سوريا 2018 -مقالات مختارة-
سوريا 2018: التمييع وأبطاله
الجمهورية
إذا كان هناك سمة رئيسية للمشهد السياسي السوري خلال العام المنقضي، فهي التمييع الذي اعترى جميع المسارات السياسية منذ أيامه الأولى، التي لم تبدأ إلّا بعد أن كان في جعبة الرياض هيئة جديدة للمفاوضات، كانت مهمتها الأساسية طوال العام ألّا تفعل شيئاً، عدا ظهور أعضائها المتكرر على قناة العربية لقول كلام متناقض، والاستسلام شبه الكامل لنتائج التفاهمات التركية مع موسكو وطهران، بعد أن تراجع الدعم الدولي للمعارضة وهيئاتها، وواصلت الرياض انسحابها من المشهد السوري.
أما أنقرة، «الحليفة الأخيرة» للمعارضة، فقد كان في جعبتها الكثير خلال 2018، من قبولها بتمرير مشهد مؤتمر سوتشي الهزيل، والمليء بالهذيان والإذلال الجمعي للسوريين، إلى دخول قواتها إلى منطقة عفرين بمعية فصائل تشتغل اليوم في الاستيلاء على زيت الزيتون وقطع الأشجار وأعمال الخطف والسطو، وهو ما عنى عملياً انتقالها من خانة الدعم للمعارضة، إلى أن تكون قوة إقليمية تمتلك نفوذاً واهتماماً محدداً في البلاد، يرتبط برؤيتها لـ «أمنها القومي»، بصرف النظر عن أي شيء آخر، بما في ذلك حيوات ومصائر السوريين.
من جهتها، جهدت موسكو طوال العام في سعيها إلى خلق ممرات جانبية لتحويل المسار السياسي للحل في سوريا، ودفعه بمساندة الطائرات والمذابح والتهجير إلى متاهات بلا نهاية، وهو ما يبدو أنها قد نجحت فيه إلى حد بعيد.
أما واشنطن فهي لم تصنع شيئاً طوال العام، وعدا ضربة جوية محدودة عقاباً للنظام على استخدام السلاح الكيميائي، وتصريحات شبه متشددة تتعلق بالمسار السياسي، أطلقها المبعوث الأمريكي الجديد الذي عُيّنَ في الأشهر الأخيرة، فإن دورها كاد يكون صفراً في مجمله على أرض الواقع، حتى أفاق الرئيس الأمريكي قبل عطلة الميلاد بقليل، ليقرر سحب جنوده من سوريا.
وينتشر الجنود الأمريكيون الذين ينوي ترمب سحبهم في منطقتين؛ الأولى اصطلح على تسميتها شرق الفرات، وهي منطقة تشمل أجزاء واسعة من محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، كانت ولا تزال مسرح عمليات التحالف المستمرة ضد تنظيم داعش، وتسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، التي سيتركها الانسحاب الأمريكي في حال تنفيذه في مواجهة مصائر تتراوح بين الاستسلام للنظام، أو مواجهة اجتياح تركي. أما المنطقة الثانية فهي قاعدة التنف، التي يقع قريباً منها مخيم الركبان الذي يضمّ أكثر من سبعين ألف نسمة، من النازحين الذين هربوا من قراهم وبلداتهم على أطراف البادية، خوفاً من بطش داعش والنظام.
كان قرار الانسحاب هو الهدية الأمريكية الأخيرة قبل نهاية العام 2018، وهو قرارٌ يوشك أن يخلط الأوراق كلها، ولا يزال الجدل حوله قائماً في دوائر السياسة الأمريكية، وقد يتم سحب مفاعيله، أو تأخيره على الأقل، بما يحول دون استفراد روسيا بتقرير مصير سوريا.
ميدانياً، بدأ العام بعمليات ذات وتيرة مرتفعة في الغوطة وإدلب، كادت الأولى تنهي وجود النظام المستحكم في إدارة المركبات قرب حرستا، التي كانت قاعدة انطلاق دائمة للقصف والعمليات تجاه المدنيين في الغوطة المحاصرة. أما في إدلب، فقد استكمل النظام السيطرة على الريف الشرقي للمحافظة وجوهرته مطار أبو ضهور العسكري، بعد تراجع تنظيم هيئة تحرير الشام في تلك الجبهة.
لم يمضِ الشهر الأول، حتى أصبحت أغلب بلدات الغوطة تحت عمليات قصف مركزة، ويمكن أن نستمع هنا إلى تسجيل يتضمن أصواتاً عامة من مدينة دوما في تلك الفترة. ثم تسارعت الأحداث في الشهرين الثاني والثالث، لتتعرض الغوطة لعمليات عسكرية غير مسبوقة على أكثر من جبهة، استخدم النظام والروس فيها مزيجاً واسعاً من الأسلحة التقليدية والمحرمة من بينها السلاح الكيميائي، الذي استهدف حمورية وسقبا بعد أن أحرق النابالم بلدة الشيفونية قرب دوما.
