مفكرة المترجم: مع بكر صدقي
تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم.
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
– بدأتُ الترجمة في السجن. في ذلك الزمن البعيد، كانت الكتبُ مسموحةً، في جناح الأمن السياسي في سجن حلب المركزي، لكن الأقلام ممنوعة. في إحدى زيارات نائب فرع الأمن السياسي للجناح، طلب منه بعض النزلاء السماح باستخدام القلم. فسمح لنا باستخدام القلم الرصاص. لماذا الرصاص وليس الحبر الناشف؟ لا أحد يعرف. انتهت الزيارة، وحين طلبنا أقلام الرصاص والدفاتر، لم تسمح المفرزة بدخولها. فقرّرنا الإضراب عن الطعام إلى أن يسمحوا لنا بالمسموح. وهو ما كان بعد إضراب استمر ثلاثة أيام.
بدخول الأقلام، بصورة “شرعية” أصبحنا أمام مسؤولياتنا: ماذا نفعل بها؟ بدأ البعض بكتابة روايات وقصص، وآخرون بكتابة أفكار سياسية، والبعض استخدمها لتعلُّم لغات أجنبية. وقرّرتُ، بدوري، أن أترجم ما يتوفّر لي من كتب من الأدب التركي. وهكذا ترجمت، خلال تلك الفترة، ثلاث روايات وبعض القصائد وكتاب مذكّرات، قبل أن تسوء شروط الاعتقال، في السنوات الأخيرة من السجن.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
– انقطعتُ عن الترجمة لنحو عشر سنوات، تفرّغتُ فيها للكتابة الصحافية في شؤون السياسة والثقافة. قبل ذلك، ترجمتُ عدداً من الكتب بناءً على طلب “دار قدمس” في دمشق، أذكر من بينها: كتاب “لطيفة هانم” للكاتبة التركية إيبك تشاليشلر، وهو بحث تاريخي يتناول سيرة زوجة أتاتورك – مؤسّس الجمهورية التركية – التي دام زواجها منه سنتين فقط. يُلقي العمل الضوء على جوانب لم تكن معروفة من شخصية أتاتورك، في مرآة زوجته التي كانت ابنة عائلة ثرية في إزمير، ومن أوائل المناضلات النسويات في تركيا.
انتهيتُ، قبل شهرين، من ترجمة رواية “المتسكّع” ليوسف آتلغان، وستُنشَر قريباً. هذا الكاتب غير معروف عربياً، بحدود علمي. ويُعتبَر من العلامات المميّزة في تاريخ الرواية التركية الحديثة.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
– في يدي الآن كتاب أقرأه، مترجم من الإنكليزية إلى التركية. هو كتاب بحثي، وليس عملاً أدبياً. ومع ذلك مكتوب على الغلاف: الطبعة السادسة والأربعون! وبين الطبعة الأولى والأخيرة أقلّ من سنتين. هذا يعني وجود قرّاء باللغة التركية. أما مشاهير الكتّاب الأتراك، فتُطبع كتبهم بمئات آلاف النسخ، وبطبعات متتالية. لا نجد هذه الظاهرة بالنسبة إلى الكتاب العربي أو المترجَم إلى العربية. مع العلم أننا نتحدّث عن مجتمع لا تفصله هوّة عميقة جداً عن المجتمعات العربية من حيث درجة التقدّم الاجتماعي.
