إعلان إسطنبول حول سوريا –مقالات مختارة-
النص الكامل لإعلان إسطنبول الرباعي حول سوريا
ننشر هنا النص الكامل لإعلان إسطنبول حول سوريا الذي صدر عن الاجتماع الرباعي بين الرؤساء التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين والفرنسي ايمانويل ماكرون ورئيسة وزراء ألمانيا انجيلا ميركل
إعلان إسطنبول حول سوريا:
– أكد القادة “تعهداتهم القوية حيال سيادة واستقلال ووحدة أراضي سوريا والتزامهم بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة” في هذا الصدد.
– أكد القادة “أهمية تحقيق وقف إطلاق نار شامل في سوريا ومواصلة العمل معا ضد الإرهاب”.
– دعا القادة إلى تأسيس لجنة في جنيف لصياغة دستور سوريا بهدف تحقيق الإصلاح الدستوري وتهيئة الأرضية لانتخابات نزيهة تحت إشراف أممي.
– تعهد القادة بـ”العمل معا لتهيئة الظروف التي تشجع على حل سياسي يحقق السلام والاستقرار” في سوريا.
– أكد القادة على رفض استخدام الأسلحة الكيميائية من أي طرف سواء في سوريا أو أي مكان آخر بالعالم.
– شدد القادة على “الحاجة لتهيئة الظروف المناسبة في عموم سوريا لعودة النازحين واللاجئين إلى أماكنهم الأصلية بشكل أمن وطوعي”.
أكد إعلان إسطنبول حول سوريا، الذي صدر في ختام قمة رباعية بين زعماء تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا، “دعم الحل السياسي” في سوريا و”وقف إطلاق نار دائم في إدلب”.
شارك في القمة، التي انعقدت في اسطنبول برعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين، والفرنسي إيمانويل ماكرون، إضافة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
وأكد القادة، في إعلان إسطنبول، “تعهداتهم القوية حيال سيادة واستقلال ووحدة أراضي سوريا والتزامهم بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة” في هذا الصدد.
كما أكدوا “أهمية تحقيق وقف إطلاق نار شامل في سوريا ومواصلة العمل معا ضد الإرهاب”.
ودعا القادة إلى تأسيس لجنة في جنيف لصياغة دستور سوريا بهدف تحقيق الإصلاح الدستوري وتهيئة الأرضية لانتخابات نزيهة تحت اشراف الأمم المتحدة على أن تلتئم اللجنة خلال وقت قريب قبل نهاية العام.
وتعهدوا بـ”العمل معا لتهيئة الظروف التي تشجع على حل سياسي يحقق السلام والاستقرار” في سوريا.
كما أكد القادة على رفض استخدام الأسلحة الكيميائية من أي طرف سواء في سوريا أو أي مكان آخر في العالم.
وشددوا على “الحاجة لتهيئة الظروف المناسبة في عموم سوريا لعودة النازحين واللاجئين إلى أماكنهم الأصلية بشكل أمن وطوعي، وحماية العائدين من الزج بهم في صراع مسلح، ومن الاضطهاد السياسي أو الاعتقال التعسفي، وتوفير البنية التحتية الانسانية بما في ذلك الماء والكهرباء والخدمات الصحية والاجتماعية”.
وشدد القادة على إيمانهم القوي بعدم إمكانية الحل العسكري للنزاع المتواصل بسوريا، وأن الحل ممكن فقط عبر مسار سياسي قائم على المفاوضات بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254.
ولفت القادة في هذا الإطار إلى أهمية زيادة التنسيق بين كافة المبادرات الدولية الرامية لإيجاد حل مستدام للنزاع السوري.
وجاء في الإعلان أن القادة شددوا على تصميمهم فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب بهدف القضاء على كافة التنظيمات والجماعات الإرهابية، بما فيها داعش وجبهة النصرة والقاعدة المصنفة إرهابية من قبل مجلس الأمن الدولي، وكافة الأفراد والجماعات والكيانات المرتبطة بداعش.
وشددوا على رفضهم الأجندات الانفصالية التي تهدد سيادة ووحدة أراضي سوريا، والأمن القومي للدول المجاورة.
كما أشاد القادة بالتقدم فيما يتعلق بعملية انسحاب المجموعات المتطرفة وسحب السلاح الثقيل من المنطقة منزوعة السلاح في منطقة خفض التوتر بإدلب، التي تأسست بموجب مذكرة التفاهم المبرمة بين تركيا وروسيا في سوتشي بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر الماضي.
كما أكد القادة على أهمية تطبيق تدابير بناء الثقة لمواصلة المسار السياسي وترسيخ وفق دائم لاطلاق النار.
من ناحية أخرى أعرب القادة عن دعمهم لجهود مجموعة العمل المعنية بالمعتقلين والمفقودين بسوريا، الجارية بمشاركة خبراء من الأمم المتحدة ولجنة الصليب الأحمر الدولية، فيما يتعلق باطلاق سراح المحتجزين قسرا /المخطوفين، وتسليم الجثث، وتحديد الأشخاص المفقودين.
كما ناشد الزعماء المجتمع الدولي وعلى رأسه الأمم المتحدة والمنظمات الانسانية المعنية، لزيادة المساعدات للشعب السوري.
وأعرب القادة عن تضامنهم مع الدول المستضيفة للاجئين السوريين وعلى رأسها تركيا ولبنان والأردن، والتزامهم بضمان عودتهم بشكل آمن وطوعي الى سوريا في ظروف تتماشى مع القانون الدولي.
المصدر: الأناضول
قمة إسطنبول: بالون اختبار/ علي العبدالله
جاء عقد القمة الرباعية في إسطنبول يوم السبت الماضي (27 أكتوبر/ تشرين الأول 2018)، على خلفية الاستعصاء السياسي الناجم عن وجود تصوّرين سياسيين للحل في سورية؛ وعجز أيٍّ منهما في المرور إلى مرحلة التنفيذ، بسبب الربط بين الملفات، من جهة، ولحسابات استراتيجية وجيوسياسية دقيقة ومركّبة، من جهة ثانية، فالدولتان الرئيستان في الصراع على سورية، الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، حدّدت كل منهما وجهة نظرها في مواقف معلنة؛ وصاغت تحالفاتٍ إقليميةٍ ودولية، المجموعة المصغرة (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والسعودية ومصر، والأردن) ودول مسار أستانة (روسيا وتركيا وإيران)، لتثقيل موقفها وتعزيز فرصها في دفع الطرف الآخر إلى القبول بعقد صفقةٍ سياسيةٍ بشأن سورية، تشتمل على تفاهماتٍ على ملفات عالقة بينهما؛ مستثمرة ما في يديها من عوامل قوة وأوراق ضغط.
عكست رؤيتا الدولتين للحلّ السياسي في سورية تباينا كبيرا وجوهريا. تدعو الأولى التي تعمل روسيا على تسويقها إلى إعادة النظام إلى كامل الأراضي السورية، وخروج كل القوات الأجنبية باستثناء قواتها، إذ تزعم أنها جاءت إلى سورية بناءً على طلب رسمي من حكومة النظام، كما تدعو إلى إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، والبدء بإعادة الإعمار، ووضع دستورٍ جديد، غير بعيد عن دستور عام 2012 الذي وضعه النظام، عن طريق تشكيل لجنة دستورية تخضع لشروط النظام. أمّا الرؤية الثانية التي تتبنّاها الولايات المتحدة الأميركية، فتدعو إلى تحقيق انتقالٍ سياسيٍّ وفق قرارات الشرعية الدولية، ودستور جديد يمهّد الطريق أمام خروج بشار الأسد من السلطة لتقليص النفوذ الروسي في سورية، وخروج المليشيات التابعة لإيران من الأراضي السورية، وتربط عودة اللاجئين بتوفير ضماناتٍ صلبةٍ من الأمن والاستقرار وتوفير الخدمات؛ والمساهمة في إعادة الإعمار بحلٍّ سياسيٍّ يستجيب لتطلعات الشعب السوري.
