أهمية منبج/ هديل الصيداوي
أدّى اتفاق تركيا وروسيا على إقامة منطقة منزوعة السلاح في إدلب، إلى تجميد مؤقت لمختلف الجبهات الكبرى في سورية. بيد أن وضعاً معقّداً بالدرجة نفسها يتبلور في شمال البلاد، ستكون له هو أيضاً تداعيات على مستقبل سورية. ففي منبج، سوف ترتسم معالم المستقبل على ضوء العلاقة الخلافية بين الولايات المتحدة وتركيا والنظام السوري، والتوتّرات على الأرض بين العرب والأكراد.
وكما هو معلوم، لم تُنفَّذ بالكامل مندرجات خريطة الطريق التيتمّ التوصّل إليها في حزيران/يونيو 2018 بالاتفاق بين الولايات المتحدة وتركيا لطرد المقاتلين الأكراد المنتمين إلى وحدات حماية الشعب من منبج. واتّفق الجانبان الآن فقط على تسيير دوريات مشتركة، بعدما بدأت القوات الأميركية والتركية إجراء تدريبات مشتركة. وهذا في حدّ ذاته مؤشّرٌ عن تعثُّر الاتفاق.
تنطوي هذه النتيجة على مخاطر محتملة، في وقتٍ يستعدّ النظام السوري وحلفاؤه، بعد حسم الأمور في إدلب، لتحويل أنظارهم شرقاً نحو المناطق الخاضعة إلى سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تشكّل وحدات حماية الشعب جناحه المسلّح. ففي 21 أيلول/سبتمبر الماضي، وصف وزير الخارجية الروسي سرغي لافروف “الكيانات المستقلة ذات الحكم الذاتي” الخاضعة إلى السيطرة الأميركية بأنها “تشكّل التهديد الأساسي لوحدة الأراضي السورية”. وقد عنت تصريحاته ضمناً أنه يتعذّر فصل الحل في منبج عن إيجاد تسوية للمنطقة بكاملها الواقعة شمال سورية.
تجد بلدة منبج اليوم نفسها عند تقاطع مناطق تتوزّع السيطرة عليها الولايات المتحدة وتركيا والنظام السوري. غالبية سكّانها ترحّب بالاستقرار الذي يؤمّنه حكم حزب الاتحاد الديمقراطي، بعدما قامت قوات سورية الديمقراطية، وهي عبارة عن ائتلاف كردي- عربي تسيطر عليه وحدات حماية الشعب، بطرد تنظيم الدولة الإسلامية من البلدة في آب/أغسطس 2016. بيد أن قاطنيها منقسمون بسبب التنافس بين النظام والأميركيين والأتراك على السيطرة على أراضيها. إشارة هنا إلى أن قوات المعارضة السورية المنتمية إلى الجيش السوري الحر والمدعومة من تركيا، فرضت سيطرتها على منبج حتى كانون الثاني/يناير 2014 عندما استولت الدولة الإسلامية على البلدة، فاضطُر الجيش السوري الحر إلى إعادة الانتشار في أعزاز وجرابلس.
استتب الهدوء في منبج بعد قيام قوات سورية الديمقراطية بطرد الدولة الإسلامية منها. لكن اليوم، يتخوّف أبناؤها من الفوضى الأمنية في جرابلس الخاضعة إلى السيطرة التركية، حيث تنتشر أنباء عن أعمال نهب وخطف تمارسها فصائل تابعة للجيش السوري الحر. ويُبدي أنصار الجيش السوري الحر في منبج، من جهتهم، استياءهم من قوات سورية الديمقراطية التي صادرت الممتلكات العائدة لعناصر منتمين إلى الجيش السوري الحر وعائلاتهم، اتّهمتهم بالتعاون مع العمليات العسكرية التركية في سورية. يُضاف ذلك إلى الشقاق الذي وقع بين الجيش السوري الحر وقوات سورية الديمقراطية عندما تحالفت هذه الأخيرة مع شخصيات عسكرية وعشائرية كانت تنتمي سابقاً إلى الجيش السوري الحر، واستخدمتهم لتأمين التواصل مع منبج.
ونتيجةً لذلك، أصبح فاروق الماشي من عشيرة البوبنا رئيس المجلس التشريعي لقوات سورية الديمقراطية في منبج. كذلك أنشأت قوات سورية الديمقراطية مجلس منبج العسكري المؤلّف من قادة الفصائل المسلّحة المحلية، منها شمس الشمال، وجند الحرمين، وثوار منبج. وقد حصل المجلس العسكري متعدد الإثنيات على الدعم من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والذي يمتلك قاعدة في المنطقة.