أدت تلك العمليات العنيفة المترافقة مع حصار تجويعي مشدد، وانهيار القدرة على القتال لدى فصائل المعارضة، إلى عقد اتفاقات سريعة لإخراج مقاتلي المعارضة وتهجير جزء من سكان حرستا، ثم بلدات «القطاع الأوسط» الذي كان يسيطر عليه فيلق الرحمن، والذي يشمل زملكا وعربين وسقبا وحمورية وعين ترما وكفربطنا وغيرها. بينما حاول جيش الإسلام في دوما لعب جميع أوراقه حتى النهاية، ومن بينها القبول بدور الشرطي المحلي مقابل البقاء في الغوطة، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً بعد قصف النظام للمدينة بالسلاح الكيميائي في السابع من نيسان، ليتم تهجير جزء كبير من سكان المدينة ومقاتلي جيش الإسلام بعد يومين من ذلك فقط.
كان وقع المجزرة الكيميائية شديداً، وخلال أيام قامت فصائل القلمون الشرقي بالتفاوض مع الروس، والوصول إلى اتفاق يقضي بإنهاء وجودهم المسلح في القلمون الشرقي، الذي كان قد بات عملياً القوة العسكرية الوحيدة للمعارضة في محافظة ريف دمشق.
تسارعت بعدها عمليات التسوية والتهجير، لتشمل في شهر أيار ريف حمص الشمالي، والأحياء الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة جنوبي دمشق، ويتم بعدها إخلاء مخيم اليرموك والحجر الأسود من عناصر داعش، بعد معارك ضارية وتدمير واسع طال المخيم ومحيطه، وانتهى باتفاق قضى بنقل عناصر التنظيم إلى البادية في الثلث الأخير من أيار أيضاً.
في إجابتهم على سؤالنا حول سبب المسارعة إلى عقد تلك الاتفاقات، قال قادة عسكريون وشخصيات مدنية من المناطق التي شهدت اتفاقات تسوية وتهجير بعد سيطرة النظام على الغوطة الشرقية، إن السبب كان خوف الأهالي من توجيه النظام لضربات جديدة بالسلاح الكيميائي، بعد أن شهدوا رد فعل المجتمع الدولي الهزيل على هجوم دوما الأخير، والذي تمثل بضربات عسكرية محدودة لم تُلحق أذى يُذكر بالنظام.
كان سلاح القتل الشامل هذا أداة رئيسية للنظام خلال عام 2018، ورغم أن تغطية وتوثيق تلك المجازر كانت قد تراجعت نتيجة عملية معقدة ومدروسة من قبل روسيا والنظام لإخفاء الأدلة والضغط على الشهود، إلا أن ذلك لا يخفي حقيقة أن العام 2018 كان في الحقيقة عام السلاح الكيميائي، الذي تم استخدامه بشكل ممنهج كسلاح تخويف وتهجير من قبل النظام، وبهندسة واضحة من موسكو.
بالتوازي مع عمليات التهجير من ريف حمص والقلمون وأحياء دمشق الجنوبية، كان مسار أستانا قد عاد إلى عقد جلساته في منتصف شهر أيار، بعد أن فشلت موسكو في تمرير مؤتمر سوتشي باعتباره المسار السياسي الرئيسي للحل في سوريا، ليركز مسار أستانا على ترتيب الأوضاع باتجاه إبعاد واشنطن أكثر خارج سوريا، عبر استهداف مناطق تمتلك فيها نفوذاً، فكان الهدف الرئيسي مناطق سيطرة المعارضة في محافظتي درعا والقنيطرة أقصى الجنوب السوري.
أعلنت الولايات المتحدة سريعاً تخليها عن فصائل الجنوب السوري، فيما قام النظام بتطبيق التكتيكات العسكرية التي استخدمها في الغوطة نفسها، فعمد إلى تقسيم الجبهات ومحاولة الوصول إلى اتفاقات مع مناطق بعينها، إذ قام في البداية بعزل منطقة اللجاة التي كانت السيطرة عليها عسكرياً أمراً بالغ الصعوبة، لولا انسحاب القوات المسيطرة عليها وهي في معظمها كانت تتبع فصيلاً يأخذ رواتبه مباشرةً من الجيش الأردني. ثم وصل النظام بالتوازي مع ذلك إلى اتفاق خاص مع القوة الرئيسية في ريف درعا الشرقي، التي كانت تعرف بفصيل «شباب السنة»، بعد موجات من القصف الروسي الجوي التدميري، طالت بلدات في ذلك الريف بهدف إخضاع كل الأصوات التي قد ترفض ذاك الاتفاق.
أما في درعا البلد فقد طالت المعركة، وقاومت الفصائل المتمركزة هناك طويلاً تحت وابل من الغارات الروسية التي أحالت الأرض إلى جحيم في تلك الجبهة ومحيطها، وترافق ذلك مع أزمة إنسانية ضخمة، ونزوح أكثر من مئة ألف مدني نتيجة القصف العنيف الذي سوى عدة بلدات بالأرض، متجهين نحو الشريط الحدودي مع الأردن، التي أغلقت أبوابها حتى أمام المساعدات الإنسانية.
