لماذا طالب الإسلاميون في تونس بمصالحة في سوريا؟/ نزار بولحية
قد ينظر البعض لطلبهم باستغراب، وقد يراه آخرون تكتيكا صريحا ومناورة مكشوفة أو حتى قفزة في المجهول غير مبررة أو مفهومة. لكن هل كان حريا بالإسلاميين التونسيين، ممثلين في حركة النهضة، أن يغمضوا أعينهم طويلا ويتجاهلوا كل ما جرى من حولهم على مدى الشهور الأخيرة، من تطورات محلية وإقليمية طالت الساحة السورية بالخصوص، وأدت لمثل ذلك التحول الواضح في ميزان القوى بين النظام ومعارضيه، وما أعقبها من تغيرات في المواقف الدولية من نظام بشار؟
وهل كان بإمكانهم أن يدفنوا رؤوسهم في التراب، ويعتبروا كل ذلك من قبيل المسائل الهامشية التي لا تعنيهم ولا تخصهم في شيء؟ أم أن المنطق كان يقتضي أن يكون من الطبيعي، بل ربما حتى الضروري أن يكونوا سباقين في بعث إشارة رمزية، تدل على انهم قادرون فعلا على أن يستوعبوا المرحلة المقبلة، التي بدأت تطل برأسها، وأن يكونوا، بوصفهم طرفا فاعلا ووزانا داخل المشهد السياسي التونسي، قادرين على أن يقدموا تصورا أو مبادرة تستطيع أن تعدل، ولو بشكل نسبي، من كفة ميزان موقف رسمي بات يميل يوما بعد آخر لصالح بقاء واستمرار الحكم الأسدي لدمشق؟
لقد كان كثير من العلامات في الداخل قبل الخارج تدل على أن «الوقت المفيد» لتطبيع العلاقة بين تونس وسوريا الذي تحدث عنه وزير الخارجية ذات مرة في لجنة بالبرلمان، صار الآن أقرب مما مضى. ولم يكن هبوط طائرة سورية للمرة الأولى منذ ثماني سنوات بإحدى المطارات التونسية، سوى واجهة لتحركات دبلوماسية حثيثة نحو أكثر من عاصمة عربية، وربما حتى غربية، كان الهدف منها الحصول على غطاء عربي وإقليمي لتلك العودة المفترضة للنظام السوري في القمة العربية المرتقبة في مارس المقبل، وليس معروفا بناء على أي معطى بالضبط.
حسمت حركة النهضة موقفها بشكل سريع نسبيا، واختارت أن تخرج الأربعاء الماضي، في أعقاب اجتماع لمكتبها التنفيذي ببيان تقول في إحدى نقاطه إنها «تدعو إلى مصالحة وطنية شاملة في سوريا، يستعيد بها الشعب السوري حقه في أرضه وفي حياة ديمقراطية وتضع (أي تلك المصالحة) حدا للتقاتل، وما انجر عنه من مآس إنسانية، وتعيد لسوريا مكانتها الطبيعية في المنظمات الدولية والعربية». ولكن المؤكد أن صياغة ذلك الموقف كانت على درجة عالية من الحبكة، وربما حتى الدهاء السياسي، ورغم أن كثيرا من المراقبين المحليين، وحتى الاجانب، سارعوا فور اطلاعهم على ذلك النص للجزم بأن الاسلاميين التونسيين قد بدأوا بمراجعة موقفهم من نظام بشار، وربما حتى التراجع عن مساندتهم المعروفة للثورة السورية، إلا أن تلك الانطباعات لم تكن دقيقة تماما بفعل عدة معطيات، وأولها ما ظلت حركة النهضة تشدد عليه في كل البيانات التي أصدرتها على مدى السنوات السبع الاخيرة، بخصوص ما يجري في سوريا من «إدانتها الصارمة لما يرتكبه النظام السوري في حق أبناء شعب أعزل» ومن مساندتها في المقابل وفي الوقت نفسه «المطلقة لثورة سوريا السلمية، وحق السوريين المشروع في الحرية والكرامة والعدالة، واختيار من يحكمهم بكل حرية»، مثلما جاء في واحد من البيانات التي صدرت في الشهور الاولى من قمع النظام للسوريين. وهو ما يثبت أن الاسلاميين التونسيين لم يكونوا مؤيدين أو متحمسين لعسكرة الثورة السورية، وكانوا يفضلون أن تحافظ على السلمية، رغم شدة بطش النظام. وهذا هو الموقف الذي كانوا متفقين فيه مع الرئيس السابق المنصف المرزوقي، حين عقد مؤتمر اصدقاء سوريا في تونس.
