المثقف السوري بين لوائح التخوين والتخوين المضاد/ ماجد كيالي
عندما أطلق السوريون صيحتهم الشهيرة، بأن “الشعب بدّو حرية”، بعد نصف قرن من الصمت، والخضوع لإكراهات النظام، وضوابطه الأمنية والأيديولوجية، بدا أن صفحة جديدة بدأت في تاريخ هذا الشعب، الذي ظهر على مسرح التاريخ، كأنه يتحدّى المستحيل. وفي حينه، انتشرت كتابات السوريين، التي بدأت تكشف عن مكنوناتهم، من الكلمات والحكايات والشعارات، التي اختزنوها طوال العقود الماضية، وذلك عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وعلى جدران المدن والبلدات والقرى، ولافتات التظاهرات.
تبيّن أن ثمة فائضاً من الصحف والمجلات والمواقع الكترونية، بدأت تصدر هنا وهناك، مثل: طلعنا عاالحرية، حنطة، زيتون، عنب بلدي، أوكسجين، طيارة ورق، سوريتنا، زمان الوصل، أوراق، دمشق، الرافد، الجمهورية، جيرون، سوريتي، بوابة سوريا، راديو روزنة، الخ.
مع هذا الفيض كله، من الكتّاب والكاتبات وتعدد أشكال النشر والتعبير، لا أظن أن أحداً كان يتوقّع انكسار البعد الإعلامي للثورة أو للمعارضة السورية أو انحداره، في تلك السرعة، التي حصل فيها، لا سيما أن ذلك انعكس في جانبين خطيرين، أولهما، الانزياح عن المقاصد الأساسية التي يفترض أن الشعب السوري ثار من أجلها، وملخّصها استعادة حقوقه في الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، وثانيهما، خضوع الخطاب الإعلامي لمصالح الداعمين الخارجيين وأجنداتهم، أكثر من خضوعه لمتطلبات الثورة السورية، ومصالح السوريين واجماعاتهم الوطنية. فالاستقطاب الخارجي، لهذه الدولة أو تلك، عكس نفسه في إضعاف صدقية المعارضة، وتشتّت خطاباتها وأهوائها أو اضطرابها، وانقسام صفوفها.
طبعاً، لا يمكن التقليل هنا من الأثر السلبي لفصائل المعارضة المسلحة، المغطاة بالإسلام السياسي، والتي كانت تسيطر على ما يسمى “المناطق المحررة” (والأصح تسميتها المناطق التي لم تعد تحت سيطرة النظام)، إذ إن تلك الفصائل تعمّدت فرض خطاباتها الدينية والطائفية المتطرفة، بواسطة القسر، كما أنها فعلت كل ما من شأنه إضعاف دور الناشطين السياسيين، بل وإزاحتهم من المشهد، وهو ما حصل مع رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي، ووائل حمادة، الذين تم اختطافهم وإخفاؤهم في الغوطة (2013)، وكما حصل في حادثة اغتيال ناجي الجرف في غازي عنتاب (2015)، ثم اغتيال كل من رائد الفارس وحمود الجنيد في كفرنبل (أواخر العام الماضي)، ناهيك بعشرات حوادث التنكيل بكتاب وإعلاميين وناشطين، في الكثير من المناطق “المحررة”، ومصادرة كتب أو تحطيم محتويات مكاتب أو كاميرات أو أجهزة اتصال.
بيد أن كل هذه الممارسات، على خطورتها وتأثيراتها، ما كان لها أن تؤثر سلباً في خطاب الثورة السورية، وفي إجماعات السوريين، لولا العاملان اللذان سبق ذكرهما، إذ إن انزياح خطاب المعارضة السياسية، نحو مجاملة خطابات الفصائل الإسلامية العسكرية المتطرفة، وهيمنة الداعمين الخارجيين على وسائل الإعلام التي يشتغل السوريون فيها، وتوظيفها بما يخدم أجنداتها الخاصة، كانا العاملين الأساسيين المسؤولين عن كل ما حصل، علماً أنه لا يوجد حتى الآن، موقع إعلامي مجمع عليه للمعارضة السورية، لا موقع الكتروني ولا مجلة ولا جريدة ولا محطة تلفزيونية، أي على رغم مرور 8 سنوات على الثورة، وعلى رغم الأموال التي تدفقت، والتضحيات والمعاناة التي بذلت.