أضف إلى ذلك ضيقَ سوق الكتاب، وغياب العمل المؤسّسي الذي يتطلّب إمكانيات دولة. فالأمر لا يقتصر على النشر، بل يتطلّب أيضاً خطّةً لتنشئة مترجِمين من مختلف اللغات، قبل، أو بموازاة النشر. في حين أن المشاريع الكبيرة للترجمة الموجودة هي بالأحرى لتلميع طُغَم حاكمة، أكثر من كونها تأسيساً لتراكم ثقافي طويل الأمد.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمّة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
– أتمنّى وجود محرّر يقوم بمراجعة عملي. بعض دور النشر لديها مثل هذه الوظيفة، لكن أكثرها لا تعتمد على محرّر، توفيراً للنفقات. هناك فقط مراجعة لغوية، وهي لا تنوب مناب التحرير. مع العلم أن غياب المحرّر، سواءً كان العمل تأليفاً أو ترجمة، يعني عدم احترام القارئ. يستحق هذا أن نقدّم له عملاً بأقل ما يمكن من العيوب. المحرّر يتلافى أخطاء المؤلّف المحتملة، ولا غنى عنه في عملية النشر. ليس لدي محرّر يخصّني. أترك الأمر لدار النشر.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
– في مرحلة أولى، كنتُ أبادر إلى ترجمة كتبٍ أحبها، ثم أبحث عن ناشر يوافق على نشرها. ثم أصبحَت تأتيني طلبات من دور نشر، هي التي تحدّد الكتاب، فإذا لم يكن لديّ مانع يخص مضمون الكتاب، وافقتُ على ترجمته بناءً على عقد مسبق.
العلاقة مع الناشر تختلف من شخص لآخر. وباستثناء حالة واحدة، كان الناشرون الذين تعاملتُ معهم جيّدين. وأعترف، بهذه المناسبة، أنهم كثيراً ما عانوا في العلاقة معي، من حيث عدم التزامي بمواعيد التسليم. مشكلتي مع التأخّر في العمل تعود إلى أنني غير متفرّغ للترجمة. فهذا العمل لا يوفّر، وحده، مورداً مادياً كافياً للعيش. وهذه حال معظم العاملين في الترجمة الأدبية.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
– ليست هناك اعتبارات سياسية في اختياراتي، أو حين أوافق على مشاريع تُعرَض عليّ. معياري الأساس، حين يكون الخيار لي، هو جودة العمل بالمعنى الأدبي. لكني ترجمتُ كتباً لم أحبَّها، ولا تشكّل إضافةً ذات شأن، بناءً على طلب الناشر الذي له اعتبارات مختلفة عن اعتباراتي.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
– إذا كنتَ تعني علاقة شخصية، فأغلب من ترجمتُ لهم لا أعرفهم إلّا من خلال نتاجهم. مرّةً واحدة التقيت بكاتبة ترجمتُ لها إحدى الروايات، ولم نتحدّث عن العمل الذي كنت قد انتهيت منه قبل ذلك. كان مجرّد لقاء تعارف. لم ألتق بآخرين ترجمتُ لهم، ولا حتى راسلتهم. برأيي، من المهم أن يتابع الكاتب ما يفعله مترجِم أعماله، ويساعده إذا احتاج الأمر إلى توضيح صياغات غير مفهومة. لكن هذا التعاون كان غائباً تماماً في عملي. وهناك طبعاً كتّاب رحلوا عن عالمنا فلم يعد التواصل ممكناً.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
– أنا أكتب، عموماً، في شؤون السياسة. لغتها تختلف عن لغة الأدب. لي أسلوبي في الكتابة، وهو ما لا يمكن أن ينعكس على الترجمة. ففي الكتاب المترجَم، أسلوب المؤلّف هو الذي يظهر. يبقى هامش ضيّق للتمييز بين أساليب المترجِمين، في اختيار مفردات بعينها من بين مترادفات، أو في تقسيم الجملة الطويلة، أحياناً، أو في تقديم أو تأخير بعض أقسام الجملة. أو في الاختيار بين العامية والفصحى حين يتعلّق الأمر بترجمة عبارات عامية في اللغة الأصلية، أو في الاختيار بين الأمانة الشديدة والخيانة للنص الأصلي (وكلاهما مطلوب حسب كل حالة). عموماً، حين أُترجِم، أحاول تقمُّص عين قارئ افتراضي، فأطرح على نفسي سؤال: هل هذه الصياغة مفهومة للقارئ العربي، وهل هي مستساغة؟
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
– أسمع أخبار جوائز جديدة للتأليف والترجمة، ظهرت في السنوات القليلة الماضية. جيّد أن تكون هناك جوائز للعمل الثقافي، تعني أن عملك له قيمة معترَف بها. لكن يبقى أن أصحاب الأموال الذين يمنحون الجوائز لا علاقة لهم، غالباً، بالثقافة. ويفعلون ذلك كنوع من البريستيج. يبقى أن اختيار الأعمال الفائزة هو شغل لجان تحكيم من أصحاب الاختصاص، وليس مانح الجائزة المالية.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معيّنة في الترجمة؟
– في الترجمة، ننقل نصاً من سياق ثقافي إلى آخر، وهو ما يتطلّب أكثر من مجرّد إتقان اللغتين. فلا بدّ من الاطلاع على البيئتَين الثقافيّتَين، بما في ذلك جوانب أساسية من تاريخهما. القاموس لا يُنجدك دائماً. وفي حالة الترجمة من التركية إلى العربية، ليس هناك قاموس أصلاً. حين أواجه صعوبة أو مشكلة، ألجأ إلى البحث، في كتب أو في الإنترنت. فإذا لم أجد الحل، أسأل أصدقاء. أشعر بضيق شديد حين لا أجد ما أبحث عنه، فأنقطع عن العمل أياماً أو أسابيع. لكلّ كاتب تترجِم له عملاً مشكلات خاصة به. كل مشروع ترجمة هو مغامرة جديدة بالنسبة للمترجم، يتعلّم منها الكثير ويغني قاموسه ومعارفه.