تجلى الضغط المتبادل بين الدولتين في مواقف ومطالب ميدانية وسياسية مباشرة، حيث ركّزت روسيا على عدم شرعية الوجود الأميركي على الأرض السورية، خصوصا في منطقة التنف، واتهمتها بالعمل على إقامة دويلةٍ شرق الفرات؛ وبحماية الإرهابيين في منطقة التنف، أصرّت على ضرورة رحيل القوات الأميركية من هذه المنطقة، وبنقل القوات الأميركية في سورية مسلحي “داعش” من الأراضي السورية إلى العراق وأفغانستان، “داعش” الذي “يسعى إلى الانتشار في شمال أفغانستان بالقرب من حلفائنا وشركائنا الاستراتيجيين في آسيا الوسطى”، وفق قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، واتهامها بالوقوف خلف هجوم الطائرات المسيّرة على قاعدة حميميم مطلع العام الحالي، وفق إعلان نائب وزير الدفاع الروسي، الفريق أول ألكسندر فومين، واعتبرت ربط الولايات المتحدة عودة اللاجئين، وإعادة الإعمار بالحل السياسي، موقفا تخريبيا هدفه “عرقلة عمل الدول الضامنة وجهود مفاوضات أستانة وسوتشي”، حسب قول نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف. كما عرقلت تشكيل اللجنة الدستورية، حيث لم تكتف برفض قائمة المجتمع المدني التي تقدم بها المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، بل طالبت بإعطاء النظام السوري أغلبيةً في اللجنة بالإضافة إلى رئاستها، ودعت إلى التريث في تشكيلها، “موسكو ليست متعجلة.. موقفنا يتمثل في ضرورة وضع آلية فعالة، لا نريد ولادة كيان ميت، لذلك لا مبرّر للدعوة إلى وضع مواعيد محدّدة”، وفق المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف. وذلك ردا على موقف أميركي طالب المبعوث الأممي بتسريع عملية تشكيل اللجنة، وتقديم صورة عما أنجزه بهذا الشأن يوم 31 الجاري.
عكس السجال بشأن اللجنة الدستورية، تركيبتها ودورها، خلافا جوهريا بصدد الدستور المستهدف، فروسيا تصرّ على أن يكون للنظام حصة في اللجنة الدستورية كافٍ لتمرير دستور يعيد تأهيل النظام، ويسمح لرئيسه بالترشّح مرة أخرى في أي انتخاباتٍ مقبلة، ويرسّخ الوجود الروسي شرقي المتوسط. فيما تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى دستور جديد، يكون بوابة حل ينهي نظام بشار الأسد، ويحجّم الوجود الروسي المتعاظم في سورية.
تنوعت الردود الأميركية وتصلبت، حيث ربطت بقاءها على الأرض السورية بتحقيق هدفين: إحراز تقدم في المسار السياسي، واحتواء الوجود الإيراني. وردّت على الدعوة إلى انسحابها من منطقة التنف بإجراء مناورةٍ ضخمةٍ بالذخيرة الحية، مع تأكيد جنرالاتها على الرد على أي هجوم على قواتها أو قوات حلفائها في المنطقة، وتحرّكت في الأمم المتحدة من أجل تكريس موقفٍ أمميٍّ يربط بين إعادة الإعمار والحل السياسي، حيث وجهت، مع بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وبولندا والسويد وبريطانيا، رسالةً إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تحظى بدعم دول الاتحاد الأوروبي، بموجب إستراتيجيته المعلنة في أبريل/ نيسان الماضي، تعقيبا على تحرّكات وزير الخارجية الروسي بهذا الخصوص، أعربوا فيها عن قلقهم من الضغوط المتزايدة للدفع في مسار بدء جهود التنمية وإعادة الإعمار في سورية، بصرف النظر تماماً عن موقف العملية السياسية الراهنة، قالوا فيها: “طالما أن سورية لم تتّخذ بعد أولى خطواتها على مسار الاستقرار المستدام، فإن جهود تمويل التنمية والبرامج وإعادة الإعمار لن تكون ذات معنى مجدٍ، بل وربما قد تسفر عن نتائج عكسية مزرية، تتشكل في صورة قميئة من انتشار وتفشّي الفساد وترسيخ هياكل الحكم المعيبة بشكل عميق، فضلاً عن تعزيز أركان اقتصاد الحرب”. وختموا “بضرورة صوغ دستور جديد، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ومنصفة ومستقلة وخاضعة لإشراف الأمم المتحدة وهيئاتها ضمن بيئة آمنة ومحايدة”. ويُلحظ عكوف الإدارة الأميركية على وضع إستراتيجيةٍ جديدةٍ للعمل في سورية، تتضمن فرض عقوباتٍ على الشركات الروسية والإيرانية المشاركة في إعادة الإعمار، وفق ما نقلته قناة أن بي سي الأميركية عن مصادر في الإدارة. وحذّر الممثل الأميركي الخاص بسورية، جيمس جيفري، النظام السوري، إذا لم يتعاون مع إعادة كتابة الدستور من أنه “سيصبح شغلهم الشاغل، جعل حياته أسوأ ما يمكن لهذا النظام المتداعي، وسنجعل الروس والإيرانيين الذين أحدثوا هذه الفوضى يهربون منها”. وقال نائب رئيس لجنة العلاقات الدولية في المجلس الفيدرالي الروسي فلاديمير غاباروف: “في حال حصل وفُرضت إجراءات (عقوبات أميركية)، سترد روسيا بشكلٍ مماثل”. هذا بالإضافة إلى إعلانها نيّتها الانسحاب من الاتفاق بشأن الأسلحة النووية المتوسطة الذي اتفق عليه مع الاتحاد السوفياتي عام 1987، ودفعها إلى استقلال الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، وتسليح أوكرانيا؛ وإجراء مناوراتٍ ضخمة على أراضيها، وتفعيل القانون الفيدرالي المسمّى “مواجهة أعداء أميركا من خلال قانون العقوبات”، بفرض عقوباتٍ على كل دولةٍ تشتري أسلحة من روسيا.
على هذه الخلفية المتباينة والخطيرة، عقدت القمة الرباعية، قمّة جمعت فرنسا وألمانيا من المجموعة المصغرة التي تتبنّى الرؤية الأميركية، وروسيا وتركيا، من تجمع أستانة التي تتبنى الرؤية الروسية. مع ملاحظة أن تركيا تُخالف روسيا في بعض النقاط، مثل مصير رأس النظام، من جهة، وتريد التقرّب من الغرب، من واشنطن خصوصا، لتقوية موقفها بمواجهة روسيا في إدلب، من جهة ثانية، عقدت من دون توقع تحقيق نتائج إيجابية واضحة ومحدّدة، في ضوء التباين الكبير في المواقف والتمسّك بها، فروسيا تدعو الدول الغربية إلى الانخراط في عملية إعادة الإعمار، في وقتٍ تريد أن تحتفظ لنفسها مع حلفائها المحليين والإقليميين بالسيطرة الكاملة على مسار المفاوضات، وعلى مستقبل سورية ذاتها. وتريد جذب المعارضة السورية إلى موقفها، وإقناعها بالاصطفاف وراء خططها للحل السياسي، في الوقت الذي لا تخفي فيه لحظةً تمسّكها بحكم الأسد، وتأكيدها شرعيته، أي نفيها شرعية الانتفاضة الشعبية ذاتها، وفق محللين. الولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى معها، تسعى إلى الوقوف في وجه محاولات روسيا فرض تصورها ورؤيتها للحل في سورية وترسيخ وجودها وتكريس مصالحها شرقي المتوسط، ما يمنحها أوراق قوةٍ في ملفات إقليمية ودولية عديدة أخرى. وهذه (المحاولات) ما أراد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الاعتراض عليها بحديثه عن “الحرب بين النظام والمعارضة”؛ محاولا إعادة الاعتبار لجذر الصراع.
لم تحقق قمة إسطنبول الرباعية (تركيا، روسيا، فرنسا، ألمانيا) اختراقا سياسيا؛ ولم تنجح في جسر الهوّة بين مواقف أطرافها، لذا جاءت صياغة البيان الختامي عامة، وطلباته مفتوحة بحيث ترضي الجميع، تعبيرا عن بقاء الخلافات والتباينات في المواقف والتصورات بشأن الحل النهائي قائمةً وراسخة.
العربي الجديد
مسار جديد في إسطنبول؟/ مروان قبلان
باستثناء بيان مشترك عام، أكّد حتمية الحل السياسي للأزمة السورية، فشلت قمة إسطنبول الرباعية في تحقيق أيّ من أهدافها. وخلا التزامٌ “مضطربٌ” قدّمته روسيا باحترام اتفاق المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، والتي وصفها الرئيس بوتين بأنها “مؤقتة”، لم تحصل أيٌّ من الأطراف المشاركة على مبتغاها من القمة، فتركيا كانت تأمل في اتفاقٍ على خريطة طريقٍ واضحةٍ لحل الأزمة، تمهيدا لعودة اللاجئين السوريين. وكانت روسيا تأمل بدعم أوروبي لخطتها الرامية إلى إعادة الإعمار وعودة اللاجئين بغض النظر عن نتائج العملية السياسية. أما ألمانيا فقد فشلت في الحصول على تعهد روسي قاطع بعدم الهجوم على إدلب مستقبلا، خوفا من إطلاق موجة لجوءٍ جديدةٍ إليها، فيما فشل الجميع في إقناع الأتراك بالموافقة على ضم الأكراد لمسار الحل في سورية.