انتهت تلك المعركة بتهجير جزء من مقاتلي فصائل المعارضة وعدد أكبر من الناشطين والمدنيين نحو الشمال السوري في تموز، وتوقيع الباقين لاتفاقات تسوية برعاية روسية، ثم سيطرة النظام على الجيب الذي كانت تسيطر عليه داعش في حوض اليرموك، والاتفاق على تهجير مقاتليه إلى البادية. وهكذا بات مجمل الجنوب السوري تحت سيطرة النظام، لكنها لا تزال سيطرة مهلهلة وغير مكتملة تماماً، إذ تستمر بشكل متواتر عمليات فدائية ضد قوات النظام، ومظاهرات وأنشطة عديدة من بينها الكتابة على الجدران، على غرار تلك المحاولة الجريئة، التي كُتبت فيها عبارات ضد النظام على جدران مفرزة المخابرات الجوية في بلدة الحراك بريف درعا.
بعد معركة درعا، توجه النظام نحو التصعيد التدريجي ضد محافظة إدلب، التي تعد اليوم المعقل الأخير الذي يضم فصائل معارضة غير خاضعة بشكل كامل لسيطرة قوى إقليمية، إلا أن هذا التصعيد الذي شمل عمليات قصف وحشد عسكري، تراجع مع اتفاق سوتشي بين الرئيسين التركي والروسي خلال شهر أيلول/سبتمبر بدعم من أوروبا، التي خشيت من موجات لاجئين جديدة. ولا يزال هذا الاتفاق مستمراً، رغم الخروقات المستمرة والاشتباكات المتفرقة.
في الأسابيع الأخيرة من العام المنقضي، سيطر على المسار السياسي الجدل حول مصير اللجنة الدستورية، التي تم الاتفاق على تشكيلها بداية العام بين وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في مقابل حضور المبعوث الدولي لمؤتمر سوتشي. لكن تراجع موسكو عن تعهداتها أدى بهذا التفرّع الجديد للمسار السياسي إلى حائط مسدود أيضاً، بينما لم تنجح تهديدات المبعوث الأمريكي أو الضغط الأممي في الأيام والأسابيع الأخيرة من العام في تغيير هذا الواقع بشكل جدّي.
الميوعة وتمييع القضايا الجوهرية كانا سمة رئيسية لكل الحراك السياسي المتصل بالقضية السورية خلال 2018، ومعهما «الممّيعة»، وهو الوصف الدارج على ألسنة سلفيين جهاديين تجاه سلفيين جهاديين أخرين أقل «تشدداً». ويمكن لنا أن نستعير الوصف هنا منهم، خاصة إذ يبدو أن الجميع، بمن فيهم هؤلاء الجهاديون الأكثر تشدداً، قد كانوا طوال العام الماضي يسعون إلى تمييع الوضع أكثر فأكثر في سوريا. جبهة النصرة التي غيرت جلدها أكثر من مرة تحاول اللعب في الهوامش المتبقية لتبني إمارة ولو لليلة واحدة في إدلب، وتخوض من أجل ذلك معارك متكررة مع الفصائل الأخرى، تستعر إحدى فصولها الدموية في هذه الأيام. وموسكو تريد تمييع كل ما يتصل بالحل النهائي، لإجبار العالم على القبول بنسخة محسنة من بشار الأسد، بينما تريد الولايات المتحدة محاربة طهران دون التورط في أي حرب. أما تركيا فهي لم تقرر بعد وضع المناطق التي باتت تسيطر عليها، ولا يبدو أنها تريد شيئاً أكثر من تلك السيطرة ومحاولة توسيعها على حساب قوات سوريا الديمقراطية. فيما انتقلت الأنظمة العربية من مرحلة الملل الدبلوماسي نتيجة «وجع الرأس» القادم من سوريا، إلى مرحلة القبول بأي شيء تعرضه موسكو بعد أن غابت واشنطن.
ليس ثمة صورة واضحة ومكتملة ميدانياً أو سياسياً في البلاد اليوم، وحتى بعد انتصارات النظام الواسعة على حطام المدن وجثث السوريين، لا يبدو أن هناك ما هو محسوم في سوريا. وإذا كانت هذه أوضاعاً قد جرت المحافظة عليها مراراً طوال السنوات الماضية، فإن الجديد فيها أن رصيد جميع القوى يوشك على النفاذ، وأنه مع وصول هذه الحالة المائعة إلى حدودها القصوى، ستجد جميع الأطراف نفسها في مواجهة هوامش أضيق للمناورة والفعل، ما سيعني ضرورة الذهاب إلى حلول نهائية، أو الدخول في صدامات واسعة لا يمكن التنبؤ بمساراتها.
لن يأتي العام الجديد بمعجزات بالتأكيد، لكن الحلول النهائية المطروحة اليوم لا يمكن أن تنجح بالنظر إلى المعطيات الراهنة، أما الصدام الواسع البديل عنها فلا يريده أحد، ولا يبقى أمام القوى الإقليمية والدولية النافذة في سوريا سوى اجتراح خرائط لحلول نهائية جديدة، أو مواصلة التمييع وترحيله إلى العام التالي، في وقت تتواصل فيه آلام السوريين التي لا تُحتمل، وتصبح أكثر فأكثر علامة على وحشة العالم وتدهوره المتسارع.
