جدل حول هيئة التفاوض/ بكر صدقي
ليس تدهور اعتبار أطر المعارضة السورية في الرأي العام الثوري بالأمر الجديد. فقد تعرضت جميع تلك الأطر المتعاقبة أو المتزامنة، بما في ذلك الأحزاب السياسية منفردة، لكثير من النقد المحق، في أدائها وأشخاصها وتياراتها، منذ تشكيل المجلس الوطني، خريف العام 2011، وصولاً إلى يومنا هذا.
ربما يتمثل الجديد اليوم في نزول شعار “هيئة المفاوضات لا تمثلني” إلى المظاهرات السلمية في محافظة إدلب باعتباره عنوان مظاهرات يوم الجمعة.
وكما أعادت تلك المظاهرات، المستمرة منذ أربعة أسابيع، التذكير بأجواء بدايات الثورة، كذلك أعاد الشعار المذكور التذكير بأن مصدر الشرعية هو الشعب، أو ينبغي أن يكون كذلك. وهذه مفارقة لافتة حقاً لأن السنوات التي انقضت، منذ بداية الثورة، كانت قد فصلت تماماً بين أطر المعارضة والقاعدة الاجتماعية المفترض أنها تنطق باسمها أو تمثلها. فمنذ ست سنوات، على الأقل، بلغت التدخلات الإقليمية – الدولية في شؤون المعارضة، تشكيلاً وسياسات، درجة يصعب معها الزعم بأنها تمثل الشعب أو الحراك الثوري، بقدر ما باتت تمثل محصلة تلك القوى وتدخلاتها، إلى أن وصلنا إلى التدخل الروسي الذي واظب على الضغط حتى بات له ممثلوه أيضاً داخل هيئة التفاوض (منصة موسكو، ومنصة القاهرة القريبة من خطها) وحال الفيتو التركي الدائم دون إدخال ممثلي حزب الاتحاد الديموقراطي أيضاً، وإلا لتحولت “الهيئة” إلى شبه مناصفة بين المعارضة والنظام. هذا إذا لم نحسب ممثلي الفصائل العسكرية التي هي أكثر إذعاناً، بعد، للجهات الممولة من المعارضة السياسية.
من هذا المنظور، يمكن القول إن الشعار المركزي لمظاهرات الجمعة الماضية قد لعب دوراً إيجابياً من حيث لفت نظر الأطر المعارضة إلى أمر بديهي هو أن لا قيمة وطنية لوجودهم بغير مساندة شعبية، ما لم يعلنوا صراحةً أنهم لا يأبهون بها، بقدر ما تهمهم “الشرعية” الممنوحة لهم من دول أخرى. وفي ذلك استعادة لسيرة النظام السياسي في تاريخ سوريا الذي طالما استمد شرعيته من دول العالم، وهو ما أتاح له الاستغناء التام عن الشرعية الوطنية، ومعاملة سوريا كبلد محتل، والسوريين كعبيد مملوكين له، وصولاً إلى يومنا هذا حيث فضل نظام بشار الكيماوي الخضوع لدول محتلة، روسيا وإيران، بدلاً من الاستجابة لمطالب السوريين.
لافتة هي ردود فعل بعض ممثلي “هيئة التفاوض” على شعار يوم الجمعة، حين استعاروا مفرداتهم من أقرب حاوية استبدادية: “مندسين” و”غوغاء” و”مدفوع لهم دولارات” أو “يطبقون أجندة نظام الأسد”.. إلى آخر تلك “العدة المفاهيمية” البائسة التي ورثوها حرفياً من ردود فعل النظام على الحراك الشعبي المعارض في بداية الثورة. لم تكن تلك العبارات زلات لسان أو ضعفاً في المخيلة، بل هي التي يستخدمها أصحاب السلطة، في كل مكان، حين يواجهون ما يهدد سلطتهم المنظور إليها كحق مكتسب لا يقبلون التخلي عنه.
الواقع أن هذه هي حال المعارضين المؤطرين الذين “استولوا” على مقاعد يشعرون أنهم لا يستحقونها، فيتشبثون بها ما دام مالكوها الأصليون (الدول) راضين عنهم وعن أدائهم. لذلك يستبسل هؤلاء في إرضاء أولياء نعمتهم، مقابل ازدراء أي نقد يأتيهم من خارج الإطار، والهجوم على الرأي العام الشعبي إذا انقلب عليهم.