مع ذلك، وعلى الرغم من تواضع نتائج القمة، بدا الجميع مهتمين باستمرار المسار الذي بدأ في قمة إسطنبول، وضم للمرة الأولى دولاً من مجموعة أستانة التي تشمل أيضا إيران، ومن مجموعة العمل المصغرة التي تشمل أيضا الولايات المتحدة وبريطانيا والأردن والسعودية ومصر. ترى تركيا، صاحبة الدعوة، أن المسار الجديد يمكن أن يسهم في التوصل إلى أرضية مشتركة للحل، عوضا عن استمرار التنافس والصراع بين المجموعتين، وهي، أي تركيا، الوحيدة المؤهلة، وصاحبة المصلحة الأكبر في أداء هذا الدور، باعتبارها أكبر مستقبلة للاجئين السوريين، وصاحبة أطول حدود مع سورية، وكونها عضوا في مجموعة أستانة، لكنها أقرب في رؤيتها إلى الحل إلى مجموعة العمل المصغرة التي تدعو إلى العودة إلى مسار جنيف. لبقية أطراف القمة أيضا مصلحة في نشوء مسار جديد في إسطنبول، فالرئيس بوتين يدرك أن مسار أستانة استنفد أغراضه تقريبا، فبعد انتهاء المعارك الكبرى في سورية، سوف يتركّز الصراع على تحديد شكل الحل السياسي ومرتكزاته، وفي هذا يبدو الدور الأميركي والأوروبي أكثر أهمية، سواء في قضايا الإعمار واللاجئين أو بشأن التسوية السياسية، ما يتطلب مقاربة روسية مختلفة في التعامل مع المسرح السوري وأطراف الصراع فيه.
يحصل هذا في وقتٍ يتزايد فيه التوتر الروسي، نتيجة تبنّي واشنطن استراتيجيةً أكثر تشدّدا في سورية، قوامها عدم السماح للروس والإيرانيين بتقرير نتيجة الحل السياسي، بعد أن حسموا الصراع عسكريا. وقد وضعت واشنطن ثلاثة أهداف رئيسة، لتبرير احتفاظها بوجود عسكري وسيطرة في مناطق شرق الفرات، هي إلى جانب منع انبعاث “داعش”، احتواء إيران، ومقايضة وجودها العسكري في سورية بحلٍّ سياسيٍّ يأخذ مصالحها بالاعتبار. وكان ملفتًا أن تركيا حصلت، للمرة الأولى منذ بداية الأزمة، على دعم أميركي واضح، للدفع بقواتها إلى إدلب، وهي تريد منها الاحتفاظ بوجود عسكري كبير فيها. وقد لعبت واشنطن دورًا، ربما كان الأهم، في منع هجوم روسي على منطقة خفض التصعيد في إدلب، مهدّدة بالتدخل عسكريًا.
من هنا، يوفر مسار إسطنبول لروسيا إمكانية انتزاع موقف أوروبي أكثر تفهمًا لسياساتها، في مقابل حصول الأوروبيين على منصةٍ للعب دورٍ أكبر في سورية، في ضوء زيادة اهتمامهم بها، وتلاشي أوهامهم بإمكانية إبقاء شرر الحرب فيها بعيدةً عنهم، سواء في ما يخصّ تدفق لاجئينا إليهم، أو تدفّق جهادييهم إلينا. روسيا التي تحتاج دعما أوروبيا وتركيا لتمرير رؤيتها للحل السياسي تحتاج أيضا تمويلا أوروبيا لإعادة الإعمار، وبدونه تكون روسيا ربحت الحرب، لكنها خسرت في السياسة.
ويبدي الألمان اهتماما بمسار إسطنبول، إذ باتوا من خلاله طرفا في اتفاق المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، بما يفيد في منع موجة لجوءٍ جديدة، تعزّز مواقع اليمين الصاعد الذي بات يهدّد مستقبل الاتحاد الأوروبي، مشروع ألمانيا السياسي والاقتصادي الأكبر. أما فرنسا التي عزّزت وجودها العسكري أخيرا في مناطق شرق الفرات لدعم “قوات سورية الديموقراطية” في مواجهة “داعش”، فقد وجدت أخيرا ضالّتها في منصةٍ تسمح لها بهامشٍ مهما كان محدودا لحماية مصالحها، ودورها التاريخي المتضائل في الشرق، لكن أي نتائج محتملة للمسار الجديد تبقى مرهونةً بموقف واشنطن التي يبدو أنها حسمت أمرها لجهة التمسّك بحصتها من “الغنيمة” السورية.
العربي الجديد
كواليس قمة إسطنبول/ سلام الكواكبي
من المتعارف عليه دولياً ألا يجتمع رؤساء دول، مهما كانت أهميتهم وأهمية دولهم، في قمة ما ليقوموا بإجراء مباحثات من نقطة الصفر في الشؤون الحساسة التي تعصف بمصالحهم، أو ليناقشوا ألف باء الملفات الساخنة التي يجدونها أمامهم على الطاولة أو التي يحملونها معهم في حقائبهم الجلدية النظيفة. فالحقيقة والتجربة والملاحظة التاريخية تُشير إلى أن ملفات القمم تكون قد أُعِدّت من قبل الموظفين المختصين بعد نقاشات طويلة ليأتي القادة في قمتهم للاتفاق على اللمسات الأخيرة وإعلام النتائج مهما هزلت أو كبرت.
كذا قمة إسطنبول التي جمعت الأسبوع الماضي رؤساء روسيا وفرنسا وتركيا ومستشارة ألمانيا، للبحث في الملف السوري ومحاولة الخروج بنتيجة تضعه أمام بدء السير في اتجاه الحل السياسي بعد مقتلة دامت سبع سنوات ونيف. فمن شبه المؤكد بأن ما تم الإعلان عنه قد جرى الاتفاق عليه قبل وصول القادة الثلاث إلى قصر مضيفهم التركي. وبقيت بعض النقاط الخلافية التي كانت لا تبحث عن حل بقدر ما هي تبحث عن إخراجٍ مناسب للإعلان أمام الصحافة والرأي العام العالمي.
لم يكن أحد ينتظر أكثر مما تم الإعلان عنه من نتائج تقارب العدم. من تمديد للهدنة في إدلب ومن دعم لمسار الأمم المتحدة المتعثّر منذ بدايته، وخصوصاً تحت إدارة الموظف
الطموح ستيفان دي مستورا، ومن سعي لإقناع “الحليف” الروسي بإقناع حليفه السوري لقبول تشكيل اللجنة الدستورية سالفة الذكر مراراً وتكراراً لإلهاء من لم يلته بعد بجزئيات لا تُغني ولا تُسمن ما فتئ مبعوث الأمم المتحدة، هو وفريقه، يتسلون برميها أمام المتصارعين حاصلين منهم على بعض اللعاب المتطاير أو بعض الخنوع المتعاظم أو بعض الانتظار المتفاقم.
فعن أي دستور يُشغل السيد الأممي ندماءَه وسُمّاره؟ وما نفع دستور في بلد لم يطبق فيه أيٌ من دساتيرها منذ عقود؟ وهل العلّة في الدستور القائم أو السابق أو أسوأ دستور عرفته الجمهولكية السورية حتى اليوم؟
انهماك القادة الأربع في تعظيم مسألة اللجنة الدستورية هو وقوعٌ بائن في فخٍ روسي مُحكم وغليظ لثني من ظل يعتقد بأن الحل هو في عملية تحول سياسي حقيقي، وليس في كتابة دستور، مهما كان هذا الدستور عظيم المحتوى، ادماجي للمكونات، ليبرالي النفحة، علماني التنصيص، يحمل في جعبته مساواة جندرية مثالية. وكل هذه الفقرات، تُشغل دي مستورا ومن يعتقد بملهاته الأممية عبر أشهر من النقاش ومن الورشات ومن التدريبات. ولتتوج كل عملية ذر الرماد في العيون وفي الثغور المفتوحة اندهاشاً، برفض ظاهري لحكومة دمشق لأي تدخل للأمم المتحدة في شأنٍ تعتبره سيادياً. وحيث يبدو أن لسوريا “سيادة” ملموسة للغاية منذ 2011 (…) بحيث صارت الجمهورية كالمساحة المفتوحة في المكاتب الجماعية يجتمع بين جدرانها وفي تلالها ووديانها من هبّ ودبّ من ميليشيات وجيوش وعصابات وأجهزة أمن سرية وعلنية لكل الدول المحيطة والصديقة والشقيقة والعدوة نظرياً أو عملياً.
