أسئلة التطبيع المسكوت عنها/ ماجد كيالي
بين حين وآخر تبرز مسألة التطبيع، مع إسرائيل، وبالأحرى ممانعتها، بوصفها جزءاً من المشهد السياسي العربي، وباعتبارها مجالاً للمجادلات والمنافسات والمزايدات العربية، لا سيما أن تلك المسألة باتت تخضع لتفسيرات وتوظيفات وتلاعبات مختلفة ومتباينة، بينها المشروع والموضوعي، أو المبتذل والرخيص والفارغ.
هكذا أثار وجود فرق رياضية إسرائيلية في دولتي قطر والإمارات، مسألة التطبيع، علماً أن ذلك الحدث (الرياضي) لم يكن فريداً من نوعه، لا سيما أنه اكتسب معان أخرى، مع قيام رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو (وبعده وزير الاتصالات الإسرائيلي) بزيارة إلى سلطنة عمان، كما ثمة حديث عن زيارة قريبة لنتانياهو إلى مملكة البحرين، على رغم أن الدولتين ليستا حدوديتين، ولا تربطهما بإسرائيل معاهدات، ما يثير شبهة أن ثمة ممهّدات لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين بعض الدول العربية مع إسرائيل. وربما مصدر تلك الشبهة ينبع من أن الحوادث المذكورة أتت في مناخ استعداد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإطلاق ما يسمى “صفقة القرن”، التي تتضمن أساساً إزاحة الملف الفلسطيني من الواجهة، وإقامة علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل، وفي إطار سياسة ينتهجها النظام العربي، منذ سنوات، تتوخّى التخفّف من تبعات الصراع العربي- الإسرائيلي، وهي السياسة التي باتت تستمد بعض ذرائعها من صعود خطر إيران في منطقة المشرق والخليج العربيين.
بيد أن فكرة ممانعة التطبيع تلك تثير الكثير من الأسئلة المحجوبة أو المسكوت عنها، مثلاً، هل كان ثمة حال من الصراع بين الأنظمة العربية وإسرائيل أصلاً، بخاصة مع علمنا بأن حرب تشرين الأول/ أوكتوبر، التي اندلعت قبل 45 عاماً كانت آخر الحروب العربية – الإسرائيلية؟ ثم ألم تطبّع الأنظمة العربية مع وجود إسرائيل، بقبول روايتها التاريخية، باعتبارها أن الصراع مع إسرائيل بدأ باحتلالها أراضي بعض الدول العربية، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة (1967)، أو أن ذلك الصراع يمكن اختزاله بانسحاب إسرائيل من تلك الأراضي؟ أيضاً ألم تبد الدول العربية بمعظمها استعداداً للتطبيع مع إسرائيل، في قبولها مؤتمر مدريد للسلام (1991)، ثم انخراطها في ما عرف بالمفاوضات متعددة الأطراف (التي تناولت التعاون معها في مجالات المياه والبيئة واللاجئين والأمن)، والتي توّجت بعقد الكثير من مؤتمرات القمة الشرق أوسطية، في الرباط والدوحة وعمان والقاهرة، في أواسط التسعينات، والتي كانت تعقد بشكل دوري كل سنة مرة، بهدف إيجاد نوع من تعاون اقتصادي وتجاري وفي مجال البني التحتية، بين إسرائيل والبلدان العربية؛ هذا كله إلى جانب المعاهدات والاتفاقات التي تربط إسرائيل بمصر والأردن والفلسطينيين؟
بكلام مختصر، أليس الوضع المذكور هو بمثابة تطبيع بارد، أو من الباطن، مع إسرائيل، وهو ما حاول النظام العربي تحويله إلى تطبيع ساخن وعلني، بطرح “المبادرة العربية للسلام” في مؤتمر قمة بيروت (2002)، تحت شعار: “الأرض مقابل السلام”، الذي يتضمن أساساً إقامة الدول العربية علاقات طبيعية مع إسرائيل، مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين؟
على ذلك، فإذا كان ثمة “إيجابية”، إن جاز التعبير، لكل ما يحصل، في هذا الشأن، في المجال العربي، في هذه الظروف البائسة، فهو يتمثل في التحرّر من ادعاءات الأنظمة ومزايداتها وتلاعباتها في قصة الصراع العربي -الإسرائيلي، والتحرر من وهم “القضية المركزية”، أو تحرير قضية فلسطين من التوظيفات المؤذية، التي كانت في الحقيقة، ولسبعة عقود، مجرد ستار لبعض الأنظمة لشرعنة واقع الاستبداد والفساد، ومصادرة الحقوق والحريات، وللتغطية على إخفاقات التنمية، وتغول الدولة الأمنية، بل إن التأخّر في نفض تلك الأوهام، هو الذي يجعل المجتمعات العربية تستمر في دفع الأثمان الباهظة.