حصيلة 2018 السورية: كوابيس إدلب وروليت موسكو/ صبحي حديدي
افتُتح عام سوريا الجديد، 2019، بجولة جديدة من المواجهات العسكرية بين «جبهة النصرة»، أو «هيئة تحرير الشام» كما صارت تعرّف عن ذاتها في التسمية الراهنة، من جانب؛ وخمسة، على الأقلّ، من فصائل ما باتت تُعرف باسم «الجبهة الوطنية للتحرير». وليست مصادفة محضة أنّ العام المنصرم، 2018، افتُتح أيضاً بجولة أخرى من المواجهات على بطاح محافظة إدلب؛ دارت، يومذاك، بين «الهيئة» وتحالف روسيا وإيران والنظام السوري، وكان الهدف منها إبعاد رجال أبي محمد الجولاني نحو أطراف مدينة إدلب، وإخلاء القرى التي كانت «الهيئة» تحتلها. وكما أنّ تلك الجولة لم تحسم الكثير على الأرض لصالح التحالف الثلاثي، فإنّ الجولة الجديدة مرشحة لإراقة المزيد من دماء الجهاديين دون أن تسفر عن حسم ميداني ملموس أيضاً.
ومنذ أن: 1) تحوّلت المحافظة إلى «إمارة» جهادية، أُقصيت إليها غالبية المجموعات المسلحة الإسلامية التي هُزمت، أو استسلمت، هنا وهناك في جبهات أخرى؛ و2) ظهر الجولاني في ريف اللاذقية الشمالي وأعلن ولادة خمسة «جيوش» دفعة واحدة («جيش الملاحم، جيش الساحل، جيش البادية، سرايا الساحل، وجند الشريعة)؛ انقلبت المحافظة إلى ميدان منتظَر لاندلاع أمّ المعارك: بين فصائل الجهاديين أنفسهم (حتى إذا تقنع بعضهم بمسمى «الجيش الحرّ»)، في صفّ أوّل؛ والقوى الأخرى غير الجهادية في الساحة، من الفصائل الملحقة بالجيش التركي، إلى الميليشيات المذهبية التابعة لطهران، مروراً بتلك الطائفية الحليفة للنظام أو الموالية لموسكو، في صفّ ثانٍ. وأمّا العنوان الأبرز خلف هذا التجاذب الشديد، فهو ذلك الكابوس الذي يرغب الجميع في تفاديه، أو تأجيله، أو تخفيف كوارثه السياسية والعسكرية والديموغرافية: معركة الساحل الكبرى، حين لن يجد عشرات الآلاف من مقاتلي «الهيئة» مخرجاً آخر، أو أفضل، سوى الاستدارة نحو عمق الساحل، وخوض معارك ميدانية مصغّرة على مستوى القرية أو البلدة، واستخدام سلاح المدفعية وصواريخ الـ»غراد»، واعتماد تكتيك التوغل المحدود ذي الاستهداف الثقيل.
وكان الشهر الأوّل من العام المنصرم قد شهد مهزلة الشطر السياسي من مشروع التدخل الروسي في سوريا، حين ضرب الاستيهام دماغ سيرغي ناريشكين، رئيس جهاز الاستخبارات الروسية والمستشار الأوّل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأقنع سيد الكرملين بأنّ مؤتمراً لا يدوم سوى ساعات قليلة، وجلسة واحدة، يُدعى إليه 1600 مندوب سوري؛ يمكن أن تشكّل فارقاً دراماتيكياً في معمار البناء السياسي لما بعد انتصارات موسكو العسكرية في سوريا. وتلك التفاصيل المزرية التي اكتنفت مؤتمر سوتشي، ولم تكن أكثرها إثارة للضحك وللاشمئزاز مشاهد التدافع على منصات الطعام، أشارت بجلاء أقصى إلى أنّ الشراكة الثلاثية، الروسية ــ الإيرانية ــ التركية، الضامنة لمنظومة أستانة (حول «الإصلاح الدستوري» و«الانتخابات الديمقراطية») ليست منعدمة التشارك، قياساً على تأثيرات كلّ دولة في مضمارها، فحسب؛ بل هي حقل التفخيخ الأوّل لكلّ مشروع تسوية أممي يمكن أن يتجاوز الثلاثي إلى ضامنين أوسع، وأغنى مليارات في الواقع، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ذلك لم يمنع ناريشكين من مراضاة رئيسه عن طريق االبرهنة على أنّ قاعدة الروليت الروسية قد طُبّقت عبر ذلك المؤتمر المهزلة، من خلال نجاح جولات أستانة في تفريغ جولات جنيف/ فيينا من غالبية عناصرها، خاصة تلك التطبيقية (الحكم الانتقالي، مصير الأسد، إشراك المعارضة…). ليس لأنّ طاولات التفاوض تعددت وتبعثرت، بين موسكو وأستانة وسوتشي وأنقرة، فقط؛ بل أساساً لأنّ المرجعيات تبعثرت معها وتعددت واختلطت، فباتت قرارات الأمم المتحدة (حتى تلك التي سهر على صياغتها وزيرا الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف) أثراً بعد عين، أو تكاد. وخلال 11 شهراً انقضت من العام 2018، شهدت تلك الشراكة تقلبات عديدة، فتجمدت تارة، أو اتخذت صفة بروتوكولية حصرية تارة أخرى، حتى انتهت إلى تفاهمات ثنائية روسية ــ تركية، أسفرت حتى اليوم عن جولات فوز متلاحقة لمشاريع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ سواء في إطار تقليص نفوذ الكرد والـPKK، أو على صعيد توسيع أوراق اللعب التركية على الأرض السورية، ورفع أرصدة أنقرة في سباق الاقتسام والتقاسم. وإذا نفّذ الرئيس الأمريكي وعده فسحب القوات من مناطق انتشار «قوات سوريا الديمقراطية»، وعموم بؤر النفوذ الكردي، فإنّ منظومة أستانة ستلتحق بمنظومات جنيف وفيينا، انحناءً أمام قواعد الروليت الروسية إياها!