وعلى الرغم من الموافقة الروسية النظرية على ضرورة تفعيل اللجنة الديمستورية إلا أن توزيع الأدوار يقتضي أن يتم رفضها ممن لا قدرة لهم على رفض إملاءات موسكو مهما هزلت إلا حينما يتعلق ذلك بإضاعة الوقت وإقناع “الزملاء” الأوروبيين بأن موسكو تلاقي “صعوبة” تُذكر في “إقناع” دمشق بقبول “التنازل” والانضمام إلى هذه اللجنة التي صار الحديث عنها مثل نغمة الشيطان التي تتكرر دون أن تُطرب، بل على العكس.
قمة إستنبول ليست جبلاً تمخّض عن فأر، بل هي مجموعة من الأوهام المتراكمة منذ سنوات نجح الدب الروسي في وضعها أمام المتحاورين
لكي يُقرّر هو فيها ولكي يدعوهم للمتابعة والتنفيذ. ليس بالتأكيد سيد الكرملين القابع على اقتصادٍ متهاوٍ قادرٌ تماماً على هذا الفرض النظري، ولكنه يُجرّب مستغلاً هامش العجز البنيوي للسياسة الخارجية الأوروبية المؤلفة من 27 سياسة خارجية منفصلة بعدد دول الاتحاد، وبفضل سعي السيد ماكرون، الذي يرأس فرنسا التي تلعب دوراً قيادياً تقليدياً إلى جانب ألمانيا في الاتحاد، إلى لعب دور لاعب السيرك الذي يرمي الحلقات المعدنية في الهواء محاولاً التقاطها أثناء السقوط وإذ بها تسقط على الأرض الواحدة تلو الأخرى، في سياسته الداخلية كما الخارجية. ومع هذا الفشل الموصوف، فهو يستدير نحو الجمهور طالباً التحية والتصفيق. كما أن بوتين المحنّك استخباراتياً، يستفيد من انعزالية راسخة في السياسة الخارجية لحليفه الموضوعي دونالد ترامب والتي أشد اهتماماتها توسيع الأسواق وزيادة الأرباح. وفي النهاية، الجميع مستفيدون من خواء العمل الجماعي العربي ممثلاً بجامعة عربية لم يعد يسمع بها إلا الحجّاب الذين ينظفون ممراتها من أعقاب سجائر الشاعرين بالملل من موظفيها.
ما أُعلن عنه في قمة إسطنبول ليس هو ما تم الاتفاق عليه فيما سبق انعقادها لإقراره. ولكن الإعلان عما جرى الاتفاق عليه ليس بالأمر المتاح في هذه المرحلة بالذات. وعلى من يرغب، أن يتسلى بالحديث عن اللجنة الديمستورية إياها ويُناقش تركيبتها ومدى تمثيلها لهذا المكون أو ذاك حتى ينكشف المستور.
تلفزيون سوريا
قمة إسطنبول: مجرد جسر/ عائشة كربات
كانت الصورة التي رسمت من قبل قادة تركيا وألمانيا وفرنسا وروسيا في حديقة “الكيوسك” التي كانت في يوم من الأيام تعود إلى آخر سلطان عثماني فهد الدين، تقول الكثير.
في تلك الحديقة، على الأرجح كما فعل السلطان فهد الدين في إحدى المرات؛ سأل أردوغان وبوتين وميركل وماكرون أنفسهم: ما الخطأ الذي حدث وما الذي يمكن عمله لإصلاحه عندما يتعلق الأمر بسوريا؟.
ربما فكرت ميركل وماكرون في الثمن الذي كان عليهما دفعه مقابل عدم امتلاكهما الشجاعة الكافية لاتخاذ خيارات صعبة في بداية النزاع. الخوف من تطرف الثورة، الذي دفعهم إلى عدم إجبار الأسد على الخروج، الأمر الذي ساهم في التطرف على أية حال، كلفهم الكثير. هذا الأمر لم يخلق فقط مشكلة لجوء كبيرة لأوروبا، بل مشكلة عدم استقرار هائل في المنطقة حيث لم يعد توازن القوى كما كان في السابق؛ عليهم الآن مواجهة روسيا أقوى وإيران أكثر نفوذاً.
في تلك الحديقة على الأرجح، اعتقدوا أيضاً أن ترك المسألة فقط للولايات المتحدة لم يكن قراراً حكيماً أيضاً؛ في نهاية المطاف، لديهم ولايات متحدة يحكمها ترامب الذي لا يهتم بالمخاوف الأمنية في أوروبا وهو مهووس بإيران. إن نظرته العمياء إلى سلوك السعوديين الذي يخلق حالة عدم استقرار، بما في ذلك ارتكاب جريمة قتل في القنصلية في إسطنبول، هو على الأرجح الهبوط الآخير، خاصة بالنسبة لميركل. ربما لهذا السبب فضلت حضور قمة اسطنبول علماً أنها لم تكن راغبة في ذلك عندما وضعت تركيا فكرة عقد هذا الاجتماع على أجندة صيف هذا العام.
على الأرجح كان لدى ماكرون أفكار مشابهة لميركل على الرغم من أنه أجرى محادثة طويلة مع ترامب قبل مجيئه إلى اسطنبول، ولا يزال يأمل أن تلعب الولايات المتحدة دوراً إيجابياً في سوريا. كذلك كان يتصرف كظل للإدارة الأميركية في قمة اسطنبول، لكن يبدو أن كلا من ميركل وماكرون يدرك أن الوقت قد حان لإظهار بعض التضامن مع تركيا على الرغم من الفزع الذي يشعر به زعيمها.
أنقرة التي تشعر بالسعادة لانعقاد القمة في اسطنبول، اكتسبت نفوذاً ضد روسيا لكنها لم تحصل على ما تريده تماماً. البيان الختامي للقمة لا يتحدث عن وحدات حماية الشعب الكردية وهي “منظمة إرهابية” بالنسبة لأنقرة ولكنها مدعومة من قبل الولايات المتحدة وفرنسا. تعتقد أنقرة أن تسليح وحدات حماية الشعب من قبل الولايات المتحدة يشكل تهديداً وجودياً لها، لكن مع ذلك، عندما يتعلق الأمر بمستقبل سوريا، فإن تركيا تصبح أكثر قرباً مع أوروبا، هي مثلهم في ذلك تريد سوريا ديموقراطية ومستقرة وأقل إيرانيةً.
الروس مستعدون للتعاون مع أوروبا أكثر مما اعتادوا عليه. إن السعي إلى العودة كقوة عالمية وتحقيق هذا الهدف تقريباً، ومواصلة التعاون مع إيران، قد يعرض هذا الموقع الذي اكتسبته موسكو بصعوبة إلى خطر محيق. كذلك تدرك موسكو حقيقة أن الأموال الأوروبية ضرورية لإعادة إعمار سوريا، وأن الحل السياسي في دمشق هو الشرط المسبق لأوروبا لفتح خزائنها في سوريا.
هذه التحولات الذهنية لم تكن السبب الوحيد لقمة اسطنبول. وقد ثبت أنه عندما يتعلق الأمر بسوريا، فإن الاجتماعات مع عدد محدود من المشاركين، تهدف إلى إيجاد حلول عملية وجزئية، تحقق نتائج. إذا أجرينا مقارنة بين عملية جنيف وبين مسار أستانة يظهر هذا الواقع بشكل أوضح.
وعلى الرغم من هذه التحولات الذهنية، ليس من الواضح ما إذا كانت هذه القمة الرباعية يمكن أن تتحول إلى آلية دائمة. يعتمد ذلك على تنفيذ قرارات قمة إسطنبول. إذا كان من الممكن أن تكون هناك لجنة دستورية حتى نهاية هذا العام، وإذا كان هناك مؤتمر دولي ناجح بشأن اللاجئين مثلما تصورت قمة اسطنبول، فسيكون من الممكن القول إنه مع نجاحها، توجد آلية رباعية يمكنها أن تكمل.
عندها فقط يمكن أن يجري الربط بين مسار أستانة وعملية جنيف عبر جسر مشابه لجسر البوسفور الذي شوهد وراء القادة عندما كانوا يظهرون في “كيوسك” فهد الدين. إذا لم يكن الأمر كذلك، فسيكون لدى الزعماء المزيد من الوقت للتفكير في الخطأ الذي حصل، ولكن ربما على طريقة السلطان فهد الدين عندما لم يترك أي سلطة لتغيير المستقبل المدمر الذي يقترب.