فإذا تجاوزنا ردود الفعل المباشرة المذكورة، إلى دفاع أكثر تماسكاً وعقلانية، واجهك ممثل الهيئة بسؤال فيه جانب لا يخلو من وجاهة: وما البديل؟ إذا تم تقويض “الهيئة” فسوف يكون هناك فراغ سياسي يستفيد منه النظام وحماته الروس والإيرانيين لفرض تسوية مجحفة على السوريين. ولكن أليس هذا بالضبط ما يحدث منذ بدأت مسارات آستانة وسوتشي؟ وهل حال وجود “الهيئة” دون هذا التدهور المتواصل وصولاً إلى تشكيل “لجنة الدستور” التي تكرس بقاء الأسد ونظامه؟
الواقع أنه ليس هناك بديل سياسي ناجز فعلاً. ومشكوك في إمكانية إيجاد هذا البديل في المدى المنظور. وبخاصة إذا انطلقنا من مبدأ أن البديل المنشود يجب أن يرث الجانب الوحيد النافع في إرث المعارضة المؤطرة، ألا وهو اعتراف دولي واسع نسبياً. ولكن ألا يصطدم هذا المبدأ مع النقد الأساسي الموجه للهيئة والأطر السابقة، أعني واقع ارتهانها للدول؟ كيف يمكن الجمع بين استقلال القرار الوطني والتمتع باعتراف دولي في وقت واحد؟ ذلك أن الدول ليست جمعيات خيرية، كما نعلم، تقدم اعترافها بكيان سياسي بلا مقابل من استتباع أو منافع. فإذا خرجتِ على أجنداتها سحبت اعترافها منها واستعادت علاقاتها بالنظام. الأمر الذي يحدث الآن بالنسبة لبعض الدول العربية التي لم تعد مهتمة بمصير سوريا، بعد سنوات من التدخل النشط، بل الفض، في تشكيل بنى “الائتلاف” ثم “الهيئة العليا للمفاوضات” ثم “هيئة التفاوض” على التوالي (أحيل، في هذا، إلى العناق الحار بين وزيري الخارجية البدينين في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة) وذلك بمبادرة من تلك الدول، وليس نتيجة تنكر المعارضة لأجنداتها. فما بالك لو جاء بديل مفترض يرفض، بصورة مسبقة، أي وصاية عليه من الدول الداعمة؟
المحاكمة منطقية، ولا يمكن الرد عليها إلا برفض كل السياق السياسي الدولي المتحكم بمصير سوريا. وهو ما يفترض الاستغناء عن أي دعم دولي والاعتماد حصرياً على الإمكانات الوطنية. وهو أمر شروطه معدومة في وقتنا الحالي. حتى المظاهرات السلمية في محافظة إدلب، ما كان لها أن تخرج لولا دول وقوى أتاحت ذلك.
إلى ذلك، لا يمكن استبعاد فرضية تشجيع “خارجي” على رفع شعار “هيئة المفاوضات لا تمثلني” في إطار الصراع السعودي – القطري، أو في إطار التنافر التركي – الروسي. وهو ما قد يعني أن التدخل الخارجي لا يقتصر على المعارضات السياسية والعسكرية، بل يتجاوزها إلى القاعدة الاجتماعية نفسها. بحيث أن مصدر الشرعية الوحيد المقبول من زاوية النظر الوطنية، بات بحد ذاته مشكوكاً فيه. وهو أخطر ما يمكن لمجتمع أن يصل إليه من انقسام وتفكك.
هناك من يرون أن الشرعية المطلوبة إنما تستمد من “رؤية سياسية” هي ما مثلته شعارات الأشهر الأولى من الثورة، أو ربما “وثائق القاهرة” (2012) ويسميها البعض “ثوابت الثورة”. سنواجه، في هذه الحالة، مشكلات أكبر تتعلق بمدى استمرار صلاحية تلك الشعارات أو الرؤية أو الثوابت في يومنا الحالي، بعدما تعمقت الكثير من الشروخ الاجتماعية، وبلغت المأساة السورية الدامية أبعاداً لم تكن منظورة في بداية الثورة، وبتنا تحت واقع احتلالات مباشرة وتقسيم أمر واقع وتغييرات ديموغرافية كبيرة، وهناك تغيرات في سياسات الدول الفاعلة والمنخرطة في الصراع السوري. كل ذلك من شأنه أن يضع “الثوابت” موضع جدل وخلاف.
تبقى الفائدة من مظاهرات الجمعة الفائتة في أنها ربما تذكّر المنخرطين في مسارات جنيف وآستانة وسوتشي أنهم ليسوا أحراراً تماماً في الانزلاق إلى حضيض القبول بتسويات مخزية تفرض عليهم من دول الاحتلال.
تلفزيون سوريا