ليست للولايات المتحدة مصلحة في تغيير الوضع القائم في منبج، فهي ترى فيه مثالاً ناجحاً عن بسط الاستقرار في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة الدولة الإسلامية. ويعتبر الأميركيون أن إدارة البلدة تتّسم بالفاعلية الوظيفية وبإشراك مختلف المجموعات الإثنية الموجودة فيها، حتى ولو استمرت السيطرة التي يمارسها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في إثارة النقمة في أوساط الأكثرية العربية في البلدة.
ويُعزى الاستقرار في منبج أيضاً إلى موقعها الجغرافي الفريد، والذي يجعل منها مركزاً اقتصادياً يربط مدينة حلب بالمنطقة الواقعة غرب نهر الفرات، والمعروفة بالشامية، وكذلك بالمنطقة الواقعة شرق النهر، والمعروفة بالجزيرة. تبقى منبج سوقاً كبيرة للتجّار من تل أبيض، والرقة، وعين العرب أو كوباني، وجرابلس. وتعتمد البلدة إلى حد كبير أيضاً على التحويلات المالية التي ساهمت في إعادة بناء المنازل المدمّرة وإنعاش السوق العقارية.
لطالما عوّل نظام الأسد على شبكات ووسطاء من العملاء المحليين في مختلف أنحاء سورية، بما في ذلك في منبج، من أجل ترسيخ سلطته. لقد تغيّر الطابع الاجتماعي لبلدة منبج مع مرور الوقت، من خلال تدفق الأسر العربية من مدينة حلب والباب، فضلاً عن وصول الأكراد من كوباني. بيد أن هجرة العشائر من المناطق الريفية إلى منبج هي التي منحت زعماء العشائر سطوة واسعة هناك. فمن خلال وجود هؤلاء المهاجرين، اكتسب زعماء العشائر الذين مكثوا في قراهم، نفوذاً في البلدة. وقد سعى النظام إلى استيعاب هؤلاء المشايخ القبليين عبر عرض مناصب عليهم في مجلس النواب السوري وامتيازات ضمنت ولاءهم للنظام.
خلال الحرب في سورية، سادت انقسامات داخل الهياكل القبلية في منبج، مع سيطرة مجموعات سياسية مختلفة على البلدة. وقد سعت هذه المجموعات إلى استبدال الزعماء التقليديين الموالين للنظام بآخرين موالين لها، كي تتمكّن من الوصول إلى عشائر معيّنة. وهي فعلت ذلك من خلال تنظيم هؤلاء القادة في إطار مجالس عشائرية أو هيئات أخرى خاضعة إلى سيطرتها. لكن هذه المجالس، وعلى الرغم من أدائها دوراً ناشطاً في تسوية النزاع بين فروع العشائر، لم تتمكّن من الحلول مكان زعماء العشائر الذين فضّلوا مساندة النظام. وعلى الرغم من أن الحرب أضعفت تأثير الزعماء القبليين على عشائرهم، إلا أن سلطتهم لاتزال تتفوّق اليوم على سلطة الشخصيات العشائرية المتحالفة مع الجيش السوري الحر أو قوات سورية الديمقراطية، أو سابقاً تنظيم الدولة الإسلامية.
يدرك النظام السوري وروسيا أنه ليس باستطاعتهما الاستيلاء عسكرياً على المناطق الخاضعة إلى سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، بسبب وجود قوات أميركية في تلك الأراضي. كما أنه لم يتحقق أي تقدّم ملموس في جولتَين من المفاوضات بين مجلس سورية الديمقراطية الخاضع إلى سيطرة الأكراد، وبين النظام في دمشق لتحديد الوضع النهائي للمنطقة، مايزيد من احتمالات أن يعمد النظام إلى البحث عن وسائل بديلة لفرض النتيجة التي يحبّذها في منبج وخارجها، مثل تعبئة الشبكات العشائرية الموالية للنظام ضد حكم حزب الاتحاد الديمقراطي.
لكن عدم توصّل المباحثات بين تركيا والولايات المتحدة إلى نتيجة سياسية واضحة في منبج، قد يشجّع النظام السوري على اتخاذ خطوات من شأنها أن تسبّب توتراً إضافياً في علاقات القوى المحلية في البلدة. ولهذا، يرتبط التوصل إلى نتيجة مرضية في منبج ارتباطاً وثيقاً بالعملية التي من شأنها أن تقود إلى حل أوسع نطاقاً لمستقبل المنطقة الواقعة شمال سورية.
مركز كارنيغي للشرق الأوسط