المدن
قمة اسطنبول “السورية”/ إياد الجعفري
من غير الواضح بعد، هل نجح الابتزاز التركي – الروسي المزدوج، بـ “فزاعة إدلب”، في اجتذاب الفرنسيين والألمان ليصبحوا قريباً من المسار الذي اشتقه “ثلاثي أستانة” للأزمة السورية؟، أم أن قمة اسطنبول هي خطوة متقدمة للتفاوض بين المعسكرين الرئيسيين، بخصوص مصير سوريا؟
فقمة اسطنبول المرتقبة، بعد أيام، والتي ستجمع زعماء روسيا وتركيا وفرنسا وألمانيا، للتباحث بخصوص الملف السوري، كانت حصيلة مساعٍ تركية، بدأت منذ أكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن تُكلل بالنجاح. ولم يكن الروس بعيدين عن تلك المساعي، فهم وجهوا دعوات علنية، أكثر من مرة، إلى ألمانيا وفرنسا، والولايات المتحدة أيضاً، للمشاركة النوعية في جهود إعادة الإعمار بسوريا. ورفضت الأطراف الغربية ذلك، إلا بعد الدخول في عملية انتقال سياسي جدّية، فصّلوا رؤيتهم لها في وثيقة “مجموعة سوريا المصغّرة” التي سُرّبت قبل أسابيع.
وقد أُجهضت محاولة سابقة لعقد هذه القمة، في 7 أيلول/ سبتمبر الفائت، وأُرجع السبب حينها إلى التهديد الأسدي – الروسي بالهجوم على إدلب، وبدا أن الألمان والفرنسيين ابتزوا الروس حينها، ودعموا الموقف التركي في المفاوضات مع موسكو حول مصير إدلب، ورفضوا حضور لقاء اسطنبول على مستوى القادة، ليُعقد بدلاً منه اجتماع على مستوى مندوبي الدول الأربع. بعيد ذلك، نجح الأتراك في إنجاز اتفاق “سوتشي” مع الروس، وجنّبوا إدلب هجوماً كارثياً. لكن مؤشرين رافقا تلك الأحداث، قد يدفعا نحو تفسير آخر لفشل عقد قمة اسطنبول في موعدها السابق. الأول، كان قبيل عقد القمة، في مطلع شهر أيلول/سبتمبر، إذ صدر تصريح عن الخارجية الأمريكية، قالت فيه إنها “لا ترى بديلاً لمفاوضات جنيف حول التسوية السورية”، ونفت علمها بأي نيّة لمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في القمة المرتقبة، في ذلك الحين. أما المؤشر الثاني فكان بعيد إلغاء القمة، إذ انتشر التسريب الخاص بوثيقة “مجموعة سوريا المصغّرة”، الذي قدّم رؤية غربية للحل في سوريا، معدّلة بشكل طفيف عن سابقتها. ونُسبت صياغة الوثيقة حينها، إلى جيمس جيفري، مستشار الخارجية الأمريكية، المعني بالشأن السوري، والذي بدأ يتحرك بنشاط، منذ توليه مهامه، باتجاه استعادة زمام السيطرة الأمريكية على موقف الحلفاء الغربيين، حيال الملف السوري.
المؤشران المذكوران، إلى جانب غياب الأمريكيين اليوم أيضاً عن قمة اسطنبول المرتقبة، يدفعان باتجاه تفسير مفاده أن الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال تقاوم المساعي الروسية لاجتذاب الغرب نحو مسار تفاوضي بعيداً عن مرجعية جنيف الدولية. كما أن حضور الفرنسيين والألمان للقاء على مستوى القمة مع الروس والأتراك لبحث الملف السوري، بمعزل عن الأمريكيين، يدفع إلى تصور مفاده أن أنقرة وموسكو نجحتا في اختراق الموقف الغربي. واستند ذلك الاختراق بالتحديد إلى “فزاعة إدلب” التي لوّح بها الروس واستثمرها الأتراك أيضاً في الاتجاه نفسه. التلويح التركي تمثّل في الحديث عن مليون لاجئ، قد يتدفقون على تركيا، إذا حصل الهجوم على إدلب، وأن تركيا لن تتحمل ذلك، وستفتح لهم الأبواب باتجاه أوروبا. هذا التلويح التركي ما يزال مستثمراً حتى اللحظة. وبالأمس، نقلت وكالة “الأناضول” التركية، ترجمة لمقال نشره السفير التركي في واشنطن، سردار قليج، عبر موقع “ديفنس ون” الإخباري المتخصص في شؤون الدفاع، والمقرّب من الجيش الأمريكي، يتحدث فيه عن ضرورة دعم الغرب لاتفاق سوتشي حول إدلب، مستفيضاً في الحديث عن خطر مئات آلاف السوريين الذين سيتدفقون إلى أوروبا، والإرهابيين الذين سيتسللون في أوساطهم، إلى هناك. هذا التلويح يستهدف هذه المرة الأمريكيين. وقد نجحت سابقاته في زحزحة الأوروبيين، خطوات، ليقتربوا من مسار “أستانة” المدشن من الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني.
وبمناسبة ذكر الإيراني، يبدو أن تغييب الأخير عن قمة اسطنبول، كان يستهدف استمالة الأمريكيين. لكن واشنطن لم تُبدِ استعداداً للانخراط في مسار تفاوضي مع الروس والأتراك حول سوريا، حتى الآن، وإن كانت لم تعارض بشكل علني، عقد لقاء القمة هذه المرة، كما فعلت في المرة السابقة. وهو مؤشر قد يعزز تفسيراً مفاده أن الغرب يحاول اختبار فرص التفاوض مع “ثلاثي أستانة” بخصوص سوريا. وإذا تأكد ذلك فإنه يعني أن الغرب بأكمله يتجه خطوات بعيداً عن مرجعية جنيف، بما يخدم مساراً تفاوضياً جديداً، بمرجعيات جديدة، حول سوريا.
قد يكون من الصعب بمكان، الجزم أيُّ التفسيرين هو الأرجح، في الوقت الراهن. لكن، سواء كانت قمة اسطنبول، تعبيراً عن اختراق روسي – تركي للموقف الغربي حيال سوريا، أو كانت خطوة متقدمة للتفاوض بهذا الشأن، تبدو هذه القمة، التي يغيب عنها السوريون من كل الأطراف، انزياحاً غربياً نوعياً عن مرجعية جنيف، الأمر الذي قد يمهّد لسيناريوهات، أحدها تعزيز مسار “أستانة” بدعم أوروبي، أو الذهاب أبعد من ذلك، وعقد اتفاق إقليمي – دولي، ينهي الصراع في سوريا، بخاتمة تقترب من الرؤية الروسية للحل هناك. فالإصرار الروسي على الخروج عن مسار جنيف التفاوضي، تعبير عن رغبة موسكو في إغلاق ملف القرارات الدولية التي تشكل مرجعية لذلك المسار، والتي تتحدث عن عملية انتقال سياسي في سوريا، تشكل تحدّياً خطيراً لنظام الأسد.
في هذه الأثناء، تراكم تركيا مكاسب جزئية، من اللعب على الحبلين، بين الروس والإيرانيين من جهة، وبين الغرب من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه، تخاطر في التورط أكثر باللعبة السياسية الروسية، والإقرار بقواعدها المفروضة بقوة السلاح، في سوريا. أما بالنسبة للسوريين، تبدو قمة اسطنبول بخصوص بلادهم، أبعد ما تكون عن مصالح شريحة واسعة منهم، قد تكون معرّضة في فترة قريبة، لضغوط من مختلف الأطراف، للقبول بإعادة تأهيلٍ لنظام الأسد، الذي يرفض حتى الآن، إخراجها بشكل لائق، حتى لو كان ذلك عبر عمليات تجميلية، لا أكثر.
