أجمل الابتسامات يصنعها المنافقون/ سلام الكواكبي
النفاق عموماً هو فن إخفاء النيّات أو الغش في العواطف والأفكار. والنفاق يبقى دائماً أمراً سلبياً مهما تم السعي في تبريره كونه ضروريا في بعض الأحيان لحماية الوئام وعدم بثّ الفرقة. على العكس من الكذب، فلا يمكن أن يكون للنفاق أسباب مبررة ومخففة. وبالتالي، أن يكون المرء منافقاً، فهو معادل تماماً لأن يكون جباناً ومنعدم المعايير الأخلاقية وشحيح الشرف. وفي بعض الأحيان، يمكن للمرء أن يكون منافقا دون أن يشعر بذلك وبكل حسن نية ولكن يُخشى أن يتم اعتبار ذلك دليلاً على ضعفٍ ذهني مرتبط بسذاجة فطرية. وفي المطلق، يجب أن يكون الإنسان عالماً في فن النفاق ومؤهلاً له لكي يكون “منافقاً لامعاً” كما شخصية مسرحية “المحتال” التي قدمها بإبداع لا يزال مصدر إلهام، الفرنسي موليير، على المسرح الملكي في باريس سنة 1669 والمستعادة حتى يومنا هذا ليُصبح العنوان مرتبطاً لغوياً ومفهومياً بالنفاق في أجلّ صوره.
ومن المهم للغاية ملاحظة أن النفاق يُعتبر صفة خاصة بالإنسان وحده، يمارسها ويطورها باقتدار عبر القرون، مما يجعله من أكثر الكائنات الحية خطورة وسوءا، تماماً على النقيض من الحيوان، الذي لا يعرف هذه “الميّزة” الحصرية بالبشر. وبالتالي، يمكن للنفاق أن يكون جزءا لا يُستهان به من “ثقافة” الإنسان العامة وممارساته اليومية في أمور الاجتماع وفي أمور السياسة وفي أمور الدين. ومن الأهم أيضاً اعتبار أن النظام السياسي أو الديني أو الاجتماعي الذي يرعى ويُغذّي ممارسة المواطنين / الرعايا النفاق له، كما يحلو له أن تنمو في ثناياه، لا يمكن وصمه فقط بالهزالة وبالتطرف في السعي إلى إرضاء نرجسية القائمين عليه، بل إنه يقوم عمداً وبتؤدة على دعم مسار تدمير الأمل الطبيعي لدى الإنسانية بإمكانية استدامة التقدم نحو الأفضل. والاستبداد قادر على المسّ خصوصاً في النخبة وليس في العامة المسحوقين فحسب وكما يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتاب “طبائع الاستبداد” بداية القرن الماضي في أن ” أقلّ ما يؤثّره الاستبداد في أخلاق الناس، أنَّه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرّياء والنفاق”.
شهدت المنطقة العربية أجيالاً من المنافقين، منهم من وصلوا ومنهم من فشلوا ومنهم من ضاعوا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتب ضابط في جيش فرنسا الانتدابي على سوريا ولبنان سنة 1926، كتاباً بعنوان “ذاهبون الى سوريا”، عكس من خلاله لحالة “رفيعة” المستوى من نفاق “النخبة” الاجتماعية والاقتصادية آنذاك. فلقد نمي إلى علم ممثلي “البرجوازية” حينذاك، ومن مختلف الطوائف والأديان، بأنه تم تعيين مفوض سامي جديد للبلاد، وهو الجنرال ساراي، ومن المفترض أن يستقل باخرة ركاب تقلّه من مارسيليا إلى بيروت في يوم ما من الأشهر التي تلت وصول الخبر. فسارعت مجموعة من العائلات الدمشقية والبيروتية والطرابلسية والحلبية للسفر إلى مارسيليا، ومكثت في الفندق لأكثر من شهر بانتظار إقلاع الباخرة التي ستقل الحاكم بأمره انتدابياً على بلادهم. وعن طريق آذانهم وعيونهم المتحفّزة، علموا بموعد السفر، فحجزوا على نفس الرحلة، ليكون لهم بذلك المتسّع من الوقت لـ”طبخ” الجنرال وتقديم “آيات الطاعة” والرياء له علّهم بذلك يستطيعون الحصول منه على امتيازات وعطاءات تزيد من ثرائهم أو ترفع من مقامهم. ويتبحّر الكتاب في وصف تصرفاتهم على جسر الباخرة وفي الحفلات المسائية الراقصة.
مضت العقود، واستمر التقليد في النفاق لصاحب السلطة والسطوة، فصارت ممارسته نوعاً من الرياضة الوطنية لمجموعات من السياسيين والاقتصاديين والدينيين أمام مختلف السلطات العسكرية التي تعاقبت على حكم البلاد حتى يومنا هذا.
لكن بعض “المعارضين” السوريين طوّروا نفاقاً من نوعٍ نادر نراه يتجلّى في تصريحات وممارسات بعض “نجومهم” الآتين إلى صفوف المعارضة نتيجة حادثة سير أو سقوط نيزك، وبطريقة أكثر جدية، أولئك الذين اعتقدوا بسقوط سريع للنظام. هؤلاء، وحفاظاً على مصالحهم، فقد اختاروا، وفقاً لحسابات معينة، أن يمتطوا صهوة المعارضة، وهي منهم براء فكراً وممارسة. أو أن نفاق بعضهم وصل إلى درجة أن يمسّ مبادئ أخلاقية مرتبطة بالكرامة وبالعدالة وبالحرية، فنادوا بها كما لو أنهم ينادون على أكوام من البطيخ في أسواق الخضرة الأسبوعية.
تغيرت المعطيات وتفاعلت الأحداث وتحولت الثورة السلمية إلى مقتلة وتراكمت حولها العقبان من الداخل ومن الإقليم ومن البعيد. وبدأت بعض الدول بعيدة الارتباط عن مسألة الحرية، والتي ساهمت في تسليح الحراك وتحويله عن مساره السلمي الديمقراطي بحجة دعم تغيير النظام، بالعودة عن مواقفها السلبية تجاهه. وبالتالي، فمن جرّتهم معها من أصحاب الذمم سريعة الاشتعال، عادت لتجرّهم معها في طريق العودة إلى “حضن” نفس النظام الذي ادعت زوراً وبهتاناً يوما بأنها تسعى لتغييره. وسقط في فخ ادعاءاتها هذه كثير من السذّج، إضافة إلى من هو لديها مأجور.
المنافق يبتسم بهدوء وبرود ولا يكلّف نفسه عبء تبرير الانقلاب الشبيه بالحمام البهلواني في سماء حلب. وكما يقول المثل الفرنسي، فهذا النوع من الكائنات قادر على قلب سترته بدون أي وجل، وتحويل البندقية من كتف إلى كتف من دون أي خجل.
تلفزيون سوريا