التجاذب الروسي – الأميركي من بحر آزوف إلى شرق الفرات/ د. خطار أبودياب
أتى القرار الأميركي المتخذ في آخر لحظة بإلغاء القمة المرتقبة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في الأرجنتين (30 نوفمبر- 1 ديسمبر) ربطاً بتطورات الأزمة الأوكرانية، ليؤكد على صعوبة احتواء التوتر بين واشنطن وموسكو وعلى احتدام مواجهات بالوكالة أو عبر الوجود المباشر للطرفين.
من الجبهة المستحدثة بين موسكو وكييف في مضيق كيرتش الذي يفصل البحر الأسود عن بحر آزوف الحيوي بالنسبة لشرق أوكرانيا، إلى منطقة شرق الفرات في سوريا التي تتمركز فيها قوات أميركية وتشكل رافعة لسياسة واشنطن حيال الملف السوري، ترتسم خطوط تماس وهمية أو حقيقية في إدارة الرئيس بوتين للأزمات على صفيح ساخن، وكيفية الرد الأميركي في سعي لكبح المد الروسي من دون الوصول لصدام مباشر.
ينعكس كل ذلك على جعل حلول الأزمات أكثر تعقيداً إذ يزيد من تصعيد لقوى إقليمية كما في الحالة السورية، أو يبين في الحالة الأوكرانية الانقسام الأوروبي أو الانكشاف الاستراتيجي للقارة إزاء “الحماية الأميركية”. ويمكن للجمود أو الاستعصاء دون وجود آليات فعّالة لحل النزاعات أن يقودا إلى مفاجآت أو تصعيد أو خروج عن السيطرة في مناخ التخبط الدولي السائد.
تترابط الأزمات داخل “أوراسيا” التي تبقى منطقة مركزية في تقرير السيطرة على العالم. ورغم أن العودة الروسية إلى المسرح الدولي بدأت في نزاع مع جورجيا في صيف 2008، لم يتأكد الصعود الروسي إلا مع ضم شبه جزيرة القرم في 2014 ولم يكن ذلك ليحصل لولا الاختراق الروسي على الساحة السورية وفي شرق المتوسط منذ 2012. ومما لا شك فيه أن هذا التقدم الروسي ارتبط بتغيير في الأولويات الأميركية انتهزه “القيصر الجديد” خلال حقبة باراك أوباما وإبان بدايات إدارة ترامب التي عطل شبح “روسيا غيت” من صياغة سياسة واضحة ومتماسكة حيال الأزمات التي تنخرط فيها موسكو.
انطلاقاً من موسكو وبناء على اللقاءات التي حصلت بين ترامب وبوتين، يسود الاعتقاد أن أزمة أوكرانيا لا تشكل أولوية في حسابات البيت الأبيض، وأن السياسة الأميركية في سوريا لم تشهد تغييراً ملموساً عما كانت عليه أيام الإدارة السابقة. ولذا استمر اندفاع بوتين لتسجيل المزيد من النقاط مع محاولة المزيد من القضم في الجوار الروسي المباشر والمزيد من النفوذ في الشرق الأوسط والخليج.
منذ سبتمبر الماضي تؤشر العديد من المعطيات إلى توترات ميدانية (المبارزة بالمناورات بين روسيا والناتو، العقوبات الأميركية ضد إيران والحروب بالوكالة أو الحروب السيبرانية واستمرار تفكيك الدول) والانقسامات الناتجة عن تصدع العولمة حول ملفات التجارة والتغير المناخي.
وكان من اللافت عودة سباق التسلح بشكل غير مسبوق في الفضاء والبحر وطبعاً في البر. وقد أدى التوتر في العلاقات الدولية لعودة الحديث عن احتمالات الحرب النووية، ووصل الأمر ببوتين للقول “إن روسيا قادرة على الرد المناسب على أي عدوان نووي عليها ولو تعرض الروس للإفناء وصعدوا إلى الجنة”. وإذا كان البعض يُدرجُ ذلك في سياق التهويل، لكن ربما يذهب رجل روسيا القوي بعيداً كي يتجنب هزيمة مماثلة لما جرى مع الاتحاد السوفييتي السابق بعد منتصف الثمانينات. وهذه القراءة لطبيعة الصراعات وارتباطها بتطور الرأسمالية يمكن أن تتقاسمها الصين التي تستفيد ملياً من مكاسب العولمة وأخذت تخشى من ردود الفعل الأميركية لمنع التحول لصالح آسيا بالإجمال.
بناء على هذه المقاربة الحذرة للعلاقات الدولية والتنافسية المحمومة، يبدو كأن فلاديمير بوتين في سباق مع الزمن لتحقيق اختراقات إضافية عبر تحركات استباقية. وفي هذا السياق يمكن تفسير ما حصل الأسبوع الماضي في مضيق كيرتش قبالة شبه جزيرة القرم. وقيام القوات الروسية على إثر ذلك باحتجاز ثلاث سفن أوكرانية. وكان الرئيس الأوكراني قد حذّر منذ أسابيع من تحول بحر آزوف إلى بؤرة توتر تمهد لقيام روسيا بضم شرق أوكرانيا كما حصل مع القرم. ويحاكي ذلك بشكل غير مباشر تحذير الرئيس الروسي لأوكرانيا من ملاقاة مصير جورجيا إذا تجرأت وردّت على حادث مضيق كيرتش.