المدن
بوتين يكتفي بحصته وإيران في «سورية المفيدة»/ جورج سمعان
قمة اسطنبول التي ستضم زعماء تركيا وروسيا وفرنسا والمانيا ستعزز موقف أنقرة وحضورها في شمال سورية. وسترسخ اتفاق سوتشي الذي عقد منتصف الشهر الماضي بين الرئيسين فلاديمر بوتين ورجب طيب أردوغان، وجنب منطقة إدلب حرباً كان النظام السوري وحلفاؤه يستعدون لها. ستكون القمة مناسبة لطرح وجهتي نظر «ثلاثي آستانة» و»مجموعة السبع» الغربية – العربية (تضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا والسعودية والأردن ومصر). لن يخرج الحل السياسي لأزمة سورية من هذا اللقاء السبت المقبل. لن تكون موسكو قادرة على إقناع أوروبا بالمساهمة في إعادة إعمار بلاد الشام في غياب التسوية السياسية. ولا الرئيس ايمانويل ماكرون والمستشارة أنجيلا ميركل سيكونان قادرين على دفع سيد الكرملين إلى تغيير موقفه أو مشروعه الخاص في هذا البلد. لو كانت هناك نافذة لإطلاق التسوية لما تعثر قيام اللجنة الدستورية. بل لما كان المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا قدم استقالته بعد أربع سنوات من توليه هذه المهمة. علماً أنه كان عليه أن يستعفي من زمن. شعر متأخراً بأن كل الخدمات التي قدمها إلى حلفاء دمشق أثارت حفيظة الأميركيين وغضبهم. لم ترق لهم مساهمته في إفراغ كل القرارات الدولية، خصوصاً القرار 2254، من مضمونها، وسيره خلف آستانة وسوتشي، وأخيراً في طرحه أسماء مرشحة للجنة الدستورية كانت ستغلب بالتأكيد حضور النظام وحلفائه في أعمالها. فالمعروف أن في صف المعارضة ممثلين لـ «منصة» موسكو و»منصة» القاهرة أيضاً. الأمر الذي يعني ببساطة وقوع اللجنة تحت سيطرة دمشق وحليفيها. ولا شيء يضمن بعد ذلك انجاز الدستور المرجو، خصوصاً لناحية تقليص صلاحيات الرئيس. لذلك رفعت واشنطن وشريكاتها الصوت اعتراضاً… ولذلك لا يرضى النظام السوري أيضاً بلجنة تضم ممثلين للتيارات المدنية تحوز موافقة الغرب، وتفقده الغالبية والغلبة.
أذاع نبأ القمة الرباعية الرئيس أردوغان في تموز (يوليو) الماضي. كانت في حينه استجابة لرغبة روسيا. لكنها تعثرت وصرف النظر عنها بعدما أدرك الرئيس بوتين، إثر لقائه السيدة ميركل في فيينا الشهر التالي، أنها لن تحقق مرامه. كان يروج لمشروع إعادة اللاجئين وبدء ورشة الإعمار. وضعت باريس شروطاً. وكذلك فعلت الدول الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة المعنية بهذين الملفين. فهي تدرك أن سيد الكرملين لن يقدم شيئاً يضير دمشق أو يغضبها. لن يكشف حقيقة موقفه من مستقبل النظام ومصير الرئيس بشار الأسد بعد انتهاء ولايته في العام 2021. إنه يصر على إطلاق الحل السياسي من دون أن يقدم أي ضمانات تتعلق بهاتين النقطتين، إضافة إلى مستقبل الحضور الإيراني الذي يزداد انتشاراً. كما أن الغرب الذي تدعوه موسكو إلى المساهمة في إعادة الإعمار سيركز في حال انخراطه في هذه الورشة على المناطق الأكثر تضرراً في البداية، وهي لأهل المعارضة، كمثل حمص وحلب. في حين أن المدينتين تقعان اليوم تحت سيطرة طهران والميليشيات الموالية. وثمة أسئلة أخرى تطرحها العواصم الأوروبية عن صلاحياتها في هذه الورشة. فكيف لها أن تقتطع من موازاتها البلايين لإنفاقها في مناطق لا سلطة لها فيها على ميليشيات النظام وغيرها؟
القمة الرباعية لم تعد منذ شهرين وأكثر حاجة للرئيس بوتين. فهو إذا كان يخفي في جعبته أوراقاً تتعلق بمستقبل النظام والميليشيات، خصوصاً الموالية لإيران، فإنه لن يقايض عليها زعماء أوروبا. يفضل بالتأكيد أن تكون جزءاً من صفقة مع الرئيس دونالد ترامب. والصفقة بعيدة الآن بعدما عادت إدارة الأخير إلى استراتيجية جديدة حيال سورية عنوانها البقاء في شرق هذا البلد حتى إنهاء آخر جيوب «داعش» وقيام التسوية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة، وخروج إيران وميليشياتها. وهي تبحث اليوم في أنجع الوسائل لمحاصرة نفوذ طهران. لذلك كان الرد السريع من زعيم الكرملين قبل أيام أن انسحاب إيران من سورية ليس مشكلة روسيا. هو «قضية يجب حلها بين إيران وسورية، وإيران والولايات المتحدة»! وأبدى استعداده للمشاركة في هذا الحوار. وتابع يوم الخميس في مؤتمر مجموعة فالداي للحوار الاستراتيجي في سوتشي أن تدخل بلاده حال دون تفتت أراضي بلاد الشام «وتحولها إلى سيناريو شبيه بالصومال». لكن المثير قوله في هذه المناسبة أن القوات الروسية «حررت نحو 95 في المئة» من هذه الأراضي! في حين يعرف تماماً أن نحو أربعين في المئة من الأراضي السورية لا تخضع للنظام، على حد ما ذكّره به المبعوث الأميركي جيمس جيفري.
بات واضحاً ان الرئيس بوتين لن يتخلى عن «الورقة الإيرانية». قال جون بولتون مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي أن سيد الكرملين لا يريد إيران في سورية، وأنه ليس قادراً وحده على إخراجها من هذا البلد. كان ذلك قبل شهرين، وقد يكون الأمر صحيحاً. تبدلت الظروف مع الانعطافة السياسية الكبيرة لإدارة ترامب حيال بلاد الشام. لم تعد موسكو مهتمة بالعمل على إخراج قوات «الحرس الثوري» وميليشياته. بل هي لم تكن يوماً جادة في هذا الهدف. لقد قدمت إليها هذه القوات سنداً كبيراً في الميدان، ووفرت عليها إرسال قوات برية كبيرة للقتال إلى جانب النظام. ولا تزال تحتاج إليها ما دامت تقيها مشقة الانخراط المباشر في القتال الميداني على الأرض. وإذا كانت واشنطن تتوكأ على «قوات سورية الديموقراطية» و»وحدات حماية الشعب» الكردية في ترسيخ قواعدها العشرين في شرق سورية وشمال شرقيها، فليس ما يضير أن تتوكأ روسيا على القوات الإيرانية وميليشياتها في المناطق التي يسيطر عليها النظام. وليس ما يحول تالياً دون اتكال تركيا أيضاً على قوات الفصائل وتقدم بعض فرقها داخل الحدود السورية لحماية حضورها ونفوذها شمال سورية.
لذلك باتت قمة اسطنبول الرباعية حاجة تركية اليوم. أرادها الرئيس الروسي قبل شهرين ليقايض فيها سيف الحسم العسكري في إدلب الذي جيش له الجيوش، لعله يستدرج أوروبا الخائفة من موجة جديدة من اللاجئين السوريين. لكن التحذيرات التي أطلقتها الدول الأوروبية وحشد بعضها قوات مع الولايات المتحدة مهددة النظام في دمشق، وعناد تركيا وتصلبها بعد فشل قمة طهران في السابع من أيلول (سبتمبر)… كلها دفعت موسكو إلى التروي. فهي ايضاً أبدت حرصاً على عدم خسارة أنقرة… وكانت التسوية في اتفاق سوتشي بين الرئيسين بوتين وأردوغان الذي باتت مواقفه السياسية أقرب إلى موقف أوروبا وأميركا. فهو يحتاج إليهما للخروج من أزمته الاقتصادية والمالية المستفحلة. وما يرجوه من القمة أن تدعم موقفه الرافض أي عملية عسكرية. ولن يكون أمام سيد الكرملين سوى الحضور لاستكشاف امكان التعاون بين «المجموعة المصغرة» التي طرحت رؤيتها للحل السياسي و»مجموعة آستانة»، أقله في موضوع اللجنة الدستورية.
