حول سؤال ما العمل؟/ بكر صدقي
يكثر الكلام، منذ بعض الوقت، عن ضرورة المبادرة إلى عمل ينقذ ما تبقى من أحلام السوريين في الحرية والكرامة والعدالة، لكي يستعيدوا زمام مصيرهم من أيدي قوى عاتية قلبت ثورتهم إلى مأساة إنسانية رهيبة. قوى دولية وإقليمية، ومنظمات إرهابية، وقوى سياسية فاشلة، وأمراء حرب… كل ذلك إضافة إلى نظام مجرم فشلت الثورة في إسقاطه، ويميل “المجتمع الدولي” إلى إعادة تأهيله على رغم استحالة ذلك.
هو، إذن، سؤال “ما العمل؟” الشهير الذي لا يطرح، ويا للمفارقة، إلا في أسوأ الشروط، حين يبدو العمل مستحيلاً، أي حين يخرج مصير الجماعة المعنية تماماً من أيديها. ذلك لأن الشروط المؤاتية تجعل الكثيرين يتصدون لقيادة العمل بدوافع براغماتية غالباً، أي حين يبدو لهم النجاح مضموناً إلى حد يشجع على المجازفة المحسوبة. وحين تفشل حساباتهم وتميل الموازين إلى الخسارة الصريحة، يقفز البعض من المركب الغارق، في حين يعاند بعض آخر فيتكيف مع الشروط المتغيرة، ويلقي بعض ثالث باللائمة على الآخرين أو على الشروط الموضوعية، ويختصر بعض رابع الطريق على نفسه فيغير اصطفافه تماماً ليتوب ويعود إلى “حضن الوطن“.
رأينا، في المأساة السورية، جميع هذه الحالات، لكننا لم نر الحالة الوحيدة الصحية، وأعني بها حالة الاعتراف بالخطأ أو سوء التقدير والاستقالة من العمل بناءً على ذلك. إلى درجة بدا معها وكأن المكابرة صفة ملاصقة للسوريين. صحيح أن السياسيين عموماً، وأصحاب السلطة منهم خصوصاً، لا يعترفون بأخطائهم لأنهم يتمسكون بطموحهم تحت كل الظروف، فيعتقدون أن الاعتراف بالخطأ يعني التنحي، وهو ما يهربون منه، لكن هذه الظاهرة بارزة لدى السوريين أكثر من غيرهم.
وهكذا سنرى أن أغلب من يطرحون أفكاراً عن ضرورة المراجعة، وتجاوز المعارضة القائمة، والبدء من جديد بانطلاقة تستعيد مناخات الثورة الأولى، هم أنفسهم من ساهموا في الفشل، من غير أن يقدموا نقداً ذاتياً حقيقياً لا يستثنون فيه أشخاصهم. فهم يعرفون أن نقداً من هذا القبيل يمكن أن يدفعهم إلى خارج الحلبة، في حين أنهم يطمحون إلى فرصة جديدة يتصدرون فيها العمل العام، لعل النجاح يكون من نصيبهم هذه المرة.
لافت للنظر أن بعض هؤلاء لا يكتفون بمحاولة التملص من المسؤولية، من خلال إلقاء اللوم على الآخرين أو الظروف القاهرة، بل كذلك
يلقون اللوم على من لم يشاركوا في قيادة العمل العام، لمختلف الأسباب، منذ البداية، وما زالوا يرفضون ذلك، مكتفين بنقد أخطاء المتصدرين. فيتهمون هؤلاء بالتخاذل عن العمل والتطهرية الفارغة أو اليأس والاستسلام أمام الشروط القاهرة.
واقع الحال أن المعارضة المؤطرة صمّت آذانها عن أي نقد، في الوقت الذي كانت ترضخ فيه صاغرة أمام مطالب الدول، وأظهر القائمون عليها تمسكاً بسلطتهم لا يختلف كثيراً عن تمسك الطغم الحاكمة بالسلطة. فكيف يمكن مجرد التفكير في طرح بدائل إذا كان النقد يقابل بالرفض والمحاربة وتبرير الأخطاء؟ وإذا كانت الطغم الحاكمة تستقوي على معارضيها بالعنف والسلاح و”الدولة” فأطر المعارضة تستقوي على منتقديها بالاعتراف الدولي أو الدول التي تستتبعهم. فهل يتطلب الأمر “ثورة على المعارضة” تطيح بها في وقت يحقق فيه النظام، بقوة حلفائه، الانتصارات العسكرية؟ ذلك أن نقاد المعارضة معارضون للنظام، وبرغم كل مآخذهم على أطر المعارضة، يجدون أنفسهم في الصف نفسه معها في مواجهة النظام. وفي ظل استقطاب حاد، كحال الصراع السوري، يخشى المعارضون أن تصب “ثورتهم” المفترضة على أطر المعارضة في مصلحة النظام وحلفائه. أو كما يقال في التعبير الشعبي حالهم كحال بالع الموس على الحدين.
ما هو المخرج إذن؟
لقد تجاوز الواقع الزمن الذي كان يمكن فيه إصلاح الأطر المعارضة بالنقد. كان من شأن الإصغاء إلى “نقد الشارع” أن يمنح القائمين
على قيادة العمل العام المعارض فرصة لإصلاح أخطائهم. فلم يكن الارتهان لأجندات الدول الداعمة قد بلغ ما بلغه لاحقاً، فاستحال “إصلاح الذات” بسبب هذا الارتهان. لم يبق اليوم من مخرج غير الاعتراف بالخطأ والتنحي عن قيادة العمل العام. وفي ذلك فائدة مزدوجة: فهو، أولاً، يقضي على أحلام روسيا بإنجاز تسوية جوهرها الإبقاء على نظام مجرم. وثانياً، يمنح فرصة للسوريين لاجتراح بدائل ربما تكون حظوظها أفضل في إنقاذ الأمل. فالسياسة لا تعترف بالفراغ، ومن يظنون أنه لا بدائل عنهم يكررون فقط سيرة الطغم الحاكمة التي تعتقد أيضاً أن لا بدائل عنها، لأنها متأكدة أنها جففت كل منابع المجتمع.
نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها. لا يملك كل ناقد للمعارضة طموحاً سياسياً ليحل محلهم، تماماً كما لم يخرج ملايين السوريين للثورة على النظام مدفوعين بالرغبة في استلام السلطة. كثير من نقاد المعارضة من موقع وطني يريدون فقط أداء أفضل لمن يتصدون لقيادة العمل المعارض، وسيبقون في هذا الموقع الناقد حتى إذا تنحت المعارضة الحالية وتشكلت بدائل جديدة لها، على أمل أن تنشأ علاقة جديدة مختلفة عن السابق بين “سلطة المعارضة” و”شعبها”. هل يصعب فهم هذا؟