وفي ربيع العام المنصرم كانت عودة النظام إلى الغوطة الشرقية بمثابة تذكرة مأساوية بالعوائق التأسيسية، الخَلْقية على وجه التحديد، التي لازمت التيارات الجهادية منذ ابتداء صعودها؛ وربما باقتران مباشر مع استجابة رأس النظام السوري، بشار الأسد، إلى نصيحة الاستخبارات الروسية حول إطلاق سراح 1500 من معتقلي التيارات الإسلامية المختلفة. وكان طبيعياً أن يلجأ زهران علوش إلى تأسيس «جيش الإسلام»، ويحذو حذوه حسان عبود فيطلق «أحرار الشام»، ويقتدي بهما أحمد عيسى الشيخ في إنشاء «صقور الشام» ثمّ تولية الجولاني على رأس «جبهة النصرة»؛ فتكون العاقبة الأولى هي استبدال التظاهرة السلمية بالبندقية (المأجورة لأنظمة وأجهزة خارجية)، وإزاحة شعارات التغيير ومطالب الحرية والكرامة والعدالة لصالح الأسلمة والشريعة والجهاد. العاقبة التالية كانت فرض أنماط الهيمنة السياسية والاجتماعية والأمنية الجهادية على مجتمعات الغوطة، ثمّ الانخراط في صراعات داخلية دامية، وانهيارات عسكرية متلاحقة؛ حتى إذا كانت الهزيمة الختامية نتاج تدخل عسكري روسي وحشي غير مسبوق، ساندته مجموعات «حزب الله» والميليشيات المذهبية، ولم تغب عنه الأدوار المزدوجة التي لعبتها «داعش».
وفي نيسان (أبريل) نفّذت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربة جوية ضدّ منشآت الأسلحة الكيميائية للنظام السوري، كما قالت بيانات الدول الثلاث؛ وكانت، في الشكل كما في المضمون، «خبطة» علاقات عامة أُريد منها حفظ ماء وجه زعماء الدول الثلاث، إزاء محظور واحد هو استخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ المدنيين. في المقابل، حظي نظام الأسد، من جانب تلك القوى وسواها، بأشكال شتى من الصمت، أو الإدانة اللفظية، أو التواطؤ المباشر، أو التذرّع بأولوية محاربة الإرهاب. وخلال ثماني سنوات من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، وهي كذلك ثماني سنوات من مأساة مفتوحة على سفك الدماء وممارسة أنساق التوحش البربرية كافة؛ كانت قوى من كلّ حدب وصوب ــ بينها إيران وميليشياتها المذهبية، «داعش» والجهاديون، موسكو وواشنطن وأنقرة… ــ تتولى الإجهاز على الشعب السوري، فتنتهك أرضه وسماءه، وتحوّل سوريا إلى محميات واحتلالات. ولم يكن ثمة مفارقة في أن القاذفات والصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت عشرات المواقع داخل سوريا، هي السابقة على صواريخ أمريكية وفرنسية وبريطانية لاحقة. لافت، إلى هذا، أنّ ذلك العقاب المسرحي أفرز توازياً كاريكاتورياً بين مؤيدي الضربة (لأنها تؤذي النظام!)، ورافضيها (لأنها تؤذي السلام!)؛ وكأنّ الضارب لا يتساوى مع المضروب في الشراكة عن صناعة المأساة الأمّ، وإدامتها.
ولا يصحّ اختتام هذه الحصيلة السورية دون استذكار التفاهم اللافت، الصامت ولكن رفيع السوية، بين بوتين ورئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بصدد إسقاط الطائرة الروسية «إيل ـ 20» في سماء اللاذقية. لقد تركا التراشق اللفظي لرجال الصفّ الثاني في موسكو وتل أبيب، وتفرغا إلى ما يتوجب أن يجمعهما ويذهب أبعد بكثير من مجرد واقعة واحدة تكدست فيها «سلسلة حوادث مأساوية وقعت بالصدفة»، حسب تعبير بوتين. الدليل أنّ موسكو نشرت منظومة الصواريخ المتقدمة، وجيش الاحتلال واصل عمليات القصف، فلا ضرر هنا ولا ضرار هناك!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
السوريون في 2019 بين السّاسة والعرّافين/ سوسن جميل حسن
حدث على مشارف العام 2011 أن التونسي محمد بو عزيزي أضرم بنفسه النار، بعدما ضاقت الدنيا به وبكرامته المنتهكة، فأشعل النار في هشيم شعوب المنطقة كلها، الشعوب المقهورة المقموعة، فاقدة الحد الأدنى للحياة، ومسلوبة القيمة والكرامة والإرادة، الشعوب التي أزمن الاستبداد جاثمًا على صدورها، بعدما كان الاستعمار قد أنهكها، ولم تلحق أن تسترد أنفاسها لتنطلق في دروب النهضة المرجوة، الحلم الذي أجهض في بداياته.