لا يعول الرئيس بوتين على نتائج مثيرة من قمة اسطنبول. ولا الزعيمان الفرنسي والالماني كذلك. التصريحات الأخيرة لزعيم الكرملين، خصوصاً عن «تحرير 95 في المئة من الأراضي السورية» تكشف أنه راض في هذه المرحلة بـ «الحصص» القائمة، أو هو «يشرعنها». لقد تحررت معظم الأراضي فعلاً من سيطرة تنظيم «داعش» وأخواته، إذا كان هذا ما يقصد بتحديده 95 في المئة. لكن النظام لا يسيطر فعلياً على أكثر من ستين في المئة. بل إن خصومه، الأميركيين وحلفاءهم الكرد والأتراك وحلفاءهم في المعارضة، يسيطرون على أكثر من أربعين في المئة، وهي المناطق التي تحوي معظم النفط والغاز والأراضي الزراعية التي تشكل سلة الغذاء لبلاد الشام. يعني هذا المشهد السياسي الجديد أن موسكو لا تملك الآن سوى القبول بما قسم لها. تحتفظ بوجودها ووجود حليفها الإيراني في ما سمي «سورية المفيدة»، ويحتفظ الأميركيون والأتراك بمناطق انتشارهم وحلفائهم. بل إن الدعم الذي تقدمه واشنطن إلى شرق الفرات وأهله لإقامة إدارتهم وإعادة إعمار ممناطقهم ستجعل من الكرد رقماً صعباً في المعادلة السياسية حين يحين أوان التسوية… فيما إسرائيل ضمن لها الروسي إبعاد الإيرانيين عن حدود الجولان، وإن ظاهراً على الأقل. ولا يبقى أمام المعارضة أو»المعارضات» السورية سوى الجلوس والانتظار وتقطيع الوقت بمواصلة الحديث عن خلافاتها فيما ترتفع وتيرة الخسائر إلى حد لم يبق شيء في أيدي أي من الفصائل السياسية والعسكرية!
الحياة
ما حققته تركيا في القمة الرباعية/ سمير صالحة
اختيار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قصر وحد الدين، الشيخ زاده العثماني وشقيق السلطان عبد الحميد، والذي ساهم الروس والألمان والفرنسيون في تحديد موقع الصرح وتجهيز هندسته وبنائه وفرش محتوياته قبل عقود، اختياره هذا القصر مكاناً لانعقاد القمة الرباعية مع الرئيسين الروسي بوتين والفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل، رسالة تاريخية وسياسية للمتغيبين، قبل أن تعني المشاركين. وهي القمة المحتمل أنها نظمت من أجل قطع الطريق على بعض الأمور، قبل أن تكون قد عقدت من أجل إنجاز بعض الأمور.
القناعة في أنقرة وعواصم عديدة، وعلى مستوى لاعبين كثيرين محليين في الملف السوري، أنه لو لم تتحرّك أنقرة في العامين الأخيرين بهذا الشكل السريع والعملي في التعامل مع مسار الأزمة وارتداداتها عليها، لما كان وضعها على ما هو عليه اليوم، ولتحول النقاش من البحث عن تسويةٍ لملف الأزمة السورية إلى البحث عن حلول للورطة التركية في سورية. والواضح أيضاً أنه لو لم تتوتر العلاقات التركية الأميركية في سورية، لما حدث التقارب التركي الروسي الواسع والمتعدّد الجوانب، كما هو الحال عليه اليوم، وتم هذا اللقاء برعاية تركية ودعم ومساندة روسية علنية.
باريس وبرلين تحضران قمة إسطنبول، لكن أنقرة وموسكو تعرفان جيداً أنهما من الأطراف الفاعلة في القمة السباعية التي تقودها واشنطن، بالتنسيق مع عدة دول عربية. ومؤكّد أنه لو لم تتمسّك أنقرة بتوسيع رقعة تمدّدها الإقليمي الاستراتيجي، على الرغم من الأزمات الاقتصادية والمالية التي عصفت بالبلاد، لما رأينا الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية يجلسان إلى جانب أردوغان وبوتين، لالتقاط الصور التذكارية أمام مضيق البوسفور “غصتهم” السياسية والتاريخية.
وما لا خلاف بشأنه أنه لولا بعض مواد البيان الختامي الذي اشتمل على رسائل عديدة إلى واشنطن وحلفائها المحليين في سورية، لما كانت المدفعية التركية تتحرّك، للمرة الأولى وبعد الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة، لقصف أهداف لقوات سورية الديمقراطية (قسد) في منطقة عين العرب، على مرأى منسق العمليات العسكرية الأميركية الجنرال جوزيف فوتيل ومسمعه.
كانت القمة ناجحة في اعتماد الدبلوماسية الهادئة والمتوازنة والمرنة التي انعكست على شكل البيان الختامي ومضمونه، لكنها كانت قمةً صعبة، لم تحقق توقعاتٍ كثيرة، لأنها جاءت لإرضاء الأطراف المشاركة، بإدراج أهدافهم وأولوياتهم في الملف السوري، وسبل الحل التي يطرحونها للخروج من الأزمة. هي قمة إرضاء المشاركين، قبل أن تكون قمة إرضاء الشعب السوري، وتحقيق حلمه بتحرّك دولي، يُنهي معاناته منذ ثماني سنوات.
تغيّبت إيران عن القمة، لكنها كانت في قلب المشهد، كما فهمنا من الرئيسين التركي والروسي. ولم تحضرها الولايات المتحدة، لكن زيارة وزير الخارجية، مايك بومبيو، ومديرة جهاز الاستخبارات، جينا هاسبل، إلى تركيا قبل الاجتماع، تفيدان بأن واشنطن كانت حاضرة بثقلها الميداني والجغرافي، وبالرهان على حليفها الكردي الذي يسيطر على مساحات واسعة في شمال شرق سورية وشرقها. ويرى بوتين أنها قمة تأتي بعد التقارب التركي الروسي الواسع في لقاءات أستانة وسوتشي، لكن الطموح التركي، كما يبدو، أبعد من ذلك، ويصل إلى محاولة فتح الطريق أمام قمة جديدة بمشاركة أوسع، تشمل الروس والأميركيين والأتراك، وبعض العواصم الأوروبية والعربية، وتعد لتفاهمات سياسية وأمنية واجتماعية أوسع في تفعيل خريطة تسوياتٍ جديدةٍ في مسار الأزمة السورية.
هي قمة ناجحة بالنسبة لأنقرة، لأنها تمكّنت، إلى حد ما، من جمع التناقضات وتضارب الحسابات والمصالح بين الدول الأربع أمام طاولةٍ واحدة. وهي ناجحة أيضاً لأن الأتراك حصلوا على دعم الدول المشاركة في ملف إدلب، ومنع أي انفجار أمني هناك، تكون له عواقبه الخطيرة في منطقة الحدود التركية السورية. وعلى الرغم من أن أنقرة لم تنجح بعد في إزاحة عقدة الجماعات المتطرّفة والمتشدّدة من الطريق. والقمة ناجحة أيضاً بالمقياس التركي، لأن أنقرة جيّرت لصالحها القلق الأوروبي من عودة مجموعات متطرّفة غادرت العواصم والمدن الأوروبية إلى الداخل السوري، وتخطط للرجوع. وها هي تركيا تساوم فرنسا وألمانيا على دعم حقيقي لمسار جديد في الأزمة السورية. وتريد أنقرة التي عانت من عدم التزام أوروبا بالدعم المادي الموعود، لمواجهة أعباء اللجوء والهجرة، من برلين وباريس، هذه المرة، أن يشاركا في تمويل خطط عودة آلاف اللاجئين السوريين، وتوفير المتطلبات الحياتية الأساسية لهم.
هدف أنقرة من القمة حدّده الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، بأنها محاولة لكسر الجمود الحاصل في الملف السوري، والتقاء المحورين المعنيين به، محور أستانة والدول الضامنة تركيا وروسيا وإيران، و”المجموعة المصغرة” التي تقودها الولايات المتحدة وتضم سبع دول أوروبية وعربية، فتركيا لم تتمكّن بعد من إقناع المتشدّدين بمغادرة المنطقة المنزوعة السلاح في إدلب، لكنها تصعد يومياً ضد واشنطن، وتذكّرها بأنها ستنقذ منبج، وعين العرب، وتل أبيض، وجميع أراضي شمالي سورية، من ظلم المنظمة الانفصالية، مثلما حرّرنا عفرين كما يقول الرئيس التركي.
وتدرك أنقرة جيداً أنه لن يكون في وسعها الابتعاد عن موسكو وطهران في سورية، من دون بدائل وتطمينات استراتيجية أميركية وأوروبية واسعة، لكنها تدرك أيضاً أنها لن تحصل على ما تريده، قبل أن تقدّم ضماناتٍ كافيةً بشأن عودتها إلى بيت الطاعة الغربي. لكن مشكلتها أكبر من ذلك بكثير، من مساومةٍ أميركية روسية، تحصل بشأن الملف السوري، خصوصاً في شرق الفرات ودير الزور والرقة، وأن تدفع هي الثمن على حدودها الجنوبية، في إطار نظام دستوري كونفدرالي يفرض على السوريين.
الولايات المتحدة متمسّكة بإخراج إيران من المعادلة الإقليمية، وهي تصرّ على فعل ذلك، حتى ولو كان المقابل الانفتاح على موسكو، وهذا هو أكثر ما يقلق أنقرة التي حاولت أن توسع رقعة تفاهماتها وتحالفاتها في القمة الرباعية.
