالحه. وقد استهلت هذه المقالة بالإشارة إلى ارتباط مفهوم الهوية بمدى الوعي السياسي. ولا يميل الكاتب هنا إلى أن تدنّي مستوى الوعي السياسي لدى المعارضين هو السبب، ففي معظم الجلسات الخاصة مع أبرز قيادات المعارضة كانت الهوية الوطنية الحاضرة والطاغية، لكن الخطاب، عبر الإعلام وفي الاجتماعات العامة، يتبدل وفقا لتبدّل المطلوب إقليميا ودوليا في اللحظة الراهنة.
تقود هذه المواقف إلى الحديث عن هوية الثورة السورية، والتي يبدو أن الطابع الغالب عليها هو الهوية الدينية، ويبدو فكر الإسلام السياسي علامتها الفارقة. وإذ يبدو ذلك طبيعيا (لكنه غير صحي)، بسبب انهيار الأيديولوجيات الشيوعية والقومية، يبرز الفكر الديني ليملأ الفراغ الحاصل في الحياة الثقافية، مع عدم التسليم بانهيار الأيديولوجيات، فهي موجودة وبقوة، ولكن يتم الإيحاء بأنها انتهت، وأن عصرها قد ولّى. وبغض النظر عن الموقف من مقولات انهيار الأيديولوجيا، فإن كثيرين يصدّقون تلك المقولات، ويعملون وفقها. وإضافة إلى “انهيار الأيديولوجيا”، يأتي دور الحياة الاجتماعية التي كان السوريون يعيشون في ظلها قبيل الثورة، وشجّعت على ظهور الهويات الفرعية الما دون وطنية، كالانتماء للقبيلة أو العشيرة أو الطائفة والمذهب. ويستمر النظام في تعزيز تلك الانتماءات اللاوطنية، فوفقا لمناهج الدراسة في المرحلة الابتدائية الحديثة، يتم تلقين الأطفال أن كل ما هو غريب ودخيل مثير للريبة والحذر، وتعلمهم الابتعاد عن الغرباء والتعامل معهم أعداء متحتملين، لتصبح الأسرة هي الانتماء الحقيقي الأكثر أمنا للطفل، والمرجع الوحيد الذي يمكن الوثوق به. وهكذا، ومع تعزيز الانتماءات الطائفية، أصبح مستحيلا أن لا ترى أي طائفةٍ في الطائفة الأخرى عدوّا مبينا، ويصبح من المستحيل أيضا أن تصبحا لمتحد سياسي واحد، اللهم إلا إذا تغيرت نظرة كل منهما إلى الأخرى. ومع غياب الانسجام الاجتماعي، يصبح استمرار النظام السياسي أمرا مستحيلا أيضا، وقد كان لهذا الأمر دوره البارز في تفجر الثورة أيضا، فكما كتب أفلاطون في كتابه “السياسة”، الأنظمة الديكتاتورية قصيرة الأجل.
أدّى ذلك كله بالثورة إلى ارتداء هويةٍ قد تبدو موحّدة في متّحد سياسي واحد (الإسلام السياسي)، ويفسّر ما سبق قوله وصول الثورة إلى هذه الهوية دون غيرها. ومع ذلك، لا أحد ينكر الهويات الأخرى المتصارعة داخل الهوية الواحدة، وداخل المتحد السياسي الواحد، فمعظم الفصائل العسكرية ومؤسسات المعارضة السياسية، والتي يمكن وصفها إسلامية الطابع، تشهد صراعات مدمرة في ما بينها، يضاف إلى ذلك التصارع بين أصحاب الهوية الإسلامية وأصحاب الهوية الليبرالية (على قلتهم)، لكنه صراع موجود، ويمكن تلمس آثاره على الإعلام، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي.
إذاً، يبدو الإسلام السياسي العلامة الفارقة، حتى أنه بات من العزيز جدا سماع مفاهيم مثل “وطني” و”وطن” في ظل سيطرة خطاب طائفي ما قبل وطني، يثير النفور لدى شرائح لا بأس بها من جمهور الثورة نفسه. وأصبحت الهوية الوطنية مفهوما ملتبسا وغير واضح المعالم، بل لعله تائهٌ أيضا، وغائب عن الوقائع والحقائق على الأرض، وأكثر المفاهيم غموضا ومثارا للتساؤلات والإجابات المتعدّدة والمتناقضة أحيانا.
ومع أن الجميع متفقٌ على أهمية الهوية الوطنية، إلا أن الخلاف واضحٌ في حدود هذا المفهوم وأهميته الجوهرية، وأبعاده الثقافية والفكرية والسياسية، وكل طرفٍ يحاول صياغة تصوراته الخاصة بشأن معنى الوطنية ومفهوم الهوية الوطنية. ويؤثر هذا التناحر في القيمة الفكرية للمفهوم، ويقلّل من فاعليته.
تلك الصراعات والتناحرات جزء مهم من الهوية المتميزة للثورة السورية، هوية تقول إن الوعي السياسي يرتب الآن بمفهوم المشاركة السياسية، وإن هذا التشارك بين السبب والنتيجة وتبادل الأدوار بينهما ستنتج منه صياغات سياسية، تعد بمستقبل أفضل للحياة السياسية – الاجتماعية في البلاد، بعد أن تحقق الثورة أول أهدافها، أي إسقاط حكم الطاغية.
العربي الجديد