ثماني سنوات والنيران لم تنطفئ، والشعوب التي انطلقت في درب الحرية تخلّى العالم عنها، وبقيت يتيمةً تواجه مصيرًا فوق مستوى التوقع والاحتمال. ثماني سنوات كنا فيها نلهث وراء الخبر والصورة، راهنين أنفسنا للشاشات والمنابر كلها، كاتمين أنفاسنا غير مصدّقين ما جرى وما يجري. أدهشتنا هذه الشعوب حدّ الذهول، على الرغم مما كنا نتبجح بمعرفته من قواعد المنطق وأبسطها، تلك التي تقول إن المقدمات تعطي النتائج، وكنا نعرف أن كل المقدمات متوفرة كي تنفجر صدور الناس وينتفضوا لأجل كرامتهم الإنسانية، وأن ساعة الصفر لا بدّ آتية، ومع هذا لم نصدّق.
وما لم نصدّقه أيضًا المفاجآت والأخطار التي حاقت بحراك الشعوب، خصوصا الشعب السوري، بعدما اجتمعت عشرات الدول لتقول إنها “أصدقاء الشعب السوري”، فإذا بهذا الشعب بلا أصدقاء ولا إخوة ولا أشقاء، كان مصيره القتل والتجويع والتشريد والموت الآخر في دروب تغريبته القاسية، في وقتٍ استباحت أرضه القوى الضالعة في الحرب عليه، أصالة أو وكالة، وصارت سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ بقوة السلاح الذي ارتهنت السياسة إليه، فكان القول له بالدرجة الأولى والأخيرة.
وبقينا معلقين أنظارنا وأرواحنا على الشاشات، نتابع تصريحًا هنا وخبرًا هناك، ونرصد حركةً
هنا ولفتة هناك، ونحاول التحليل، وقراءة ما يجري وما بين السطور، فنكاد لا نفهم، أو إذا هيّئ لنا أننا فهمنا وأصابتنا لوثة فرح وأمل غامضيْن نخترع لهما المبرّرات، من خلال فهمنا الذي غالبًا ما يكون ناجمًا عن إسقاط رغباتنا على الواقع. يطل علينا المحنكون الذين لا شغل لديهم غير المتاجرة بالكلام، المحللون والنشطاء السياسيون الذين احتلوا الشاشات، واحتلوا المشهد السياسي، فيدلقوا أمام أرواحنا المتألمة أطنانًا من الكلام المحبوك بحرفيةٍ عاليةٍ، يحمل شحناتٍ متنوعةً من التضليل البارع في صياغة الضمائر العامة والوعي العام، كما ينبغي للأجندات أن تفعل، فإذا بكل تحليلاتنا وتوقعاتنا وآمالنا الخائبة تصير هباء، ونمعن في الخيبة والخذلان والقلق والخوف، وإذا بمناعاتنا التي حاولنا حمايتها في زمن الحمم البركانية الحارقة تتصدّع، وتوشك على الانهيار. ومنا كثيرون ممن انهارت مناعاتهم أمام هول الكارثة والتضليل والرصد والشحن العنصري البغيض، شحن النزعات الفئوية المدمرة الطائفية والقومية تحديدًا، فكيف للسوري أن يصدّق المنطق، بعدما كانت النتائج كلها خلال ثماني سنوات بعكس المنطق الإنساني، وبعكس أحلام الشعب، وبعكس طموحاته، وبعكس عشمه بالذين استلموا دفتي القيادة والمصير، فلم يكونوا أوفياء ولا عاقلين، ولم يكونوا أكثر من نموذج يتناسخ وينافس بعضه بعضا في قتال وحشي أتى على الحجر والبشر، في صراعٍ عنوانه الأوحد الوصول إلى العرش.
بعد ثماني سنوات، وفي الأيام الأخيرة للعام 2018، والذي يتوج المسيرة الشرسة المترعة بالدمار والموت. ينبئ العام الجديد بأن لا شيء تغير في الواقع، غير أن السوري لم يعد كما كان، أُلقي في أتون حربٍ تركته بلا وطن، أو وطنٍ مقسّمٍ منهار يستجدي إعادة إعماره، فيُلقى به إلى بازارات المساومة الرخيصة، والكل يساوم ويعقد الصفقات. والسوريون بلا مأوى، ثمانون بالمئة منهم تحت خط الفقر، شبابهم تبدّدوا وتبددت معهم طاقات الإبداع والبناء والتطوير. سورية بلا أطفال أسوياء، سورية الباقية صارت مرتعًا للاستثمارات الجشعة التي تحولها إلى سوق كبيرة، يعمل أبناؤها السوريون فيها خدمًا ليس أكثر، والأمثلة كثيرة تكاد لا تعد. صارت المدن السورية، ما عدا التي لم يُبت بمصيرها بعد، فتلك لها وضعها الآخر الذي لا يبشر بخير، مطاعم وفنادق ومقاهي وأندية ليلية ومراقص ومحلات تجارية ومولات فقط، ينشئها تجار الحرب ومرتزقتها لرفاهية فئةٍ قليلةٍ ممن كوّنوا ثرواتهم بطرق رخيصة ملوثة بدم السوريين، والبقية خدم في هذه المشاريع، ليؤمنوا خبز أولادهم ليس أكثر، بينما قضي على ما كان فيها من مصانع ومشاريع طامحة. اقتصاد الحرب غيّر المشهد برمته، وأكبر شاهد هذا الصراع غير العادل بين الليرة والدولار، الليرة المصابة بالشلل والعجز يغصبونها على النهوض، وهي تصرخ من عجزها.