العربي الجديد
سوريا إلى أين؟/ حنا صالح
من قمة إسطنبول الرباعية إلى رفض النظام السوري للطلب الأممي تشكيل اللجنة الدستورية، يبدو أن مسارات التفاوض حول سوريا مجرد شراء وقت، ويبدو أيضاً أن مسار الحل السياسي دخل مرحلة الجمود، ما لم تكن الطريق المسدودة.
من البداية، قالت قمة إسطنبول إنه من الضروري «الاستمرار في جميع مسارات الحل السياسي»، وعندما وُجهت الأسئلة إلى الرئيس الروسي للضغط من أجل إطلاق اللجنة الدستورية، تحدث الرئيس بوتين عن «ضرورة إطلاق عمل اللجنة التي يجب أن تتحلى بالشرعية كشرطٍ أساسي يسمح لها بإمكانية أن تكون هذه البنية فعالة ومثمرة»… ما يعني أن روسيا الآن ليست مستعجلة، ربما لأنها تتشارك مع النظام السوري الخشية من أن تذهب الصياغات الدستورية إلى مدى لا تريده في هذه الظروف، وهو بدء معالجة أسباب الصراع بما قد يفتح الباب نحو حلٍ مرحلي يشكل الممر إلى خطوات تغييرية تستند إلى الشرعية الدولية وقراراتها، وهو الأمر الذي يعني البدء بطي صفحة بقاء رئيس النظام بشار الأسد، ليصبح ممكناً الانتقال إلى سوريا مختلفة. هذا الأداء الروسي استوقف وزير الدفاع الأميركي الجنرال جيمس ماتيس الذي وصف روسيا بأنها «تفتقر إلى الرغبة الصادقة لأهم المبادئ الأخلاقية في ضوء استعدادها لتجاهل الأعمال الإجرامية للأسد تجاه شعبه».
مكافحة الإرهاب أمر محوري في القمم الشبيهة، لذا كان هناك التشديد على «ضرورة القضاء على الإرهاب في سوريا»، لكن الكل يعرف أنه في أحوال كثيرة كان يتم استدعاء الإرهاب ونقله في باصات مكيفة إلى كل جهات سوريا، والكثير من العمليات الإجرامية كانت تتم على الطلب لاستثمارها في مخططات دنيئة، ودماء جريمة السويداء لم تجف بعد.
أما «تأمين العودة الطوعية للاجئين تحت إشراف الأمم المتحدة» فالأمر ما زال في إطار الشعارات الرنانة والاستغلال، والرفض الفرنسي – الألماني للمطالبة الروسية المشاركة في إعادة إعمار سوريا تمهيداً لعودة اللاجئين، أعاد التأكيد على الموقف الدولي الرافض تمويل من تسببت حروبه وبراميله بتهجير الملايين، والتأكيد كذلك أنه لا عودة جدية قبل الحل السياسي، وهنا تقع المسؤولية الدولية، لأن معطيات الظرف الراهن تفيد بأن الجانب الأممي لعب دور المروج للأفكار الروسية منذ قبول الأمم المتحدة في العام 2017 المشاركة في «مسار آستانة»، وقد تم ذلك على حساب «مسار جنيف»، وواقعياً جرى استبعاد كل بحث جدي عن حل متوازن مستدام للمسألة السورية.
طبعاً أمر إيجابي أن يؤكد المجتمعون في إسطنبول على «وحدة الأراضي السورية والحل السياسي برعاية الأمم المتحدة واستمرار مسار جنيف وأهمية الاستمرار باتفاق إدلب لحقن الدماء»، لكن أن يضيف الرئيس التركي أن «التعاون الذي جرى في آستانة مثالي، وانضمام ألمانيا وفرنسا يحول هذه الصيغة إلى صيغة مثالية أكثر»، فهو أمر لافت لأنه في «آستانة» كما في «سوتشي» تم رسم خرائط نفوذ القوى الإقليمية، وما إعلان الرئيس بوتين عن حق الاحتفاظ بالرد على أي اعتداء أو تهديد إلا بمثابة تسليم بتكريس الوضع الراهن الذي يقسم سوريا مناطق نفوذ، وأن هذا الوضع باقٍ لفترة طويلة.
تزامناً مع المماطلة الروسية في الدفع نحو حلٍ مستدام للمسألة السورية، تتقدم على الأرض الوقائع اللافتة من شرق الفرات إلى الشمال السوري والجولان المحتل. مع قرار واشنطن البقاء حتى إنهاء «داعش» وإخراج النفوذ الإيراني وولوج الحل السياسي كضرورة لعودة آمنة للاجئين، انطلقت في شرق الفرات عمليات إعادة إعمار تحاكي بشكل من الأشكال ما شهدته كردستان العراق قبل عقود بعد فرض الحظر الجوي الأميركي على نظام صدام حسين. ومع تفاؤل مبالغ به في ضوء الإنفاق الكبير الجاري، يتردد من الرقة إلى كوباني أن جهود إعادة الإعمار ستحول المنطقة إلى نوع من برلين الغربية مقابل ما كانت عليه برلين الشرقية. أما في الشمال حيث تمتد السيطرة التركية من جرابلس في ريف حلب إلى عفرين غرباً مروراً بأعزاز، فهناك الكثير من مظاهر تعريب المناطق الكردية وتتريك الشمال السوري.
ففي تقرير نشرته «الشرق الأوسط» بتاريخ 30 – 10 – 2018، ورد أنه «من الكتب المدرسية إلى لافتات الطرق والكهرباء والبريد والصيرفة وشرائح الهاتف وأسماء القرى تغزو تركيا بلغتها ومؤسساتها المشهد»، وفي أعزاز تقرر «استبدال اللغة التركية باللغة الفرنسية»، ويقول باحث جامعي تركي إن بلاده «تسعى إلى ترسيخ وجودها»، موضحاً أن «هذه المناطق لن تكون جزءاً من تركيا، لكن تركيا ستبقى المتحكمة فيها بفعل الأمر الواقع». وطبعاً لا يفوت المتابعون مساعي العدو الإسرائيلي لتثبيت سيطرته النهائية على الجولان السوري المحتل (!!) والتحكم في منطقة عازلة يتراوح عمقها بين 15 و20 كلم.
بعد حرب عام 67 سادت مقولة: احتلت الأرض لكن بقي النظام، ومنذ ذلك التاريخ النظام السوري الحارس الأمين لحدود الاحتلال يرتمي في أحضان القوى التي أمنت له هذه الاستمرارية. وبعد العام 2011 ومع سياسة الاستقواء على أهل البلد وأبنائه، لم يكن أمراً مفاجئاً الارتماء السافر في حضن النظام الإيراني وميليشياته المتطرفة، ثم في الحضن الروسي بعد الهزائم التي لحقت بميليشيات النظام و«الحرس الثوري». مقابل كرسي الحكم ولو على قصر المهاجرين وحسب، تم رفض المطالب الإصلاحية التي رفعت وإنهاء المعارضة الداخلية وتسليم قرار البلد المنتهك السيادة للخارج… والأمر الثابت والحقيقي أن الروس كلما كانوا يتقدمون على الأرض كانوا يتخذون خطوات إضافية لإعادة تأهيل نظام الأسد… وصولاً إلى مرحلة حصر الأولوية بمحاربة الإرهاب، ومقابل كل ذلك غاب عنوان «هيئة الحكم الانتقالي» وغاب البحث السياسي الجدي بشروط التسوية، وكان التراجع الحقيقي عن «مسار جنيف».
اليوم النظام السوري الذي سلم أمره وبات خارج التأثير، ووزنه في القرار محدود للغاية، يعرف أنه لم تعد من ضرورة حتى التشاور المبدئي معه بما يدور في قمم سوتشي وإسطنبول وسواها… وبالمقابل قيادات المعارضة للثورة التي قدمت أثمن التضحيات، تعيش حالة انفصام وكسل وعدم سعي لابتداع نهج أو منحى يمكن أن يطور آليات تفكير وأنماط عمل تسمح بقراءة جادة للواقع الجديد، وكيف يمكن التعامل معه، لأن انتفاضة الشعب السوري، وإن كانت اليوم كامنة ويستحيل طي صفحتها، فإن الأمور لم تعد في البدايات، والسوريون لم يعودوا في مرحلة «جنيف واحد»، وسوريا التي يعرفها أهلها تغيرت، وقد تكون هناك استحالة لاسترجاعها، رغم أحاديث المتدخلين الطامحين عن وحدة الأرض والجغرافيا. الوقت كالسيف وثبات وقف النار يجب أن يكون الحافز لبلورة عمل شعبي مدني يضيق الخناق على التقسيم الزاحف
الشرق الأوسط