غير أن مضي المرزوقي في ذلك الوقت لما هو أبعد، أي إلى إعلان قطع العلاقات مع نظام بشار، وطرد سفيره من تونس، جعلهم غير مرتاحين تماما لإقدامه منفردا على قطع شعرة معاوية، وإعلان القطيعة التامة بالشكل الذي حصلت به. وربما كان تمرس الحركة في الحكم في ظرف محلي وإقليمي شديد التوتر والعدائية هو ما جعلها تدرك باكرا أن عليها أن تبقي قنوات التواصل مفتوحة، حتى مع ألد الاعداء والخصوم، وأن تسعى لمسك العصا من الوسط، وألا تحاول الانحياز لطرف على حساب آخر، في وقت كانت فيه الثورة السورية تنحرف عن مسارها السلمي، وتنزلق نحو حرب أهلية تغذيها صراعات المحاور وتدخلات ومصالح القوى الاقليمية والدولية، بعيدا عن هاجس التفكير في حلول لحماية الشعب السوري والحفاظ على كيانه. كان المحدد الأساسي لنظرة الإسلاميين التونسيين للتحولات الاقليمية التي كانت تجري من حولهم وللإخفاقات التي منيت بها ثورات مصر وسوريا وليبيا واليمن، هو ألا فائدة أبدا من شن حروب مفتوحة على أكثر من جبهة محلية ودولية، لأن ذلك سوف لن يقود الا إلى تكالب الجميع على دفن التجربة التونسية وإلحاقها بصف التجارب المجهضة في تلك البلدان. وربما لو سألنا حينها أي قيادي في الحركة عما كان يراه مناسبا للحفاظ على تلك التجارب، لقال فورا إنه لم يكن هناك بد من أن يحصل في تلك البلدان نوع من التوافق أو المصالحة الوطنية الشاملة، التي لم يخف النهضويون استعدادهم للإسهام في تحقيقها بشكل خاص في ليبيا وحتى في مصر، رغم رفض نظام السيسي الكامل لها.
ولأجل كل ذلك لم تكن دعوتهم لمصالحة وطنية شاملة في سوريا معزولة عن نظرتهم لسياق أوسع هو سياق تلك المواجهة المفتوحة والمستمرة، بين ما تبقى من ثورات الربيع العربية وتكتل الثورات المضادة بكل أنظمته وتحالفاته الاقليمية والدولية. لقد شاهدوا كيف دخل ولي العهد السعودي بن سلمان قصر قرطاج، وكيف أمضى تلك الساعات القليلة لكن المليئة بالرمزية في تونس وكيف لم يعد مستبعدا، أو مستهجنا أن يحل بها قريبا جنرال مصر، أو حتى جزار سوريا. وكانوا يعلمون جيدا أن تحججهم بانهم ملتزمون في السياسة الخارجية للبلاد بما يفعله أو يقرره الرئيس فحسب، لم يعد مجديا أو مقنعا لأحد، وأنهم صاروا مطالبين بان يكشفوا بوضوح أكبر عن موقفهم مثلا من بن سلمان وبشار والسيسي ومن باقي المستبدين العرب الذين يخوضون حروبا معلنة أو صامتة على شعوبهم. ولعلهم كانوا متيقنين أن ذلك كان جزءا من لعبة كسر الأيدي بينهم وبين الرئيس، وان بقاءهم على الحياد وترك قائد السبسي يفعل ما يريد في ملف العلاقات الخارجية لن يكون مجديا بقدر ما قد يصبح بالتدريج أداة اخرى لتقويض التجربة من الداخل. وربما سيقول البعض هنا انهم اختاروا الطريق السهل حين تجنبوا المواجهة المباشرة مع خيارات قائد السبسي الخارجية، ولكن هل كانت تونس قادرة الان وهي على اعتاب شتاء اجتماعي واقتصادي شديد السخونة أن تتحمل تبعات صدام حاد مع ثورتها المضادة؟ لعلنا إن تعمقنا في الدعوة للمصالحة الوطنية الشاملة فسنكتشف إنها وإن كانت تخص سوريا في الظاهر، فهي لا تعني في هذا الوقت بالذات وبالدرجة الاولى احدا اخر غير تونس. أما هل كان النهضويون مصيبين في دعوتهم تلك أم لا؟ فوحده التاريخ سيجيب عن ذلك.
كاتب وصحافي من تونس
القدس العربي