وتمكن في هذا الإطار ملاحظة أن الصراع الخليجي – الخليجي، مثلاً، انعكس على المعارضة السورية، وعلى صورة الإعلاميين والكتاب والمثقفين فيها، وانحيازاتهم، إذ إن كل واحد من طرفي الخلاف يحاول استغلال وسائل إعلامه أو تجييرها ضد الطرف الأخر، بغض النظر عن الضرر الذي يقع على السوريين؛ هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن ضعف الحياة السياسية عند السوريين، وغياب كيانات جامعة لهم، والظروف الصعبة التي يعاني منها معظمهم، في بلدان اللجوء، تحمل البعض على استسهال التمحور إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، ما يفقد هؤلاء صدقيتهم ككتاب وكمثقفين.
مناسبة هذا الكلام، ما جاء في تقرير لمحطة تلفزيونية سورية، محسوبة على المعارضة، نشرت قائمة لأسماء كتاب ادّعت أنهم يعملون أو يروجون لمصلحة سياسات دولة أخرى، تعاديها تلك المحطة، كأن العمل أو الكتابة في وسيلة إعلامية ما، هو كناية عن تبعية، أو استزلام، مع كل ما في ذلك من خفة وتسرع وتوظيف، اتسم بها ذلك التقرير، وتتسم بها تلك المحطة، وهي ظاهرة غريبة وغير صحيّة.
مثلاً، منذ أكثر من ثلاثين عاماً، من تجربتي في الصحافة، نشرت في صحف: السفير والنهار والمستقبل في لبنان، والحياة والشرق الأوسط والعرب في لندن، والجزيرة نت، والبيان الإماراتية، والوطن السعودية، وصودف أن تزامنت كتابتي مادة أسبوعية، لسنوات، في ثلاث صحف لبنانية (النهار والمستقبل والحياة)، لكن أياً من المسؤولين أو المحرّرين لم يبدِ ولو مرةً واحدة، في هذه الصحيفة أو تلك اعتراضاً أو تحفّظاً على كتابتي في صحيفة أخرى، ولم يحصل أن اعتُبرت محسوباً على تلك الصحيفة أو غيرها، باعتبار أنني لست موظفاً ولا ضمن “السيستم”، وإنما كاتب رأي ومستقل، والفيصل هنا هو، أولاً، دفاع الكاتب أو الإعلامي عن استقلاليته الفكرية إزاء أي سلطة، دولة أو حزب، أو رب عمل. وثانياً، احتفاظه بحسّه النقدي إزاء المسائل المطروحة. وثالثاً، التزامه الدفاع عن قيم الحرية والعدالة والكرامة.
وباختصار، فإن التجرؤ على المثقفين السوريين، ومحاولة تنميطهم أو تدجينهم، هو امتداد للتجرؤ على فكرة الثورة السورية، لتدجينها وإزاحتها عن مقاصدها النبيلة والمشروعة.
ملاحظة:
نشرت وكالة “نوفوستي”، في موقعها INOSMIK المخصّص للترجمات من الميديا العالمية ، مقالتي السابقة في موقع “درج”: “السوريون كحقل رماية وتدريب للجيش الروسي وأسلحته” (10/1)، لكنها في سابقة فريدة من نوعها، كتبت مقدمة للمادة المترجمة تأخذ فيها عليّ انتقاد أعمال روسيا في سوريا، علماً أن المعلومات الواردة في المادة منقولة من تقرير لوزارة الدفاع الروسية، التي تفتخر بأن عشرات آلاف من ضباط الجيش الروسي وجنوده بمختلف صنوف الأسلحة تدربوا في سوريا، واختبروا مختلف أنواع الأسلحة والصواريخ، ويأتي ضمن ذلك افتخار الرئيس الروسي بنوعية السلاح الذي تنتجه روسيا، والذي تم تجريبه في سوريا، فهل روسيا هي حمامة سلام في سوريا، مثلاً؟ وهل صواريخها وقنابلها تنزل على السوريين برداً وسلاماً أم خراباً ودماراً؟ وهل خاضت روسيا حرباً فعلية في سوريا أم أن أعمالها العسكرية اقتصرت على القصف؟
درج