مثلاً، هل الأنظمة التي ادّعت مقاومة إسرائيل، أو ادّعت أنها في حالة صراع معها، أضرّت بها أكثر، أم أضرّت بمواطنيها؟ هل أعاقت تلك الأنظمة التنمية البشرية والاقتصادية في إسرائيل أم أعاقت التطور الدولتي والمجتمعي في بلدانها؟ ثم هل أفادت هذه الأنظمة شعب فلسطين وقضيته أم أنها تاجرت واستثمرت به وبقضيته، لا أكثر؟
لكن السؤال الأكثر أهمية هنا، بتقديري، هو: هل كانت إسرائيل لتصبح على ما هي عليه من قوة، أو هل كانت لتبدو على هذا النحو، ومع كل هذه الرعاية والحماية الدولية لها، من دون كذبة أن ثمة جيوش عربية من 6 دول ذهبت لتحرير فلسطين (1948)؟ أو من دون ادعاء هذا النظام أو ذاك أن الصراع مع إسرائيل هو صراع على الوجود؟
الآن، مفهوم أن هكذا أسئلة تخترق الخطوط الحمر المحظورة، أو الصناديق الجاهزة والمغلقة، لكن الفكرة من كل تلك الأسئلة الحثّ على القطيعة مع الحالة الذهنية التي رسمتها وروّجتها الأنظمة للصراع العربي – الإسرائيلي، وهي الصورة التي جعلت إسرائيل آمنة ومزدهرة ومتفوّقة في محيطها. هذا مع العلم أن إسرائيل لا تتفوق بواسطة القوة، والعلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، على البلدان المجاورة لها، فقط، والتي هي أكبر مساحة وأكثر عدداً لناحية السكان، وأكثر حظوة بالموارد الطبيعية، منها، كما يروّج البعض، بل لأنها تحظى بنظام حكم أفضل، وبإدارة أنسب لمواردها البشرية والاقتصادية ولنظامها السياسي.
لذا السؤال الآن، هل الأنظمة التي تحضّر للتطبيع جاهزة حقاً للذهاب إلى مباراة مع إسرائيل في مجالات إدارة نظام الحكم، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والثقافة؟ أم أنها ذاهبة لهذا الأمر من موقع التسليم بهامشيتها؟ والقصد أن من خسر المباراة في ما كان يعرف بزمن الصراع العربي – الإسرائيلي، سيخسرها، أيضاً، على الأرجح، في ما قد يصبح زمن السلام أو التطبيع مع إسرائيل، في حال بقيت الأوضاع على ماهي عليه، في مبنى الأنظمة العربية القائمة ومعناها.
أخيراً، ثمة ملاحظتان هنا، الأولى، تفيد بأنه سواء بقي ملف فلسطين، أو لم يبق، في الأجندة العربية، فإن زمن التطبيع، أو القبول العربي، بإسرائيل لن يغيّر من الواقع شيئاً، لأن إسرائيل ترفض التغير، أصلاً، تماماً مثلما ترفض الأنظمة العربية تغيير واقعها، وفقط فإن التطبيع الباطن سيغدو ظاهراً ومباشراً. والثانية، أن بروز خطر إيران واستشراءه، لا يخفّفان من خطر إسرائيل، ومناهضة إيران وسياساتها في المنطقة لا تلغي أو تبرّر السكوت عن سياسات إسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية، والتي ترفض أن تطبع مع محيطها ومع العالم، ليس فقط برفضها لمقررات الشرعية الدولية في ما يخص حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، فقط، وإنما بطلب الاعتراف بها كدولة يهودية أيضاً، وهو طلب غير مسبوق في علاقات الدول في العصر الحديث.
درج