■ كتاب أو نص ندمتَ على ترجمته ولماذا؟
– نعم، هناك كتب ليتني لم أترجمها. وكتاب واحد اخترته بنفسي لكني لم أوفَّق في ترجمته. ولا أريد ذكر عناوين.
■ ما الذي تتمنّاه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجِم؟
– هناك أفضلية للغة العربية كونها اللغة الأم لثلاثمئة مليون يتوزّعون على أكثر من عشرين بلداً، إضافة إلى المغترَبات ومستخدمي العربية من ثقافات أخرى. هذا يمنح الترجمة إلى العربية إمكانية قيام مشروعات ومؤسّسات عابرة لحدود الدول، وكتلة افتراضية من القرّاء كبيرة جداً. الكتلة الحقيقية هي طبعاً أصغر من ذلك بكثير. ولكن يمكن العمل على تنميتها من خلال خطط طويلة الأجل. ولا يمكن عزل ذلك عن الوضع العام في البلدان العربية، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتعليمية وغيرها. لا يمكنك أن تتوقّع اهتماماً بالقراءة لدى مجتمعات تعاني من الفقر وغياب الحريات والشروخ العمودية العميقة، في ظل إدارات فاسدة آخر همّها تنمية مجتمعاتها.
حلمي كمترجم؟ يبدو لي هذا السؤال شيئاً طوباوياً شديد الترف. حلمي الوحيد الآن، مثل ملايين السوريّين المقتلَعين من بيئتهم الأصلية، أن يكون لي بلد أعيش فيه حياة عادية، وليس حياة طارئة، كالتي أعيشها في منفاي التركي، لا أعرف متى تتعرّض لانقطاعات وخضّات جديدة مؤلمة.
في زمن سابق، كنتُ أحلم أن يكون لي مكتب مستقل، أعمل فيه بعيداً عن البيت ومقاطعات الأولاد. لكني لم أحصل على ذلك في أي وقت. حتى في البيت، ليس لدي غرفة خاصة للعمل. أعمل في غرفة النوم أو المطبخ، أو أتنقّل بينهما. هذا يعني أيضاً أنه ليس لدي زمن محدّد للعمل. فأنا أعمل وفقاً للظروف، وفي كل أيام الأسبوع.
بطاقة
كاتب ومترجٍم سوري من اللغة التركية، من مواليد حلب سنة 1959. من ترجماته: “اسمي أحمر” لـ أورهان باموك (2001)، و”بتوش الحلوة” لعزيز نيسين (2004)، و”قصص مضادّة” لتحسين يوجل (2005)، و”المدينة ذات العباءة القرمزية” لأصلي أردوغان (2008)، و”كلّها قصص” لغاية بورالي أوغلو (2009)، و”لطيفة هانم” لـ إيبك تشالشلر (2009)، كما ترجم جزأين من أصل أربعةٍ من كتاب “الأدب التركي المعاصر” لشكران كورداكول (2005 – 2007).
العربي الجديد