لم يبقَ أمام السوريين غير أن يلهثوا خلف العرافين والمنجّمين، علّ في نبوءاتهم ما يبرّد نيران صدورهم، ويجعلهم يعيشون على حلمٍ، ولو لبعض حين، بعدما أحال الواقع أحلامهم إلى نار وجمر تحت رمادها كلما خبت، فها هي العرّافة البلغارية العمياء فانغا، التي توفيت عام 1996 عن 85 عامًا، تركت في نبوءاتها للعام 2019 وما ينتظر العالم فيه أن يكون عام أزمة اقتصادية عالمية، وانهيار النظام القديم. سيفقد ناسٌ كثيرون مدخراتهم وعملهم. ويمكن تسمية 2019 سنة الاضطرابات الكبيرة. وفي المقام الأول، سيؤثر على أوروبا الغربية، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والدول المتضامنة معها، وبحسب تنبؤاتها، سيتعرّض الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لمحاولة اغتيال من فريق أمنه الخاص. أما المنجم الفرنسي ميشيل دو نوسترادام، الملقب بنوستراداموس، والذي عاش في القرن السادس عشر، ويُقال إنه استطاع، في كتابه التنبؤات، التنبؤ بأحداثٍ عديدة، بدءًا من حريق لندن الكبير عام 1666 والثورة الفرنسية عام 1789 وتولي نابليون بونابرت حكم فرنسا، مرورًا بصعود الزعيم النازي أدولف هتلر واغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، ووصولًا إلى أحداث “11 سبتمبر”، فإن العالم، في العام الجديد 2019، سيخوض حربًا عالمية ثالثة مدمرة بين قوتين عظيمتين، ومن المتوقع أن يستمر هذا الصراع 27 عامًا. وهذه تنبؤات مخيفة للعالم، خصوصا إذا نظرنا نظرة شمولية للأحداث التي يمور بها، والشعب السوري جزء من هذا العالم، بل أصبح في قلب المشكلة بالنسبة لأوروبا. ولكن من المؤكد أيضًا أن هذا الشعب لا يتمنى إلا الخير للبشرية جمعاء، على الرغم مما حصل معه، وأنه دفع فاتورة حروب الآخرين. ولكن هناك تنبؤات أخرى لعرّافين عرب، يعايشون الأحداث اليوم، منهم الفلكي محمد ياسين، الذي يتنبأ للرئيس الروسي، بوتين، بعملية مواجهة سياسية ودبلوماسية وبـ”لعبة ذكية كبيرة يسقط صفقة القرن بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترامب وصهره كوشنر”، وبأن الرئيس السوري بشار الأسد ينتصر، في كامل حربه في العاصمة دمشق، وكل ريفها ودوائرها، وطرقات حمص ودرعا والساحل نحو طرطوس، لكن مفاجأة أميركية تحصل تخلط الأوراق، ولا يكون منتظرًا أن تحصل في هذا الشكل، وهذا التصريح كان في شهر مارس/ آذار الماضي. ويحصل تصادم إيراني – أميركي، يكاد يؤدّي إلى حرب، ولكن يتم إطفاء الحريق الصدامي فورًا، وتحصل في إيران بعد أشهر مظاهراتٌ عديدة، لأسباب معيشية واقتصادية.
هذه أمثلة عن تنبؤات العرّافين التي تعيد الشعب السوري إلى المربع الأول، مربع الأوهام والانقسام بالأحلام والطموحات، وتدفعه إلى دوامات التضليل، بينما تمر السنين ويرصف السوريون أعمارهم طبقاتٍ من القهر والتشرد والتيه، ويزداد جبروت الجبارين، وتغول الفاسدين والمفسدين، ويستمر العالم في الاستثمار به وبمصيره، ليبقى الشعب السوري مرتهنًا لخيار وحيد: أن يكون بين مطرقة الساسة وسندان العرّافين. ولدى الساسة كذبٌ كثير حتى لو صدقوا، ولدى العرّافين جزء من الحقيقة مهما كذبوا. هذا جزء من حكاية “الشرق الأوسط الجديد”، ومأساة الشعوب في ظل الاستبداديْن، المحلي والعالمي.
العربي الجديد
سورية 2018.. عام النفوذ التركي/ حسين عبد العزيز
يعتبر 2018 عام اختلال موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية داخل الجغرافية السورية. تعتبر فصائل المعارضة المسلحة أكبر الخاسرين، لجهة تقلص المساحات الجغرافية التي تسيطر عليها أولا، ولجهة تقلص قدرتها على التحرّك العسكري خارج العباءة التركية ثانيا، في حين يعتبر النظام أكثر الرابحين، بعيد سيطرته على كامل محيط دمشق، وعلى الجنوب السوري والقلمون الشرقي وريف حمص الشمالي.
استقبلت القوى الكردية صاحبة مشروع “الإدارة الذاتية” عام 2018 بفائضٍ من القوة، انعكس عمليا بمجموعةٍ من القرارات: إعلان “المجلس العام للإدارة الذاتية لشمال شرق سورية” عن تأسيس هيئةٍ تنفيذيةٍ بمثابة الحكومة للمناطق الواقعة تحت سيطرة “قوات سورية الديموقراطية”، وإعلان “مجلس سورية الديمقراطية” تأسيس “الإدارة الذاتية المشتركة في شمال وشرق سورية”، لكن أحداث نهاية العام شكلت بداية النهاية لمشروعهم.
على الصعيد الإقليمي، بدت إيران أكثر تقوقعا مقارنةً بالأعوام الماضية، ليس لأن المعارك العسكرية الكبرى انتهت فحسب، بل أيضا بسبب الضغوط الروسية الناجمة عن تفاهماتٍ مشتركة مع الأميركيين والإسرائيليين من جهة، وحجم الخسائر التي تكبدتها إيران نتيجة الغارات الإسرائيلية من جهة ثانية.
أمام هذا المشهد المتغير، فرضت الجغرافيا نفسها مرة أخرى، وكان لتركيا النصيب الأكبر من المكاسب: أولها تمثل بإطلاق عمليةٍ عسكريةٍ، انتهت بالسيطرة على كامل منطقة عفرين. وقد كشفت عملية عفرين العسكرية حاجة الروس والأميركيين إلى تركيا، فالروس بحاجةٍ إلى تثبيت تحالفهم مع الأتراك، في ظل اندفاعةٍ أميركية قوية آنذاك، عبرت عن نفسها بخطواتٍ عدة، أهمها إعلان الولايات المتحدة أن قواتها العسكرية ستبقى في شرقي الفرات، وبعض المناطق الأخرى، حتى الانتهاء من محاربة الإرهاب وإنجاز التسوية السياسية، وثانيها إعلان الولايات المتحدة نيتها تشكيل قوات حرس حدود بقوام 30 ألف مقاتل، وثالثها تقديم وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، ورقة خماسية للمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، تشكل تطورا بالغ الأهمية في رؤية واشنطن للحل السياسي، بما يقطع الجهود السياسية الروسية ويتجاوزها.
وبالنسبة للولايات المتحدة، ظهرت الحاجة الأميركية لتركيا من خلال عدم الاعتراض على عملية عفرين العسكرية التي شكلت ضربةً قويةً للوحدات الكردية في المضي بمشروعهم (الإدارة الذاتية).
جاء ثاني المكاسب التركية من بوابة إدلب، بعيد اتفاق سوتشي الموقع في 17 سبتمبر/ أيلول
بين أنقرة وموسكو، والذي شكل انتصارا كبيرا لتركيا التي نجحت في فرض قرارها على محافظة إدلب، وإقناع الروس بأن المحافظة تشكل امتدادا حيويا لمصالحها العليا في سورية. وكانت موافقة الروس على اتفاق إدلب صعبة عليهم مقارنة بموافقتهم على العملية العسكرية في عفرين، ذلك أن عملية عفرين تخدم الروس بقدر ما تخدم تركيا، لما فيها من رسائل روسية واضحة، أولا للوحدات الكردية وثانيا للولايات المتحدة، لكن اتفاق إدلب انعكاس واضح للحاجة الروسية الضرورية إلى تركيا.
وتمثل المكسب التركي الثالث على المستوى السياسي مع إمساك أنقرة ملف المعارضة، وخصوصا ما يتعلق باللجنة الدستورية، وقد كشف اجتماع ضامني تفاهم أستانة الخلاف بين الرؤيتين الروسية والتركية حيال هذا الملف، من دون أن يعني ذلك عدم تواصلهم، في نهاية المطاف، إلى صيغة وسط، لكنها كشفت أن لتركيا وزنا في القرار السياسي، لا ترغب موسكو بتخطيه.
المكسب التركي الرابع قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوات العسكرية من سورية، والتفاهم مع الرئيس أردوغان على أن يكون لتركيا دور كبير في ملء الفراغ. ومع صعوبة تحديد كيف سيتم ملء الفراغ الأميركي في شرق الفرات، إلا أن أسوأ السيناريوهات سيكون لأنقرة أفضل بكثير من الواقع القائم حاليا، حيث هيمنة الوحدات الكردية على الشريط الحدودي من منبج غربا إلى المثلث السوري ـ العراقي ـ التركي.
وقد فرضت أنقرة نفسها معادلا إقليميا قويا لا يمكن من دونها إعادة ترتيب المشهدين، العسكري والسياسي، في سورية، لكن الحضور التركي سيتغير تماما على المدى الطويل، فمرحلة ما قبل الوجود الأميركي ستختلف تماما عما بعدها، إذا ما تم فعلا سحب جميع القوات الأميركية.
وقد برز الحضور التركي نتيجة المنافسة الروسية ـ الأميركية في سورية، وقد بينت تطورات الأعوام السابقة أنه ليس لدى روسيا قدرة فعلية على احتواء المخططات الأميركية، فوجدت نفسها مضطرة إلى التناغم مع المصالح التركية، في حين أن مرحلة ما بعد الوجود الأميركي وإضعاف القوة الكردية سيؤديان إلى تغير في المصالح المشتركة التي ستؤدي بالضرورة إلى ضعف التحالف بين الجانبين، بما ينعكس سلبا على تركيا.
العربي الجديد