بالطبع يمكننا أن نعتبر ذلك نزاعاً حول القانون البحري خاصة أن ممر كيرتش هو الرابط الوحيد بين البحر الأسود وبحر آزوف، وعبره فقط يمكن الوصول إلى الميناءين الأوكرانيين المهمين ماريوبول وبيرديانسك. ومنذ ضم شبه جزيرة القرم، في 2014، تراقب روسيا المضيق البحري من الجانبين، ما يصعب حركة المرور بالنسبة إلى السفن الأوكرانية. وظهرت انعكاسات المراقبة الروسية بعد إنجاز منشآت جسر القرم في مايو 2018. فالقنطرة تربط اليابسة الروسية بشبه جزيرة القرم. وتفرض سلطات الأمن الروسية إجراءات تفتيش على السفن الأوكرانية قد تستمر أحيانا لأيام، كما أن الحرب في منطقة دونباس تتسبب في متاعب إضافية للموانئ الأوكرانية.
هكذا أبرز التصعيد الأخير جدلاً حول خرق القانون البحري الدولي على ضوء اتفاقية القانون البحري الدولية المبرمة في 1982 والتي انضم إليها البلَدان في 1990. وفي الوقت الذي تشدد فيه أوكرانيا على حرية التنقل في مضيق كيرتش وكذلك في بحر آزوف، يحاول الجانب الروسي وضع حدود إقليمية استناداً إلى ضم القرم. لكن يوجد أيضاً بين البلدين اتفاق ثنائي حول الاستخدام الحر لممر كيرتش وبحر آزوف. وهذا الاتفاق تستند إليه أيضا كييف، كما أن موسكو لم تلغ العمل به أبدا. وهذا يزيد من تعقيد الموقف.
على الأرجح انطلق بوتين في تصعيده من قراءة موقف ترامب غير المبالي بالموضوع الأوكراني وربما فتش على فرض وقائع جديدة عشية قمة الأرجنتين وإجراء مقايضة عليها مع “صديقه الشخصي” ترامب. لكن حسابات المؤسسات في واشنطن لم تتطابق مع تخمينات روسية ما أودى بالقمة في أدراج الرياح. وعلى صعيد كييف ربما أراد الرئيس الأوكراني تغيير موازين القوى الداخلية قبل أشهر من انتخابات رئاسية صعبة بالنسبة له، ويمكن أن تلغيها أو تؤجلها أحكام عرفية استدعتها العملية الروسية.
الحسابات الخاطئة تظهر أيضاً على المسرح السوري أيضاً، إذ راهن بوتين على الاستمرار في التحكم بغالبية اللعبة من خلال تقاطعاته الإقليمية والدولية. لكن القرار الأميركي في البقاء عسكرياً في شرق الفرات إلى أجل غير مسمى، والضربات الإسرائيلية ليلة 29 نوفمبر، بالإضافة إلى فشل الجولة الحادية عشرة من مسار أستانة، تؤشر إلى مصاعب كبيرة ترتسم أمام الدور الروسي.
ومن المفترض أن التصعيد الروسي في الأزمة الأوكرانية لن يسهل التفاهم مع واشنطن في ملفات دولية أخرى أبرزها الملف السوري. وكان لافتاً استغلال إسرائيل السريع للخلل الأميركي – الروسي وقيامها بعد 75 يوماً من الاستنكاف على شن غارات وضربات ضد أهداف إيرانية- روسية ما يعني عدم احترام قيود فرضتها موسكو بعد إسقاط طائرة روسية في سبتمبر الماضي. وضمن مناخ التجاذب الأميركي- الروسي اعتبرت واشنطن أن “مؤتمر أستانة أدى إلى مأزق في سوريا” بعد الفشل في التوافق على تشكيل اللجنة الدستورية والوصول إلى طريق مسدود في مسار قادته روسيا. وهذا الخطاب الجديد والتمركز العسكري في شرق الفرات يعنيان نهاية عملية لتفاهمات لافروف – كيري وفتح صفحة جديدة من الصراع في سوريا وحولها.
يقول منظر الفلسفة الروسية الجديدة ألكسندر دوغين أن “معركة الروس من أجل السيادة على العالم لم تنته بعد” ويوضح نظريته على أساس أنه “لا معنى لوجود الشعب الروسي كجماعة تاريخية عضوية بدون إبداع قاري يقوم على بناء الإمبراطورية. ولن يغدو الروس شعبا إلا في إطار الإمبراطورية الجديدة. وعلى هذه الإمبراطورية، وفق المنطق الجيوبوليتيكي أن تتفوق من الناحية الاستراتيجية والمدى المكاني على الحالة السابقة (الاتحاد السوفييتي) وعلى هذا فإن الإمبراطورية الجديدة ينبغي أن تكون أوراسية قارية كبرى وأن تكون في المستقبل عالمية”. مقابل هكذا طرح وهكذا منطق هناك “أميركا أولاً” و”أميركا العظيمة” وهناك تهالك العولمة وهناك من يدفع الثمن حول العالم.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب